عرب الغرب… أصفار متراكمة

image_pdf

كلما اطّلع المرء أكثر على حال جاليات عربية ومسلمة في أوروبا كلما شعر بالمزيد من الإحباط. هناك ملايين من العرب في البلدان الأوروبية ميزتهم الأساسية انعدام الفاعلية. ثمة شلل ذاتي مقيم لا يغادر تجمعاتهم كأفراد وجاليات ناتج عن مجموعة من التصورات والممارسات والتجارب السابقة والتخوفات وطرائق التفكير، خلاصاتها تناقضات تكبلهم وتحول مجاميعهم إلى أصفار متراكمة. التناقض الأول الذي يعيش معه وفيه عرب ومسلمو أوروبا (والولايات المتحدة بطبيعة الحال) هو النظرة والعلاقة مع الغرب والمجتمع المضيف.

 

فالنظرة الإجمالية سلبية حيث تُختزل المجتمعات الغربية إلى بُعدها القيمي والأخلاقي والمسلكي، ولا يُرى منها سوى ما يُدرك على أنه انفلات أخلاقي. وهناك إنكار غير واعٍ لمستوى التحضر والحرية واحترام الفرد الذي وصلته هذه المجتمعات والذي جذب إليه المهاجرين العرب والمسلمين. وإذا كانت المجتمعات الغربية مجرد تراكم من المسلكيات غير الأخلاقية فلماذا يهاجر إليها ويواصل العيش فيها هؤلاء الملايين؟ وحتى النخبة المثقفة في تلك الجاليات تجد غالبها يأنف عن النظرة الموضوعية التي ترى الصورة من جوانبها العديدة وتتلعثم في الإقرار بإيجابية واحدة من إيجابيات المجتمعات التي يعيشون فيها خشية الاتهام بـ”الانبهار بالغرب”، وكأن الشرق وأحواله ومظالمه وبؤسه هو الجدير بالانبهار! لا يرى عرب ومسلمو أوروبا كيف تتمكن هذه المجتمعات من إدارة نفسها بديمقراطية وسياسة تحفظ كرامة الفرد، وتحقق له مستويات رفاه مقبولة، وتسير نظاماً اجتماعياً وقانونياً واقتصادياً يقوم على الشفافية والمحاسبة، تتنافس فيه الحكومات والأنظمة وتتغير، ولا تتيبّس فوق قمة الهرم. وهناك طبعاً قائمة طويلة من الاختلالات والفشل والاحتيال والفساد وكل ما يمكن أن يحدث في أي تجمع بشري، لكن الفرق الكبير هنا هو أن تلك القائمة نعرف عنها بسبب الحرية، ولأن النظام يتيح كشفها تحت الشمس بالإعلام وغيره.

 

والتناقض الثاني الذي يعيشه أفراد تلك الجاليات متعلق بإشكالية الَجلْد الذاتي وكراهية الذات. فعلى رغم ما سبق ذكره من تخوف وابتعاد وتوجس من المجتمع المضيف باعتباره مجتمعاً فاسداً وغير أخلاقي وستؤثر أخلاقياته في أفراد وعائلات الجاليات العربية والمسلمة “النقية”، هناك ممارسة شبه عامة تقوم على جلد الذات: “العرب ما منهم خير”، “العرب فاشلين”، “البعد عن تجمعات العرب يوفر عليك الصداع” وسوى ذلك. ومثل هذه المقولات وما يشبهها تسمعه طولا وعرضاً أينما ذهبت في أوساط هذه الجاليات.

 

وقد تعتقد في البداية أن كراهية وجلد الآخر ستقود إلى تضامن داخلي وبنية محلية متينة بين أفراد ومجموعات هذه الجاليات، لكنك تفاجأ عندما تكتشف كراهية وجلداً للذات يعيقان تحقيق أي تماسك جماعي يقدم البديل الُمفترض الذي تتوق إليه هذه الجاليات. وهناك تلذذ بجلد الذات يشي بحالة سيكولوجية مرَضية، ويحتاج إلى تأمل موسع لا تحتمله هذه العجالة الصحفية. و”العرب” المشتومون هم مجرد وصف هلامي غير محدد الملامح والحدود، أو حالة ما وظيفتها الأساسية استقبال النقد. فإذا كان الناقد يستثني نفسه بطبيعة الحال وبتلقائية افتراضية من انتمائه للجماعة المشتومة “العرب”، وإذا كان الجميع يمارس الجلد والاستثناء في الوقت نفسه، فإن الطرف المشتوم “العرب” يصبح شيئاً مفرغاً من المضمون: من هم “العرب” الذين يتم نقدهم إذا كان كل “العرب” ينقدونهم؟

 

التناقض الثالث الذي يعيش فيه كثيرون من أفراد الجاليات العربية والمسلمة هو التمزق بين عقلية المنفى، والحنين الزائف للأوطان، والتشبث بالعيش في الغرب. حيث يعيش المهاجر العربي أو المسلم في أوروبا عشرين أو ثلاثين سنة أو ربما أكثر، وحالته الشعورية والحياتية والوجدانية هي حالة عابر السبيل. وتسيطر عليه فكرة العودة إلى الوطن، لكن وجدانياً وشعورياً فحسب، بيد أنه يطردها إن تجسدت أمامه كخيار عملي محتمل. وإن حدث وقام بها، فإنه “يحفظ خط الرجعة” للعودة إلى الغرب. وقد تتحول “العودة” إلى كابوس يجب تفاديه في كل الأحوال. وعلى رغم التأوه على عدم العيش في الوطن وبين الأهل، فإن أي إجازة قصيرة لا تتعدى أسبوعين في ربوع الوطن تعيد جحافل المتأوهين إلى رحاب “الغرب الفاسد” وكلهم تصميم على مواصلة العيش فيه. والناتج العملي لهذه المشاعر المُتناقضة هو عدم الاعتراف بواقع الإقامة والانتماء الجديد، وهو الاعتراف الذي ينهي ذلك التمزق، ويخلق حالة إيجابية للتفاعل مع المجتمع المضيف والتأثير فيه. وبديهي أن عقلية ووجدان عابر السبيل لا ينتجان فعلا خلاقاً على الأرض يُساعد الوطن البعيد، أو يخلق حالة من التعامل الإيجابي مع الوطن الجديد. وكل ما يظل يحيط بالأفراد هو حالة من التشاكي والتباكي والتأوه الذي يشل الحركة فحسب.

 

أما التناقض الرابع فهو ناتج عن التناقضات السابقة ومتعلق بالفعل السياسي والتأثيري، ويتلخص في العجز والشلل عن التأثير. فهنا نجد الانتقاد الحاد، المحق في معظمه، للسياسات الغربية تجاه العديد من القضايا العربية، وعلى رأسها فلسطين والعراق. ونجد الهجومات اللفظية التي لا تنتهي في اللقاءات العفوية الاجتماعية على الحكومات الغربية التي تتبنى تلك السياسات. لكن ما بعد النشاط اللفظي البيني، الذي لا يتخطى دوائر المعارف والأصدقاء المقتنعين أصلا بنفس المقولات النقدية، يتمدد الشلل ليحتل كل الفضاءات التي تحتمل فعلا إيجابياً. فعندما تنظم مسيرات أو مظاهرات تضامنية مع القضايا العربية التي يشتكي أولئك الأفراد من مواقف الحكومات الغربية تجاهها فإنهم يفضلون البقاء في بيوتهم على المشاركة، ويراقبون ألوف الأفراد الغربيين (من المجتمع الفاسد) يدافعون عن تلك القضايا. وعندما نتذكر أن الجاليات العربية والمسلمة تعد بالملايين، وأن مئات الألوف منها على أقل تقدير تعيش في أي عاصمة أوروبية، ونقارن ذلك الرقم بالمشاركة العربية والمسلمة الهزيلة في المسيرات الكبيرة التي غالبيتها من الغربيين يدهمنا الاندهاش والسؤال الكبير: لماذا لا يدقون جدران الخزان إذن؟ وهكذا ومع مرور السنوات الطويلة وازدياد أعداد الجاليات العربية والمسلمة وهي تعيش في تناقضاتها وشللها الذاتي فإن ما يحدث هو الآتي: زيادة ديموغرافية مطردة تقوم إما على تواصل الهجرة، أو ارتفاع معدل الولادات، يقابلها غياب الإجابة على مجموعة ملحة وحيوية من الأسئلة مثل: لماذا نقيم هنا، ومن نحن، وماذا نريد، وماذا نقدم للمجتمع المضيف، وهل نحن مواطنون هنا أم عابرو سبيل، وماذا يترتب علينا في حال هذه الإجابة أو تلك، وما هي علاقتنا مع أوطاننا الأصلية، ولماذا لا نعود إليها؟ وهكذا.

 

ومع غياب الإجابات على هذه الأسئلة وانحدار الوعي بالإقامة والعيش هناك إلى مجرد الاعتياش القريب من الحالة التلصصية، فإن العلاقة مع المجتمعات المضيفة تنتظمها الكراهيات المتبادلة والعنصرية التي لا مناص من ازديادها. وعندها تنسحب الجاليات العريضة بملايينها إلى مربع الصمت والشلل الذاتي لتترك للمنظمات الصغيرة والمتطرفة مهمة تمثيلها والنطق باسمها. وعندها يصبح “أبو حمزة المصري” و”أبو قتادة الفلسطيني” وحركة “المهاجرون” و”حزب التحرير” هم ممثلو العرب والمسلمين… وهم جالبو العنصريات الإضافية فوق رؤوسهم، هذا كله من دون تبرئة المجتمعات الغربية من عنصريات مقيمة ضد الآخر، لكن ليس هذا موضوع الحديث عن ذلك على أهميته.
_______

*الاتحاد – الراصد التنويري- العدد (5)- أغسطس/ آب 2009.

جديدنا