“أمميَّة إسلاميَّة” أم “هويَّة أمَّة”؟

image_pdf

لعلّ التركيز على قراءة الهويَّة الإسلاميَّة قد برز بشدَّة في دراسات غربيَّة وعربيَّة عند انطلاق شرارة العنف بوصفه أقوى الوسائل التي لجأت إليها جماعات إسلاميَّة، في فرض إرادتها وتقديم خطابها إلى “الآخر” آخر الداخل وآخر الخارج على حدٍّ سواء هذا على الرغم من أنّ العنف الإيديولوجي لم يقتصر على المسلمين منذ أزمانٍ بعيدة، بل أنّ الهجمات الانتحاريَّة في العصر الحديث ولدت في سياقات غير عربيَّة وغير مسلمة (الكاميكاز اليابانيّون في الحرب العالميَّة الثانية، ونمور التاميل، مثلا).

 

لكن أيمكننا القول إنَّ العنف الإسلامي تحديدا يرتبط بشعورٍ جاد بـ”هويَّة إسلاميَّة”؟ يحمل مفهوم “الهويَّة” دلالة مضافة مرجعيّتها الاختلاف، فإذا كانت الهويَّة مجموع الخصائص المميّزة لجماعة اجتماعيَّة معيّنة، فإنّ هذه الجماعة تتقدّم مختلفة بل وأحيانا متعارضة- بتلك الخصائص نفسها- مع جماعات أخرى. ولمّا كانت أيّة جماعة اجتماعيَّة تتوافر، طبيعيّا، على خصائص أكثر دقّة وتفصيلا، فإنّنا إزاء جملة هويّات أو هويّات ثانويَّة؛ هويّة ثقافيَّة أو عرقيَّة، هويّة اجتماعيَّة، هويَّة طبقيَّة، هويَّة وطنيَّة، هويَّة عائليَّة، إلخ.

 

وهذه الهويّات كلّها تتشكّل خارج دائرة الإرادة؛ أي أنَّ الفرد “يشعر” بها ولا يتحكَّم بها، فهي نتاج جمعي، على الرغم من المؤثّرات الفرديَّة فيه. وعلى هذا الأساس، تقول بعض النظريّات المعاصرة إنَّ لدينا جملة هويّات وبأنّ هويّتنا متعدّدة الوجوه أو مختلفة الطابع. وترى الأدبيّات التي تعني بالهويَّة أنّنا لا نشدِّد على هويّتنا (أو نركِّز عليها أو ندافع عنها) إلا عندما تكون متّصلة بمعتقداتنا بقوّة أو نجد أنّها عرضة لتهديد ما.

 

لو طبّقنا هذه الفكرة العامَّة على المجتمعات المسلمة، لربّما لن نتمكّن من تحديد هويّة تجمّع المسلمين كلهم، وهذه المجموعات محكومة بحواضن ثقافيَّة (مسلمون عرب بتنوّع مجتمعاتهم، مسلمون غير عرب بتنوّع مجتمعاتهم)؛ فضلا عن أنَّ أيّة طائفة مسلمة تنطوي هي نفسها على هويّات فرعيَّة أو ثانويّة مسلمة أيضا، والأكثر أهميَّة أنَّ المسلمين في العالم لا تحكمهم الشروط نفسها.

 

في خضم بدايات عالم العصر الحديث (الذي تؤشّره بعض الكتابات الغربيَّة بانهيار الامبراطوريَّة العثمانيَّة)، كانت المنطقة العربيَّة تحديداً تشهد أحياء الحسّ القومي (الذي يقول باحثون أنّه تجسَّد بامتياز في الدولة الأمويَّة) فمجموعة الضباط الذين كانوا من قادة الثورة العربيَّة 1916، كانوا قد أسّسوا أوّل تنظيم قومي “جمعيَّة العهد” في أسطنبول على أساسٍ قومي ممزوج بمشاعر دينيَّة، وقطع الشعور الديني الذي كان يستبطن الإيدولوجيا القوميَّة مراحل طويلة، تخلّلها صراع شهد في أوقاتٍ معيَّنة تصفية دمويَّة حتى استحوذ المظهر الديني في نهاية المطاف على إرث المظهر القومي، فأعاد إطلاق “الأمميَّة الإسلاميَّة”؛ فقد استقطب تنظيم القاعدة صاحب الخطاب الإسلامي- وبمساعدة دول عربيَّة وغربيَّة- مسلمين من أصقاع العالم ليحاربوا في أفغانستان. فيما دعا صدام حسين صاحب الخطاب القومي، مسلمي العالم إلى الانضمام إلى صفّه في أثناء احتلال الكويت 1990 لمواجهة الصليبيّين، وراح يطلق “الحملة الإيمانيَّة” في المجتمع العراقي.

 

والحال هذه، لم تكن الحركات الإسلاميَّة بصدد تشكيل “هويَّة إسلاميَّة” محدّدة الملامح بل ينزع مميّزات “هويّات” المجتمعات المسلمة ومثلها بمفاهيم عامّة تخلط مقولات دينيَّة (التوحيد، مثلا) بمواقف سياسيَّة (الحقّ المغتصب، الاستعمار، الانحلال الأخلاقي، إلخ)، تتخطَّى الخصوصيّات الثقافيَّة لتشكّل أمّة مسلمين، لا حدود جغرافيَّة لها ولا تعنى بمحدّدات سياقات المنتمين إليها؛ الاجتماعيَّة واثقافيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة، لذا فإنّنا إزاء منظومة إيديولوجيَّة “أمميَّة” وليس “هويَّة” إسلاميَّة.

_______

*الراصد التنويري- العدد (5)- أغسطس/ آب 2009.

جديدنا