ترامب وكورونا: الموقف العدمي وإشكاليَّات الفكر المحافظ في أمريكا

image_pdf

 

مدخل:

ترسخ اليقين أنه ما كان يمكن لحيوية التنوع الأمريكي أن يحتمل وباء الفكر المتطرف يضرب أوصال السياسة لأكثر من دورة حكم واحدة، ومثلما غادر جورج بوش الإبن بمحافظيه الجدد سريعاً، تحزم الخيبة حقائب دونالد ترامب مُشَيَّعَةً له، مع مفكريه اليمينيين، بأسوأ وداع في تاريخ الرئاسة الأمريكية. فقد شكلت مجمل تصرفات المحافظين؛ جدداً وقدامى، سلوكاً شاذاً في ممارسات السياسة والحكم، بل تعدتها إلى معاش الناس وصحتهم، خاصة مع جائحة الفيروس التاجي “كورونا”، التي أظهرت بما لا يدع مجالاً للشك خطل التفكير المحافظ المنحرف عن واقع أقضية الحياة، ووقائع قضايا الناس. فكان الخطأ في السياسات، والمفارقات في التصريحات؛ من منادٍ بمناعة القطيع، إلى داعٍ لشرب المُنَظِّفَات السامة وقاية من كورونا، حتى لا يغلق الاقتصاد أبوابه، وإن مات كل الناس.

لهذا، تتمثل أهمية هذا المقال في إحالته إلى مساءلة متعددة الجوانب للواقع الأمريكي؛ بمختلف تشكيلاته، إنه يبسط منصة جديدة للنظر والإنباء والتشارك في تشكيل الرؤية المؤثرة على اتجاهات مواقف القوى الفكرية والاجتماعية والتوابع السياسية. وذلك، لأنه يزعم أن استعراض الآراء، الذي تضمنه، يتجاوز الموقف الرصدي، إلى محاولة الإمساك برؤية نقدية، تعتازها لحظة الاضطراب، التي تضرب مفاصل الحالة السياسية الأمريكية، والتي لا تعبر راهنيتها عن طفرة تحول فجائي، كما فعل الفيروس التاجي، وإنما هي تراكم من فعل التذبذب والتراجع على مستوى الفكر والممارسة. فقد ينزع البعض إلى تَعَجُّل قراءتها بأنها فاصلة تجريبية، اكتنفت اتجاهات متعددة في الداخل الأمريكي، وما كان يمكن لنموذج جانح مثل ترامب أن يكمل دورة رئاسية، فضلاً عن أن ينتخب ابتداء. إذ كانت ملامح خطابه لا تبشر بقيادة تلائم طموح النزوع القيادي الأمريكي، في واقع عالمي محتشد بالمتغيرات المنظورة وغير المنظورة، التي تعيد تركيب المعادلات بوتيرة متسارعة. فيما أسهم الميزان الكوني، بوباء لا مثيل له في تخطيه للحدود والقدرات، وتحدي غرور التطور العلمي والجبروت التكنولجي، وكأنه تقصد امتحان التَعظُّم الأمريكي، فجاء في عهد رئيس يمثل نظيراً وبائياً لكرونا على المستوى السياسي.

 

جنون المفكرين:

لقد تساءل الكاتب ماثيو سيتمان، في مقال له بعنوان: “لماذا يدفع الوباء المفكرين المحافظين إلى الجنون”، نُشِرَ في مجلة “الكتلة الحرجة-Critical Mass”، يوم 21 مايو 2020، نقلاً عن “الجمهورية الجديدة-New Republic”،[1] عن السبب، الذي جعل “الإغلاق”، كإجراءٍ احترازي، يُنتج تبايناً بين النص القديم للتظلم ومرض يمكن أن يُحدث الدمار بأي شخص. وهو يشير في ذلك إلى ما قاله السيد آر آر رينو، المفكر الكاثوليكي البارز، رئيس تحرير مجلة “الأشياء الأولى-“First Things، الذي دعم دونالد ترامب لمنصب الرئيس، والذي أطلع العالم، في منتصف شهر مايو 2020، على حقيقة أنه سئم من الملتزمين باتباع إرشادات الصحة العامة؛ استجابةً لوباء فيروس كورونا. ونشر صورة على تويتر لترامب يحيي قدامى المحاربين في الحرب العالمية الثانية، الذين لم يرتدي أي منهم أقنعة، وقال: “إنهم رجال، وليسوا جبناء، فالأقنعة = فرض الجبن”.

إن مجلة “الأشياء الأولى”، التي يرأس تحريرها السيد رينو، هي مجلة دينية مسكونية ومحافظة، تقول ديباجتها أنها تهدف إلى “تطوير فلسفة عامة مستنيرة دينياً لترتيب المجتمع”،وتركز على اللاهوت، وتاريخ الكنيسة، والتاريخ الديني، والثقافة، والتعليم، والمجتمع، والسياسة، والحوار بين الطوائف والأديان، وتمثل تقليداً فكرياً واسعاً للنقد المسيحي واليهودي للمجتمع المعاصر. ويصدرها “معهد الدين والحياة العامة”، وهو مؤسسة بحثية وتعليمية متعددة الأديان وغير حزبية. تأسس في عام 1989 على يد ريتشارد جون نيوهاوس وزملائه لمواجهة الإيديولوجية العلمانية، التي تصر على أن الساحة العامة يجب أن تكون “عارية”، وأن الإيمان لا مكان له في تشكيل الحوار العام، أو في تشكيل السياسة العامة، أي أن المجلة، تعمل افتراضاً على مواجهة “العلمانية” النافية لأثر “الدين” في الحياة العامة. الأمر الذي يفترض قدراً عالياً من العقلانية، خاصة وأن المعهد يضع من ضمن أهدافه “الولاء للتقاليد الغربية، التي توفر أساساً للمواطنة العالمية المسؤولة”.

 

قناع الخوف:

لقد ذكر سيتمان أن رد فعل النقاد على “خطرفات” رينو كان سريعاً وعقابياً، حيث أشاروا إلى الحكمة الناشئة بأن الأقنعة قد تكون أحد أكثر التدابير فعالية في منع انتشار الفيروس التاجي. وأضاف أن رينو قرر أن يُغرد بخطبة مليئة بالأخطاء، قائلاً: إن “ثقافة القناع إذا كان الخوف مدفوعاً… أقنعة+جبن” فليس هناك ما يبررها. واصفاً ذلك بأنه نظام يسوده الخوف من العدوى، والخوف من التسبب في العدوى، وكلاهما نوعان من الجبن. وتتبع سيتمان تغريدات أخرى مشوشة لرينو، لكن إحداها كانت بمثابة ملخص معبر بشكل خاص عن موقفه: “الآن نحن نعرف من يريد أن ينكمش في مكانه، ويمارس الغضب بكل الوسائل ضد أولئك الذين يريدون العيش”.

الغريب في الأمر أن هذه المواقف المعارضة للعقلانية تجاه وباء كورونا في أمريكا، التي تأثرت أكثر من غيرها بأخطاره، لم يكن يحد من انحراف وانفجار تلك المعارضة للإجراءات الصحية، التي تُعد بمثابة الرادع الوحيد، في ذلك الوقت، لسرعة الانتشار القاتل للفيروس. وبشهادة سيتمان، فقد أنتج المفكرون المحافظون، منذ مارس 2020، سلسلة من التعليقات، التي تشكك في خطورة الوباء، وتتحسر على الإجراءات المتخذة لمكافحته، لا سيما الإغلاق المؤقت للكنائس. ونسب إلى رينو قوله: إنه ليس مميتاً كما كنا نخشى، أي الفيروس، ولأولئك الذين تقل أعمارهم عن 35 عاماً، ربما يكون الأمر أكثر إثارة للقلق من الإنفلونزا، وهو بيان يتجاهل كل ما لا نعرفه عن الفيروس التاجي. فالآثار طويلة المدى له قد تسبب حتى للبالغين الأصحاء،[2]في الارتفاع المفاجئ في مرض يشبه “كاواساكي” لدى الأطفال.[3] وقال سيتمان: لا يهم، فقد أصدر رينو حكمه، فيما كتبه في مجلته في أبريل 2020، قائلاً: “يُظهر العلم بشكل متزايد أن الإجراءات، التي اتخذناها في الأسابيع القليلة الماضية كانت ضارة؛ مع فقدان الحريات، وإنفاق الأموال، وتدمير سبل العيش، التي بدأ أنها غير مجدية.”[4]

 

الاضطراب الحضاري:

ويؤكد سيتمان أن الأمر لا يقتصر على أن رينو نفسه يمكن أن يبدو أحياناً مثل حقيقة فيروس كورونا. إذ إنه مقتنع أيضاً بأن استجابتنا للوباء تنبع من اضطراب حضاري أعمق، الذي يعطي الأولوية للعالم المادي العابر على الحياة الأبدية، التي تنتظر أرواحنا بعد الموت. ففي رسالة رسمية، نشرت في مارس 2020، أعلن رينو، “هناك العديد من الأشياء أغلى من الحياة”، وانتقد القادة السياسيين، وخاصة حاكم ولاية نيويورك أندرو كومو، لقيادة “حملة صليبية غير مدروسة ضد محدودية الإنسان وواقع الموت الأليم.”[5] ولكن ما يُثير الدهشة أن رينو ليس وحده في الحقل الفكري المسيحي في النظر إلى الإغلاق كجزء من سردية كبرى للانحلال الروحي، فهناك زميله ماثيو شميتز، الذي كتب أنه في تقييم “الصحة قبل كل شيء، نحن نعمل على إخضاع الحياة الروحية للالزمانية”، مضيفاً “ما لم يعيد الزعماء الدينيون فتح الكنائس، سوف تظهر القيمة الأرضية فوق الحياة الأبدية.”[6] ومن جانبها أشعلت الكاتبة ألكساندرا دوسانكتيس، في مجلة” ناشونال ريفيو “National Review –، نيراناً كثيفة على “تويتر” قائلة: “إنه رائع أن نرى كيف أن فقدان ثقافة الإيمان بالله والخلود في كثير من الأحيان يتمظهر في خوف شاذ من الوفاة باعتبارها الشر المطلق. حياة الإنسان جميلة وثمينة وجيدة، لكن الحياة على الأرض ليست غايتنا النهائية.”[7]

 

عبادة الموت:

لقد أثارت تغريدات دوسانكتيس الكثير من السخرية حول تشكيل عبادة الموت الحرفية عند اليمين المحافظ. ولكن هناك شيء آخر يعمل هنا، إذ وصف جايسون إي فيكرز، الذي كتب في مجلة” بروفيدنس-Providence “، في مايو 2020، أن هذه المجموعة، التي احتضنت الموت، بأنها تمتلك “عقلية ذكريات مريرة”، وتتصرف “وكأنهم آخر المسيحيين في أمريكا.”[8] إنها نظرة عالمية تم إطلاقها من خلال المظالم ضد المجتمعات الفاسدة والمنحلة في الغرب، والتي تشترك فيها فصائل مختلفة جداً من اليمين. وقد يسعى أتباع “خيار بنديكت”، كما جاء في كتاب رود دريهر،[9] إلى بناء مجتمعات مقصودة، والانسحاب من المجتمع الحديث، بينما يتوق القوميون المسيحيون إلى السلطة السياسية لهزيمته؛ لكن لديهم نفس الأعداء. ويقرر سيتمان أنه من أجل تصور جراة جميع تعليقات رينو، أظهر لنا الوباء، بعبارات أكثر وضوحاً من ذي قبل، إلى أي مدى كانت المحافظة الحديثة مدفوعة بالاستياء من عالم يبدو معادياً ومرعباً. بالطبع لم يستسلم جميع المحافظين لهذا الدافع أثناء الوباء، لكن تتبعنا هنا أولئك الذين كشفوا عن الأفكار، التي يتم بها تحويل الوباء إلى حرب ثقافية مألوفة.

وبالعودة إلى مثال رينو، فقد جاء اختياره بسبب أنه تمكن من تضمين كل من الهوية الغوغائية للمحتجين المناهضين للإغلاق والمبررات الفلسفية لأفعالهم، التي ظهرت في الصحافة المحافظة. وتبدأ إحدى إدخالاته، فيما يكتبه من يوميات، تحت عنوان: “مذكرات فيروس كورونا”[10] بأنه كان في زيارة غرفة الطوارئ في مستشفى خارجي، ومع ذلك، لا يمكنه قول المزيد، لأن “الظروف الحالية لهستيريا الصحة العامة” تعني أن مضيفه “قد يفقد وظيفته إذا اكتشف المسؤولون الأعلى أنني اخترقت طوق” عدم وجود زوار،” ويُشير إلى أنه بعد أن غمرت حالات الفيروس التاجي المستشفى في أواخر مارس وأوائل أبريل الماضيين، قال الطبيب إنها تراجعت منذ ذلك الحين. ويسعد رينو بأن هذا التطور كان لغزاً سعيداً، إذ لم يربطه أبداً بأوامر البقاء في المنزل والانغلاق الاقتصادي، الذي وصفه بأنه “لا طائل من ورائه”. ويذكر رينو أيضاً أنه كان يتعبد في كنيسة “تحت الأرض”، مستعيراً اللغة، التي استخدمها أولئك المسيحيون، الذين اضطهدتهم الأنظمة الشيوعية في الصين، أو الاتحاد السوفيتي خلال الحرب الباردة، خلف الستار الحديدي. ويخيم على المقال شعور بالإحساس بالاضطهاد، كما هو الحال عندما وصف نفسه بأنه المنشق الصالح.

 

سيريالية اليوميات:

تلك كانت بعض يوميات رينو حول كورونا، التي بدأت كتصوير عادي لحياتة الخاصة مع أحوال وأهوال الوباء، ولكنها، حسب وصف سيتمان، أصبح إدخال هذه اليوميات سريالياً. مثلاً، يصف رينو رحلة طويلة بالدراجة في عطلة نهاية الأسبوع، حيث رفض أحد العاملين في “دنكين دونتس-“Dunkin Donuts خدمته لأنه لا يرتدي قناعاً. وقد انتهى به المطاف في جزيرة ستاتين، ولكنه يحتاج في طريق العودة إلى ركوب العبارة، الأمر، الذي يتطلب أيضاً قناعاً. ويكتب: “للعناية”، “وجدت قناعاً في القمامة، قبل الوصول إلى عَبَّارة جزيرة ستاتن، مما سمح لي بالصعود والعودة إلى مانهاتن.” وما سيأتي بعد ذلك لم يكن مفاجئاً؛ إذ خضع رينو لاختبار الأجسام المضادة، وظهرت النتائج أنه أصيب بالفيروس. ومثل نهاية روايات معينة، فإنه اضطر أن يغير كل ما جاء قبل إصابته من إدعاءات، رغن أنه لم يُفصِح عَمَّا كان يرتدي قناعاً في المستشفى، أو في كنيسته “السرية”، أم لا. ولا يبدو أنه منزعج من أنه، حتى لو لم تظهر عليه أعراض مهمة للمرض وقتها، من أنه قد يكون قد نشر الفيروس للآخرين. إنه فقط لا يدرك أن ارتداء القناع ليس تعليقاً على شجاعته، أو رجولته، ولكنه طريقة محددة لإظهار الحرص والاهتمام بالآخرين، الذين قد يكونون عرضة بشكل خاص لويلات الفيروس التاجي.

ونتفق تماماً مع تقريرات سيتمان أنه ليس هناك فائدة تذكر من البحث عن المعنى، أو العقل في نزهات رينو “الفكرية”، وأن عبارات الشجاعة والجبن لا يمكن مناقشتها حقاً؛ إنها عاطفة خالصة به، أراد لها أن تظهر في الوقت الخطأ، الذي كان فيه على المفكرين من أمثاله أن يكونوا أكثر قرباً من حقيقة الوباء، وحق الناس في الوقاية منه. وقد رأينا ووثقنا في مقال منشور في مجلة منتدى الفكر العربي “المنتدى”، وموقع “التنويري” الإلكتروني، عن: “الدين والتدين: مرونة التحدي والاستجابة في عصر الجائحة”، كيف استجابت القيادات الدينية العالمية بعقلانية ومرونة لأهوال الجائحة؛ من رأس الكنيسة الكاثوليكية إلى الزعامات الإسلامية واليهودية والبوذية وغيرها.[11] لذا، ليس الهدف هو التعامل مع واقع موقف معقد وساحق: كوباء كورونا، يتغير مستوى المعرفة العلمية بها كل يوم، وإنما ما يمكن أن يستنبطه المفكرون المتدينون وتدور حوله نقاشات حقيقية، وإعادة صياغته في مصطلحات عاطفية لصالح التجاوب المرن مع الإرشادات، وليس العكس. إن ما يصبح حاسماً ليس الحجة، أو الإقناع للاستجابة السياسية لأزمة الصحة العامة، ولكن ما إذا كنت تخشى الخوف، أو تقاوم بشجاعة الامتثال، الذي يفرضه خبراء النخبة اللعينة أم لا. إن ارتداء القناع، أو تركه، قد يطفو؛ عند رينو وترامب وغيرهما، إلى عالم رمزي بحت. إنها طريقة سهلة لتجاهل الأسئلة الصعبة للخطاب الدرامي حول الانحدار الحضاري.

 

شرك القناعات:

لقد أوقعت مثل هذه الآراء المخاتلة، المغلفة بمنطق المحافظة والتدين، قيادات نافذة في شِرَاكِها، وأسلمتهم ضحايا لنهم الفيروس؛ ترامب وجونستون وماكرون كأمثلة شاخصة. الأمر الذي يجعلنا نتوقف مع سيتمان، الذي يقول إنه إذا قام رينو وآخرون قد قاموا بتقديم هذا النوع من الحجج عبر مفتاح ديني، فإن آخرين على اليمين منهم يقدمونها بمصطلحات طبقية مفترضة. وأوضح مثال على ذلك ما غَرَّدَ به باتريك دينين في تويترTwitter ، قائلاً: إن الانقسام حول الإغلاق لم يعكس ببساطة الموقف من ترامب، ولكنه قد يكشف عن “اختلافات أكثر جوهرية بين النخب والجماهير”،[12] مشارِكاً ملاحظة كريستوفر لاش في “ثورة النخبة- “Revolt of the Elite، القائلة إن “المهنيين الشباب” متمرنون ومختصون بالحمية الصحية، ومهووسون بالصحة، ويحاولون تحقيق الجمال الدائم والعيش إلى الأبد، بينما الناس العاديون “فقط” هم من يقبلون تحلل الجسم. ففي الآونة الأخيرة، أعربت بيغي نونان من صحيفة “وول ستريت جورنال- Wall Street Journal”، عن عدم الاستشهاد بأدلة، للتعبير عن أسفها “للانقسام الطبقي بين أولئك الذين يتشددون في عمليات الإغلاق، وأولئك الذين يقاومون”. الأُوائل يتألفون من المهنيين، الذين يشكلون “الطبقة الزائدة”، والآخرون هم “الأشخاص العاديون”، والذين يقدّرون الحياة، وبالتالي، يتوقون لفتح الاقتصاد. وهذا “التعميم”، الذي تقدمه نونان، تقول: إنه “استناداً إلى تجربة وملاحظة مدى الحياة”، ولا ندري إن كانت هي من عاشتها، أم رُوِيَتْ لها.

إن الجائحة تتمدد، والفيروس التاجي يتحور ويُسْرِع في انتشاره، ويقيد حركة أمريكا وأوربا، ويعتقل الغرب “النموذج” داخل قوقعته؛ بإرادته، وبقرارات غيره من دول العالم، التي تخشى تفشي أجياله المتحورة إليها. ومرة أخرى، يقول سيتمان، إن كل هذا لا يؤدي إلا إلى تحريف الجدل حول متى وكيف يتم إعادة فتح الاقتصاد في معركة بين النخب المفترضة والناس العاديين، الذين لم يتم تجاهلهم وتركهم وراءهم فحسب، بل يُرادوا لهم أن يُسُخِّرُوا أيضاً في معارك التصنيف والتجديف. ويضيف أنه لم يكن هذا هو الحال حتى الآن، ولكن يقوم كل من رينو ودينين ونونان بصنعه أثناء تقدمهم. ويستمر الإطلاع على مثل هذا التصور الأخير في الظهور، كما هو موضح في مقال رأي، نشر يوم 13 مايو 2020، في الواشنطن بوست، “أنه لا توجد انقسامات ذات معنى على طول الصف الدراسي، أو خطوط التعليم حول هذه الأسئلة. ومن المؤكد أنه لا توجد طبقة عاملة قاسية، تتحدى الموت، ولا تخشى الله، وتقاوم تهاون الأباطرة المتعصبين ذوي الياقات البيضاء.”[13] ومع ذلك، فإن تخيل أن هذا هو الحال سيكون أقل تحدياً من الحديث عما يمكن أن يساعد العمال بالفعل: بدلات المخاطر، وحماية الراتب، والإجازة الطبية المدفوعة، ومعدات السلامة المناسبة، والاختبار القوي؛ إنها مظالم مبثوثة على طول الطريق.

 

الوعاء المعيب:

وصف الكاتب سام أدلر بيل في “ديناميكية قابلة للتغيير”[14] السياسة المحافظة، وهي مصطلح يُمهد الطريق للبحث عن أعداء جدد يمكن تأجيج مشاعرهم، أنها تُفسر سبب استجابة المحافظين للمواقف الجديدة بمزيج مُجرب وحقيقي من تقريع النخبة وأداء دور الضحية. لكن تحلي الأمريكيين بالصبر وحسن النية حتى الآن، يُظهر عدم التوافق الصارخ بين النص القديم للتظلم والمرض، الذي يمكن أن يلحق الدمار بأي شخص. إذن، إن جائحة رينو المحرجة للوباء هي أخيراً النتيجة المتوقعة للطريقة، التي تعامل بها مع نفسه من خلال تأييد ترامب، ثم تولي التستر بعباءة “المحافظة الوطنية”.  وقد كتب جي كي تشيسترتون ذات مرة، وهو معروف لمحرري  First Things، كتب قائلاً: “عندما يستنتج رجل أن أي عصاً جيدة بما يكفي يمكن التغلب بها على الخصم؛ هذا عندما يلتقط واحدة”، وكأني به يُشيرُ إى أن النظر إلى ترامب على أنه كرة تدمير مفيدة، أو وعاء معيب لقومية سليمة، مع كون منتقديه هم المشكلة الحقيقية، هو أن يبتعد أخلاقياً وفكرياً عن جوهر المشكلة، أي مثلما يأخذ المرء اتجاهاته بما يُعراضه لا بما يُؤمن به؛ وأية فكرة شاطحة إذا كانت تثير النخب العالمية، فلا بد أن يكون لها بعض القيمة.

وهنا، يمكننا القول إن “تويتر” قد أفلح؛ ربما بعد فوات الآوان، في إغلاق حساب الرئيس دونالد ترامب، بعد أن نشر عبره كل الموبقات السياسية، التي لم يسبقه إليها سيد للبيت الأبيض من قبل، ومثله فعلت وسائط التواصل الاجتماعية الأخرى، والتي كان عليها أن تحجب شره يوم أن حذفت تغريدات رينو حول “الجُبْن” في ارتداء الأقنعة، وألغت حسابه، منذ النصف الأول من العام الماضي. الأمر الذي دفعه، إلى نشر اعتذار في مجلته First Things، كتب فيه: “لقد استخدمت الخطاب المحموم والمقارنات الخاطئة”، و”كان من الخطأ بالنسبة لي أن أطعن في نوايا ودوافع الآخرين، وهو ما أعتذر عنه”. وقد رأى كثيرون أن اعتذاره يجب أن يُؤخذ على محمل الجد، لكن ما تكشفه الوقائع هو أن حال الفكر اليميني لا يقتصر على بضع تغريدات في وقت متأخر من الليل. وكأن سيتمان يريد أن يقول لنا، قبل الختام، إن أزمة الفكر اليميني الأمريكي هي أعمق بكثير من ظاهر التغريدات المثيرة، التي طفح بها تويتر، ووسائل التواصل الاجتماعي الأخرى، في عهدٍ اضطربت فيه كل موازين العقلانية في أمريكا.

 

خاتمة:

لقد استبانت ندية ترامب، وفصيله من تيار الفكر الأمريكي المحافظ، مع جائحة كورونا؛ في شاكلة النظر ومستوى التصدي، الذي قدروا به أثر الفيروس التاجي، واستخفوا بخطره المدمر، حتى وضعوا الدولة العظمى في مقدمة الهزيمة أمام الوباء، بما لا يتناسب وتقدميتها على الأمم المعاصرة في القوة المؤسسية، والنظم التقنية، والسبق في مواكبات المقتضيات العلمية، بما في ذلك مواجهة  الكوارث الصحية، والتسابق في السيطرة على سوق المبادرات، وتسويق عقاقير الحلول. فيما كشف الخطاب، الذي تعمد التقليل من خطر الجائحة والاستهانة بالوباء، عن أزمة منهج وتوجه لدى النخبة الظهيرة لرئيس غير رشيد. وبما أنه منتخب، كان يتوجب على معاونيه استصحاب المعرفة العلمية المُرْشِدَة للحقيقة، مثلما يستوجت التحليل مراجعة آراء الكتلة الاجتماعية المنتَخِبة له، لقياس عمق تأثير خطاب التطرف المحافظ على ما بدر من بعض أفرادها من تصرفات، بما في ذلك التعدي على مقر الهيئة التشريعية “الكابيتول”، ودرجة تجذره، أو مبلغ هشاشته.

______

[1]https://newrepublic.com/article/157773/pandemic-driving-conservative-intellectuals-mad

[2]https://www.nytimes.com/2020/05/14/opinion/coronavirus-young-people.html?referringSource=articleShare

[3]https://www.thelancet.com/journals/lancet/article/PIIS0140-6736(20)31103-X/fulltext

[4]https://www.firstthings.com/web-exclusives/2020/04/coronavirus-reality-check

[5]https://www.firstthings.com/web-exclusives/2020/03/say-no-to-deaths-dominion

[6]https://www.firstthings.com/web-exclusives/2020/03/church-as-a-non-essential-service

[7]https://twitter.com/xan_desanctis/status/12605731011148065794.

[8]https://providencemag.com/2020/04/last-christians-america-r-r-reno-bitter-remnant-mindset-first-things/?fbclid=IwAR2dY2bbQkMBQLROVnNEA8BJW98XqgO8nqmjzoTqmub3DaeWXCTgQPlYkvw

[9] يرى مؤلف “خيار بنديكت”: أن الغربَ المُنعزلَ عن جُذوره المسيحية يتهاوى ليقعَ في عصر ظلام جديد مرةً أُخرى. ويدعو دريهر المسيحيين التقليديين في “خيار بنديكت”، إلى التعلُّم من مثال القديس بنديكت النورسي، وهو راهبٌ من القرن السادس عشر تحوَّل عن الفوضى وانحطاط الإمبراطورية الرومانية المنهارة، ووجد طريقةً جديدةً للعيش بعيدًا عن الثقة في المجتمع المحيط به. نجح رهبان القديس بنديكت طوال خمسة قرون صعبة في عصور الظلام، في الحفاظ على العقيدة قيد الحياة، وقاموا بتعبيد الطريق نحو إعادة إحياء الحضارة.

[10]https://www.firstthings.com/web-exclusives/2020/05/coronavirus-diary-new-york-may-12

[11]http://altanweeri.net/?author_name=alsadiqalfaqih

[12][12]https://twitter.com/PatrickDeneen/status/1252248271717838854.

[13]https://www.washingtonpost.com/opinions/2020/05/13/class-war-over-social-distancing-new-data-suggests-otherwise/

[14]https://know-your-enemy-1682b684.simplecast.com/episodes/mailbag

_________

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي، الأردن.

السبت، 16 يناير 2021 – القاهرة، جمهورية مصر العربية

جديدنا