هيئات متعدِّدة؛قراءة في إشكاليَّة المعنى في منعطفات من التاريخ الانثروبولوجي

image_pdf

مقدمة:

لطالما مثّلت العلاقة بين الأنثروبولوجي والمعنى الذي يكتسي الظواهر الاجتماعيَّة التي يدرسها قضيَّة محوريَّة، اتّسمت بطابعها الإشكالي والمثير للجدل في تاريخ الحقل العلمي الانثروبولوجي. فكان تحديد موقع المعنى ضمن الممارسة الانثروبولوجيَّة، سجالاً محتدماً، انطلق من، وأسفر عن بروز مدارس وتوجّهات نظريَّة عديدة، قدّم كل منها تصوّره الخاص حول “المعنى” من حيث موقعه، مصدره، وبالتالي العلاقة التي (ينبغي أن) يُقيمها الباحث الانثروبولوجي معه. وقد كانت كل من النظريَّة التأويليَّة وتيَّار أزمة التمثيل مِن أهمّ التوجُّهات التي قدّمت مداخلات ذات صلة مباشرة بإشكالات المعنى. لذا ننوي أخذهما كمنعطفين نظريين تاريخيين أسهم كل منهما في إحداث تحوّلات في النظر إلى المعنى بما هو فكرة ذات صيرورة تاريخيَّة ضمن الإرث الانثروبولوجي. وسنحاول خلال ذلك أن نفهم جانباً محدّداً من إشكاليَّة المعنى هو المتعلِّق بالعلاقة التي ينبغي أن يقيمها الباحث معه. يأتي ذلك في محاولة للخروج برؤية مبدئيَّة تسهم في رسم مسار -قد يكون صالحاً- لتتبّع “المعنى” في صيرورته التاريخيَّة في إطار التقليد المعرفي الأنثروبولوجي والسوسيولوجي كذلك.

تحقيقا لذلك الهدف نستمدّ وجهتنا هنا من السؤال التالي: كيف يمكن الاستعانة بالتحليل المقارن للمداخلتين التأويليَّة وتيَّار أزمة التمثيل، في رسم هيئات للمعنى يتجلّى فيها ذلك الترابط بين المعرفي والسياسي في الإرث الأنثروبولوجي؟ وهو تساؤل يستند بالضرورة إلى ادِّعاء مفادُه أنّ التوجُّهين يمثّلان منعطفين نظريين تاريخيين، أثّر كلٌ منهما في “المعنى” باعتباره فكرة ذات هيئات متعدِّدة ومتمايزة في تاريخ الانثروبولوجيا.

تنقسم المُداخلة التي بين أيدينا إلى ثلاثة محاور رئيسيَّة؛ يكون الأوَّل منها بمثابة تأطير عام نعرض فيه بإيجاز ملامح رئيسيَّة لكل من النظريَّة التأويليَّة وتيَّار أزمة التمثيل، وذلك تمهيداً للمحوّر الثاني الذي نُقدّم فيه قراءة مقارنة لفكرة المعنى بين التوجهين السابقين. في حين يشتمل الأخير على محاولة لرسم هيئات محدّدة للمعنى تجلّيه كفكرة ذات صيرورة، وفضاء تتمظهر فيه علاقات القوى المتّصلة الممارسة الانثروبولوجيَّة.

 

النظريَّة التأويليَّة: من الحقائق المطلقة إلى التأويل:

يجد المدخل التأويلي جذوره الأولى في علم الاجتماع، وتحديداً لدى ماكس فيبرmax weber، الذي استلهم منه كليفورد غيرتز Clifford Geertz -رائد النظريَّة التأويليَّة في الأنثروبولوجيا- الأساس النظري لمداخلته. قدّم غيرتز مداخلته في سياق اتّسم معرفياً باستمرار الحضور الفعّال للمنهج الوضعي في علم الاجتماع، وهيمنة الانقسام التقليدي في الانثروبولوجيا فيما يخصّ النظر إلى الثقافة ما بين المثاليين والماديين، متخاصمين حول كونها ذاتيَّة أم موضوعيَّة.

أخذت التأويليَّة منحى مختلفاً نسبياً، حيث نظر غيرتز إلى الثقافة على أنّها بمثابة وثيقة مُتمثِّلة بالأفعال. فهي على الرغم من كونها متعلّقة بما هو فكري/ذهني، إلا أنّها ليست كياناً باطنياً محجوباً يمكن أن تُعزى إليه أفعالاً محدَّدة، ولا هي كذلك بالشيء المادي أيضاً.[1] ما يعني أن التأويليَّة اختارت أن توجد لنفسها أرضيَّة مختلفة تسهم في تجاوز ذلك الانقسام الثنائي (مادي/مثالي)، فارتكزت إلى المعاني التي يضفيها الفاعلون على السلوكيات والأحداث الاجتماعيَّة، بدلاً من الخوض في تجريدات كلّيَّة تختزل الثقافة في ذاتي أو موضوعي.

يُظهر ذلك الاستناد إلى معاني الفاعلين تأثّراً عميقاً بماكس فيبر، ففيه نجد فيها صدى الفكرة الفيبريَّة التي تنظر إلى الإنسان على أنه حيوان اجتماعي عالق في شبكات من الرموز نسجها بنفسه حول نفسه.[2] وهي الفكرة التي اتَّخذ منها غيرتز أساساً للمقاربة التأويليَّة في دراستها للثقافة وتعريفها لها بأنها “تلك الشبكات من الرموز التي تضمّ معانٍ مرتّبة هرمياًّ”. وهو تعريف يجعل من مفهوم الثقافة الذي تبنته التأويليَّة ذو طبيعة سيميائيَّة، يتعامل مع الثقافة على أنّها نصٌ يحوي طبقات متعدّدة من المعاني.[3] ومن هنا يتحدَّد هدف الاثنوغرافيا بالنسبة لغيرتز، بالكشف عن المستويات المختلفة لهذه المعاني عن طريق ما أسماه بـ “الوصف الكثيف”. إلا أنّ هذا التناول النصّي للثقافة له إشكالياته، لعل من أبسطها أنّ التعبير عن بعض المعاني الاجتماعيَّة في الواقع لا يتَّخذ طابعاً نصّياً بالضرورة (فقد يكون كلاماً، أو رقصاً مثلاً)، فيعمد الباحث إلى التعبير عنها نصياً تماشياً مع القيود المؤسّسيَّة التي يمليها البحث العلمي، والمرتبطة بدورها بأهداف أيديولوجيَّة محدَّدة.

إنّ التعبير النصي ينتج بالضرورة فصلاً بين الحدث/الفعل الاجتماعي (الرقص مثلاً) ومعناه، بحيث لا تصبح العلاقة بينهما تزامنيَّة وإنما تسلسليَّة/تعاقبيَّة يكون فيها إعطاء المعنى لاحقاً لوقوع الحدث (الرقص). وتجري خلال تلك العمليَّة تحويرات على المعنى الذي يحمله الحدث لحظة وقوعه، والذي يُعدّ أقرب إلى المعنى الحقيقي (إن لم يكن هو نفسه) من ذاك المقدّم لاحقاً عبر النص. وهنا تكمن إحدى معضلات التناول النصِّي للثقافة بإغفاله لحقيقة أنّ الكثير من المعاني الاجتماعيَّة لا يجري التعبير عنها نصياً، وأنّ تحويلها إلى هيئة نصيَّة يُحدث بالضرورة تغييراً عليها. ومهما يكن من أمرٍ، فإنّ للتأويليَّة إسهام رئيسي تمثّل في تجاوزها لذلك الانقسام الثنائي في النظر إلى الثقافة، وفي إعادة الاعتبار إلى النظرة الفهميَّة التي طرحها فيبر وتطويرها باتّجاه فهم أفضل للظاهرة الاجتماعيَّة يستند بداية إلى المعاني التي يضفيها الفاعلون. كما فتحت آفاقاً جديدة بوعيها الانعكاسي تجاه الممارسة الانثروبولوجيَّة، خاصَّة حينما أدركت أنّ ما تقدّمه من تفسيرات للظواهر الاجتماعيَّة ليست سوى تأويلات، لا معارف مطلقة.

 

تيَّار أزمة التمثيل: في مساءلة الكتابة:

كان بروز ما عرف بـ” تيار أزمة التمثيل” تتويجاً لموجة قويَّة من النقد السياسي والأدبي الذي قاده مجموعة من الباحثين من داخل وخارج الانثروبولوجيا، انصبّ اهتمامهم على نقد الإنتاج المعرفي الانثروبولوجي السابق له ككل عبر مساءلة تمثيل “الانثروبولوجيا الغربيَّة” للثقافات الأخرى. هذا وقد قدّم تيَّار أزمة التمثيل طرحه النظري متأثراً بعوامل عديدة من داخل السياق المعرفي وخارجه، الأمر الذي انعكس بشكل مباشر على مداخلته النظريَّة التي اتَّخذت من تحليل الترابط الوثيق بين السلطة والمعرفة، نافذة نقديَّة لخلخلة الإرث الانثروبولوجي الكلاسيكي.

ينظر التيار إلى الثقافة على أنّها متكوّنة من رموز وتمثيلات موضِع نزاع. وتُحيل هذه النظرة الافتراض التأسيسي لديه الذي يؤكّد على عدم انفصال الأدبي عن العلمي والسياسي، أي أنّ العلم ليس فوق العمليات التاريخيَّة واللغويَّة.[4] فتحدّى التيار بهذا الافتراض الأساس الذي استندت إليه الانثروبولوجيا في تثبيت نفسها كعلم، وهو الادِّعاء بالموضوعيَّة، والذي يقتضي فصلاً بين العلم والأدب. ولعلَّ تتبّعنا لنشأة تيَّار أزمة التمثيل نفسه يؤكّد على أنّ فكرة وجود علم متعالٍ على العمليات التاريخيَّة ليست سوى ضرباً من الأسطرة. فقد ظهر تيّار أزمة التمثيل في فترة ما بعد الحرب العالميَّة الثانية (وتحديداً في الستينيات من القرن العشرين)، التي سبقها وتزامن معها عمليات استعادة الاستقلال الوطني من المستعمِر ومطالبة الشعوب المستعمَرة بحقِّها في تقرير مصيرها. وقد صاحبت تلك المطالبات السياسيَّة، تساؤلات من داخل السياق المعرفي الانثروبولوجي حول من له الحق في الكتابة عن الشعوب التي كانت مستعمرة وروايَّة قصتها؟ ولذلك الأمر ارتباطه ببدايات بروز مع عرف بالأنثروبولوجي الأصلي (الداخلي) الذي أسهم في مساءلة التمثيل المعرفي الغربي للثقافات الأخرى.[5] لذا يمكن اعتبار مداخلة التيار كإحدى إفرازات التفاعل بين السياسي والمعرفي المُتراكم والمتفجّر إبان تلك اللحظة التاريخيَّة، فأنتج ردود أفعال من داخل الانثروبولوجيا عملت على تقديم نقد جوهري لمنتجات الممارسة الانثروبولوجيَّة، أي تلك التمثيلات عن الثقافات الأخرى.

مثّلت ” الكتابة”، بحُكم احتلالها مكانة مركزيَّة في عمليَّة انتاج المعرفة حول الثقافة، نُقطة انطلاق تيار أزمة التمثيل في نقده للممارسة الانثروبولوجيَّة ومنتجاتها. فقد صرّح جميس كليفوردJames Clifford -أحد أهم روّاد تيار أزمة التمثيل- إلى أنهم سينطلقون ليس من الملاحظة بالمشاركة، أو النصوص الثقافيَّة الناتجة من العمل الاثنوغرافي- كما جرت العادة في الانثروبولوجيا الكلاسيكيَّة، وإنما من “الكتابة” نفسها بما هي عمليَّة صناعة هذه النصوص.[6] فخلافاً للتيارات الكلاسيكيَّة في الانثروبولوجيا، وضع تيار أزمة التمثيل -ولأول مرة في التاريخ الانثروبولوجي- عمليَّة الكتابة الاثنوغرافيَّة موضع مساءلة، كونها مركز ما أسماه التيار بعمليَّة “صناعة الثقافات” التي مارستها الأنثروبولوجيا. فعلى الرغم من وجود بعض مظاهر الرؤية الانعكاسيَّة في بعض التيارات الكلاسيكيَّة في الأنثروبولوجيا (مثل التأويليَّة)، إلا أن النقد المنهجي والمباشر للكتابة الاثنوغرافيَّة وما لها من حمولة أيديولوجيَّة لم يبرز إلا مع تيار أزمة التمثيل.  ومن هنا نلحظ أحد جوانب تجاوزه للطرح التأويلي؛ فعلى الرغم من إدراك غيرتز للطبيعة التأويليَّة للتفسيرات التي تقدّمها الانثروبولوجيا -بعد أن أُعتيد أخذ موضوعيتها كمسّلمة، إلا أنّ نظريته كانت كذلك تدّعي الوصول إلى تفسيرات عامّة عن الظواهر الاجتماعيَّة، ولم تولِ اهتماماً كافياً للتغيير الذي تُحدثه عليها من خلال كتابتها لها. يأتي ذلك بتغييرها لمنطق عمل الأشياء فيها أولًا، ومن ثم باستخدامها لدلالات وأدوات من خارج تلك الثقافة للتعبير عن شيء بداخلها؛ كالمجاز والتصوير الدرامي للوقائع وغير ذلك. وهو ما أسهم -وإن بشكل غير واع- في تقعيد مكانة الباحث (الخارجي) المركزيَّة في الحقل المعرفي الأنثروبولوجي، بتأكيد قدرته على فهم ثقافة الآخر، ذلك “الشيء الغريب” أولاً، ومن ثم جعله مفهوماً بالنسبة للثقافة التي يعرضه عليها، مع النزوع في نفس الوقت إلى الحفاظ على طبيعته “الغريبة” هذه تأبيداً لصورته كآخر.

 

المعنى في منعطفي التأويليَّة وتيَّار أزمة التمثيل:

لنبدأ هذا الجزء من دراستنا بالاقتباس التالي عن كليفورد غيرتز: “وها هنا يكمن موضوع الاثنوغرافيا: الترتيب الطبقي الهرمي لتراكيب ذات معنى تنتج حركات، مثل الاختلاج والغمز والغمز المزيف والتقليد الساخر والتدرّب على تلك الحركات، وتقدِّم تفسيرا لكل هذه الحركات وكيف ينبغي فهمها والنظر إليها. ومن دون هذا الترتيب الهرمي لن يكون لتلك الحركات أي معنى”[7]

بالرجوع إلى قول غيرتز بأنّه يبحث عن شرح التعبيرات الاجتماعيَّة وإجلاء غوامضها الظاهرة على السطح، يمكن أن نذهب إلى أنّ المعنى هو “ما يُقصَد التعبير عنه من خلال التعبيرات أو الأفعال المختلفة من قبل الفاعلين”، باعتبارهم مصدره المبدئي الذي اعتمد عليه الباحث. يمكن ببساطة ملاحظة أنّ اختلاجة العين اللاإراديَّة والغمز وتصنع الغمز، كلها حركات قد تبدو ظاهرياً متشابهة، إلا أنّ ما يحمله كل منها من معنى يختلف بالضرورة عن الآخر. وقد ضرب غيرتز هذا المثال بتفصيل أكثر للتدليل على هرميَّة المعنى وتجاوزه لما يظهر من تعبيرات اجتماعيَّة.

إنّ علاقة الباحث مع هذا المعنى -كما استخلصناها- وفق المنظور التأويلي هي علاقة كَشْف، فهو الذي يكشف ويصل إلى المعاني الخفيَّة/ العميقة للفعل، والتي غالباً ما يُنظر إليها، من قِبَل الباحث التأويلي، على أنّها متجاوزة للتعبير الواعي للفاعلين أنفسهم.  ويأتي هذا الموقف في اتساق مع التعريف السيميائي الذي تبنّاه غيرتز للثقافة؛ فالمنطق النصي يقوم على افتراض وجود مستويات متعدِّدة من المعاني، يُعدّ أبسطُها هو المعنى الظاهر، والذي بكل تأكيد ليس محور الاهتمام الباحث. وبما أنّ المعاني الخفيَّة تُعدُّ متجاوزة لوعي الفاعلين، أي قصديّتهم، فتنبع من هنا أهمّيَّة الباحث ومشروعيته في السعي للكشف عنها، وفهمها، وشرحها، ومن ثمّ إعطاء تفسير شامل لها. وعليه، تصبح علاقة الباحث بالمعنى في المنظور التأويلي هي علاقة كشف لشيء موجود مسبقاً، إلا أنّ الوصول إليه يستدعي امتلاك مقدرات معينة واتباع منهجيَّة ميدانيَّة محدَّدة تتمثَّل في الوصف الكثيف الذي يتولى الكشف عن المستويات المختلفة من المعاني التي تحملها التعبيرات الاجتماعيَّة.

على خلاف التأويليَّة، لا ينظر تيار أزمة التمثيل إلى العلاقة بين الباحث والمعنى على أنّها علاقة كشف، وإنّما علاقة صناعة من خلال فعل الكتابة ومنتوجها المجسّد بالنص.  فالباحث كونه متموقعاً بين أنظمة متصارعة من المعاني، باعتباره وسيطاً بين عالم الأشخاص الذين يدرسهم من جهة، وعالم القُرّاء الذين يخاطبهم بنصِّه من جهة أخرى، فإنّه غالباً ما يختار الانحياز إلى العالم الأخير وذلك بانتقائه لمعنى متواطئاً مع قرّائه (ويبدأ ذلك مع اختياره للمنطق النصي في عرضه/إعطاءه للمعنى)، في حين يموضع المعنى الذي يعطيه المبحوثين في مكانة أدنى ويُعدِّل عليه باستخدام تقنيات الكتابة المختلفة.[8] وبالتالي، فإنّ مصدر المعنى بالنسبة لتيّار أزمة التمثيل هو الباحث نفسه، الذي ينخرط في تغيير وتشكيل وربما اختراع للمعنى أثناء تمثيله للثقافة المدروسة. فهو بذلك ليس كما ادّعى غيرتز ” مجرد جالس على أكتاف السكان المحليين يقرأ من عليها النص الثقافي ويعطيه تفسيرا”،[9] وإنّما هو أحد المتفاعلين داخل منظومة من علاقات القوى يتغيَّر فيها المعنى مرّتين على الأقل، الأولى بسبب التفاعل الذي يحدث أثناء العمل الميداني، والثانية أثناء عمليَّة الكتابة، التي تمثِّل حسماً لذلك الصراع بتغييب معاني المحليين وتغليب معنى الباحث.

 

هيئات واستجابات وتجاوز:

يمكننا بناء على ما تقدّم، الادّعاء بوجود ثلاث هيئات -على الأقل- يتَّخذها المعنى في الأنثروبولوجيا، قد يتحقَّق من خلالها فهم جوانب مهمّة من صراع موضوعه هو ذاته (أي المعنى): الهيئة الأولى نراها خارج شروط الامكانيَّة وهي تمثّل المعنى الحقيقي للحدث/ الظاهرة النابع منها، وهو غير متاح لانعدام قدرة الظاهرة على التحدُّث عن نفسها وإعطاء معنى لوقوعها. أمّا الثانية، فهي المعنى المحلي الذي يعطيه من هم جزء من الظاهرة (المشاركين أو الفاعلين)، باعتبارهم وسيطاً أولياً لها. إلا أنّ هذه الهيئة المحليَّة للمعنى غالباً ما تتسم بطابع غير نصّي، فهي بالتالي غير قابلة للتداول/ التبادل في السوق العلميَّة، ولكي تصبح كذلك فهي بحاجة إلى وسيط أو وكيل له إمكانيَّة الوصول (إلى السوق) وشرعيَّة إعطاء المعنى المقبول علمياً، وما هذا الوسيط سوى “الباحث”، الذي يمنح بذلك المعنى هيئته الثالثة.

لعل جزءاً أساسياً من عمليَّة إضفاء شرعيَّة علميَّة على المعنى المحلي، هو أن يقبل هذا الأخير بأن تُجرى تغييرات على الشكل الذي يُعبَّر عنه من خلاله حتى يصبح قابلاً للتبادل في السوق العلميَّة، أهمّها هي أن يتِّخذ هيئة نصيَّة. على أنّ إعطاء الباحث للمعنى هيئته الثالثة ليس راجعاً إلى الباحث بما هو “ذات” مستقلّة، وإنّما إلى منطق محدَّد لعمل المنهج العملي بما هو لغة أداتيَّة مطبّقة على جميع الظواهر بغض النظر عن طبيعتها. حيث يتيح المنهج (وربما يفرض) نوعاً من “التواطؤ” بين الباحث بما هو مركز العمليَّة البحثيَّة، والمؤسَّسة الأكاديميَّة، باعتباره (أي ذلك التواطؤ) جزءاً من عمليَّة إنتاج المعرفة العلميَّة.[10]  فهذه الهيئة الثالثة من المعنى يمكن فهمها على أنها نتاج لمنظومة كاملة تعمل من خلالها المعرفة العلميَّة، يتم تقعيدها من خلال الإجراءات الحاكمة للمؤسَّسة العلميَّة، كشرط رئيسي لإنتاج شكل معين من المعرفة.

إنّ خروجنا بذلك التصوّر حول ما للمعنى من هيئات، ما كان ليُنجز بهذه الصيغة من دون الوقوف عند كل من النظريَّة التأويليَّة وتيار أزمة التمثيل، حيث عكس كِلا التياران مداخلتين نقديتين ترجع كل منهما إلى لحظة معيّنة من تاريخ الأنثروبولوجيا، فأسهم كلاهما في بروز تصوّر مميز للمعنى. فانطلاق التأويليَّة من المعنى الذي يُضفيه الفاعلون الاجتماعيون، يُعدّ خروجاً عن الافتراض الوضعي القائل بموضوعيَّة البحث الاثنوغرافي في دراسته للثقافة، فلفتت بذلك الانتباه إلى أهميَّة الهيئة الثانية للمعنى بانطلاقها من معاني الفاعلين الذي كان إلى حدٍّ ما مغيّباً قبل ذلك. في حين مثّلت عمليات التحرر من الاستعمار، وما صاحبها من تساؤل معرفي حول مصداقيَّة التمثيل الغربي للثقافات الأخرى، مناخاً ملائماً لبروز تيار أزمة التمثيل، الذي كان بمثابة مراجعة نقديَّة للإرث الأنثروبولوجي، هدفت إلى الكشف عمّا يجري من تغيير وتشكيل للمعاني المتعلقة بالثقافات الأخرى وإعادة انتاجها في شكل معيَّن يخدم أيدولوجيا غربيَّة نصيَّة مسيطرة. لذا يمكن القول بأنّ تيار أزمة التمثيل مثل نقداً للهيئة الثالثة من المعنى في علاقتها بالهيئتين الأولى والثاني والتي اتّسمت بطابع تغوُّلي. وفي علاقتها كذلك بعوامل خارجيَّة عبر الكشف عمّا يختبئ خلف النص من أيديولوجيا الحداثة الغربيَّة، وإعطائها الأولويَّة للكتابة على الشفاهة، والتي أنتجت ليس فقط تغولاً للهيئة الأخيرة من المعنى على الهيئتين الأوليين، وإنمّا غيبتهما كذلك من خلال تقديم نفسها كممثِّل أصيل أو وسيط محايد لحقيقتهما المزعومة.

 

خاتمة:

حاولنا هنا تقديم قراءة تاريخيَّة لفكرة المعنى في الانثروبولوجيا في سياق علاقتها مع الباحث، مستعينين بتحليل مقارن لكل من المداخلتين التأويليَّة وتيَّار أزمة التمثيل في رسم خارطة لبعض “الهيئات” التي يتّخذها المعنى في الإطار الانثروبولوجي. جاء ذلك في محاولة منّا للخروج بفهم أفضل لطبيعة التداخل بين المعرفي والسياسي من جهة، وما يرتبط بها من علاقات قوى داخل حقل معرفي محدد هو الأنثروبولوجيا. أتى ذلك تأكيداً منّا على تاريخيَّة المعرفة، والتي نعدّها غاية ما قمنا بعرضه هنا من صراعٍ موضوعه “المعنى” ونتاجه هيئات متمايزة ومتراتبة منه.

قائمة المراجع:

. بارث، فريدريك وآخرون، الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس، ترجمة أبوبكر باقادر وإيمان الوكيلي، بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.

. كوش، دينيس، مفهوم الثقافة في العلوم الاجتماعيَّة، ترجمة: منير السعداني، بيروت، المنظمة العربيَّة للترجمة، 2007.

. غيرتز، كليفورد، تأويل الثقافات: مقالات مختارة، ترجمة: محمد بدوي، بيروت، المنظمة العربيَّة للترجمة، 2009.

. لومبار، جاك، مدخل إلى الاثنولوجيا، ترجمة: حسن قبيسي، الدار البيضاء، المركز الثقافي العربي، 1997.

. ناشف، إسماعيل، صمت الظواهر: مقاربات في سؤال المنهج، إضافات، العدد العاشر، 2010.

  • Clifford, James and George. E. Marcus eds. Writing Culture: The poetics and politics of ethnography. Berkeley: University of California Press.1986.

 

[1] كليفورد غيرتز، تأويل الثقافات: مقالات مختارة، ترجمة: محمد بدوي، (بيروت، المنظمة العربيَّة للترجمة،2009) 92.

[2] المرجع السابق، 82.

[3]  المرجع السابق 92.

[4] Clifford, James and George. E. Marcus eds. Writing Culture: The poetics and politics of ethnography (University of California Press.1986)2

[5] المرجع السابق، 9.

[6] المرجع السابق، 2.

[7] غيرتز، مرجع سابق، 86.

[8] غيرتز، مرجع سابق، 69.

[9]  فريدريك بارث وآخرون، الأنثروبولوجيا: حقل علمي واحد وأربع مدارس، ترجمة أبوبكر باقادر وإيمان الوكيلي، (بيروت، المركز العربي للأبحاث ودراسة السياسات، 2017.) 481.

[10] إسماعيل ناشف، صمت الظواهر: مقاربات في سؤال المنهج، (إضافات، العدد العاشر 2010) 119.

 

جديدنا