قراءة في كتاب “ما بعد العلمنة والأسلمة مقاربات في الثورة والإسلام والحداثة ” لمحمد القوماني

image_pdf

 

مقدمة:

يتضمَّن الكتاب مقدّمة وتوطئة وتسعة فصول متمايزة من حيث القضايا المطروحة، إلا أن ما يجمعها هو الحسّ التقييمي الذي يبثّه الكاتب طوال الفصول المختلفة. يقدِّم مسائل حضاريَّة وفكريَّة لا زالت عالقة ولم تجد إجابات جديدة في السياق الثقافي والسياسي الذي تمر به المنطقة العربيَّة وتونس تحديدا. يدل اختيار العنوان حرص الكاتب على تجاوز ثنائيَّة الاستقطاب الحادّ الذي هيمن على الساحة التونسيَّة بين دعاة الأسلمة ودعاة العلمنة، أو على الأقل رسم مقدّمات لذلك، باستحضار أدوات المراجعة والنقد في فضاء الإسلاميين. وتبدو خصوبة الكتاب في منسوب الأسئلة التي يطرحها وطبيعتها، وثقافة النقد المنتشرة في مضمونه، بتفعيل مفاهيم الوعي التاريخي ومركزيَّة العقل ومطالب التنوير والإصلاح الديني مساهمة في تهوئة الفضاء الإسلامي العام الذي انغمس في السياسي اليومي. يتمثَّل الخيط الاشكالي للمؤلف في ترسيخ ثقافة تحقيق الديمقراطيَّة والتخلّص من الاستبداد السياسي وفتح مجالات التحرّر من استبداد الماضي وهيمنة الأموات على الأحياء وطغيان التراث على التجديد، إنها قضايا قديمة بشكل ما ولكنها جديدة، فهي حاجيات تاريخيَّة وأسئلة حضاريَّة لم تتم الاستجابة إليها ولا الإجابة عليها.

نحتاج لهذا الكتاب في مناخ ساد فيه الفكر الخرافي والتكفيري والإرهابي، وغاب فيه الحوار والنقاش وهيمن فيه التفجير بدل التفكير وثقافة الموت عوض ثقافة الحياة. يهدف إلى اختراق الأفهام المنحرفة لإسلام متشدِّد ومفاهيم باليَّة وآليات تفكير متحجِّرة في تمثل الواقع والنظر للعالم وللإنسان، وضعنا في حاجة إلى رجات وزخات قويَّة من النقد وتطهير الإسلام من الداعشيَّة الفكريَّة والوجدانيَّة، وهذا الكتاب يسهم في إنجاز ذلك.

مضمون الكتاب:

أولا: تقييم المسار الثوري: الفرص المهدورة والمواطنة المتعثِّرة

خُصِّص الفصل الأول إلى تقييم المسار الانتقالي، حيث وفّرت شرارة الثورة التونسيَّة ارهاصات انبلاج عصر سياسي ترسم فيه علاقة جديدة بين الشعب والدولة وبين الحاكم والمحكوم، وتطبق فيه الديمقراطيَّة وتعاش المواطنة. هذا الحراك السياسي والمجتمعي لم يأت من فراغ، فقد أسَّس له رواد النهضة العربيَّة بجعل الديمقراطيَّة في قلب اهتماماتهم النظريَّة، فالديمقراطيَّة لدى رفاعة الطهطاوي والأفغاني ومحمد عبده والكواكبي وفرح أنطون وشبلي الشميل لم تنفصل عن مقارعة الاستبداد. فقد فكروا في قضايا الحريَّة والعدالة  والفصل بين السلطات، وتعاطوا مع الديمقراطيَّة ضمن أفق توفيقي بين الهويَّة والحداثة وتفاعلوا مع الثقافة الغربيَّة ودعوا إلى الاقتباس منها دون حرج. هذا السبق تمّ التراجع عنه، حيث وُظّفت أجهزة الدولة في استبعاد الدين من الحياة العامَّة، وحوصر التدين ونفخ في التيار العلماني واحتكر الفضاء الديني، في مقابل ذلك نشأت حركات وخطابات تروِّج لفكرة ” الاسلام شامل للحياة” و”الإسلام هو الحل”، وانتشر شعار “الإسلام دين ودولة وعقيدة وشريعة ومصحف وسيف”. اعتبر الكاتب  أن الإسلام السياسي تمدّد كردّة فعل ضد إقصاء الدين وتهميش دوره في المجتمع، ونما في سياق عداوة مع الأنظمة الحاكمة من خلال الشّعار المعروف “الحاكميَّة لله”. تغذَّى صراع العلمنة والأسلمة من رفض مقاربات فكريَّة وسياسيَّة عملت على علمنة الدولة والمجتمع مثل كتابات طه حسين[1] وكتاب على عبد الرازق[2]، أفرزت انقساما في الوعي وانشطارا في الإدراك، ويفسِّر غياب المنحى التوفيقي الصراعات المحتدمة في الفكر العربي التي تحوَّلت إلى “سجالات ايديولوجيَّة وإلى اتّهامات متبادلة في التخوين والتكفير والعنف” (ص 35) .

يحدِّد الكاتب هزيمة 1967 كإحداثيَّة تاريخيَّة انبثقت عنها المراجعات والاتجاهات النقديَّة، وتبلورت في سياقها مشاريع فكريَّة عربيَّة في قراءة التراث وفي الانبعاث الحضاري وفي التجديد مثل طيب تزييني[3]، وياسين الحافظ[4]، ساهمت هذه المشاريع النقديَّة في تقليص حالة التشنج في مقاربة مسائل الإسلام ومعالجة قضايا التراث وتحليل الخطاب النهضوي، دون أن يكون لها أثر  في تحرير الشعوب من براثن الاستبداد. لم تؤت أفكار التقدم والتحرّر والنقد أكلها إلا مع “الثورة التونسيَّة” التي يصفها “بالزلزال”، مؤكدا أنها “لم تأت صدفة ولم تصنعها أياد خارجيَّة” (ص37)، بل يعدّها تتويجا لنضالات مريرة تكثَّفت خلال العقود الأخيرة، وأن الحراك الثوري له قيادة ومحتوى سياسيا.

يتوقّف الكاتب عند توصيف أبرز الأحداث التي واكبت المسار الثوري، ليهتم بعد ذلك بالتطورات السياسيَّة ما بعد الانتخابات، مبينا أن انتصار حزب حركة النهضة في تونس انتصار واضح لتيار الهويَّة العربيَّة الإسلاميَّة في مواجهة نزعات التغريب والعلمنة القسريَّة واضطهاد “المتدينين”، وأتاحت الانتخابات الفرصة لتجربة الإسلام السياسي. وفي سياق تقييم المرحلة الانتقاليَّة أبرز الكاتب أنه تمَّ تغيير الحكام دون أن تتغير بنية الحكم، مما أحدث “خيبة أمل” وعودة أساليب الحكم السابق وثقافة تمجيد الزعيم وارتفاع منسوب الفساد، وتجذّر ثقافة الخضوع. وأن المواطنة لا تزال متعثِّرة لتنامي نزعة الهيمنة والانفراد وسوء استخدام التفويض الشعبي، وعدم الوفاء بالوعود المعلنة، نخرت مصداقيَّة الحكم، ذلك أن التغيير الحقيقي ليس تبديل الحكام وشعاراتهم، بل الاهتمام ببناء المواطنة، يلخّصها في عبارة مكثفة “الشعب المسلح بثقافة التغيير”(ص47).

عاشت تونس على وقع استقطاب ايديولوجي وسياسي، بصراعاته، ومعاركه، مجسّمة علامات أزمة سياسيَّة خنقت المجال العمومي وعزَّزت لجوء الناس إلى الخلاص الفردي، وتصاعدت مطالب الهويات والانتصار لنزعات ما تحت الوطنيَّة من جهويات وانتماءات عرقيَّة واثنيَّة، وضمور أحلام الوحدة والعدالة. استنتج الكتاب من ذلك أن استقطاب المشهد السياسي – في مرحلة الانتقال الديمقراطي- بين حكومة ومعارضة غير صحي في سياق تأسيسي، كانت اللحظة الجديدة تستوجب شراكة لا تطمس التعدديَّة وحق الاختلاف، مع التوافق على ملامح مشروع وطني يعبئ الشعب حول ثقافة جديدة  “تعمل بجاذبيَّة الديمقراطيَّة وبناء وفاقات صلبة”. وأكد أنه لئن انهزم الحداثيون في منافسة الإسلاميين في الانتخابات، فإن قيم الحداثة انتصرت، مما يستوجب الاشتغال على تجديد الفكر والوعي والممارسة عبر تحديث المجتمع والدولة، وتجاوز هوّة الاستقطاب وبلورة معجم ما بعد العلمنة والأسلمة، يكون فيه الإسلام الثقافي إطارا للأمة، وإيلاء الفكر والثقافة أولويَّة، وحث المثقف على لعب دور محوري في دعم التحولات وإنجاز التغييرات العميقة، لأن “صمود المقاتلين في الثغور من صمود المثقفين في المواقف” (ص61). وأنه لا مفر من مصالحة تاريخيَّة عبر تفعيل قيم المواطنة، واستيعابها فكريا ووجدانيا، والتخلي عن صيغ الإحالات إلى الماضي وإلى لحظات تاريخيَّة سابقة دون مبرّرات منهجيَّة وقيميَّة، فقيمة المواطنة مفهوم حديث، تتطلب “تبيئتها” في واقعنا ببذل مجهود نظري ومواجهة التحدّيات الثقافيَّة لإخراج الفكر العربي الاسلامي من “المتاهة” التي أوقعته فيها ثقافة الثنائيات.

ثانيا: قراءة في ثلاثيَّة القرآن والتوحيد والعبادة

يتضمَّن القسم الثاني الفصول (الثاني والثالث والرابع) حيث يشير الباحث أن الثورة الثقافيَّة لا يمكن أن تتحقق إلا في إطار ثقافة الأمَّة التي محورها القرآن الكريم بما هو نواة إنتاج الفكر والقيم المتفاعلة مع الواقع. لهذا يشتغل ضمن البحث  عن أثر القرآن الكريم في تصورات المسلمين وسلوكهم، وفي منزلة الإنسان، ويهتم بوظيفة الدين وأدواره  أكثر من حقيقته. ويستعرض مثال نظريَّة الاستخلاف التي أساسها أن الله كرم الإنسان وميزه بالعقل، وجعل الوحي مرشدا ومواكبا لتطوّر الوعي الإنساني حتى يكتمل وينضج، وأن الوحي مكمِّل للعقل ومؤطرا له. يراوح القوماني في مقاربته بين الإحالة إلى تيار الاعتزال الذي يتبنى العقل لطفا من الله ورحمة منه تعالى، والاستفادة من مرجعيات الفلسفة الغربيَّة ممثَّلة في الفيلسوف الألماني “ليسنغ”[5] في فهم البنية الدلاليَّة لمفهوم الوحي والاجتهاد، والتدرج، والوعد والوعيد، والمعاني الحسيَّة، وعدم الاعتماد على التفسير الحرفي، لتفادي الوقوع في التشبيه والتجسيم. يتوجه الوحي إلى عموم الناس، لذا تقترب صياغته من فهمهم، ولم يمنع ذلك بعض الأفراد “المتميزين” من فهمه وتفسيره حسب منهجيات مختلفة، تفسر بعض العقائد أو بعض القصص والأمثال “برمزيَّة يرتؤونها” (ص76)، مستثمرا مواقف الفيلسوف الهولندي “سبينوزا”[6]، الذي يحلل النصوص المقدَّسة بوجهة عقلانيَّة وأن بعض الأحداث والأوصاف التي يرويها الوحي قد لا تكون فعليَّة، إنما هي مجرد اُسلوب للتأثير على العامة وتحريضهم على الطاعة، مبينا أن النبوة لا تجعل الأنبياء فوق الواقع وفوق المجتمع مضفيا مسحة إنسانيَّة على مفهوم النبوة. يُباشر الكتاب قضيَّة الوحي وتاريخ الرّسل والأنبياء وفق تطور الوعي التاريخي ومحوريَّة العقل الإنساني، لأن الإنسانيَّة نضجت وتطورت ذهنيا ووجدانيا ويمكنها الاعتماد على العقل في الفهم والتحليل، فإذا تميزت العصور القديمة بكثافة الأنبياء والرسالات “السماويَّة” و”الوضعيَّة” ثمّ أُغلق باب الأديان الوضعيَّة(الكونفوشيوسيَّة- الهندوسيَّة…)،فإن  ختم النبوة وانقطاع الوحي حكمة إلهيَّة معلومة وعلامات عن نهاية مرحلة تاريخيَّة والدخول في أخرى.

يعد القرآن إطارا نظريا عاما للعقل يبدأ منه ويعود إليه، ويهدف التنوير إلى إزالة التعارض بين الفكر الإسلامي والفكر الوضعي، وبين الفكر التقليدي والفكر الحداثي، فالتّدين ليست له صياغة واحدة، ولا صورة نمطيَّة ثابتة، وأن الإيمان دون الأعمال ميت كما ورد في الكتاب. ويعمق القوماني فكرته بالاستناد إلى “لاهوت التحرر” في أمريكا اللاتينيَّة، وأدبيات الأب كاميليو توريس، التي ربطت بين فكرة الثورة والعقل، وبين التدين والتغيير الاجتماعي، وبين التدين ومقاومة الاستغلال أو المضمون الاجتماعي للدين. تُعرض هذه الأفكار الخام كحامل لتجاوز التّردد والتلفيق في عمليَّة التجديد، وهي مقدمات ضروريَّة لنقد الإقرار بأهميَّة العقل دون امتلاك الجرأة المنهجيَّة في استخدامه، والبقاء في سجن النصوص والاجتهاد في حدود ما هو مرسوم. تبرز ضرورة تجديد رؤية القرآن حتى يكون هاديا للعقل لا وصيا عليه، بالتعاطي التاريخي مع الوحي، من أجل بناء وعي تاريخي، والانخراط في الحداثة من “موقع الإبداع لا الاتباع”، لذا تمنح أهميَّة كبرى لفكرة التنوير والاحتكام إلى العقل، فالعقل أساس التكليف وأداة المعرفة والتمييز.

تكتمل النظرة التجديديَّة للقرآن الكريم مع تمعين عقيدة التوحيد وشحنها بدلالات متجدِّدة، تتجاوز فيها نقاشات التجسيم والتثليث والتنزيه كموضوعات تقليديَّة في علم أصول الدين بتحديثها انطلاقا من القرآن الكريم، على غرار سائر المسائل التي يتناولها  فكر حسن حنفي[7] في مبحث التراث والتجديد. وأن المطلوب ليس إحياء القديم وتغيير جلد العلوم القديمة، وإنما تطوير أفكار جديدة وصياغة قيم حديثة، واستعادة القضايا التراثيَّة وفق نظرة معاصرة تربط مكونات العقيدة بقضايا العصر وتحدياته، خصوصا أن الدراسات الاسلاميَّة الحديثة اهتمَّت بمسائل التشريع وأحكام الفقه، بينما تتمثَّل الرهانات الحقيقيَّة في تجديد أصول الدين قبل تجديد التشريع، لهذا لم يُطوّر الفقه التشريعي لارتكازه على آليات قديمة، تستوجب إعادة النظر في فهم العقيدة، وتبويبها وتصنيفها وتحويل العقيدة إلى تمثّلات محرّكة ومحفزة للسلوك والاتجاهات كما بينته الأبحاث الأخيرة في علم النفس الاجتماعي[8].

ويتناول الكتاب التوحيد لا كمسألة عقائديَّة خالصة بل كنظرة فلسفيَّة للكون والحياة  وأساس الرؤية الإسلاميَّة للوجود، لذا ينقد اختزال معانيه في اللاهوت العمودي والنظرة الهرميَّة للعالم التي تضع الله خارج العالم، وهي الفكرة –المأزق في الفكر الاسلامي، إذ يجب تأكيد صلة التوحيد بالأرض، وإقامة العدل، والتحرير، والبيئة، ويكشف “أن اخراج الله من الكون في مستوى التصوّر، إخراجا له من الواقع في مستوى الممارسة والحياة اليوميَّة” (ص92). ويسعى الإنسان في التصور التوحيدي لإنجاز منزلة الاستخلاف، وتحقيق صفات الإله في الإنسان، وإنشاء المجتمع التوحيدي الذي تسوده العدالة والإنصاف، وأعلاء قيمة المساواة، والتضامن وتأسيس وعي اجتماعي ينتقل من دائرة الوعي الفردي إلى الوعي الجماعي.

إذا كان التوحيد أساس العقيدة الإسلاميَّة، فإن العبادة هي صورة الإسلام والتجسيم العملي لمعاني التوحيد، يعرفها بأنها “رياضة روحيَّة”، مثلما نصّ متصوّفة الإسلام بعدم التوقّف عند الرّسوم وعدم الاقتصار على الشكلانيات ووجوب النفاذ إلى المعاني العميقة والمقاصد التربويَّة للعبادة وأثرها الروحي والمعنوي. تتجاوز العبادة البعد الشعائري بجميع تفاصيله، وتشمل كل جوانب الحياة والأنشطة اليوميَّة، لتكون الاتصال الدائم بين الإنسان والله، فمقاومة المحتل عبادة، والزكاة عبادة، والعمل عبادة، والإتقان عبادة، والعلم عبادة، والدراسة عبادة، فهي تعبر عن الاتجاهات العامة في التربيَّة الإسلاميَّة، وتعد من أهم أدوات التربيَّة الدينيَّة وطريق الإنسان للكمال الذاتي والاجتماعي لإصلاح نفسه وإصلاح علاقاته الاجتماعيَّة. وهنا يبدو واضحا تقديم القرآن الكريم ما ينفع الناس عن غيره من الشعائر، فمنها تنبعث الحرارة في النفوس، وهي محطّات للتزود الروحي والمعنوي، وهي عبادة من أجل الحياة، وليست مصادرة لها.

ثالثا: المساواة الاجتماعيَّة والديمقراطيَّة السياسيَّة

يتسم الفكر الإسلامي قديما وحديثا بالاضطراب، ظهر ذلك جليا خلال جدل المناصفة والمساواة والتكامل – في فترة صياغة الدستور التونسي –ما بعد الثورة- فالفكر الإسلامي ما زالت تكمن فيه نزعات الفهم الخاطئة حول التمييز والقوامة، رغم أن الإسلام بتعاليمه السمحة وتشريعاته دعم لقيم للمساواة. ولتجذير هذه القيمة استند الكاتب إلى نموذج الطاهر الحداد ونفض عنه النظرة الإقصائيَّة في الوسط الإسلامي وثمن عمله واجتهاداته، خاصَّة في إبرازه أن مقاصد الشريعة الإسلاميَّة تؤكِّد مساواة الرجل والمرأة في مختلف وجوه الحياة. ورسم الحداد قاعدة هامة تميز بين المقاصد الثابتة للإسلام والأحكام العارضة، تعد بمثابة دعوة رائدة في سبيل تطوير التشريعات التي أدمجها في كتابه “امرأتنا في الشريعة والمجتمع”. ويرى الكاتب في الطاهر الحداد صاحب قراءة جديدة للإسلام وللتشريع الإسلامي تؤكد الفهم المقاصدي لنصوص الأحكام، وربط الأحكام بظروفها، وتطويرها في ضوء مقاصد الشريعة. وينقد الكاتب مقاربتين متناقضتين، الأولى تنتصر لقيم الحداثة وترى أن الإسلام يصدر عن رؤية تقليديَّة تعبر عن نظرة دونيَّة إلى المرأة، أما المقاربة الثانية فهي تفتخر بأن الإسلام كرم المرأة ورفع من شأنها، وتبرر التشريعات “المتعارف عليها” بفوارق طبيعيَّة، وسنة الله تعالى في الخلق، ولا ترى وجوب تطوير التشريعات المتضمنة في النصوص. كلا المقاربتين تعبر عن منهج لا تاريخي في التفكير، حيث يتم إسقاط عصر على أخر، الحاضر على الماضي أو الماضي على الحاضر، بينما يتطلب الموقف من المرأة استيعاب متطلبات الوعي التاريخي، والاستفادة من تراث الحداد، فالمساواة مفهوم عصري لا يمكن إسقاط مضامينه على بيئة قديمة،  وكل نظرة لا تاريخيَّة للتشريع الإسلامي تجعله سجين الرؤي التقليديَّة الماضيَّة.

من بين القضايا التي تمت مراجعتها في الكتاب أيضا الإمامة والخلافة، كأول المسائل الخلافيَّة بين المسلمين، وتمحور السؤال حول هل تتم الإمامة بالنص أم بالاختيار ، وماهي شروط عقدها. عرض الكاتب تعريفات الإمامة عند “الأيكي” و”ابن خلدون” و”الماوردي”، و”الأصم” و”القوطي”، اعتبر هذه الأدبيات مجرد تبرير لوقائع تاريخيَّة وأحداث سياسيَّة وليست تنظيرا سياسيا. وبالرغم مما تضمنه التراث الاسلامي من مبادئ العدل والحريَّة وما احتواه من إقرار بحق الجماعة والبيعة والاختيار والشورى، لم تتبلور فيه نظريَّة سياسيَّة متكاملة، ولم تمنع بروز نظم استبداديَّة طول التاريخ الإسلامي. ومع ذلك يعتقد الكاتب أن ماهيَّة الدولة في الإسلام ليست ثيوقراطيَّة، بل جوهرها مدني، وأن نظام الحكم الصالح الذي يناسب الواقع المعاصر من زاويَّة إسلاميَّة هو “الحكم الديمقراطي”، بما هو بناء المواطنة والفصل بين السلطات والتداول السلمي على الحكم واحترام الحريات الفرديَّة  والعامة.  هذه المبادئ من إنتاجات الحداثة، ورغم خلو تراثنا السياسي منها، فلا توجد في نصوص الاسلام التأسيسيَّة أو في تعاليمه ما يناقض هذه الأسس.

ولتأصيل موقفه تناول الكاتب النشأة السياسيَّة للمعتزلة في فترة بني أميَّة، التي حولت الحكم من خلافة شوريَّة إلى ملك عضوض، وروجوا للفكر الجبري للتفصي من مسؤوليَّة المظالم وتبرير حكمهم. في حين تشكل تيار العدل والتوحيد حول القول بحريَّة الإنسان وقدرته، وقاموا بواجبهم الأخلاقي والعملي في مواجهة الأوضاع الفاسدة، جعلت منهم حركة كلاميَّة سياسيَّة معارضة. واهتم بتحليل الأصول الخمسة للمعتزلة( التوحيد، العدل، الوعد والوعيد، المنزلة بين المنزلتين، الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)، وهي صياغات فكريَّة لموقفهم من الصراعات السياسيَّة في عصرهم، ذات امتداد وجداني في الواقع الحالي، يمكن قراءة الحاضر في الماضي منها، بحثا عن صلات الأفكار بالواقع وكشفا للعلاقات العضويَّة بين العقائد والمواقف، وعلاقة الإسلام بالسياسة، دون أن ترهن الفكر السياسي الإسلامي في معارك الماضي.

انخرط التيار المعتزلي في النقاش السياسي- في فترتهم التاريخيَّة- حول مسألة ” الأفضل والمفضول” في الإمامة، وأكدوا أن صفة الأفضل لا تجعل صاحبها فوق الطبيعة البشريَّة ولا تجعل الإمام “مقدسا”، بل تشترط الأفضليَّة لضمان سلامة المهمة الموكولة إلى الإمام، وحلل الكاتب أن الفضل المعتبر في “السياسة” غير الفضل المعتبر في “الشرع”، وأن الإمامة ليست من مصالح الدين، فلا يراعى فيها الأعلم والأتقى بقدر ما يراعى فيها الأقدر والأقوى. واستنتج أن الإمامة في الفكر المعتزلي ذات طبيعة “مدنيَّة” تقوم على الاجتهاد، وتراعي فيها الجدوى والإتقان وضمان مصالح النّاس، وفي ذلك نفي للطابع “الديني أو القداسة” الذي أضفته بعض الفرق على الإمامة. هذا الموقف المعتزلي الذي يضفي بعدا إنسانيا على المجال السياسي، ويجعل من الإمامة والشأن السياسي حقلا بشريا، يخضع للاجتهاد المستمر على قاعدة دفع المضار وجلب المصالح.

وفرت هذه المبادئ أرضيَّة فكريَّة خصبة لانبعاث تصور فكري وحركي يميز بين الدين والسياسة دون أن تختلط، ويمارس الكاتب النقد المزدوج، ينقد من ناحيَّة موقف تيارات الإسلام السياسي التي يراها تخلط بين المجالين وتصبغ نوعا من القداسة على خطابها السياسي ومواقفها، وتكرس نمطا اجتماعيا يهيمن فيه الديني بالكامل على الحياة الفرديَّة والعامة، وينقد من ناحيَّة أخرى التوجهات اللائكيَّة التي تحصر الدين في المجال الفردي وتعمل على استبعاده من المجتمع كليا بدعوى فصل الدين عن السياسة. يؤكد الكاتب أهميَّة الدين في الحياة الاجتماعيَّة، فهو “إغناء للحياة في مختلف المجالات” (ص165)، وأنه لا يمكن عمليا الفصل بين الدين والسياسة، غير أن الخطر يتأتى من خلط الديني والسياسي وعدم إدراك الفارق النوعي بين المجتمعات التقليديَّة البسيطة والمجتمع الحديث المعقد. مثلما يتجلى في خطابات بعض الجماعات الإسلاميَّة المتشددة، التي تماهي بين فهم الدين والواقع واندماج الحق والحقيقة، ما يجعلهم يُنصبون أنفسهم أوصياء على دين الله وحياة النّاس ومصالح الأمة، هذه الخطابات يرى فيها خطر على البناء الديمقراطي وعلى الاستقرار الاجتماعي.

رابعا: حركة النهضة بين التطور السياسي والتردد الفكري

صنَّف المؤلف حزب حركة النهضة ضمن أكبر الفاعلين في النضال من أجل ديمقراطيَّة الحكم، رغم أن بيانها التأسيسي  لسنة 1981، لم ترد فيه أي إشارة للديمقراطيَّة أو ذكر مكونات الحداثة السياسيَّة في التعاقد والسيادة الشعبيَّة والمواطنة والمساواة وحقوق الإنسان. ومع ذلك اتَّسم الاتجاه الإسلامي[9] بالتحرّر الفكري نظرا لتعدّد الاتجاهات وتنوّع الخطابات في وسط طلاب الجامعات، وانفتاحهم على مرجعيات كثيرة، وروافد مختلفة، والتفاعل مع الحركة اليساريَّة بكل مكوناتها. تدعم ذلك بتنوع ملامح الرموز المؤسِسة واختلاف تكوينهم مع غياب المشائخ مثلت مؤثرات إيجابيَّة، لذا لم يتأثر بكتابات الإخوان وينبهر بها إلا الجيل القيادي الأول. ومثل نقد الفكر الإخواني من بين أولى المسائل الخلافيَّة، التي أفضت إلى التصدع الأول ونشأة تيار الإسلاميين التقدميين الذي كان له أثر عميق في الجماعة-الأم. وتكثف الخطاب النقدي حول النزعة الأخلاقويَّة واختزال اهتماماتهم في العقائد والسلوكات الفرديَّة وعدم الاهتمام بالأبعاد الاجتماعيَّة، وعدم التمييز بين الإسلام والتراث الإسلامي، وموقفهم السلبي من المرأة والفن وموضوعات الديمقراطيَّة، بالإحالة إلى نصوص مجلة المعرفة[10] في نص رمزي وتاريخي “دعوه يئن”[11] و”حوار في الصميم”[12].

مع هذه الاحراجات/ المعضلات النظريَّة التي طالت حركة النهضة، حرصت القيادة على صياغة مرجعيَّة فكريَّة لحركة الاتجاه الإسلامي سنة 1986 بعنوان ” الرؤية الفكريَّة والمنهج الأصولي لحركة الاتجاه الاسلامي بتونس”، لضبط التنظيم من كل “انفلات نظري” ووضع أساس جامع للانتماء. تم التمسك بالوثيقة في جل المؤتمرات إلى حدود المؤتمر العلني التاسع سنة 2012 بعد الاعتراف القانوني بالحركة، لم تصرح بتبنيها أو رفضها. أكَّدت النهضة بعد الإطاحة ببن علي، التزامها بمقومات الدولة المدنيَّة الديمقراطيَّة التي لا سند لشرعيتها إلا بالقبول الشعبي، وتبنيها لخطاب سياسي حداثي، مما أحدث مفارقة كبرى في صلب حزب حركة النهضة بين انخراطها في صياغة الدستور وتخليها عن مطلب الشريعة، وعدم مراجعتها “الرؤية الفكريَّة”. تقوم “الوثيقة” على منهج تقليدي في فهم الوحي بُني على  خمسة أسس، تتضمن الأساس اللغوي، الأساس المقاصدي، الأساس الظرفي، الأساس التكاملي والأساس العقلي. تناولت الوثيقة علم أصول الدين  في صيغته التقليديَّة، وشملت تحديدات نصيَّة وضوابط لا صلة لها بتطور المجتمع وتعقد حياة الناس، بهذه الاليَّة في الفهم “يظل الشرع هو المحدد للأفهام والاحتمالات وليس الواقع” (ص203)، هذه القراءة اعتبرها الكاتب تجسد طغيان النص ومحاصرة العقل وضمور الواقع.

ناقش المؤلف أسسها، مشيرا أن القرآن الكريم غير بعض أحكامه خلال ثلاث وعشرين سنة من نزوله، ونسخت آياته بعضها تفاعلا مع تطور المجتمع وتجربة الجماعة المؤمنة آنذاك، وأن ما يقع فيه الفهم التقليدي من جمود نتاج النظرة اللاتاريخيَّة للإنسان والوحي وحاجيات المجتمع. كما غيرت الأبنية المعرفيَّة والمناهج الانسانيَّة من نظرتنا للكون وللإنسان، تستدعي تجاوز إدراك الوحي وفهمه ضمن أسباب النزول فقط، وتنزيل النص في إطار الواقع المتحرك، حتى لا يفهم الإسلام خارج السياق المعاصر وتحدياته “بشريعة موروثة جامدة أو بأفهام غير قابلة للمراجعة” (ص205). يعتقد الكاتب أن تطبيق الوحي لا يمكن أن يكون آليا دون الوعي بالمقاصد، مستندا إلى أعمال الفيلسوف ميشال فوكو حول مفهوم العقاب وتطوراته عبر التاريخ، مدخلا للتساؤل عن كيفيَّة تطبيق بعض الأحكام في الواقع المعاصر مثل كفارة تحرير رقبة، تأديب المرأة بالضرب، نصف شهادة الرجل، ومسائل الخاصة بالردَّة وعلاقتها بحريَّة المعتقد والمواطنة.

تتسم اجتهادات حركة النهضة بالتردد وعدم الانفتاح على قراءات جديدة، وأن “الرؤية الفكريَّة” تحتاج إلى مراجعات كبيرة لتتلاءم مع الخيارات الفكريَّة لحزب سياسي عصري، قادر على رفع تحديات الديمقراطيَّة والتنميَّة، وهذا يتطلب الانتقال من معارك الدفاع عن الإسلام إلى معارك ضمان حقوق الإنسان وبناء الديمقراطيَّة، والتحول من “بناء الحّصون إلى إقامة الجسور”. يستوجب من حركة النهضة تطوير أرضيتها الفكريَّة والسياسيَّة وتغيير اتجاهاتها المرجعيَّة ومعجمها السياسي، حتى تواكب نصوصها النظريَّة ممارساتها المتطورة، وحتى تطمئن التونسيين أكثر على مدنيتها وتونستها وحداثتها. وأنه أن الأوان للخروج من السياق الهووي وترك المعارك الدفاعيَّة، والاشتغال على التجديد لتجاوز ثقافة “الفتوى” وفق آليات تفكير تقليديَّة إلى تحليل القضايا المستحدثة بمنهجيات العلوم الإنسانيَّة. إن الدفاع عن الهويَّة هو شعار مرحلة التحرر الوطني، أما في اللحظة الراهنة ينبغي النظر في المجال الثقافي وإصلاح التربيَّة والتعليم والتخلص من مخلفات الانحطاط في تفكيرنا وثقافتنا. وأنه من المهم إعادة صياغة العقائد بمفاهيم عصريَّة في علاقة بوجدان العصر وتحدياته، مثل إبراز أهميَّة الوعي التاريخي من خلال عقيدة النبوة وتعاقب الرسالات، وتأصيل المواطنة، وثقافة حقوق الإنسان، فالعقيدة ليست قوالب جاهزة ولا أحكاما محنّطة، فهي منهج في رؤية العالم “وبواعث على العمل بما يحقق مجتمع الصلاح والعدل بحسب الظروف والمكان” (ص200)، داعيا إلى تغيير منهج التعاطي مع الوحي في الفهم والتطبيق.

تتطلب الرهانات الحاليَّة كسب معركة تجديد الفكر العربي الاسلامي عبر الانتقال من الاجتهاد إلى تجديد التراث، فالتراث حاضر كمخزون نفسي ومازال مؤثرا في السلوك، وأن التجاوز الإيجابي بتجديده وتنويره، وليس بتكراره أو القطع معه. يمكن التجديد من الحفر في الماضي والقضاء على معوقات الحاضر، ذلك أن رواسب مواقفنا ترجع إلى ثقافة الفرقة الناجيَّة والتكفير والفهم الجبري والنظرة القديمة للعقوبات والجسد، لازالت تؤثر في نظرتنا لحقوق الإنسان وقيم الاختلاف والديمقراطيَّة. ولا يرتبط التجديد بقضايا التشريع أو تقنيات “الفتوى”، بل بتجديد أنماط المعرفة وتكسير طوق التقليد، بالاستفادة من المدارس الألسنيَّة والهرمينوطيقا والسيميولوجيا والفلسفة وغيرها من المجالات البحثيَّة، بما يتيح المساهمة في العالميَّة وحل مشكلات الإنسانيَّة، والانخراط في القضايا المعاصرة وتقديم إجابات عن التحديات المعاصرة.

خاتمة مفتوحة

كتب المؤلف بلغة مبسطة وغير معقدة لأن مؤلفه “سياسي” لا يبحث عن إنتاج أفكار ذات طابع نسقي، وإنما يبحث عن “التنظير” بما هو بحث عن الحلول لمشكلات واقعيَّة وتحديات معرفيَّة وفكريَّة، ويفتح ورشات تتقاطع فيها الأسئلة وتجتمع فيها المراجعات، وتعرض مقدمات نقديَّة ذات جدوى في إعادة ترتيب “البيت الإسلامي” في مكوناته المعرفيَّة والمفاهيميَّة والمنهجيَّة. ومع المراجعات العميقة التي تمت في المؤتمر العاشر لحزب حركة النهضة والاعلان عن التمييز بين ما هو دعوي وسياسي، يمكننا القول أنها فكرة تأسيسيَّة هامة في الفضاء الفكري والحركي الاسلامي، تحتاج إلى الإثراء والتنضيج من خلال إنتاج أدبيات تبنى خيارات نظريَّة فاعلة في الواقع وناجزة في الميدان.

 

  • طه، حسين، في الشعر الجاهلي ومستقبل الثقافة في مصر، الرابط: https://bit.ly/3ocfyRj

[2] – على، عبد الرازق، الإسلام وأصول الحكم، الرابط: https://bit.ly/38TmYCs

[3]  – طيب، التيزيني، من التراث إلى الثورة، الطبعة الثالثة، (دمشق، دار الجيل ، 1979).

[4] – ياسين، الحافظ، الهزيمة والإيديولوجيا المهزومة، الطبعة الأولى، (بيروت، دار الطليعة، 1979).

 

[5] – جوتهولد افرايم، ليسنج، تربية الجنس البشري، (ترجمة وتعليق حسن حنفي)، الطبعة الثانية، ( بيروت، دار التنوير ،2006).

 

[6] – باروخ، سبينوزا، رسالة في اللاهوت والسياسة، (ترجمة حسن حنفي)الطبعة الثانية،( بيروت، دار الطليعة، 1981)

 

[7]  – حسن، حنفي، التراث والتجديد، الطبعة الرابعة، (بيروت، المؤسسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، 1992).

[8] – Abric,Jean.claude. Pratiques sociales et représentations, Paris, PUF, 2004.

 

[9] – التسميَّة القديمة لحزب حركة النهضة في أواخر السبعينات

[10] – مجلة المعرفة لسان حال حركة الاتجاه الإسلامي

[11] – مجلة المعرفة عدد 4 ،سنة4،

[12] – مجلة المعرفة عدد 2 ،سنة 5،

 

جديدنا