اللغة المدرسيَّة والتحكّم العملي فيها

image_pdf

جذور تأسيس النظام التربوي..المدرسة القديمة والمدرسة المعاصرة

 

بدأ ظهور المدارس في الفترة بين 450- 490 قبل الميلاد عند اليونان، وكانت مستقلَّة أي أنها لم تكن لها علاقة بالمجال السياسي، كما لم يفرض اليونانيون نظاما مدرسيا محدّدا ولم تكن القراءة والكتابة تهم إلا من له رغبة في ذلك وقتل الفراغ ( skolé ) ومن له إمكانيّات تعليم بنائه، فضلا عن ذلك، هي الدراسة التي قام بها الباحث محمد شقرون،  في كتابه “الكتابة والسلطة…و الحداثة” ، معتمدا في ذلك على   آراء وأفكار كثير من المؤرخين أمثال  هوميروس وهيزيود  وديتيين، كما اعتمد على أبحاث “ماوس” في كتابه سوسيولوجيا وأنتروبولوجيا، تقول جلّ الدراسات أنّ اليونانيين كانوا يعتمدون على الشفاهي أكثر من الكتابي، حتى أفلاطون كان يدين الكتابة والكتاب، وكان يرى أن التربية تقوم على الشعر الغنائي الشفاهي، ولذا كانت التربية لا تعني اليونانيين، لأن البردي  Papyrus كما تقول الكتابات  لم يستعمل إلا بعد سنة 400 قبل الميلاد، حسب الدراسات لم يعرف اليونان إذن ثورة الكتابة بقدر ما عرفوا  ثورة الفكر كالفلسفة والطب والتاريخ، هذا الأخير مثلا كان يقوم على مقارنة الأحداث والبحث عن القوى المتصارعة، أي أنه يعتمد على البصر وأحيانا السمع.

 

ومن هذا المنطلق لم يكن علماء اليونان يركِّزون في أبحاثهم على فكرة “التفقّه” exégese لأن هذه الأخيرة تتطلب نصوصا مكتوبة وهيئة تتكفَّل بهذه النصوص والمقارنة بينها  أي تحديد انتماء جماعة ما  لدين أو عقيدة  أو مذهب معين؟ ويشير كثير من الباحثين أن الفكر اليوناني قام على أساس المقارنة بين “العقل” (الفلسفة) والأسطورة” (الذاكرة الشفاهيَّة)، كالحكايات والروايات،  وكان  “النقد” عندهم الوحيد الذي يميِّز بين العقل والأسطورة،  والعقل وحده الذي يقدِّم البرهان حول الأحداث، ومن ثم بلوغ مستوى الإقناع،  يكون ذلك عن طريق الحوار ( حوار المعلم والتلميذ) والإقناع كما يرى محمد شقرون يعني الانتصار على الخصم، peitho، ووضعه بدهاء في موقع جدلي يجعله يلقى السلاح ويستسلم ، وهذا ما ميز المرحلة السفسطائيَّة، التي وجدت نفسها في حرب كلاميَّة مع أفلاطون، لأن الحوار الأفلاطوني يقوم على الثقة والثقة المتبادلة بين المعلم والتلميذ، Pistis  وليس على peitho.

 

ربما لا يوافق البعض الفكرة التي طرحها محمد شقرون حول الإقناع ، فهو لا يعني الانتصار على الخصم، وإنما إيصال الفكرة إلى الآخر وإثباتها بطريقة علميَّة، أو تصحيح منهجا كان خاطئا في البناء التعليمي والتربوي،  في هذه الحالة يكون هدف المعلم ليس إسكات التلميذ  وإنما غرس فن الخطاب في التلميذ، ودفعه إلى التكلم؛ أي المناقشة وتبادل الأفكار والكلمات،  أي غرس فيه لغة الحوار مع الآخر عن طريق تدريبه على لغة الخطاب المباشر، يكون التلميذ حاضرا فكرا لا جسدا فقط،  وشيئا فشيئا تغيَّرت الأمور  لما ظهرت أبحاث هافلوك  havlock، حتى أفلاطون أصبح  يهاجم التربية القديمة القائمة على الملحمة والشعر والتقليد الشفاهي، ووقف وجها لوجه أمام الشعراء التراجيديين، ويعتبر أفلاطون أول من ابتكر “المعارضة” وحدثت حرب كلاميَّة حول اللوغوس logos التي تعني الكلمة أو اللفظ، والموتوس muthos التي تعني الخرافة، لدرجة أنه انتقد في جمهوريته هوميروس وقال: إن ما يفعله هوميروس هو ملء آذان الأطفال والبالغين أشكالا وهميَّة.

 

ليس المهم هنا معرفة كيف نشأت المدرسة  ومتى؟  ومن هم روادها الأوائل،  وإنما معرفة أسس وقواعد النظام المدرسي وكيف تطوَّر عبر الأزمنة، فقد عرف النظام التربوي تحولا كبيرا في نمط التعليم، من خلال ظهور المدرسة “الداخليَّة” l’internat، ظهرت هذه الأخيرة في بداية النصف الثاني من القرن الخامس عشر،  فيها استقل التلميذ أو الطالب عن أسرته ووالديه وأصبحت له حياة مستقلة، حتى في الجانب الفكري،  وإن كانت المدرسة تعرف بأنها وسط أخلاقي منظم، فهي اليوم تختلف عما كانت عليه بالأمس في الفترة التي عرفها التاريخ الإنساني، إلا أن هذا الوسط ( الأخلاقي) كان شكلا فقط لا مضمونا، ويمكن القول إنها لم تظهر بعد، إلا في فترة محدَّدة من الحضارة الإنسانيَّة، على حدّ تعبير دوركهايم، في كتابه “التطوّر البيداغوجي في فرنسا”، فالمدرسة في النظام المسيحي  مثلا تختلف عن المدرسة في النظام الإسلامي، ولو أنهما تشتركان في كونهما تقومان على تكوين الاستعداد الروحي والإرادي لدى الإنسان في إطار ما يسمَّى بالتنشئة الاجتماعيَّة، ومن هذا المنطلق بدأ النظام المسيحي في القرن السادس ميلادي  بإنشاء مدارس تعليميَّة للأطفال بجانب الكنيسة، لكنها كانت مستقلَّة عنها في الجانب التسييري، في حين نجد النظام الإسلامي اتَّخذ من دور العبادة (المساجد) و”الزوايا” مدارس لتعليم الأطفال العلوم الدينيَّة والمعارف الأخرى.

 

كانت الكتابة عند الأطفال المسلمين باستعمال “ألواح خشبيَّة”  ( الجزائر نموذجا ) حتى جاء الاستعمار وظهرت المدارس الرسميَّة المستقلة عن المساجد والزوايا، ما ينبغي الإشارة إليه هنا هو أن هذه الأنظمة تولد عنها صراعات إيديولوجيَّة، لأن التنظيم الجديد للمدرسة أصبح يقتضي تصوّرا جديدا للمدرسة الحديثة في ظلّ نمو الوعي الناتج عما عرفته الساحة من أحداث سياسيَّة، اجتماعيَّة وبيئيَّة، حيث شهدت  المنظومة التربويَّة عدّة تحولات وتغيرات، من أجل توسيع الرؤية المستقبليَّة للمنظومة التربويَّة،  فيما اصطلح عليه بالمدرسة “التحضيريَّة”، كرياض الأطفال les crèches ou les jardins d’enfants في المجتمعات الغربيَّة والعربيَّة معا ، ظهور كذلك ما يسمَّى بـ: “المدارس القرآنيَّة” في المجتمع المسلم، تطوّرت من خلالها العلاقة بين المعلّم والتلميذ،  فيما يراها البعض أنها تعقَّدت أكثر، لأن المسألة تتعلَّق ليس بالتسيير الإداري فقط،  وإنما بمستوى ومؤهّلات “المربي” داخل الروضة و”المعلم” داخل المدرسة المعلّم، خاصَّة في ما تعلَّق باللغة، وهنا وجب التفريق بين المربّي والمعلم ودور الأول يكون أعمق من دور الثاني، في ظلّ ظهور رياض الأطفال والمدارس الخاصَّة، هذه الهيئات التي يديرها أشخاص معنويون تكون لها نظام تربوي تعليمي خاص يختلف عن النظام التعليمي الذي تضعه الدولة إلا في حالات استثنائيَّة.

 

فاللغة التي يخاطب بها في رياض الأطفال تختلف عن لغة الخطاب في المدرسة القرآنيَّة  أو حتى في المدارس الرسميَّة التي تؤسِّسها الدولة، وهنا تُطْرَحُ إشكاليَّة أخرى ذات أهميَّة، حول تَمَكُّنِ التلميذ من اللغة المدرسيَّة والتحكم العملي فيها ، خاصَّة وأن اللغة المدرسيَّة لا تزال تعاني من مشكلة اللهجات، وهو ما نقف عليه اليوم ، أين نجد معلمون يشرحون الدرس للتلاميذ باللهجة العاميَّة بدلا من اللغة الرسميَّة المعترف بها في الدستور، سواء كانت اللغة العربيَّة أو اللغة الأجنبيَّة، يحدث هذا حتى لما ينتقل الطلبة إلى الثانويَّة والجامعة، بدليل أنَّ بعض الطلبة أثناء مناقشاتهم مذكّرات التخرج يتلعثمون في الكلام، ويمزجون بين اللغتين الفصحى والعاميَّة، أو بين العربيَّة والفرنسيَّة، لأنهم لم يتدرّبوا على لغة الحوار أو لغة الخطاب اليومي المباشر، langage courant le ، ولعل الحديث  عن اللغة  يقودنا إلى معرفة نمط التعليم داخل المدرسة، حيث نجد معلمون يقدّمون للتلاميذ الدرس “كتابيا” ويطلبون منهم أن يحفظوه عن ظهر قلب، حتى في الامتحانات يطالبونهم الإجابة على الأسئلة حسبما جاء في الدرس، أي بطريقة نسخ لصق copier coller ولا يتركون لهم حريَّة الإجابة حسب الفهم،la compréhension  وهكذا يتحوَّل التلاميذ والطلبة إلى ” ببغاء” يجترون ما يقوله الأستاذ أو المعلم، هذه الظاهرة يطول شرحها طبعا، لأن المسألة تتعلق بالرأس مال المعرفي والثقافي الذي يمتلكه المعلم، وكيف يوصل المعلم فكرته للتلاميذ خاصَّة في ظل الوباء أين يتم التعليم افتراضيا أي عن طريق الرقمنة (الزووم)، وجب هنا أن نفرِّق بين التعليم الافتراضي والتعليم عن بعد، هذا الأخير يعني عن طريق المراسلة، أين يستلم التلميذ دروسه عن طريق البريد وهذا يحتاج إلى مساحة مستقلة.

جديدنا