الدولة والمجتمع؛ جدلية التوحيد والانقسام في الاجتماع العربي المعاصر

image_pdf

لا يقدِّم الباحث المغربي عبد الإله بلقزيز في كتابه الجديد بحثاً نظرياً في الدولة والمجتمع، مع أنه يدعو إلى وجوب تدشين تفكير نظري في مسائل الدولة والسلطة والمجتمع المدني في الفكر العربي، لكنه يقدم تأملاً في جدلية حادة وشديدة التوتر تحكم الاجتماع العربي المعاصر، هي جدلية التوحيد والانقسام التي تشتغل في نسيجه الداخلي باحتدام، وتضعه مع ظاهراته المختلفة في حال من المراوحة المديدة بين التماسك النسبي والتشظي المتسع نطاقاً. ويقود التفكير في هذه الجدلية، حكماً، بالتفكير في الدولة والمجتمع في البلدان العربية المعاصرة بحسبانهما مسرح تلك الجدلية، والفاعل الكبير في إنتاج دينامياتها، والجهة التي ترتد عليها نتائجها إيجاباً في النادر وسلباً في المعظم. ويبحث في إشكالية العلاقة بين الدولة والمجتمع بوصفها الإشكالية الأم التي تندرج في نطاقها بحث الجدلية التي اعتنى كتابه بتناولها.

 

ويعزو فكرة الكتاب إلى ملاحظة حال الاستفحال المتزايد للانسداد السياسي الذي ترزح فيه البلدان العربية المعاصرة فيمنعها من التقدم أو من فتح الأفق نحو التقدم، ويضغط على حالة الاستقرار السياسي والاجتماعي فيها إلى الحد الذي يأخذ تناقضاتها الاجتماعية إلى التعبير عن نفسها في صور من العنف الأهلي تنذر بالانفجار الكلي بعد أن جرى شيء منه جزئياً- في بعض من تلك البلدان.

إضافة إلى ملاحظة طغيان تفكير أيديولوجي وانتقائي لظاهرة الانسداد السياسي تلك، إذ الغالب على من يتناولها أنهم يستسهلون الانطلاق من مقدمات مبسطة ومريحة للوصول إلى استنتاجات تصدر عنها حكماً، وكأنها نتائج قاد إليها التحليل! يريح بعضهم أن ينتهي بــ»التحليل» إلى إنزال حكم الإدانة على الدولة وتحميلها وحدها وزر هذا التدهور الذي وصلت إليه علاقات الاجتماع الوطني. ويحلو لبعضهم الآخر أن يذهب بـ»تحليله» إلى إدانة المجتمع القروسطي المتخلف المستمر مُقنعاً في صورة مجتمع.

ويدعو عبد الإله بلقزيز في كتابه إلى ثلاثة مطالب، تتحدد في الدعوة إلى تفكير حقيقي في مسألة الدولة على الأصول النظرية والارتفاع عن مستوى كلام العموميات السائبة والكف عن الثرثرة الأيديولوجية في مسائل الاجتماع السياسي. ودعوة إلى نقد مزدوج، للدولة وللمجتمع على السواء، وإلى القطيعة مع النظرة الانتقائية إلى الموضوع. ثم دعوة إلى أن ترفع النخب السياسية العربية درجة انتباهها إلى ما تأخذ مجتمعاتنا إليه بعض الخيارات السياسية الانتحارية من فتن وحروب أهلية تدمر البقية الباقية من تلك المجتمعات. وعليه فإن الكتاب يشكل صرخة في وجه الفتنة، وصرخة ضد الانتقائية الأيديولوجية في التفكير وضد الخمول النظري والكسل المعرفي.

ويظهر في التحليل أن المجتمع ولد مرتين في تاريخ النوع الإنساني، مرة كمجتمع طبيعي التحم فيه الأفراد بروابط النسب والجوار فقامت جماعات طبيعية كانت، في سلم التطور، دون المجتمع مرتبة لغياب مبدأ التنظيم الذاتي فيها، ومن دون أن يعني ذلك حكماً غياب أشكال بدائية أو ابتدائية من تقسيم العمل فيه. وولد المجتمع مرة ثانيةً حين قامت فيه الدولة؛ وتلك كانت ولادته الحقيقية كمجتمع، لأنه من خلالها فقط أمكنه أن يحقق تنظيمه الداخلي، ويقسم العمل فيه، ويوزع السلطة بين أفراده فئاته، ويعبر عن نفسه وعن ماهيته، ويحمي كيانه الذاتي من خطر العدوان عليه، ويردع العدوان الداخلي بين جماعاته، ويفرض احترام إرادته من خلال التمييز بين حقوق الأفراد والجماعات وحقوق المجتمع ككل ومن خلال احترام فكرة الواجب. وكانت الدولة ثورة في تاريخ المجتمع بمقدار ما كانت تأسيساً جديداً لمعنى المجتمع ولوجوده التاريخي ككيانية اجتماعية جديدة مسيطرة على ذاتها ومقررة لمصيرها. ثم قام من التاريخ دليل متكرر على أن تلك الثورة كانت تنتكس كلما دب الوهن في الدولة، أو استبدت بها أزمة، أو أصابها سقوط تحت قبضة عدوان من الخارج.

 

وعندما يجري الحديث عن الديمقراطية كنظام سياسي، ينصرف حكماً إلى التفكير في العلاقة السياسية التأسيسية الحاكمة لهذا النظام، وهي علاقة المواطنة، حيث تفترض المواطنة مادتها في المواطنين. وهؤلاء ليسوا شيئاً آخر غير أفراد أحرار متساوين أمام القانون في حقوقهم السياسية لأنهم متكافئون في أداء ما عليهم من واجبات للدولة، مثل دفع الضرائب، أداء الخدمة العسكرية، التضحية عند الضرورة..إلخ. ذلك أن ما يقضي به التعاقد المبرم بين بعضهم البعض على تفويضهم الدولة للقيام على أمرهم وتأمين الخدمات العامة والحماية للمجتمع، كما يقضي به التعاقد بينهم وبين الدولة، والدستور صيغة من صيغه، على التوزيع المتوازن بين الحقوق والواجبات. لا يمكن التفكير في الدولة الديمقراطية الحديثة إذن، ومن داخل منظومة الفكر السياسي الليبرالي الحديث، إلا بالتلازم مع التسليم بمركزية الفرد في هذه الدولة.

أما عند الحديث عن الحرية، فإنه يفضي إلى الأفراد، لأن الحرية تعني، بالتعريف، جملة ما يتمتعون به في الدولة الحديثة كأفراد من حقوق مدنية وسياسية. وهي حقوق لا تعترف بها الدولة فحسب، بل تكفلها لهم وتضمنها بالتشريعات والقوانين، حتى أن العدوان عليها لا يستوجب تحصيل الفرد حقه المنتهك أو المغتصب بمقتضى القانون كحق فردي أو مدني فحسب، بل يستوجب أن تأخذ الدولة نفسها حقها أو الحق العام ممن انتهك ذلك الحق، وعليه تبدو مركزية الفرد واضحة هنا أشد الوضوح حين يتعلق الأمر بالحرية.

وبناء على ما تقدم، فإن بلقزيز يرى أن الحديث لا يستقيم في المجتمع المدني من دون التسليم بمكانة الفرد أو الأفراد في هذا المجتمع. وإذا كان المجتمع المدني، في فلسفة القرن التاسع عشر، هو مجتمع المصالح المادية ومجتمع المصالح الخاصة، فإن الأفراد / المواطنين في الدولة هم من يعنيهم بالأساس تحقيق تلك المصالح. فالشخص الملموس، الذي هو شخص مفرد، كما يقول هيغل، هو «المبدأ الوحيد في المجتمع المدني البرجوازي». وليس هذا سوى الفرد / المواطن في الدولة الحديثة. وإن كان تشديد الليبرالية على الفرد وتشديد الماركسية على الطبقة قد قاد الفكرتين معاً إلى وضع المجتمع في مقابل الدولة، والزعم بان التحرر الاجتماعي والإنساني، الفردي والطبقي، فإنما يكون بالتحرر من سلطة الدولة التي تحد من حريات الأفراد، وتنال منها، أو تلك التي تنتهك الحقوق الاجتماعية والاقتصادية لطبقات الشعب والقوى المنتجة. وهناك بعض الغلو الليبرالي في وضع الفرد مقابل الدولة، كما عند طوكفيل، وجون ستيوارت ميل، وكاسيرر، وكارل بوبر. وكذلك بعض الغلو الماركسي في وضع المجتمع والطبقات في علاقة تعارض مع الدولة، كما عند انغلز ولينين وتروتسكي وماركيوز. وقد قاد الفكرتين معاً إلى الإفصاح عن بعض المنزع الفوضوي فيهما، فإن سياقات التعبير المادي والسياسي عن المضمون الفكري المناهض للدولة، والمشارف مدى لحد الفوضوية، لم تكن لتقود إلى النتائج ذاتها، أي المطابقة للمقدمات المشتركة بين المنظومتين والرؤيتين، ولا إلى المآلات ذاتها عند كل منهما في التطبيق.

 

بشكل عام يمتاز كتاب بلقزيز بمنهجيته النقدية الصارمة، حيث لا يقوم بتناول الأفكار والمفاهيم بوصفها مسلمات نهائية، بل يطرح الأسئلة عليها، محاولاً هزها واستنطاقها وخلخلتها، وغايته تقديم خلاصات حول إشكاليات الدولة والمجتمع العربيين، وتحريض التفكير فيهما ضمن السياق السياسي والاجتماعي المحددين لهما.

جديدنا