نعم.. مجتمعاتنا عنصريَّة

image_pdf

“ذاكرة امرأة” شريط وثائقي تونسي، حصل على التانيت الفضّي في مهرجان قرطاج السينمائي 2009، ويتضمَّن الشريط حوارًا مع سيِّدة متقدِّمة في السن، تسرد جوانب من سيرتها، منذ أن كانت طفلة صغيرة تبحث عن الإله فوق سطح منزلهم إلى يومنا هذا حيث تتمنّى أن تدفن بعد موتها في أرض تونس التي أحبّتها.

هي في الأصل يهوديَّة قدمت من فرنسا مع أسرتها في الثلاثينيات، قبل أن تعتنق الإسلام، وتتزوَّج من تونسي مسلم كان يناضل في صفوف الحزب الدستوري الذي قاد الحركة الوطنيَّة ضدّ الاستعمار الفرنسي، ومشكلة هذه المرأة أنَّ المحيطين بها من التونسيّين لم يعاملوها بشكل جيّد، ولم يطمئنّوا لإسلامها، وبقوا يتعاملون معها بحذر شديد باعتبارها يهوديَّة، حتى إنّ بعض زميلاتها في المستشفى الذي كانت تعمل به حاولن إقناعها بأنّه لا يجوز لها أداء فريضة الحجّ بحجّة أنّها يهوديَّة! وتجدّدت مأساتها مع ابنها الذي يحمل اسم محمد مع لقب الأب يهودي مجهول، فوجد نفسه من جهة مرفوضًا من قبل التونسيّين المسلمين، ومن جهةٍ أخرى منبوذًا من قبل اليهود الذين تبرّأوا منه بسبب كونه يحمل اسم رسول الإسلام، فهو يعاني من أزمة هويَّة دفعته للبحث بدون جدوى عن أصوله، والإعلان بوضوح عن كراهيته للعرب الذين يرفضونه ولا يعترفون بانتمائه الشرعي لتونس وللإسلام.

 

الشريط مؤثِّر، ومثير، ويعكس بدرجة عالية معضلة عدم تسامح شرائح واسعة من المجتمع التونسي تجاه المختلف عنه، أو الذي انحدر من أصول عرقيَّة ودينيَّة مغايرة، وهي حالية مرضيَّة يرفض الاعتراف بها المجتمع التونسي، رغم وجودها بنسبٍ مرتفعة أحيانًا.

وقد تزامن هذا الشريط مع مسلسلٍ تلفزيوني تمّ بثّه خلال شهر رمضان، وتابعه التونسيّون بكثافة، ويعرض المسلسل لقصّة شاب تونسي ينتمي إلى إحدى أسر سكّان مدينة تونس العاصمة التي لا يزال بعض أفرادها يعتقدون بأنّهم الأصل والمرجع، في حين يتعاملون بتعالٍ شديد تجاه بقيَّة السكّان، وأعلم هذا الشاب والدته بأنّه سيقدِّم لها البنت التي أحبّها والتي يريد أن يتزوّجها. فرحت الأم كثيرًا، لكنّها وجدت نفسها أمام فتاة سوداء اللون، حتّى أصيبت بصدمةٍ قويَّة، ورفضت رفضًا قاطعًا أن توافق على زواج ابنها من بنت زنجيَّة، وهي أيضًا ظاهرة غريبة واسعة الانتشار في المجتمع التونسي، حيث تعتبر الزيجات المختلطة من الحالات النادرة.

وأذكرُ أنّني عندما كنت طفلًا، أحبَّت إحدى أجمل بنات الحيّ شابًّا وسيمًا أسود اللون، وفي يوم الفرح تحوّل الحفل إلى مأتم حيث لم تتحمّل أسرة العروس رؤية أصهارها الجدد بلونهم الأسمر، ولم تستعد أنفاسها إلا بعد فسخ الخطوبة.

هذان العملان الفنيّان لم تجمع بينهما من حيث التوقيت سوى المصادفة، ولكنّهما جاءا ليكونا بمثابة المرآة العاكسة لعورات المجتمع؛ فالمجتمع التونسي مثله مثل بقيَّة المجتمعات في العالم، يدّعي الكمال، ولا يريد أن يعترف بنقائصه وعنصريّته الدفينة، أو يقرّ برفضه المستبطن للمختلف، حتى لو كان هذا المختلف هو جزء أصيل من الوطن المشترك، أو أنّه اندمج كليًّا في ذات النسيج الموحّد، ولهذا عندما تأتي شهادة صادقة ومؤثِّرة من الداخل، لترفع الغطاء عن المكبوت وتسلّط الأضواء على عالم المسكوت عنه، يحصل شيء من التململ، وتتولّى الذات إنكار اتّهامها بالتمييز، أو التقليل من أهمّيَّة الظاهرة، فتعمل مرَّة أخرى على إخفاء مشاعرها الحقيقيَّة تحت غطاء من التنزيه والتعالي المغلوط، لم نتعوّد كأفراد ومجتمعات على الاعتراف بالخطأ، ولم نكتسب بعد الشجاعة لنقد الذات وتصحيحها.

حدّثتني إحدى قريباتي عن تجربتها الشخصيَّة بعد مشاهدة هذا المسلسل، وهي أستاذة فرنسيَّة، متفتّحة، وقد درست لفترة طويلة محورًا في البرنامج يتعلّق بالعنصريَّة، وكانت أثناء إلقاء الدرس تتحمّس أحيانًا وهي تعلم تلاميذها المواقف البطوليَّة لكبار الكتّاب والشعراء والثوريّين التقدّميّين المناهضين للتمييز، لكن في إحدى المناسبات، فاتحها ابنها الذي كانت تنتظر بفارغ الصبر زواجه بأنّه قد يختار زميله له في الدراسة سوداء اللون، فإذا بها دون أن تشعر انتفضت قائلة له: “كل شيء إلا وصيفة” وهي كلمة شائعة الاستعمال في تونس لا تدل فقط على سواد اللون، ولكنّها تحمل شحنة عنصريَّة قبيحة باعتبارها مرادفة لكلمة العبد التي لا تزال بعض المجتمعات العربيَّة تردّدها بدون أي حرج! قالتها قريبتي بكل عفويَّة، ولم تتفطّن للخطأ الفادح الذي ارتكبته إلا بعد أن ذكّرها ابنها بمواقفها التقدّميَّة التي كانت تردّدها بحماس أمام تلامذتها.

موقف قريبتي ذكّرني بقصَّة يعرفها البعض، فقد عرضت على الدكتور حسن الترابي ظاهرة اجتماعيَّة أصبحت تستوجب الإعلان عن فتوى جريئة، لقد سئل الرجل عن النساء السوداوات في الولايات المتّحدة الأميركيَّة اللاتي يعلن إسلامهن وهنّ متزوّجات: هل يبقين على علاقاتهن الزوجيَّة أم ينفصلن عن أزواجهن. وقد قضى الترابي يومها بجواز الحفاظ على علاقة الزوجين، ممّا أثار عليه زوبعة رهيبة حيث أُتّهم بأنّه يسمح بزواج المسلمات من غير المسلمين في أن الترابي أسّس موقفه على الاستقلاليَّة الماليَّة والقانونيَّة والنفسيَّة التي تتمتّع بها المرأة الأمريكيَّة ممّا يجعلها في مأمنٍ من تأثير الزوج على معتقداتها لكنّه لاحظ أيضًا أنّ بعض من طلبن الطلاق، بقين بدون زواج لأن البيض ممّن دفعوهن نحو الانفصال بحجّة الالتزام بأحكام الإسلام ليسوا على استعداد للتزوّج بزنجيات!

إنّ الإصلاح الاجتماعي لا يقل أهميَّة عن الإصلاح السياسي، بل لا يمكن أن يتعمّق الإصلاح الديموقراطي في مجتمعٍ ما إلا بقدر الجهد الذي يبذل في سبيل وضع حدٍّ للازدواجيَّة التي تلازم سلوك الأفراد والجماعات تجاه المختلف، سواء أكان هذا المختلف امرأة، أو له قشرة مغايرة، أو حامل دين آخر، أو له رأي سياسي مناقض، أو يتحدّث بلغةٍ أو لهجة مختلفة عن اللغة السائدة.
______

* صحيفة العرب/ الراصد التنويري/ العدد الرابع (4)/ نيسان- إبريل/ 2009.

جديدنا