المبدعون؛ قصَّة الانطلاق من عالم الضرورة

image_pdf

 

الكتاب: “مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السودانية.”

المؤلف: الدكتور النور حمد.

عدد الصفحات: 380.

الناشر: دار مدارك، القاهرة، الخرطوم.

الطبعة: الأولى/ 2010 

 

مقدمة:

تُطْلِعُنَا محفوظات الأضابير، ومحتويات أقاصيصها، أن القضايا البحثية، التي شغلت الساحة الثقافية السودانية المعاصرة، قليلة العدد متفرقة الزمن. وكانت أكثرها غموضا تلك التي تناولت علاقة النخب السودانية بالواقع، وفشل هذه النخب في المساهمة في إدارة عمليات التغيير في المجتمع. ويتفرد كتاب “مهارب المبدعين: قراءة في السير والنصوص السودانية” للدكتور النور حمد بتقديم قراءة نقدية جديدة لهذه القضية؛ تأخذ حال المبدعين كنماذج بحثية، وتتفحص سيرتها من خلال الكل المركب للعلاقات السياسية والثقافية والاجتماعية، ودون إغفال لحراك التاريخ، أو سيرورة الزمن، وأحوال الجغرافيا، أو عبقرية المكان. وقد بَيَّن المؤلف بأن النماذج، التي عينها للدراسة، قد جمع بين أشخاصها، إلى جانب الطاقات الإبداعية الخلاقة، طبع الهرب من الواقع، وغلب عليهم، رغم المساومة الواضحة مع السائد من مواضعات أخلاقية اجتماعية، روح الانسحاب من مواجهة تحديات التغيير في المجتمع. فتضاءل دورهم، وخفت صوتهم، وتغيبوا عن معترك الفعل، وتخلفوا عن قيادة التغيير، ورحلوا عن الواقع إلى محارب مهاربهم.

وهذه المراجعة العامة، التي نقدمها لهذا الكتاب، هي بمثابة دعوة للقراء من الأدباء، والمبدعين، والمثقفين، والمفكرين، والمهتمين بقضايا التغيير الاجتماعي والسياسي، أن يطالعوه بالعقل، ويحاوروه بالموضوعية، ويناقشوه بالحكمة، بلوغا لمراد قصده. ونجزم أن كل من يتجول بين صفحاته سيجد أنه حافل بالمعلومات عن المبدعين السودانيين، وغني بالاستشهاد بنصوصهم الشعرية والنثرية، وعميق في النظر إلى سيرهم، وفاحص لمواقفهم، وناقد لظاهرة هربهم من مطلوبات التأثير في المجتمع ومقتضيات تغيير الواقع المأزوم. وقد كتب بلغة أدبية رفيعة تجبر القارئ على استحسانها، واستلطاف رقائقها، والتمتع ببديع صناعتها. وإذا اتفق القارئ مع مضامين النص واتجاهاته العامة، أو اختلف، فالكتاب جدير بالقراءة، حفي بالتقدير، باعث للتأمل، حافز للحوار، مع إلحاح مطالبته للمبدعين بضرورة تلبية الإبداع لحاجات الواقع، بشرط العقل.

 

نزعة الهرب:

ورغم أنها ليست المرة الأولى، التي يتناول فيها النقاد والدارسون نزعة الهرب لدى المبدعين، أو استجلاء حقيقة المهارب وجاذبيتها، التي يستسلمون لغوايتها ويستريحون لفتنة إغرائها، إلا أن هذا الكتاب هو الأوفي في عرضه، وطريقة تناوله. إذ تضمن تصدير “مهارب المبدعين” نفسه عدداً من الكتابات والنقاشات السجالية، التي أَشَّرَ عليها بسعة وافرة الأستاذ عبدالله الفكي البشير، الذي انضم بحزم إلى معسكر المؤلف في تتبع سير الهاربين، ولم يتوقف عن تحمل عبء مواصلة السياحة الراصدة لنتاج الفكر السوداني الهارب من معالجة تحديات واقعه، في مزاج محافظ معتدل فحسب، وإنما ساهم تصديره الوافي في حشد مجموعة من الاقتباسات، التي استقاها من مناقشات العديد من المفكرين والمثقفين والكتّاب وأصحاب الرأي السودانيين، واستخلصها من عدد كبير من المصادر والكتابات، التي سال في تدبيجها الكثير من الحبر، ومثلت مضامينها موضوعات الحوار الأساسية حول ظاهرة هرب المبدعين.

وقد كُتبت حول المهارب، التي يلتجئ إليها المبدعون، الكثير من المؤلفات في عدد من أقطار العالم، نظرا لبعد الظاهرة العالمي، وارتباطها ببيئات عالمية غير مواتية، دفعت مبدعيها للهرب، أو تلك التي جذبتهم للهرب إليها من بيئاتهم الأصلية، ولأنها طرحت في خضم النقاش العام حول الفكر والإبداع، ومسألة انتماء النخب وارتباطهم بقضايا مجتمعاتهم، مشكلة أساسية هي علاقة المجتمع بحرية المبدع، وأشكال التنظيم الثقافي والسياسي والاقتصادي الضابطة لأنماط السلوك العام، التي تدفعه للبقاء والإسهام في مجابهة تحديات الواقع وقيادة عملية تغييرها، أو تجبره على الهرب والالتجاء لمهارب بديلة يفجر فيها طاقاته الإبداعية بعيداً عن ضغط المكان.

ومما لاشك فيه أن الأدب السوداني المعاصر، عرف في العقود الأخيرة، تجدداً وتنوعاً وخصوبةً في التيارات والمجالات وارتياد الآفاق الجديدة، ولكن هذا لم يمنع من وجود عناصر مشتركة تؤشر على عادة الاستمرار في التعالي على الواقع المأزوم، كعدم الإقرار بضرورات الاختلاف والتنوع والمناداة به إثراء للمجتمع، وأهمية ربط الأدب بالحياة، والتجربة الإبداعية بالواقع، ووصل الفكر بالمستجدات الثقافية والسياسية والاجتماعية. إذ لا يزال المبدع السوداني المعاصر، يمارس الهرب الذي كان يقوم به أسلافه أمثال الناصر قريب الله، ومحمد سعد العباسي، ومحمد المهدي المجذوب، وغيرهم كثير، الذين كان وجودهم في المجتمع السوداني قلق مضطرب. كما لم يتح لهم الهرب أن يدركوا المطلوب منهم في يسر، أو بكيفية تجسر الرابطة المفقودة مع الواقع، ولم يحط المجتمع بأسباب قلق ذاتهم المبدعة تمام الإحاطة، فتجاذبتهم قوى العقل، والنفس، والروح، وشدتهم نوازع الرغبات الحسية، وشهوات الجسد المكبوتة، والتطلع المجنح لعوالم وفضاءات خارج دائرة الواقع. وعاشوا موزعين بين الانتماء واللانتماء، بين مد الشعور والوعي، وجزر اللاشعور واللاوعي بالواقع تارة، وبين جزر الوعي والشعور، ومد اللاوعي واللاشعور بهذا الواقع تارة أخرى. وكانوا، كما جرى وصفهم، ضيوفاً ثقلاء على المجتمع، ومع ذلك فقد سَخَّرَ الدكتور النور في هذا الكتاب كل عاطفته الإنسانية، كفنان ومبدع محسوب على رهط المبدعين بوجه من الوجوه، وشحذ كل طاقاته في الفهم والإدراك، واستل كل مقدراته اللغوية والتعبيرية لكشف مكنونات سيرهم، بقصد أن يسعى بجد إلى الإلمام بحقيقة أحاسيسهم الروحية والمادية، فوقف إلى جانبهم، وتعاطف معهم ضد قسوة المجتمع، دون أن يتبنى انحراف أي منهم، أو خروج أحدهم عن جادة السبيل.

وضمن التوجه العام للكتاب، طرح النور جملة من الإشكاليات المفاهيمية والتقيمية، اشتملت على إيضاحات كاشفة للأسس التي يقوم عليها المجتمع السوداني. وفي تقديره، أن الفضاء الاجتماعي، الذي دفع المبدعين للهرب، يتطلب أن نفصل فيه بين ما هو موروث محمود وما هو وافد منبوذ، أي بين ما هو طبيعي أنشأته علاقات المجتمع السوداني المتسامحة، وبين ما هو مستجلب عَقَّد خاصية التداول الحر بين هذه العلاقات. ولكن، إذا ترسخت الحقائق بوجهها الجديد، وصار المجتمع السودان محكوماً بمضامين ومواضعات لا يمكن العودة بها القهقرى، فإن المطلوب، كما فهمت من روح الكتاب، هو أن تكون حرية المبدع مضمونة، وقدرته على التعبير أمراً قائماً، وأن يصبح وجوده ضمن السياق العام واقعاً، مع احترام خصوصية المبدع، التي لا تستفز وتُحَقِّرْ المقدس لدى الآخرين. وبالنسبة للمؤلف، فإن ما يقرر هذا المقدس الاجتماعي، ويقوم عليه هو العقد الاجتماعي، أو عقد المواطنة. غير أن الملاحظ في سير الكثير من المبدعين هو أنهم باسم الخصوصية يهربون أحياناً، وليس باسم الحرية. وما يجعل من طرح المؤلف منحازاً للمبدعين، رغم نقده لهربهم، هو رغبته في أن يشمل المجتمع المبدعين برعاية تضامنية، ليس فقط خصوصية أوضاعهم، بل حتى المجال والفضاء الاجتماعي، الذي ينشطون فيه، بما في ذلك منابر التعبير العامة، خوفا من أن يؤدي عدم مواجهة المجتمع لأشكال التعبير الجديدة، وضمانات استيعابها، إلى تراجع الحسّ والشعور الإبداعي العام. وبالتالي، جفاف الحياة، وبؤس الواقع، وهرب المبدعين إلى غير رجعة.

 

بيئة النص:

يستبعد كثير من النقاد، ومنهم مؤلف هذا الكتاب، إمكانية تحقيق نصوص نثرية وشعرية، وقراءتها، لخلق قصة حياة إنسان وإنتاج سيرته الذاتية، بزعم أن كتابة السير تعتمد الحقيقة والصدق في نقل تجارب الحياة الفردية الموضوعية، وأن النصوص المجردة قد تشي بخلاف ذلك، لاعتمادها على التصور، والتخيل، والمبالغة، والإدعاء، وربما الكذب. إذ إن قراءة النصوص بذاتها تكون عادة عاجزة عن الإحاطة بجوهر التجربة المروية عن هوية صاحب السيرة الذاتية، الذي تعلقت به الأخبار، واتكأت عليه أهمية الإخبار. وفي اعتقاد هؤلاء، أنه لا يمكن أن يتحقق الصدق والشمول في كتابة السير بعيداً عن البيئة الاجتماعية والتاريخية. وإذا كانت السيرة الذاتية، التي تنبع من فيض الأدب تختلف عن الكتابة التاريخية الموسومة بالطابع العلمي، إلا أنه تظل بين النصوص الإبداعية الأدبية والكتابة التاريخية صلة وثيقة لا تنفصم. وبهذا أفصحت وأفلحت محاولة الدكتور النور النقدية في استنطاق حياة المبدعين الهاربين، من خلال الإطلال على نصوصهم وسيرهم، مقروءة على بيئة الواقع الاجتماعي والتاريخي.

وبعد إعطاء عرض كافٍ وعادلٍ للحجّتين، أو للرؤيتين النصية والتاريخية، في تضاعيف الكتاب، جعلهما المؤلف يشتركان في عرض الأحداث والمواقف، للمبدعين السودانيين، الذين أتى على ذكرهم. فقام بتقديم وتحليل نتاجهم الأدبي، وتصوير مختلف بيئاتهم ومآثرهم، في سياقاتها التاريخية المختلفة، ليكشف عن الصور المادية والنفسية، التي شكلت وجدانهم، ومن ثم نتاج إبداعاتهم. فقد تناول في “مهارب المبدعين” دراسة المجتمع السوداني في عصوره الحديثة، من خلال سبر أغوار التاريخ، ومعاينة النظام القبلي، والتقاليد والقيم الاجتماعية، ووضع المرأة، وقارن بين حياة الريف والحضر. وخصَّ المبدعين، ومهاربهم، وثقافة التعبير لديهم، بالجزء الأوفى من صفحات الكتاب، وذلك من خلال تفكيك نصوصهم، وسير حياتهم اليومية، وفحص أنواع المتعة عندهم؛ من المجالس ودوائر الأنس، إلى الطرب والتشبيب بالنساء، بالإضافة إلى مزاج شربهم، وخمورهم، وشعرهم، وفنونهم، وطبقاتهم الاجتماعية.

وأوضح الدكتور النور كيف أن طبيعة الحياة السودانية الماضية المنقسمة بين مدنٍ مُحافِظة، وريفٍ وبادية أكثر انفتاحاً، قد أحدثت ردات فعل متباينة، حين يقول (ص269) “ومن غرائب الواقع السوداني أن تكون الحواضر شديدة المحافظة ويكون الريف أقل محافظة!.” إذ أفرزت هذه المفارقة اللافتة نوعين من الحياة؛ الأولى خاصة في مستواها الحضري الحداثوي بالسكان الأجانب تحيط بهم أحياء فقيرة للسودانيين، والقرى للذين استقروا وبدءوا يعملون بالزراعة، والبادية للذين يجولون فضاء الصحراء بحثاً عن خصب المراعي بلا موانع. فيدخل بنا النور، إلى مفازة النص، وفضاء المكان، عبر بوابة التاريخ، حيث تتماها الثقافة ومواضعات المجتمع في تشكيل المبدع. فنجده يقول (ص 62 و63) إن هذا الكتاب ليس “دراسة أدبية بالمعني الشائع للدراسة الأدبية وإنما هو توكؤ على النص الأدبي حيناً، وعلى السيرة الشخصية لمنتجي النص الأدبي، من جيل الرواد والجيل الذي تلاه من الأدباء السودانيين، حيناً آخر، في محاولة للمزج بين الأدبي، والسياسي، والنفسي، والرؤيوي، في محاولة لإضاءة بعضاً من جوانب الأزمة السودانية المزمنة المستفحلة.”

بيد أن الكتاب، بما بدأ به، وبما ناقش، جاء ليلغي التقليدية في التناول النقدي للأعمال الأدبية، التي كثيراً ما تغتال حقيقة وجود المبدع في المجتمع، وتغفل التطرق لفاعليته الاجتماعية والثقافية. وجاء الكتاب ليجعل من عمل المبدع فعلاً حضارياً، كان ينبغي له أن يقود مسار حركة المجتمع، أو يراقب تكويناته المختلفة، وقراءة التقلبات والتحولات من خلال حركة النص داخل فضاء المجتمع، لا أن يهرب منه، أو كما قال النور (ص 343) “ليس هذا الكتاب مجرد رصد لأحوال الهرب والهاربين، وإنما هو محاولة لفهم القوى التي تعيق الطاقات الخلاقة، وتخلق حالات الانسحاب وسط ذوي الطاقات العقلية، والوجدانية الكبيرة.” وهو بفعل ذلك، يخطو الخطوات الأولى تجاه اعتلاء عتبات النص، ويتجاوز مباشرة التلقي البارد المبكرة للمفردات إلى محاولة اختراق مساحات السرد الواسعة للسيرة الذاتية، التي تتحقق بها غايات الاستمتاع بالنص، إلى جانب الرؤية من خلالها، لحراك المجتمع الثقافي والسياسي، والديني، ومواضعات التاريخ، وقيد المكان الجغرافي.

 

الحس الجيوتاريخي:

يحاول كتاب “مهارب المبدعين” أن يشكل لنا مدخلاً جديداً إلي نظرية جغرافية الانتماء المكانية والثقافية، مع عناية خاصة بالسرد العام لرواية السيرة الخاصة الفردية للمبدعين، بل أن الحس التاريخي ظل حاضراً بكل أبعاده، إدراكاً من المؤلف أن السيرة الذاتية تتخذ موقعاً وسطاً بين الأدب والتاريخ. حيث نجده يحدثنا في الفصل الأول عن مفهوم الكبت والهرب في المجتمع السوداني التقليدي، وينتقل بنا إلي إشكالية المدينة السودانية في علاقتها بالتكوينات والتنظيمات الاجتماعية، ثم ينطلق ليحدثنا عن مهارب العباسي والناصر قريب الله، وغيرهم من المبدعين، لنجد أنفسنا أمام كاتب استطاع أن يؤكد مدي ارتباط مصائر مبدعينا المعاصرين بظاهرة الهرب. فقد أمعن النظر أكثر في طبيعة النص الأدبي لكثير من المبدعين الهاربين، وخلص إلى تعابير دقيقة عميقة من حيث برهنتها على طبيعة المرحلة، التي عاشوها، وحمولة النص الدلالية، والتي ترسم صور المكان، وتستقري تفاصيل التاريخ. وفي تجواله بين المهارب المتنوعة لمعاوية محمد نور، وإدريس جماع، والتجاني يوسف بشير، يقرر (ص 155) كيف “أحاط بهم جميعاً نوع من اليأس ومن الإحباط كما أحاط الفقر وقلة الحيلة، بأكثريتهم.” حيث كانوا يتأرجحون بين “التعارض الشديد من الطاقة العقلية، والثورية الجبارة، التواقة للفعل في الواقع وبين ضيق الواقع المحدود، واستغلاقه عن تلك الطاقات الجبارة.” ولم ينس أن يذكرنا بانعكاس هذا التعارض على ألوان التعبير، التي صاغ بها المبدعون نصوصهم، التي تجاذبتها سلطة الأدب وقوة التاريخ، لأن المبدع يصوغ تاريخه الخاص صياغة أدبية، تنسرب في تضاعيفها كل إسقاطات البيئة الاجتماعية.

ويلعب الحس التاريخي دوراً كبيراً في محاولة النور رفع الذاتي إلى مصاف الموضوعي في سير هؤلاء المبدعين الهاربين من قيد المكان والزمان. إذ أثرت طرائق العرض تأثيراً مباشراً في عمليات إدراج النص والسير الذاتية في إطاري الزمان والمكان، وذلك بمحاولة تحديد البناء العام لسير الشخصيات المختارة، أو التي توفرت عنها مادة استطاع بها المؤلف أن يرسم لهم بها صوراً تقريبية. وذلك عندما نزع إلى تقسيم سيرهم إلى فصول تتبع اختلاف مراحل حياتهم. كما مثل الحس التاريخي باعثاً لضبط أهم المنعطفات والتحولات المحددة لهذه الفصول. ونتيجة لهذا، نشأ التجاوب والتجاذب الحتمي، في كتاب “مهارب المبدعين” بين النص الأدبي والتاريخ، أي بين الحق الثقافي والحق الاجتماعي، وما ترتب على ذلك من تَمييزٍ فَرَّقَ، حسب تقدير المؤلف، بين السير الخاصة والتاريخ العام. رغم أن الحقيقة المعروفة تُنْبِئُنَا بأن الأصل في التاريخ الإنساني هو جماع التآريخ الخاصة، فردية كانت أم جماعية.

 

رحاب المهارب:

يشهد كتاب “مهارب المبدعين”، على أُلْفَة المؤلف بالمشهد السوداني، والإرث الإبداعي لغير قليل من الهاربين. فقام برحلة استطلاع إلى عالمهم الفكري والثقافي والأخلاقي، وطرق أبواب حقب لم يُولد فيها، لكن دراسته لها واطلاعه على تفاصيلها جعلته يشعر بأنه ليس غريباً عنها. ويكشف سرده الوافي بوضوح عن علاقة حميمة بمسارات هذه الرحلة المكانية والتاريخية. فمن الناحية الإيجابية، فقد بدأ جلياً أن الدكتور النور حمد ليس فقط على علم بموضوعه، لكنه يتمتع بإحساس وشعور خصب بالمشهد الإبداعي السوداني. وتتصف دراسته ومسحه للرموز الأدبية، من أمثال العباسي والمجذوب والناصر قريب الله، بالدقة ووفرة المعلومات، والمهارة والتنظيم في معالجتها، والطلاقة والسلاسة في إيرادها. أما ناحية الضعف، إن استطاع القارئ ملاحظتها، فقد تأتت من حقيقة أن كثير من المبدعين لم يتركوا أثراً يُسْتَدَلُ به عليهم في الواقع السوداني. وقد أشار إليها المؤلف وهو يقوم بتوثيق إنتاجهم الفكري، وتقييم انجازاتهم وإخفاقاتهم، ويشير إلى أهميتهم وتأثيرهم. فهو يورد (ص 87)  أن “نزعة الهرب تفشت أكثر وسط ذوي القدرات العالية ممن يعتبروا في مجالات الإبداع الفكري والأدبي، في حين قلت وسط غيرهم.. فلربما يكون الهاربون كثر، غير أنهم لم يتركوا لنا ما نستدل على هربهم.”

وقد بحث كاتبنا النور عنهم في كل المظان، وحفر في بيئاتهم، ونبش موجوداتهم، وقرأ قصيدهم ونثرهم. وحاول أن يقدم لنا قراءة موضوعية لما خلفوه من آثار ومرويات عن سيرهم، فأحسن الصنيع، رغم انحيازه الظاهر لزمرة المبدعين. إذ لم يكن من السهل على الكاتب، أن يخرج نفسه من دائرة؛ انتمائه كفنان ومبدع، التي تحقق له حالة هرب خاصة من ضيق مجتمع يصر على عنت موروثاته الثقافية والاجتماعية. وكاتبنا يقف مع اتساع مفهوم الحرية الفكرية وحرية التعبير، وكأنه يريد لكل مبدع أنْ يؤسس له صرحاً بين الصروح، أو يحفر اسماً بين الأسماء المائزة، دون أنْ يكون مرتهناً لقيود أو فروض، خارجة عن اختياراته. وتمنيت لو دخل المؤلف في تناوله لمادة هذا الكتاب، إلى النصوص والسير وهو متحرر من تلك النظرة المفاضلة بين طلاقة المبدعين وقيود المجتمع، حين رسم الحدود الحاسمة لما يدخل تحت قناعاته، وما يخرج منها وعنها. ولذلك يكاد يكون متحيزاً في الاختيار والاختبار.

 

تصويب السِيَرْ:

حث المؤلف على تصويب سير المبدعين الهاربين بتحريرها من التحريف الخاص، الذي يقوم به الأدباء أنفسهم، أو يتولاه عنهم النقاد. ويوضح (ص 294) أن”معظم نقادنا، يؤثرون السلامة، ويفضلون الكتابة الاحتفالية التغريظية، التي تُعنى بتلميع الأسطح، ولا تحفل كثيراً بالحفر في ما من شأنه أن يجر على الناقد تبعات مساءلة السائد، بل مصادمته.” وذلك بمعطى أنه إذا كان التاريخ يجري وراء الحقيقة، باحثاً وممحصاً، ثم مبددا لأي غموض في مختلف جوانب الحياة العامة، فالسيرة الذاتية عادة ما تقتفي أثر الحياة في ذات الإنسان، وتكون أكثر ميلاً لتبجيله. ولذلك، كانت السير، ولا تزال، أقرب لحالة الاحتفال بالأدب الذاتي، الذي يعبر عن مدى غنى الحياة الداخلية للمبدع، في حين أن التاريخ يعبر عن المسافة الزمنية، التي يقطعها هذا المبدع من المهد إلى اللحد. ويدرك المبدع، أكثر من غيره، أن ذاته متغيرة بظروف محيطه، وأن مجرى تنامي وتطور سيرته غير قابل لأي تحديد لا تقرره مرونة التاريخ، بمناهج كتابته المعروفة.

والمعلوم أن للتاريخ مرونة تؤهله لأن يظل فضاءً رحباً، يتسع لكل نشاط إبداعي، وكائناً نابضاً في عمق الأدب بوجه عام، وأكثر إثارة في أجواء التاريخ الفردي، باعتباره نواة أدبية فاعلة، سواء في الكتابة النثرية أم في الكتابة الشعرية، ومما لاشك فيه هو أن أصداء التاريخ الخاص تتردد بدرجات متفاوتة في جميع ألوان الإنتاج الأدبي، وهذا دليل على كون الذاتية قوة دافعة، وعلة باعثة على الانخراط في العملية الإبداعية، ثم أن الفصل والتمييز بين الحياة الخاصة الفردية والحياة العامة يظل أمراً نظرياً، إذ يتعذر على الإنسان أن يعزل حياته بعيداً عن التاريخ العام، حتى وإن عمر مدة وجيزة على وجه الأرض. ويُنبئ تصوير المؤلف لحياة المبدع، الذي أدمن الهرب من واقعه، أن سيرة هذا المبدع تصير ثمرة عصرها، وتستحيل ذاته حكاية في حد ذاتها، يرويها الناس، حتى ولو لم يتوفر لها من العطاء العام ما يصلها بحركة الواقع. فهي عندما تروي حكايتها، تجد نفسها واصفة وموصوفة، وتفشل في أن تفصل الرابطة بين تمثلها الذاتي ونزوعها للتميز الزائف. ويقول الدكتور النور(ص 480) “ومن يقرأ تاريخ الحركة الوطنية من واقع النصوص والشهادات التي كتبها الأفراد بشكل متفرق في صحف تلك الحقبة، يرى أن المقالات تعطي صورة أصدق مما ضمته الكتب التي أرخت تلك الفترة. فالكتب ملأ بالفجوات وبالإهمال المتعمد وبالجنوح إلى التزييف أو قل الجنوح لرسم صورة وردية لنضال وطني نظيف هدفه الرئيسي تحقيق الرفاهية للشعب.” وأسهم هذا، في تقديرنا، في عدم رسم صورة صحيحة لحقيقة واقعنا، أو وضع إحداثيات متماسكة لسيرة هذا الواقع، بسبب من هذا الخلل في رواية التاريخ، أو ما يمكن تسميته بالهوية السردية، كما قال بها الفيلسوف “بول ريكور”، ليؤكد على أن هوية السودان تشكل نوعاً من الترتيبات الهشّة. إنها مجموعة من الأحاسيس والمشاعر الفردية، وليست نوعا من المصالح، وإنها ترتبط بتاريخ المبدع الهارب، لا الحقائق المقيمة في الواقع. وبالتالي، فإن الجانب التحقيقي لقيمة هذا السرد، وهذه السير، هو الذي يجمع ويدمج الأعضاء في الجماعة، وأن غيابه يؤدي إلى التفكك والتشرذم. وعليه يجب دعم وإسناد هذه الهوية، بتصحيح كتابة السير بمنهج موضوعي، يعلي تمام العام على نواقص الخاص.

وقد طالب المؤلف بقراءة الصحف لأنها تعطي صورة أفضل من الكتب، لأنها غطت الصورة الوردية، التي زرعها ذلك الجيل لنفسه ولكفاحه؛ على سوءاته الكثيرة. رغم أنه يقرر أنه (ص 256) “عقب الاستقلال وضع من وصلوا إلى السلطة من ذلك الجيل الآلية الإعلامية تحت أيديهم فاستخدموها خير استخدام في رسم صورة مثالية لأنفسهم لتتلقفها أعين الأجيال اللاحقة.” فصارت الكتب والصحف، في رصد حقيقة تاريخ المبدعين، سواء بسواء. وعليه فإن المؤلف، يقر بوجود أزمة في الهوية السودانية، أزمة لا تعود إلى المستجدات الداخلية للمجتمع السوداني فقط، ولكن إلى التحولات التي عرفها السودان عبر التدخلات الخارجية، من مصرية وتركية وانجليزية، وتحول طرائق حياة الناس فيه وثقافتهم وأشكال تدينهم. لذلك، يبدي تحفّظاً إزاء هذه المؤثرات الخارجية، لأنها في نظره، ركزت على حواضر، أو جيوب ضيقة في هذه الحواضر، وأهملت الجانب الثقافي العام، وهو الأساس في تقديره.

إن سياق النقد التبريري، أو الدفاعي عن المبدعين، ربما يكون قد وسم روح المعالجات النقدية العامة لكثير من النقاد، الذين تناولوا سير الهاربين من المبدعين، غير أنه وصف لا ينطبق بتمامه على مواقف الكاتب، ولا على الطريقة التي عالج بها كل حيثيات الهرب. إذ نجده يسترسل في أسلوب عرض ماتع ناقد مواقف المبدعين من المجتمع وانسحابهم المذموم من أقضية الواقع، ويستبسل في الدفاع عن هذه المواقف، ولكنه يدحضها، أي هذه المواقف، حين تميل إلى تبرير اللامبالاة والانحراف، ولا تجتهد أكثر في البحث عن الحقيقة، ويخالفها عندما تنزع لإنكار الأحداث التي تشكل الواقع، أو إنكار طبيعة الأحداث التي تتناقض مع وجهات نظرها حول تفسير هذا الواقع. والمبدعون التبريريون، بوجه عام، يتصفون في عرض بضاعتهم بالمداراة، وربما الخداع ومحاولة تبييض وجه قضاياهم، أو اختياراتهم الذاتية، باعتماد الانتقائية، وحذف الوقائع السلبية، والمبالغة في حجم وأهمية الوقائع الإيجابية، التي ينسبونها لأنفسهم، أو لمن يختارونهم أبطالا لقصصهم الحقيقية والخيالية. ويواجه المرء هنا دراسة مليئة بالتعريفات والأوصاف. فالظواهر تشرح حتى تموت، إذا سمح لنا القارئ بمثل هذا القول. ونلتقي فيها بقدر من الشروح لظاهرة الهرب، أسبابه وكيفياته، والمهارب وأفضلياتها، لدرجة قد تدفع قارئ النص إلى حال أشبه بالتعاطف مع المبدعين، بما في ذلك إقرارهم على بعض انحرافاتهم. بمعنى آخر، فإن التفسير يتحول بصورة خفية إلى تبرير، الذي لا أعتقد أن المؤلف أراده مدخلا للفهم.

لقد بدأ جلياً أن المؤلف معجب بالمبدعين، لأنه يُعتبر بكل المقاييس واحداً منهم، ويعيب على المجتمع ما عابوه، ويأخذ على جمود الحياة ذات مآخذهم عليها، ويتفق معهم على كل أسباب الهرب، ولكنه لا يقرهم على الهرب، ولامبالاتهم بقضية تغيير الواقع. ويؤاخذهم على تدليل الذات، والافتتان بمظاهر الحداثة. وحسب وصفه (ص 231)، “فقد كان طلائع المتعلمين السودانيين كلفين بـ”الفرنجة” وقد ظهر جلياً في ميلهم للأزياء الأجنبية (البدلة، والكرافتة، والقبعة، والطربوش) كما جد تلك النزعة أيضاً في استخدام الشوكة والسكين في الأكل الصورة الحداثوية كما ينبغي أن يكون عليه أهل الفكر والرأي بامتلاك “بار” في المنزل وباستخدام الغيلون، السكر، البارات، السفر، التعلق بمختلف مظاهر الحياة الحديثة.” ولكن للمؤلف وجهة نظر معارضة لهذا الكلف بمظاهر حياة المستعمر، إذ يقول إن الحرية الفردية والمسؤولية الفردية في الغرب حدثت بعد الثورة الفرنسية، وتبعتها شعارات الديمقراطية، التي انطوت على كثير من النفاق (ص 322) “والطريف حقاً أن قيام الديمقراطية في أوروبا لم يمنح بقية العالم الحرية والأمن. فالديمقراطية الغربية التي نشأت في أوروبا هي ذاتها التي غزت قارات العالم واستعمرتها بقوة الحديد والنار. وهي التي نهبت خيرات أفريقيا، وهي التي أبقت على أنظمة الفصل العنصري في أمريكا وجنوب أفريقيا حتى النصف الثاني من القرن العشرين! ومن ذلك يتضح أن حراك التحرير لا يشتمل بالضرورة كل جانب.” يكشف هذا الكتاب تلك الفجوة القائمة في الفهم في السودان بما يخص الإبداع، فمن جانب هو يمتلك للأدباء الذين صاغوا أنفسهم بأنفسهم. بل شغلهم “الوسواس الجنسي والنزعة الحسية”، كما بدأ في شعر الفصحى، ومثل تلك النزعة توفيق، مجذوب، الناصر، طمبل، (ص 236) “أما المحجوب فقد أسهم فيها بقسط أقل،” حسب تقرير المؤلف وتقديره.

لهذا، صارت طبيعة المجتمع السوداني، بكل تكويناتها، في تلك الفترة، محل تساؤل سيسولوجي أعمق من مجرد موقف من الفقه، أو مرحلة واحدة، أو اثنتين، من تاريخه الحديث، فقد ورد عن محمد أحمد المحجوب (ص 241) “وما كنا نخرج للحياة العامة إلا وكانت الصعاب في استقبالنا كأنما كنا على ميعاد. ووجدنا المجتمع على غير ما تعودنا أن نراه لا يرحب بالفكر الجديد ولا يقيم وزناً للمثل العليا، تحاك فيه الدسائس ويحجر على الحريات وتدور فيه حرب لا هوادة فيها ولا مهادنة.” وهنا، انتبه المؤلف إلى حقيقة هامة هي أن (ص 241) “النزاع بين الوطنيين، وبين المستعمرين لم يكن مختصراً في مجرد انتزاع السيادة على بلدهم من براثن الأجنبي، وإنما كان هناك أيضاً نزاع شديد مكتوم، ينصب حول المنصب والحياة، ورغد العيش.” واستمعت حديثاً للدكتور عبد الله علي إبراهيم، في ندوة عن المقاومة الوطنية للمستعمر، شهدتها الخرطوم قبل سنوات، إلى قولٍ منسوب للبروفسير عبد الله الطيب قال فيه “إننا حاربناهم لمناصبهم”، كناية عن استمرار إتباع مناهجهم والافتتان بهم بعد خروجهم.

فالسياسة السودانية الوطنية لخصت نفسها في الصراع حول “الوظائف العليا عقب الاستقلال مباشرة، فأصبحوا في عقدين من الزمان، قادة للوطن، ولكن بلا مشروع وطني، واضح المعالم. وقد وجد كثير منهم في الوظائف ما سبق أن تشهاه من طراوة وطلاوة وحلاوة، مقارنة بحالة فقر كان “يحيط بأهليهم إحاطة السوار بالمعصم”، حسب وصف الدكتور النور. وبهذه الوظائف المنتزعة من المستعمر، خلق كثير من أولائك الرواد عالمهم الخاص بهم، وأكثروا من الأسفار إلى الخارج. وغضوا بصرهم عن تحديات التحرير والتحديث، حتى دهمتهم الدواهي في نهاية المطاف.

رفض الوافد:

تنطلق المقولة الرئيسية في معالجة الكتاب لأمر الدين، الذي شكل قيداً مفترضاً على حرية المبدعين، من أن النظم الفقهية ذات البعد الواحد، والمرجعية الضيقة المتعالية للمؤسسة الدينية الرسمية، تحاول دائماً بناء ما يطلق عليه في العلوم الاجتماعية الدين السياسي بديلاً عن الدين الإلهي، الذي جاءت به الرسل. بيد أن الحاجة الروحية إلي الدين الإلهي الأصيل تجعل الناس يتجاوزون دين المؤسسة السياسية، ذا الطابع الأيديولوجي، لحل مشكلة هوية المبدع، وخلق التوافق بينه ونسق الاجتماع التاريخي للواقع، ومن ثم إحداث التواؤم بينه وبين حاجاته الخاصة وهواء الحرية الذي يتنفسه، وحاضره الذي يعيش فيه. وقد لاحظ المؤلف ما حاق بالمبدعين من تنازع حقيقي بين الدين، كحاجة روحية وثقافية، تعبر عن الهوية والوجود للإنسان والمجتمع في السودان، وبين المؤسسة الدينية الفقهية الرسمية المُستَجْلَبَة، التي يُقرر أنها وضعت نفسها في مواجهة كاملة مع الفن باعتباره قوة منطلقة، أو قل منفلتة، فيوصي بغير تردد بالإجهاز الكامل عليها والتخلص منها. وهذا النوع من التنازع هو الذي طرح مشكلات بائنة في الاجتماع والسياسة والثقافة والهوية، لا يزال السودان يعاني منها إلي اليوم، وسيظل يعاني منها، ما لم يصل الجميع لحل لمشكلة التضاد المزعوم بين الإبداع والسلطة الدينية، بحيث تعترف الأخيرة بالأول كمكون رئيسي للثقافة السودانية.

ويستند كثير من النقاد، في طرحهم لمسألة الإبداع إلى معطى آخر، هو موقفهم الأيديولوجي، الذي قد ينتهي بأي إنسان ملتزم بفكرة ما إلى الانقياد إلى العاطفة والهوى والذاتية وإقحام قناعاته الشخصية فيما يقرأ، وربما قادته إلى الخطابية والوعظ والتنظير. إذ صار في متن العرض لكل حادثة حديث يوزن بميزان المعايرة الشخصية. فرغم تعهد النور بمبدأ الموضوعية، والتزامه به إلى حد كبير، إلا أنه انطلق من فكرة بدأت قسماتها واقتباساتها واضحة في الكتاب، أي الفكرة “الجمهورية” للأستاذ محمود محمد طه، حيث لم يخف استحساناته الخاصة، التي بُنيت على مقاييس عاطفية متجاوزة، في بعض الأحيان، للنظرة الموضوعية لجودة إبداع المبدع، وما اعترافه بتفضيل محمد المهدي المجذوب، الذي انتمى لفترة من الزمن لهذه الفكرة الجمهورية، إلا شاهد يختصر جملة ما نقول. ومن المفارقة أن نرى المؤلف يستهجن مبدأ المنع لتقييد انطلاقة المبدع، تحت أي ذريعة كانت، بما في ذلك سلطة الدين والأخلاق، رغم ما هو معروف عنه من رسوخ تدينه ورفعة أخلاقة. كما أنه لم يستسغ المنح، أو الجزاء على الإبداع، حتى ولو كان لشخصية يحبها مثل المجذوب، عندما تم تكريمه من قبل الرئيس جعفر محمد النميري، حين قال (ص 330) “ولكن يبدو أن لكل نفس بشرية ارتفاعاتها وانخفاضاتها.” وذلك، رغم سعادة المجذوب واحتفائه بها، حين قال (ص 332) “الإنصاف جميل ومثلي منذور للحزن والصمت وراء ذلك التاريخ.”

ويَحْمِل المؤلف كثيراً على مدارس الفقه الإسلامي الوافدة، التي يقول إنها فشلت كمؤسسة دينية رسمية أن تكون بديلاً عن الإسلام الصوفي المتسامح. وجاء في الكتاب أنه حتى التصوف السوداني المتسامح تحول إلي ما يشبه المؤسسة الدينية في العهدين التركي والمهدوي. وجاءت فترتي ثورتي مايو (النميري) 1969 ويونيو (الإنقاذ- البشير) 1989، لتؤسسا لبداية جديدة في السودان، يقع الإسلام الرسمي في القلب منها. فقد  طرح التطبيق الذي تم لأحكام الشريعة الإسلامية، في فترة النميري خاصة، أسئلة كثيرة ظلت تقلق المؤلف لعدد كبير من الأسباب الخاصة والعامة. بيد أن أهمها، بالنسبة لموضوع الكتاب، هو العلاقة بين الإسلام والإبداع، بمعني هل يمكن أن يكون هناك إبداع في دولة إسلامية؟ والإجابة التقديرية في الكتاب تقول إن الإبداع يتعارض مع جذور التصور الفقهي، الذي طبقته حكومة جعفر النميري، وتطبقه الآن حكومة الإنقاذ.

وقد انطلقت خبرة الذين عارضوا التجربة المايوية من فهمهم أن العلاقة بين الدين والإبداع تقوم علي تغليب فكرة التسامح علي حقيقة الشريعة، بمعني أنهم ينطلقون من واقع استصحاب الإسلام لحاجات الناس المتجددة، ويحاولون الإصلاح من حيث يقف الناس، وهم بذلك يعبرون عما يطلق عليه “فقه الضرورة”، الذي يجد له “براحاً” واسعاً في الإسلام الصوفي المدني، وليس الإسلام السياسي الفقهي المؤسسي، أو بمعنى آخر، تفضيل أن لا يسمح للحقائق الدينية أن تُخَرِّب ما يرغب الناس في إبداعه. وبتعبير أدق، تجنب الانتكاس عن أصل الطبع الإنساني، أو كما يصفها النور (ص 326) “خاصة في حالة الردة الثقافية القائمة الآن التي أرجو أن نكون مارين بأخرياتها، يحس كمن يسير على البيض، إن هو أراد أن يتخطي بتعبيره وهن مشاعره أو حتى التعبير عن مشاعر شخصيته الروائية، الحدود التي رسمت لحرية التعبير الثقافية السائدة.”

لقد مارس المؤلف كامل حقه في الهجوم المستمر على الوافد التركي المصري و”النسخة الفقهية العثمانية”، بل تعدى الفقه إلى كل ما يقف دليلاً على الحقبة التركية في السودان، أي أَلْحَقَ المباني بالمعاني، غير أنه أعفى الأولى من سلطة التأثير في حين حَمَّلَ الثانية كل أرزاء التخلف الإبداعي. ورغم أن لنا موقفاً مختلفاً، تعضده دراسة متأنية للتاريخ، خاصة ما تعلق منه بالتجربة العثمانية في تركيا والسودان، وصقلتها تجربة عمل مباشرة في قصور العثمانيين “يلدز”، باحثاً في مركز الأبحاث للتاريخ والفنون والثقافة الإسلامية “إرسيكا”، باسطنبول، لا تقطع بما قطع به الدكتور النور، إلا أن الخوض في مثل هذا الاختلاف التاريخي لا تبتغيه طبيعة هذه المراجعة، ولأن التاريخ لم يكن غرض الكتاب الأوحد. فعندما تَحدثَ النور، في أكثر من موضع، عن مدينة سواكن التاريخية، الواقعة على البحر الأحمر في شرق السودان، عزلها طوعاً عن مثل التأثير المفترض للمدرسة الفقهية العثمانية، قائلاً (ص106) “فمن ينظر إلى مدينة سواكن يرى مدينة تركية عثمانية أصلاً وفصلاً. ومن يتأمل معمارها، وتركيبتها السكانية وثقافتها، لا تخطئ عينه الصورة الصارخة للوجود العثماني في السودان. ذلك الوجود الذي بقى هناك دون تأثير يذكر، على المحيط المجاور”. ومع المدينة أخذ حركة “قطار السودان” (ص 106) “وفي هذا دليل على أن سواكن لم تكن تحسب نفسها جزءاً من عالم السودان وهي بالفعل ليست جزءاً أصيلاً منه”.

وبهذا يكون القطار وسواكن المؤسستين التركيتين الوحيدتين اللتين انتزعهما من تهمة التأثير على المعاني والمباني، أو قلب طبيعة التصوف في السودان. ذلك التأثير الوافد (ص 113) “الذي تم حقنه قسراً،” ولابد من عزله، وتنقية الواقع من الطوارئ الوافدة ونبذ عملية “التلاحق”، والعودة للحالة السودانية الأصلية. فالسودان (ص109) “عاش تحت الحكم التركي لأربعة وستين عاماً، أعقبها حكم المهدويين الديني المتشدد لأربعة عشر عاماً أخرى”. والموقف الغاضب من العصر العثماني قاد المؤلف ليتبنى آراء، قد لا تجد من يُثنيها، مثل تبرئة مصطفى كمال أتارتورك مما لحق بسمعته من تهم معاداة الدين، بزعم أن تطرف أتاتورك كان ضد الثقافة العربية وليس الإسلام، وتعداه إلى ما يرقى لمستوى الإشادة باللورد اللينبي، غاصب القدس الشريف(ص252) “فالبعض يرى في فتح القدس عملاً منكراً وامتداداً لحملات الصليبيين على ديار المسلمين. في حين يراه البعض الآخر عملاً جليلاً يفتح للبلدان المستعمرة آفاقاً لم يكن لتنفتح لها من دونه.” بل أن مثل هذه المواقف دفعته (ص 196) إلى الحكم بأن تخلف “الثقافة السودانية التي سادت في العصر الكوشي والعصر المسيحي والعصر السناري، والتي بها تغيرت وضعية المرأة نتيجة لدخول الدين الإسلامي، وخاصة الفقه العثماني الذي وفد في القرن التاسع عشر، وما حمله كل ذلك من ثقافة أبوية”. وهنا حاكى الدكتور النور مواقف الكاتب والصحفي السوداني المعروف حسن نجيلة في رفضه المطلق للأتراك العثمانيين، قائلاً (ص 194) “فكلنا في ذلك الوضع نجيلة!”.

وإذا أقررنا بأن المهدية نفسها كانت بمثابة هرب من الوافد الحداثوي، بما في ذلك التركي العثماني والمصري، بل ربما محاولة هرب من الدنيا برمتها، لأنها جاءت بشعار” خراب الدنيا وعمار الآخرة”، وبغطاء صفوي واضح، إلا أن الذي ينبغي ملاحظته هو تكرار الإثارة بشأنها، وحشرها مع زمرة التشدد العثماني المحافظ في غير موضع، (ص 193)  و”باعتبارها سبب الهرب”. وفي المقابل، بدأ أن استقرار الحديث عن نهاية فصل لا ينتهي عن آثار المدرسة الفقهية العثمانية، قد أوجد حالة عشق أفلاطوني للمتخيل السناري، الذي لا تتوفر لدى القارئ السوداني مادة مكتوبة، أو محفوظة، تبرهن صحة التعلق به، بسبب ضعف المروي عنه. رغم أن الكتاب يقرر أن الصوفية السنارية المتسامحة عملت علي إنقاذ الإيمان واستمرار بقاء الإسلام، ثم الحركة الإبداعية في السودان، والتي مثلتها مدارس فكرية وفنية متنوعة تنطلق من الواقع الاجتماعي السوداني بشقية العربي والأفريقي. ويقول، بما معناه، إن السودان في حاجة إلى صوفية متسامحة كي يتشكل. وضمن هذا السياق من الطرح حول التصوف، نقرأ له (ص 322) “فالعشق والهيام والوله إنما هو عشق للجوهر، وذلك هو العشق بالأصالة. أما عشق الأنثى حاضرة كانت أم غائبة، فإنما هو عشق الحوالة. وما أكثر ما أندغم لدى المتصوفة وسائر المرهفين، قديم هذا الشأن في محدثه ومحدثه في قديمة.” وربما تكون هذه هي أحد المواقف الملاحظة للمؤلف، الذي لم يقل صراحة بوجود عدو، أو خصم له، يمثل جماعة سياسية معينة، رغم كثافة هجومه على كل الجماعات الإسلامية، من لدن التركية، مروراً بالمهدية، وكل الحكومات الوطنية، خاصة عهد النميري، ووصولاً إلى ثورة الإنقاذ الوطني، التي جاءت إلى السلطة في السودان في 30 يونيو 1989. وبالقطع لم يعف الطائفيين واليساريين من تهمة التسبب في تخلف البيئة السودانية المنغلقة أمام الإبداع، والطاردة للمبدعين. في حين حفل الكتاب بكثير من الثناء على التصوف، ونال من المؤلف الرضا على ما تميز به من تسامح.

ولم يتوقف عند بذل الثناء وحده، بل قرن بين بيوت التصوف والشعر (ص 219) “فالوجدان الصوفي والوجدان الشاعري مخلوقان من مادة واحدة، فيما أزعم”. ولكنه في الصفحة المقابلة (ص220) مباشرة ترد هذه العبارة “وربما يكون في عالم التصوف قد طردتهم بصرامته وجفافه ووحشيته وكثرة تكاليفه.” وهذا يذكر بحال سنار، التي هي في الكتاب مبجلة وغير مبجلة. الأمر الذي يطرح سؤالاً لم نتوفر على إجابة له في صفحات الكتاب، فإذا كان ما قد حل بالخرطوم من جفاف وتشدد وتزمت قد جاء، حسب زعم المؤلف، من القاهرة الخديوية، وبسبب من المدرسة الفقهية العثمانية، فلماذا أبقت القاهرة على حالها منفتحة تتيح متع الحياة للهاربين بلا رقيب وانغلقت الخرطوم؟ بل لماذا صارت مدن أخرى تحت الإدارة العثمانية، مثل بيروت، من أرحب مهارب المبدعين، ولم تعرف الأستانة، لا في ماضيها ولا حاضرها، قسوة الانغلاق؟

 

ملاحظات خاتمة:

أما وقد بلغنا بهذه المراجعة غاية الختم، فإننا نأمل أن تكون هذه القراءة باعثاً للرغبة على مطالعة الكتاب، ومثيراً في ذات الوقت لأكثر ما يمكن من الأسئلة النقدية ذات الصلة بأدب وإبداع الهاربين، الذي لقي غير يسير من الاهتمام في الرصد والتحليل في هذا الكتاب. فقد رأى  الدكتور النور أنه من الأحسن أن تتخذ المعالجة المنهج المتسم بالمرونة عوضاً عن أسلوب التعريض في شأن تحديد هوية هؤلاء المبدعين، وماهية إبداعاتهم، وذلك تفادياً لما ينطوي عليه التعريض من تصلب وجزم. ويعد النور هنا بمباحث كثيرة، ويلح على من ينبذ نفسه لها، من بينها، تجاهل العلمانيين للخطاب الديني (ص349) “فهو مبحث مركزي لا معدي من طرقه، طال الزمن أو قصر.” لأننا كثيراً ما (ص 366) “نستخدم العقل الجمعي غير الفاحص وغير المدقق، لنعلى ونروج به لكثير من القيم المادية.” وفي شأن النظر “للثقافة القابضة” علينا (ص367) “فهم الإشكالية وليس التندر.” كما يطالب بذلك في غير موضع من الكتاب.

والكتاب بهذا، فهو خلاصة نظرٍ متأنٍ في نصوص وسير كثيرة لمبدعين سودانيين كثيرين، كما أنه يؤشر لعلاقة المؤلف غير المباشرة بتجارب الهرب، ومن ثم فهو يعد إضافة لقراء العربية لأنه رؤية من الداخل وغوص في العمق السوداني، وهو محاولة لبناء جسر للتواصل والفهم بين عالم المبدعين والواقع، الذي هربوا منه، في وقت نحن أشد ما نكون فيه لهذه المصالحة في المجتمع، وفي أشد الحاجة إلي من يرعى تمثلها في الواقع وفي قناعات المبدعين. وقد استطاع المؤلف بالجد والمُثابرة أن يُحيل تجربته الخاصة، بكل يسرها وقسوتها، إلى دفء يسري في أوصال ليالي الإبداع السوداني الشاتية، فكان النتاج رائعاً مؤتلقاً، وهو خطوة في الاتجاه الصحيح لتحقيق هدف النقد الأدبي، الذي لا يمتشق النص وحده سلاحاً للتحليل ومادة لقراءة الحال العام. لهذا، كان لا بد يذهب المؤلف هذا المذهب، ويأخذنا من خلال النص إلى رحلة غوص رفيق في علاقات المبدع الخاصة، ميوله وسلوكه واستحساناته، ونشاطاته الثقافية، وقبل ذلك، بيئته السياسية، والاقتصادية، والوظيفية، ومجمل محيطه الثقافي والاجتماعي.

ويستحق الكتاب الاهتمام لسببين اثنين على الأقل: أولاً: هو يمثل في عرضه شريحة كبيرة من طليعة المبدعين السودانيين، وسير حياتهم. ويجمع الكتاب بين موضوعي تحولات الإحياء الثقافي والنظام الاجتماعي والسياسي في مراحله المختلفة، بدءً من الممالك القديمة، وعهد الدولة السنارية، مروراً بالعهدين التركي والمهدوي، وفترة الحكم الوطني، وتجربة نميري، وحتى وصول الجبهة القومية الإسلامية إلي السلطة، وإلي اللحظة الراهنة.

والسبب الثاني، وراء أهمية هذا الكتاب، هو أنه يكشف عن إفلاس البيئة السودانية المعاصرة، وعدم قدرتها على استيعاب طلاقة المبدعين، ولاسيما فيما يتعلق بحرية اللهو، وبالطبع حرية المرأة. ويرجع هذا الإفلاس بصفة أساسية إلى حقيقة واحدة: رفض المبدعين المعاصرين اتخاذ مواقف، بل ورفضهم الاعتراف بوجود الخير والشر كنوعين متميزين في المجتمع السوداني، لا يرتبطان بتوازن السلطات السياسية والاقتصادية العسكرية. وفي هذا المجال، فإن كل الأحكام، التي وفق بها المبدعون أسباب هربهم، قائمة من منطلق إطار القوة، إذ الأقوياء دائماً على خطأ، ودائماً أشرار، والضعفاء المغلوبون على أمرهم على حق دائماً.

وإذا كانت من ميزة إضافية لهذا الكتاب، فهي كامنة في طاقته الاستيعابية لأدق تفاصيل التجارب الإنسانية لمبدعين سودانيين خلفوا لنا آثاراً أدبية وإبداعية ثرَّة، ورحلوا عنَّا بغالب أسرارهم. وفي بعض الحرية والسرد المتسلسل، الذي انتهجه المؤلف في عرضه وتحليله، يستطيع القارئ أن يطمئن أن صورتهم الآن هي أوضح بكثير مما كانت عليه، إذ إن النصوص التي عالجها عكست بدورها بعض التاريخ الخاص لهؤلاء المبدعون. فقد لاحظ المؤلف ما قد انطوى عليه شعر الهاربين ونثرياتهم من ملامح كثيرة لأدبهم وإبداعاتهم وجوانب مجهولة من حياتهم، فتولى عنهم، من خلال الشعر والنثر والسير، تدوين تاريخهم الخاص، وحاكم أساليب حياتهم، ولا مبالاتهم، وانسحابهم من مهمة التغيير في المجتمع، وحاكم الجميع لتقاعسهم في تهيئة البئية الحاضنة لطاقات المبدعين. يقول الدكتور النور (ص 64) “إن هذه الكتاب لا يمثل مساءلة أو محاكمة لزمرة الهاربين …. بقدر ما هي محاكمة لنا نحن السودانيين أجمعين وبلا استثناء”. ولهذا، فإن هذا الكتاب، أي “مهارب المبدعين”، يمثل محاولة جادة وجديدة على طريق النقد الأدبي بمنهج الشمول الصحيح، وهو جدير بالقراءة والتنويه. وهو دعوة صادقة لكل المبدعين لأن يكتبوا بأحسن ما يسمعون، وأن يحفظوا أحسن ما يكتبون، ويتحدثوا بأحسن ما يعلمون، حتى يستطيعوا الإسهام في تغيير الواقع المأزوم، لا الهرب منه. وبهذا قال الدكتور النور حمد في كل صفحات كتابه، الذي قرأته بتأن ونظر فاحص، ولن أُصَدِّقَ نفسي وأَصْدُق الناس إن قلت إنني اتفق مع جمعيه، ولكن سأخون عقلي ووجداني إن زعمت إنني لا اتفق مع كثيره وغزيره، بل أدعوا الجميع للاطلاع عليه والإفادة منه.
_______

*الدكتور الصادق الفقيه.

دبلوماسي والأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي.

 

جديدنا