تشيرنوبل .. ريشة المُؤرِّخ بين أصابع الفنان

image_pdf

 

من المؤكد أنك سمعت عن هذا المسلسل “تشيرنوبل” الذي غزتْ أخباره المنصات جميعًا، وأذهل الناسَ هذا التصنيفُ المتقدَّم جدًّا؛ وتعجَّبوا: كيف يلقى مسلسل تصنيفًا رفيعًا للغاية فور بثّ حلقة واحدة منه؟! .. المسلسل من نوع “المسلسلات القصيرة” (miniseries) مُكوَّن من خمس حلقات فقط. نعم .. كانت خمس حلقات كفيلة بإحداث كل هذه الضجَّة! وتحليل هذا المسلسل يحتاج إلى كتاب، لا إلى مقال؛ لذا سأقتصر على إشارات أساسيَّة هي التي يطرحها العمل في مجموعة من النقاط المحددة الآتية.

المسلسل إنتاج أمريكيّ بريطانيّ مشترك. من تأليف “كريج مازن”، وإخراج “يوهان رينك”. وأدى أدوار التمثيل مجموعة من الممثلين الأوربيين. عُرضت الحلقات أول شهر مايو إلى أول يونيو عام 2019م. وقد حقق نجاحًا ضخمًا على الجانبين الجمهوريّ والنقديّ. تدور أحداثه حول كارثة المفاعل النوويّ الذي انفجر في أراضي “الاتحاد السوفيتيّ”، عام 1986م.

  • القضية الكبرى في هذا العمل:

كما عرفنا فالعمل يتناول حدثًا حقيقيًّا مشهورًا للغاية، أيْ أن العمل واضح المعالم -كما يبدو-. لكن المعضلة في هذا العمل أنه خليط غير عاديّ ما بين الدراما والتوثيق، ما بين الخلق الفنيّ وبين التأريخ الزمنيّ، ما بين ما تريده في عمل فنيّ، وما فُرِضَ عليك في واقع تايخيّ. إنّ القضية الكبرى التي يطرحها هذا العمل هي “ما هي العلاقة بين التوثيق التأريخيّ والعمل الدراميّ؟!”؛ أيْ أنّها طرحتْ هذا النقاش حول الخيط الرفيع بين ما هو دراما، وما هو تأريخ وتوثيق.

وبالعموم هناك نوعان في هذا الإطار:

-التوثيق الدراميّ: أو (الديكيودراما) وهو الاتجاه الذي يغلب عليه التوثيق مع بعض الدراما، أو التوثيق في شكل دراميّ. كتلك الأفلام التي تشاهدونها على القنوات الوثائقيَّة الكبرى، صاحبة الإنتاجات الضخمة. والتي تختار أنْ تقدِّم فيلمًا وثائقيًّا لكن في شكل دراميّ، ونراه في بعض التجارب الدراميَّة النادرة أيضًا.

-الدراما التوثيقيَّة: وهو الاتجاه الذي يكون فيه العمل دراميًّا، يتناول حدثًا حقيقيًّا قد يلتزم به كل الالتزام، وقد يخرج عنه بعض الخروج، أو الكثير منه. وهو النوع المعتاد الذي نراه في تصنيف “دراما، تاريخ”. في الخط العام للأفلام.

وهنا نسأل: من أيّ نوع من هذين مسلسل “تشيرنوبل”؟! .. بالقطع لو كان تابعًا لأحد هذين النوعين ما كنتُ عرضت هذا العرض، وما كان أصاب هذا النجاح المُدوِّي نقديًّا. العجيب أنه لا هذا ولا ذاك. إنَّه نوع وحده “بَيْن بَيْن”. حتى إنَّك -إذا أردت إحصاء الأنواع التي تدور حول حوادث تاريخيَّة- قُلْ: التوثيق الدراميّ والدراما التوثيقيَّة وتشيرنوبل. وهذه هي معضلة هذا العمل، وهذه هي قيمته. إنَّه فتح بابًا من أبواب الدراما بدا السحر الدراميّ فيه مسبوكًا سبكًا مُحكَمًا في انضباط الحكي التأريخيّ.

ولكي لا يبدو كلامي نوعًا من الشاعريَّة دون الجوانب العلميَّة سأصوغ ما فعله هذا العمل من خلط فائق بين التوثيق وبين الدراما.

أولاً: في الجانب التوثيقيّ: نجح العمل في استهداف توثيق الآتي:

-التوثيق لكافّة الجوانب العلميَّة المتعلقة بالحادثة. بما في ذلك شرح مُطوَّل في عديد الحوارات لفكرة المفاعل النوويّ، وكيفيَّة توليد الطاقة عن طريق الانشطار، وكيفيَّة عمل المفاعل عمومًا، وطرائق التحول في إدارته، والطرق التي يُؤمَّن بها أيّ مفاعل، وكيفيات هذه الطرق، وأيضًا حالات الطوارئ القصوى، وغير القصوى!! فلتتخيل هذا كله يدور ليس على قنوات الوثائقيَّات التي اعتدت أن تشاهدها، بل في عمل دراميّ. ولو قلت لك سنضع كل هذا في عمل دراميّ لتراجعتَ خوفًا من ضياع صبغة الفنّ فيه. ولكنْ ليت الأمر وقف عند هذا الحد!

-التوثيق الكامل لكلّ مظاهر الثمانينيات في العمل، بكل ما فيها. وإبداع الإخراج في هذا واضح كل الوضوح.

-التوثيق للأشخاص الذين تعاملوا مع الظاهرة بالواقعيَّة اللازمة لكل منهم، والاقتراب إلى أقرب حدّ في كل ما يتعلَّق بهم. وهناك شخصيَّة اعتباريَّة رمزيَّة واحدة هي شخصية العالِمة التي صنعوها لتمثيل جهود العشرات من العلماء وإخلاصهم في الكارثة.

-التوثيق لمراحل التعامل مع الكارثة شيئًا فشيئًا، وخطوةً فخطوة. حتى النجاة المؤقتة منها.

-هذا بالإضافة إلى كون المسلسل أصلاً يُروى بأسلوب “وميض الذاكرة”؛ حيث تمّ استقاؤه من مذاكرات رئيس العلماء المسئول عن التعامل مع الكارثة.

ثانيًا: في الجانب الدراميّ:

-خلق خطوط دراميَّة رفيعة، لكنَّها غنيَّة وبالغة التعبير عن الواقع المعيش في “الاتحاد السوفيتيّ”، وعن الجو المحيط بالكارثة، وعن كل ما أراد المؤلف بثَّه في المشاهد. هذه الخطوط أهمها: علاقة المسئول “شِربينا” نائب رئيس الوزراء في الاتحاد، والذي عُيِّن مسئولاً عن إدارة الكارثة. مع العالم الذي عُيِّن مشرفًا علميًّا ومستشارًا للمسئول بالاشتراك في إدارة الكارثة وهو الدكتور “فاليري ليغاسوف”. وخط علاقة عامل الإطفاء الذي تورَّط في الكارثة مع زوجته. وخط العالِمة دكتور “أولانا كوميك” -وهي الشخصيَّة الرمزيَّة- وجهادها المُستمِيْت المخلص لمواجهة الأمر.

-خلق تكوينات دراميَّة صغيرة، لمْ تتعدَّ حدّ الحلقة الواحدة، مثل الشاب الساذج “بافل”، والجندي المُحنَّك “باتشو” الذين ظهرا في الحلقة الرابعة. وذلك لمزيد من تعميق المأساة، وصُنع مساحات للتأكيد على أفكار المسلسل.

-التطور الناجح للغاية في تنمية هذه الخطوط الدراميَّة، وتغذيتها. وهذا التطور هو ما أكسبها تعاطف المشاهدين بقوة عند خطوط النهاية.

-الأهمّ في الجانب الدراميّ هو طريقة صنع الدراما، أو -بالأصح- طريقة إبراز هذه الخطوط الدراميَّة. فالمؤلف قد نسج هذه الخطوط على نول المسلسل في الخفاء، وبكل إجادة وحرفيَّة. بدأ بالإظهار، والإظهار فقط في الحلقة الأولى، ليعطي حجمًا أكبر من الاهتمام للحدث نفسه، لا للشخوص. ثمّ بدأ النسيج يتكوَّن في صورة دراميَّة لمْ تطغَ على الأحداث في أيَّة مرحلة، بل كانت داعمة لها، ومُولِّدة للأفكار المُحلِّلة لبناء الدولة في “الاتحاد السوفيتيّ”.

هكذا كانت الدراما، وهكذا كان التوثيق في العمل الفنيّ القدير “تشيرنوبل”. وهذا هو صنف “تشيرنوبل” الجديد في الدراما.

  • التميُّز الإخراجيّ الفائق:

إنْ قرأتَ كل ما سبق وقلتَ: كل هذا في البنية والتأليف فأين دور المُخرج؟! .. إن دور المخرج يكمن في كل ما سبق. فمن أين لنا أن نعلم كل ما سبق إنْ لمْ يكن الإخراج على هذه الدرجة الفائقة من الجودة، وإتقان الصنع؟! .. إنَّ كل ما سبق من دراما يحتاج إلى رؤية إخراجيَّة مُسيطرة، ومبدعة، وشديدة الرهافة الفنيَّة لكي تخرج لنا كل ما علينا أن نراه. لمْ يقتصر دور المخرج فقط على إنجاح التوثيق الكامل لكل السابق. من عصر، ومعامل، ومحاكاة رائعة التكوين لآثار الإشعاع المتدرّج على البشر -دون هذا الأسلوب المتسرِّع الذي تمتاز به الدراما العاديَّة-. بل على بث الروح في كل عناصر العمل، بما فيها التكوين الموسيقيّ، باعتبار المخرج ذا خلفيَّة موسيقيَّة واسعة.

  • عبقريَّة المُلصَق الترويجيّ:

اشتهر المسلسل بملصق ترويجيّ ذاع صيته. في رأيي أنه اختيار شديد الذكاء. المُلصق لرجل من عمال التطهير يضع الدروع التي تغطي كامل جسده، ويضع الكمامة الحاجبة لكل الوجه والعينيْن، ويمسك في يديه آلة الرشّ التطهيريّ. ويتمثّل الذكاء في اختياره:

-أنه ركَّز على الجانب الإنسانيّ لا على الكارثة. أيْ لمْ يختر صورة حقيقيّة أو مُخترعة للمفاعل أو لأحد آثاره، أو للبلدة مثلا، بل للإنسان.

-أنَّه أراد به إطلاق الرصاص على النظام السوفيتيّ الذي هو نفسه هذا الرجل المُطهِّر. الرجل الذي يتعامل مع الكارثة بارتدائه ما يخفيها عن عينيه، وعن عيون الآخرين. إنَّه مثال للاتحاد السوفيتيّ نفسه، وطريقة تعامله التي عُرضت في العمل نفسه.

  • الموسيقى والمكياج:

عمليَّة صنع الموسيقى في هذا المسلسل كانت مماثلة للإدارة الذكيَّة والفائقة التي تمَّتْ بها بقيَّة عناصره. وقد تكوَّنت الموسيقى فيه من:

-مزيج متناغم من أصوات الأبواق، وصافرات الإنذار، وبعض دقات آلة “البيان” الثنائيَّة على حركتَيْنِ من الصوت الحادّ. كل هذا الخليط ظهر في مستويات عدَّة من أول المستوى المُدوِّي، إلى مستوى الهمس. ليخلق الجو المناسب لكل مشهد ومرحلة.

-استخدام الصمت كنوع من أنواع الموسيقى! لا تعجبْ .. نعم هناك استخدام للصمت كنوع من أنواع موسيقى العمل. إنّ الصمت هنا لا يعني عدم اللجوء إلى موسيقى مُصاحبة للعمل، لا بلْ اللجوء للصمت كأحد أدوات موسيقى العمل. وهذا يؤكِّده الوعي الموسيقيّ الذي صاحَبَ العمل كلَّه، وكذلك استخدام للائق مع طبيعة ما يُقدَّم. إنَّها الكارثة .. وحيث الكارثة يصبح الصمت موسيقى.

أمَّا عن المكياج فحدِّثْ -كما يُقال- ولا حرجَ. أمَّا أنا فسأصمت لأدع مشاهد الحروق وآثار الإشعاع تتحدث؛ فقد أحسنتْ الحديث.

-بعض أهمّ المشاهد الرمزيَّة:

-مشهد العالمة د/ أولانا كوميك مع المسئول الشيوعيّ الذي كان من طبقة “البروليتاريا” -أيْ طبقة العُمَّال في الثقافة الماركسيَّة-.

-مشهد لقاء عُمَّال المحاجر الذين لا تراهم من الغبار مع وزير الطاقة بملابسه الناصعة.

-مشهد الجنديّ -ساعة الإخلاء- مع السيدة العجوز الرافضة للخروج من قريتها.

-مشهد الدودة الخضراء على يد “شربينا”.

والكثير والكثير من المعاني والأفكار والرمزيات التي سطَّرها الفنان حينما تناول ريشة المؤرِّخ بين أصابعه. وهنا أورد قول العالم د/ فاليري ليغاسوف: “كل كذبة نرويها تدِيْنُ للحقيقة بدَيْن .. عاجلاً أمْ آجلاً سيُسدَّد ذلك الدَّيْن”.

جديدنا