محمد عابد الجابري في “مدخل إلى القرآن الكريم”

image_pdf

ارتبط النقد الابستمولوجي المعاصر بالفكر العربي محمد عابد الجابر، ورغم إسهامات وقراءات المفكّرين العرب الآخرين، فإنّ ما يميِّز قراءة الجابري هو تعدّد أدواته النقديَّة ومرجعيّاته، وتنوّع اهتماماته، التي تمتدّ من هموم الواقع المعاصر، كإشكاليّات الديموقراطيَّة، والإصلاح والنهضة، إلى الغوص في التراث الفكري، وتعقيدات المذاهب، والفرق، والصراعات السياسيَّة في الفكر العربي والإسلامي. وتمثّل ذلك في مشروعه الأساسي “نقد العقل العربي” في أربعة أجزاء. وفي غمرة ردود الأفعال على هذا المشروع، خصوصًا الجزء الرابع “نقد العقل الأخلاقي”، توقع المتابعون لمشروع المفكِّر الجابري أن يكون الجزء الخامس قراءة في العقل الجمالي، أو العقل العلمي، إلا أنّ المفكِّر العربي فاجأ الجميع فأصدر الجزء الأوّل من كتاب”مدخل إلى القرآن الكريم” عام 2006، والجزء الثاني عام 2008.

وكعادته، لا يتوقّف الجابري عند ردود الأفعال، ونادرًا ما ردّ على الانتقادات الموجّهة لأفكاره، رغم غزارة الردود، ووجاهتها العلميَّة، وخطورتها الأيدولوجيَّة، ومثل مشروع المفكِّر العربي جورج طرابيشي “نقد العقل العربي” في أربعة أجزاء أيضا، أهمّ تلك الردود، والذي أعاد إشكاليَّة بحث الجابري إلى نقطة الصفر.

وقد ساهمت سابقًا في نقد وتحليل بعض إشكاليّات ومفاهيم ومرجعيّات الجابري، إلا أنّ الكتاب الأخير”مدخل إلى القرآن الكريم” الجزء الأوّل، والذي جاء على غير العادة بعيدًا من اهتمام الجابري الأصلي بالفلسفة والتراث، وإشكاليّات الفكر العربي المعاصر، جاء مخيّبًا للآمال، فلم يكن مطابقًا لمنهج الجابري، ولا لمصادره واستراتيجيّاته في القراءة، ولا يحتوي على الجدّة والجديد الذي يحفِّز على النقد والمساجلة.

وللتدليل على ذلك، سأتوقَّف عند بعض النقاط خصوصًا المصادرات المنهجيَّة اعتد المفكّر الجابري تقديم كتبه المهمّة بمقدّمات منهجيَّة وملخص ختامي نقدي لتحديد البدائل وآفاق المستقبل، وفي تلك المقدّمات يبيّن أولا المناهج والدراسات السابقة التي تناولت الموضوع، وبيان أسسها وقصورها المنهجي، ثمّ يعرض منهجه وشبكة مفاهيمه التي عمل على تطويعها لتناسب إشكاليّات الفكر العربي القديم والحديث، وبيان أصولها في الفكر الأوروبي الكلاسيكي والمعاصر، وتمثّل ذلك في أهمّ إصداراته الفكريَّة “الخطاب العربي المعاصر” و”نحن والتراث”، و”نقد العقل العربي”، حيث خصَّص لكل جزء منه مقدّمة منهجيَّة كاملة، وأخيرًا مقدّمته في كتابه الجديد “مدخل إلى القرآن الكريم”، إلا أنّه في هذه المقدّمة أحال القرّاء إلى المقدّمات المنهجيَّة السابقة، لتكون مفاتيح فهم مقولات وأفكار الكتاب الجديد، والذي سيكون في شكلٍ أو بآخر ممارسة نظريَّة تطبيقيَّة لتلك الأفكار المنهجيَّة، ومن الكتب التي يحيلنا إليها في مقدّمة “مدخل إلى القرآن الكريم” المقدّمة الطويلة والعميقة لفهم التراث في كتابه “نحن والتراث” الذي يبدأ بنقد المناهج الفكريَّة المعاصرة، لأنّها في مجملها قراءات ماضويَّة وأيدولوجيَّة، مثل القراءة السلفيَّة التي أنتجت فمهًا تراثيًّا للتراث، وانتهت إلى أنَّ مستقبل العرب يكمن في ماضيهم، وما عليهم إلا استعادة هذا الماضي وإحياء قيمه المجيدة.

وهناك القراءة الليبراليَّة، التي تعتمد على المعطى الفكري الأوروبي في أصولها ومناهجها، وعملت على إخضاع التراث الفكري الإسلامي للمناهج الغربيَّة، وتفرّعت عنها القراءة الماركسيَّة التي تعاملت مع الجدل والماديَّة كمنهج مطبق تبحث عنه وعن تجلّياته في التراث الإسلامي، ولهذا فجميع هذه القراءات كما يخلص الجابري قراءات لا تاريخيَّة تعتمد قياس الغائب على الشاهد.

ويقترح الجابري لتجاوز تلك العثرات وأوجه القصور قراءة التراث والنصّ التراثي بطريقة جديدة مغايرة للسابق، لجعل المقروء التراثي معاصرًا لنفسه على صعيد الإشكاليَّة والمحتوى المعرفي والمضمون الأيدولوجي، وفي نفس الوقت معاصرًا لنا، على صعيد الفهم والمعقوليَّة، ونقل المقروء إلى اهتمام القارئ، ما يسمح بتوظيف التراث في إغناء ذات القارئ وإعادة بنائها. فقراءة الجابري إذًا قراءة مزدوجة تقوم على الوصل والفصل، فجعل المقروء معاصرًا لنفسه، يعني فصله عنّا وإمّا جعله معاصرًا لنا فمعناه وصله بنا، وهدف الجابري من ذلك تحرير التراث من كلا الرؤيتين القاصرتين التراثيَّة والليبراليَّة. أمّا كيف يتمّ وصل القارئ العربي المعاصر بتراثه، فيجيب الجابري بالحدس كرؤية استكشافيَّة تستبق النتائج، وأساسها جدل القارئ والمقروء.

وتفرتض تلك المقدّمات النظريَّة في حال تطبيقها في دراسة ظاهرة القرآن الكريم أن تكون معاصرة لنفسها ومعاصرة لنا في الوقت نفسه، والهدف الأساسي من إستراتيجيَّة الجابري الجديدة ومقدّماته النظريَّة في قراءة القرآن الكريم هي الكشف عن التأويلات الأيدولوجيَّة الفلسفيَّة والسياسة التي ابتعدت عن العقل القرآني لترتمي في أعماق اللامعقول الغنوصي والعرفاني الذي أشار إليه في قراءاته التاريخيَّة البنيويَّة للعقل العربي في الجزء الأوّل والثاني، وأمّا الهدف الثاني فهو التأكيد على أنّ الإسلام هو دين العقل “فما يميِّز الإسلام رسولًا وكتابًا عن غيره من الديانات، هو خلوّه من ثقل الأسرار التي تجعل المعرفة بأمور الدين خارج تناول العقل، ممّا يجعل المعرفة الدينيَّة من اختصاص فئة قليلة من الناس وحدهم رؤساء الدين ومرجعيّاته ورعاته والبقيَّة رعيَّة ومقلّدون، وأمّا الرئيس الأوّل المؤسِّس للدين فيوضع في الغالب في مرتبة بين الألوهيَّة والبشريَّة وأحيانًا يرفع إلى مستوى الألوهيَّة وأمّا النصوص الدينيَّة فتعتبر رموزًا مليئة بالأسرار لا يتولّى تأويلها وفكّ ألغازها إلا العالمون بفكّ الرموز وتأويل الأحلام”.

وأمّا الهدف الثالث لقراءة الجابري، فهو تحقيق الحداثة والتجديد من خلال إعادة الانتظام في التراث وإعادة بناء علاقتنا به بصورة حداثيَّة، فالحداثة كما يقول الجابري تبدأ باحتواء التراث وامتلاكه، لأنّ ذلك وحده هو السبيل إلى تدشين سلسلة من القطائع معه، وإلى تحقيق تجاوز عميق له لصناعة تراث جديد متّصلا بتراث الماضي على صعيد الهويَّة والخصوصيَّة.

تلك هي أهمّ المصادرات المنهجيَّة التي طبّقها الجابري في دراسة الظاهرة القرآنيَّة فما هو الحصاد المعرفي والتجديد الذي أنجزه في قراءته الجديدة؟ وهل التزم الجابري بمصادراته وبمقدّماته كما يقول النصّ نفسه. فكيف يمكن نقل هذا النصّ ليكون معاصرًا لنا؟ وهل تجاوز الجابري القراءات السابقة على غزارتها وعمقها خصوصًا عند العلماء الأجلاء دارسي علوم القرآن؟ وهل استطاع تطهير التفسير من اللامعقول والإسرائيليّات والخوارق التي لا يصدّقها عقل؟

ومن الأهمّيَّة بمكان التنويه باستدراك الجابري لجسامة المهمّة فهو كما يقول ” لا يدّعي طرح جميع الأسئلة التي طرحت من قبل ولا جميع الأسئلة الجديدة التي يمكن أن تطرح لأنّ ادّعاء الاستقصاء في هذا المجال غرور لا يركبه إلا الجاهل” ولكنّه يعد القارئ باطّلاعه على أجوبة غير قطعيَّة ولا نهائيَّة عن أسئلة تولّدت لديه من خلال اطّلاعه على الأسئلة التي طرحها كثير من القدماء حول الظاهرة القرآنيَّة والخروج من شرنقتنا، علمًا بأن شرنقتنا نفسها ليست سوى واحدة من حلقات تاريخنا الثقافي، ولحظة من لحظات تطوّر وعينا.

لقد أقدم الجابري على مغامرة فكريَّة، وعلى رغم إحساسه بالتحكّم والسيطرة على موضوعه، فالنهايات المنطقيَّة لقراءة الظاهرة القرآنيَّة بالمناهج والاستراتيجيّات المعاصرة ستكون مغايرة تماما لتصوّر الجابري وفرضيّاته المبدئيَّة، وهذا ما عبَّر عنه إحساسه الضمني من خلال تجاهل أخطر معطيات المنهج الاستشراقي في تناول القرآن، وأمّا الخيار الثاني الذي حاول تحاشيه فهو استنساخ وتكرار القراءات السابقة، فآثر لا شعوريًّا السقوط في شبكة القراءات القديمة، والارتهان لبنيتها المفاهيميَّة، فكرَّر من حيث لا يدري، واقتحم أبوابًا مفتوحة، فعلى مدار 130 سنة من الدراسات القرآنيَّة، وهي أهمّ معالم الحضارة العربيَّة الإسلاميَّة، حيث تجاوز عدد عناوين الكتب الموضوعة في الفقه، والكلام، والتفسير، والبيان، لم يضف الجابري شيئًا جديدًا، فناقش ما ناقشه القدماء، وحسم ما حسموه من معنى أميَّة النبي، والإعجاز، والتثليث، والناسخ، والمنسوخ، وترتيب القرآن، وجمعه والقراءات السبع، والحنفية، والوحي، والنبوّة، وغيرها. وبالتالي فلن يجد القارئ إلا خيبة أمل، فما انتهى إليه الجابري، ابتدأ به كبار العلماء والمفسّرين والمتكلّمين واللغويّين في علوم القرآن كالجرجاني، والزركشي، والقرطبي، والسجستاني، والسيوطي، وغيرهم، ولم يتجاوز قراءات المحدّثين أمثال حسن حنفي، ومحمد أركون، وهي قراءات على جانبٍ كبير من الحدّة، والصرامة والمنهجيَّة والشيء المميّز لقراءات هؤلاء أنهم أكثر جرأة وصراحة في تناول النصّ، وتعرّضوا للمسكوت عنه، الذي لم يقترب منه الجابري.

وأمّا أغرب المفارقات المنهجيَّة في التطبيق على الظاهرة القرآنيَّة،فهي مقولته جعل المقروء معاصرًا لنفسه ومعاصرًا لنا في الوقت نفسه، وهي ما نادى به كثير من علماء الإسلام، بجعل القرآن يشرح بعضه بعضًا، ليكون هذا النوع من التفسير كما يقول “سلاحنا ضدّ الوضع سواء كان بدافع الترغيب والترهيب أو بدوافع مذهبيَّة أو سياسيَّة وهو سلاحنا أيضًا ضدّ الإسرائيليّات وأنواع الموروث القديم السابق على الإسلام” وتحوّلت عقلانيَّة الجابري الرشديَّة فجأة إلى سلفيَّة، فمقولة القرآن يفسِّر بعضه بعضًا على رغم تداولها عند الكثير من المفسّرين، إلا أنّها مقولة ابن تيمية الحراني الحنبلي، شيخ السلفيَّة الذي كفر وبدع الفلاسفة والمنطق، ورفض القياس والعقل والمجاز في لغة القرآن، وتوقّف عند الدلالات المباشرة، واستعاد التشبيه والتجسيم، وأعلنها حربًا ضدّ الفرق والمذاهب والديانات الأخرى والفلسفة. وما زالت حربًا فكريًّا بين السلفيَّة والفرق الأخرى، كالأشاعرة حول العقل والنقل، وقد كان الأولى بالجابري الانسجام مع منطلقاته الفكريَّة، والاعتماد على مصدرٍ آخر أكثر عقلانيَّة كما أنّ التجديد من الداخل، الذي هو هاجسه، والذي أوصله في شكل أو بآخر للسلفيَّة وابن تيميَّة، هو بشكلٍ أو بآخر خيانة للعقلانيَّة الرشديَّة التي اعتمدها الجابري بدايية للردّ على التفسيرات، والتأويلات الضارّة والضالة عند المتكلّمين، والصوفيَّة، وفلاسفة الغنوص.

خلاصة القول إنّ الجابري لم يقدِّم شيئًا جديدًا في كتابه الأخير، ولم ينجح بتطبيق مصادراته المنهجيَّة في كتابه الجديد”مدخل إلى القرآن الكريم”.

_________

* الراصد التنويري/ العدد الثالث (3)/ يناير- كانون الثاني 2009.

 

 

جديدنا