أزمة الخطاب الإسلامي: إلى متى نستبدل الذي هو أدنى بالذي هو خير؟

image_pdf

قراءة في أطروحات المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي

 

سيكون هذا المقال – بحول الله- تأطيرا لسلسلة من المقالات تعالج إشكاليَّة الخطاب الإسلامي كما يراها المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي؛ انطلاقا من مجموعة من الأسئلة تحاول محاصرة وتطويق الإشكاليَّة؛ أسئلة من قبيل ما هو الخطاب الإسلامي؟ وهل هو الخطاب الإلهي؟ وما هي الحدود الفاصلة بين الخطابين؟ وهل كان لتلك الحدود دور في خلق الإشكاليَّة، أو في تضخمها واستمراريتها؟

لا شك في أن الخطاب الإسلامي يعيش إشكاليَّة -إن لم تكن أزمة- كبرى، ولا شك أن هذه الإشكاليَّة/الأزمة ضاربة في التاريخ الإسلامي، وضاربة -كذلك- في الأنساق الثقافيَّة؛ إذ تكاد تبدأ قبل دفن النبي صلى الله عليه وسلم، حين خاطب المهاجرون الأنصار: منا أمير ومنكم أمير؛ لتبدأ صناعة النص الموازي واستغلاله؛ حيث تقول المرويات إن أبا بكر وعمر رضي الله عنهما قالا إن النبي (ص) قال “قدِّموا قريشا ولا تقدّموها” ليأخذ هذا الاستغلال -بعد ذلك- أكثر من وجه وأكثر من منحى؛ ليتحول “الإسلام” إلى عشرات الطوائف؛ لكل طائفة عقيدتها وفقهها ومرجعيتها.. تلك الاختلافات التي تذهب حد تكفير بعض تلك الطوائف لبعض وإخراجها من ملة الإسلام.

شكل هذا الإرث الثقيل -مع التراكم- أداة لتحريف الخطاب الإسلامي قبل تأزيمه، فلم يعد -كما نرى- خطابا واحدا؛ بل أضحى كتلة خطابات، لكل منطلقاتها الخاصة ومروياتها الخاصة؛ لأن المنطلق لم يكن -أو لم يعد- الخطاب الإلهي.. فكيف تجلى ذلك؟ وكيف ساهم -وفق المفكر علي الشرفاء- في هذا التأزيم؟ وكيف ظل التأزيم سيارا لقرون طويلة؛ دون أن تجدي كل المحاولات في إنهائه أو-على الأقل- التخفيف منه؟

ينطلق المفكر علي الشرفاء – في أطروحاته-:من مسلمة بسيطة ومختصرة أساسها أن عناصر الخطاب الإسلامي “المأزومة” هي عناصر خطابات بشريَّة، وأن الخطاب الإلهي (القرآن) الذي يفترض أنه -وحده- أساس الخطاب الإسلامي كان مغيبا -أو مُحوّرا عن طريق المزج بين النص والتأويل- لدوافع متشعبة ومتعددة عن ذلك الخطاب.. من هنا فإن “المأزوم” أو الذي تحول إلى إشكاليَّة ليس الخطاب الإسلامي بما هو خطاب إلهي أنزله الله على عبده محمد (ص) وبلغه للبشريَّة كما أُنزل عليه؛ دون تحريف من زيادة أو نقصان؛ وإنما المأزوم مرويات ملفقة أتى بها بشر أسندوها -بدوافع ذاتيَّة- إلى رسول الله، والمتتبع لتاريخ الأديان يدرك جليا أن التلفيق على الأنبياء والرسل كان -دائما- القناة المثلى لتحريف الأديان وتشويهها؛ ذلك التحريف الذي تكلم عنه القرآن وسب فاعليه { مِنَ الَّذِينَ هَادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَوَاضِعِهِ وَيَقُولُونَ سَمِعْنَا وَعَصَيْنَا وَاسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَرَاعِنَا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَطَعْنًا فِي الدِّينِ ۚ وَلَوْ أَنَّهُمْ قَالُوا سَمِعْنَا وَأَطَعْنَا وَاسْمَعْ وَانْظُرْنَا لَكَانَ خَيْرًا لَهُمْ وَأَقْوَمَ وَلَٰكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلَا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا } النساء، الآية46.

فتعالوا بنا لنرى -مع المفكر علي الشرفاء- كيف استطاع أولئك الرواة، أو استطاعت تلك المرويات، أن تؤسس لخطاب جديد مغاير -في الأغلب- للخطاب الإلهي، وتمت تسميته -تجوزا- بـ”الخطاب الإسلامي”؟

يوضح علي الشرفاء كيف كان النبي (ص) حريصا كل الحرص على كتابة الوحي، من خلال استكتاب عشرات الكتبة؛ بل إنه لم يدخل الإسلام كاتب قط -في حياته -صلى الله عليه وسلم- إلا واستكتبه، ولم يكن يأتيه الوحي إلا واستدعى كل الموجودين من كتابه؛ من هنا كُتب الوحي كله، ولم يأمر أولئك الكتبة بكتابة “حديث” واحد.

وتُدحض هذه المرويات حجيتها بنفسها؛ إذ تقول إنه لم يكتب حديث واحد في زمن النبي (ص) وأن أيام أبي بكر كُتبت صحيفة أو اثنتان، فلما تولى عمر الخلافة حرق كل الذي كُتب من الحديث؛ بل -أكثر من ذلك- تقول تلك المرويات إن عمر نادى على أبي هريرة (ومن المعروف أنه من أكثر الذين تنسب لهم تلك المرويات) ناداه عمر وأغلظ عليه القول بأن يترك “الكذب” على رسول الله، بل وضربه بدرته، وتضيف نفس المرويات أن أبا هريرة لم يرو بعد ذلك -عن النبي (ص)- طيلة حياة عمر.. فهل يمكن اتهام عمر على إرث رسول الله؟

إن أمرا يدفع عمر بن الخطاب لإغلاظ القول لصحابي جليل، بل وضربه لأمر جلل.. إنه أدرك خطورة مثل تلك المرويات على دين الله الذي ارتضاه، من هنا ترك عاطفته جانبا، وتصرف بعقله؛ انطلاقا من ضميره الديني ومسؤوليته السياسيَّة؛ وهي أشياء كانت متقدة فيه دائما؛ إذ كان لا يلوي بالا في الحق للومة لائم.

يضاف إلى ذلك ما خاطب الله به رسوله في أكثر من موضع من القرآن، موضحا فيه دور الرسول الأمين وعلاقته بالرسالة (القرآن الكريم) إذ لا يعدو ذلك الدور التبليغ والتبيين يقول الله تبارك وتعالى {  يَا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ مَا أُنزِلَ إِلَيْكَ مِن رَّبِّكَ ۖ وَإِن لَّمْ تَفْعَلْ فَمَا بَلَّغْتَ رِسَالَتَهُ ۚ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ ۗ إِنَّ اللَّهَ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكَافِرِينَ } المائدة، الآية 67.

ويقول جل وعلا { وَأَنزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ } النحل، الآية 44.

فهل من “التبليغ” كتم نصوص ستظهر بعد وفاة النبي (ص) بقرنين؟! أم من “التبيين” الإتيان بنص مغاير وموازي للنص المراد تبيينه؟! كل ذلك، والله تبارك وتعالى قد قال { الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَأَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَرَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلَامَ دِينًا } المائدة، الآية 3.

فهل يمكن أن يكون الدين أُكمل ونحن لا نزال سنرى -بعد قرنين تقريبا- مئات الكتب وآلاف المرويات؟! حين نأخذ بتلك المرويات فإن معنى ذلك أن هذه الآية (تعالى الله عن كل افتراء) نزلت والدين لم يكتمل؛ لأنه “لن يكتمل” إلا في القرن الثالث الهجري وبعد وجود البخاري ومسلم والترمذي والنسائي وابن ماجه وأحمد وأبي داود… وغيرهم.

هل نصدق آيات ربنا، أم نصدق الرواة؟

لا أعتقد أن الإجابة على هذه الأسئلة تحتاج كبير عناء ولا كثير تفكير.. لقد آمنا بإله واحد، بعث لنا رسولا واحدا.. هكذا يضع المفكر “الحمادي” اللبنة الأولى للإجابة على إشكاليَّة “الخطاب الإسلامي” موضحا كبير المغالطة التي أنتجتها تلك المرويات، والتي كانت نواة لتحريف هذا الخطاب (قبل تأزيمه) تحريفه في مضامينه ومقاصده؛ وحتى في شكلياته ومنطلقاته.. فكيف تجلى ذلك التحريف في المضامين؟ وكيف انطبق – أيضا- على الأشكال؟

إذا كانت المرويات -وفق المفكر- لبنة كبرى ومهمة في تحريف الخطاب الإسلامي وتشويهه قبل تأزيمه؛ فإن التعامل مع المدارس التأويليَّة للخطاب الإلهي (القرآن الكريم) وتلك النظرة القداسيَّة لها شكلت اللبنة الثانية (الأهم) في سرح تأزيم هذا الخطاب؛ إذ أصبح التفسير جزءا من النص يحمل كل خصائصه القداسيَّة؛ مفترضين أن آراء القرطبي -مثلا- صالحة لكل زمان ومكان (مثل القرآن حاشى) متناسين أن الفكر البشري والاستنتاج البشري مرهونان بفضائهما الثقافي، وبالأسئلة الإبستمولوجيَّة المطروحة في سياقهما المعرفي.

هكذا يتضح لنا أن الخطاب الإسلامي -في إطاره العام- عانى مشكلتي تحريف وتأزيم، تمثلت الأولى في خلق النصوص الموازيَّة (المرويات) وتجلت الثانية في محاولة الربط العضوي بين الخطاب الإلهي وتفسيره؛ الخطاب الإلهي المطلق المحفوظ، والتأويل البشري النسبي المتحول.

بعد هذا الاستفتاح -الذي نحاول من خلاله تأطير أطروحات المفكر علي محمد الشرفاء الحمادي- سنحاول تفكيك الإشكاليَّة؛ لتحويلها إلى مجموعة من القضايا، نتناول كل واحدة منها في مقال مفصل، نسبر خلاله أغوار القضيَّة وأبعادها وجذورها والحلول.. كل ذلك انطلاقا من أطروحات علي الشرفاء حول الخطاب الإلهي.

________
*رئيس مركز تسامح لنشر فكر التعايش والسلام.

 

جديدنا