الفكر الإسلامي؛ من حداثةٍ ماضية إلى تخلُّفٍ معاصر

image_pdf

يتمتَّع مسلمو اليوم بحريَّة تعبيريَّة كبيرة خصوصا مع سهولة استخدام وسائل التواصل الاجتماعي التي أتاحت للجميع فرصة التعبير إما عن طريق التدوين على صفحاتهم الخاصَّة أو نشر مقاطع فيديو هادفة أو ساخرة… كما أنها تمكِّن الإنسان المعاصر –الحرّ- من النقاش وتبادل الآراء والاختلاف حولها في شتى المجالات [من سينجح في الانتخابات؟ من يستحق تولّي عرش الحكم؟ المدونة فلانة أخطأت بالتعامل مع الشركة كذا…] إلى غير ذلك من المواضيع الحياتيَّة. لكن ينهار عرش الحريَّة وتسودّ ألوان التسامح وتقبُّل الاختلاف في أغلب المواقف إذا كان موضوع النقاش عن الدين أو بالأحرى عن ما اعتُبر الثوابت الدينيَّة، فأغلب المسلمين باختلاف هندامهم [ترتبط بعض الأزياء بالإسلام] وباختلاف توجّههم لن يوافقوك إن انتقدت مسألة فقهيَّة أو خالفت حكما [بشريّا] قُدِّس باسم الإجماع، ستجمع سخط محاوريك وقد ينقلب الحوار إلى جدال وعراك.

لكن إذا رجعنا للماضي المفتقر للتكنولوجيا ووسائل التواصل وكل ما يظهر أنه حريَّة وحداثة، سنجد أن إمبراطوريَّة حريتنا وهم عظيم، فالتراثيّون الذين يعتقد الأغلب أنهم ماضٍ وتراث تجاوزناه لم نصل إلى ربعه على الأقل على مستوى حريَّة الاعتقاد والتعبير والانتقاد، فالبخاري  ومسلم والفقهاء الأربعة والأئمة وغيرهم من رموز اليوم الذين لا يمكن الاقتراب منهم لقدسيتهم ومكانتهم الدينيَّة كلّهم تعرَّضوا للدراسة والنقد من القدماء بشكل طبيعي لأنهم بشر مجتهدون قد يصيبوا ويخطئوا، لكن أين نحن من هذا؟

بعض من ملامح الحريَّة الماضية:

كما سبق الذكر، تمتَّع القدماء بحريَّة في اعتقادهم وفي اجتهاداتهم المرتبطة بالدين الإسلامي بشكل نسلم ونستدل به على أنه تراث غني زاخر تطرَّق لكل المسائل التي تؤرقنا اليوم، فهم خالفوا بعضهم وانتهجوا طرقا متمايزة بشكل طبيعي يضمن لهم حقّهم.

قد يقول قائل: القدماء عاشوا السجن والتعذيب وأدّوا ثمن حريتهم الفكريَّة بسلب حريتهم الفيزيائيَّة وتعذيبهم وإلى غير ذلك من التصرفات اللاإنسانيَّة، فعلا عاش القدماء [الذين قدِّسوا اليوم] أمثال الإمام ابن حنبل(241ه) محنة السجن ولكن ارتبطت محنتهم بالهيمنة السياسيَّة فقد هوجم لأنه خالف المعتزلة في أفكارهم [خصوصا قولهم بخلق القرآن] وعذّب بسبب تقرّب هؤلاء من السلطة التي كانت تؤمن بمعتقدات الاعتزال، إلا أن مذهبه قَوي بعد أن تسلَّح بالسلطة في عهد المقتدر بالله (289ه) لدرجة أنهم تسببوا في مقتل الإمام الطبري(ت310ه) ومنعوا دفنهم في مقابر المسلمين، فقد دفن في بيته عقابا له لأنه لا يرى أن المذهب الحنبلي مذهبا، ففي كتابه “أسباب اختلاف الفقهاء” لم يورد فقه ابن حنبل وإنما اكتفى بفقه أبي حنيفة ومالك والشافعي لأنه حسب وجهة نظره ابن حنبل محدث وليس فقيها [لا يتأسَّس مذهبه على فكرة].

ومن بين هؤلاء العلماء الذين خالفوا السائد المقدَّس وسلكوا طريق الاجتهاد والدفاع عن الرأي وتبريره، ابن حزم الظاهري[1] الذي أنكر إجماع الفقهاء وقال: لا إجماع غير إجماع الصحابة. فمصادر التشريع عند أبي محمد بن حزم هي:

  • الكتاب: القرآن الكريم.
  • السنَّة النبويَّة.
  • إجماع الصحابة: وفي هذا يقول ابن حزم: “فصح بيقين لا مريَّة فيه أن الإجماع المفترض علينا اتباعه إنما هو إجماع الصحابة رضي الله عنهم فقط”.
  • الدليل: وهو أمر مأخوذ من الإجماع أو النصّ.[2]

يقول ابن حزم (ت456ه)”فإن وجد في نفسه ممَّا قضاه رسول الله صلى الله عليه وسلم في كل خبر يصحّحه ممّا قد بلغه، أو وجد نفسه غير مسلمة لما جاءه عن رسول الله صلى الله عليه وسلم ووجد نفسه مائلة إلى قول فلان أو فلان، أو إلى قياسه أو استحسانه، أو وجد نفسه تحكم فيما نازعت فيه أحدا دون رسول الله… فلم يعلم أن الله تعالى أقسم وقوله الحق أنه ليس مؤمنا… وليعلم أن كل مقلد من صاحب، أو تابع، أو مالكا، أو أبا حنيفة، والشافعي، وسفيان، والأوزاعي، وأحمد، وداوود، رضي الله عنهم، متبرئون منه في الدنيا والآخرة ويوم يقول الإشهاد. اللهم إنك تعلم أنا لا بحكم أحدا إلا كلامك وكلام نبيك… ولو أسخطنا بذلك جميع من في الأرض وخالفناهم، وصرنا دونهم حزبا، وعليهم حربا….”[3]

يقول: “أدخل قوم في الإجماع ما ليس فيه، وقوم عدوا قول الأكثر إجماعا (…) وقوم قول الصاحب المشهور المنتشر، إذا لم يعلموا له من الصحابة مخالفا، وإن وجد الخلاف من التابعين فمن بعدهم، فعدوه إجماعا(…) وقوم عدوا قول أهل المدينة إجماعا، وقوم عدوا قول أهل الكوفة إجماعا. وقوم عدوا اتفاق أهل العصرين على أحد القولين أو أكثر، كانت للعصر الذي قبله إجماعا…”[4]

تمتع ابن حزم بجرأة وحريَّة دفعته لإنكار إجماع غير إجماع الصحابة رضي الله عنهم خصوصا الإجماع الذي لا نص شرعي له! فمن فرط الحريَّة التي تمتع بها قال بكل بساطة: إن الإجماع بلا نص باطل ثم ما أدرانا أن الكل مجمع متفق، يبقى الاختلاف وارد فربما لم يصلنا الرأي المخالف أو أننا لم نتوصل بعد إلى نقطة نختلف حولها، وهذا يبين لنا مدى السماحة والموضوعيَّة التي تمتع بها ابن حزم، يقول: “ونحن لم نخالفهم على صحة الإجماع وإنما خالفناهم في موضعين من قولهم، أحدهما: تجويزهم أن يكون الإجماع على غير نص. والثاني: دعواهم الإجماع في مواضع ادعوا فيها الباطل، بحيث لا يقطع أنه إجماع بلا برهان، إما في مكان قد صح فيه الاختلاف موجودا، وإما في مكان لا نعلم نحن فيه اختلافا إلا أن وجود الاختلاف فيه ممكن. نعم! وقد خالفوا الإجماع المتيقن…”[5]

نستفيد مما سبق أن الاختلاف ضروري وأن الإجماع كمفهوم مسلم به اليوم غير موجود، وهذا ما أكده ابن حزم بافتراضه عن إمكانيَّة جهلنا بالآراء التي خالفت ما اعتبر إجماعا أو عن عدم توصلهم إلى نقطة الاختلاف فقد يتطور الفكر وتناقش المسألة من زوايا جديدة. وبالتالي الإجماع ليس إجماعا خصوصا وأن الاختلاف وتعدد الآراء في فهم القضايا الدينيَّة ليس بأمر غريب.

قليل من أزمتنا الفكريَّة اليوم:

كما هو الحال في كل العصور؛ الاختلاف سمة بشريَّة رافقت الإنسان منذ بدايته ولا زالت، وبما أن سمة الفضول والقلق مشترك إنساني يتشاركه الناس باختلاف انتمائهم العقائدي أو اختلاف مستواهم الثقافي أو الاجتماعي، فأغلب الأطفال –إن لم نقل الكل- تساءلوا عن الله ومكانه، وعن النجوم والسحاب التي تتبعنا وتتعقبنا وما إلى ذلك، المهم أن قلق الإنسان وسعيه لمعرفة حقيقة الوجود والله يظل محورا يدور حوله الجميع. ومن بينهم؛ المتخصصون في علوم الدين والمفكرون الذين يدرسون بدورهم هذه العلوم وينتقدون ما يجب انتقاده ويتوسطهم المتلقي الذي يقرأ لهما معا. وخير مثال على هؤلاء الأصفاف الثلاثة [أي من يمثل اتجاه الدين والمفكر المنتقد والمتلقي] هو ما قرأته أنا مؤخرا [باعتباري أنا المتلقي الذي يقرأ للطرفين] باحث فلسطيني [يمثِّل الاتّجاه الأول] يرّد على الباحث المغربي رشيد أيلال صاحب كتاب “صحيح البخاري نهاية أسطورة”.

المتلقي الذي ينتقل بين كتابات الطرفين طبيعي أن يميل إلى أحدهما على الأقل في مسألة معينة، لأنه حتى وإن ضبطنا أنفسنا على الحياد والموضوعيَّة لابد أن نوافق فلانا على هذا ونخالفه على ذاك.

من بين ما وقف عليه أيلال في دراسته: غياب نسخة أصليَّة بخطّ البخاري رحمه الله، وبعد دراسة وافية مستفيضة يبين  من خلالها كيف قُدِّس كتاب الصحيح ونُمِّطت فكرة أنه أصح كتاب بعد القرآن الكريم دون بحث أو دراية حتى إني فوجئت أنا شخصيا عند معرفتي أن بين البخاري وشارحه[6] قرونا عديدة، يقول: “إن اختلاف نسخ أو روايات صحيح البخاري، لمن الأمور التي لا تقبل الجدل ولا يمكن أن ينكرها أي باحث، واختلفت هذه الروايات اختلافا كبيرا بشكل لا يمكن تجاهله، وإن حاول ابن حجر وغيره التقليل من شأن هاته المسألة لكن اختلاف النسخ له دلالة قويَّة، على أن صحيح البخاري الذي بين أيدينا لا يمكن الجزم بنسبته للشيخ محمد بن إسماعيل البخاري، بل الاختلاف في هاته النسخ لمن الشواهد القويَّة، التي تبرهن لنا على براءة البخاري من هذا الكتاب، كما أن ذكرهم لحقيقة أن هاته النسخ جاءت مختلفة من أشخاص انتسخوا كتاب البخاري من نفس المخطوطة، وهذا مستحيل أن يتقبّله العقل الراجح، لكن الشيوخ لا يرون أي مشكل في تقبل هذا التناقض”.[7]

استغرق كتاب “صحيح البخاري نهاية أسطورة” من صاحبه ست عشرة سنة من البحث والتتبع؛  توصَّل فيها الباحث إلى نتائج معينة قدم دلائل تؤكدها من بينها أنه لا وجود لنسخة بخطّ البخاري أو بخطّ أحد تلامذته أو تلامذة تلامذته، يقول في خاتمة دراسته بعد أن استدل بالعديد من الحجج والبراهين: “… فلا وجود لمخطوطة واحدة، أو حتى جزء من مخطوطة لصحيح البخاري بخطّ محمد بن إسماعيل البخاري، ولا وجود لمخطوطة واحدة أو جزء من مخطوطة لنفس الكتاب بخط أحد تلامذة البخاري، ولا وجود أيضا في العالم أجمع لمخطوطة واحدة أو جزء من مخطوطة لتلامذة تلامذة البخاري… وحتى أولئك الذين يظَن أنهم من أوصلوا لنا صحيح البخاري أو نُقل عبرهم إلى باقي الأجيال، يؤكدون على أن ما ألفه الشيخ البخاري هو كتاب لم يكتمل(…) ومن كتب شيوخهم الذين يعتبر كلامهم فيصلا في هذا الباب، أنهم تصرفوا في ذلك الكتاب الذي مات البخاري دون أن يكمله، بالإضافة والبتر وجمع هذا إلى ذاك…”[8]

الردّ على كتاب “صحيح البخاري نهاية أسطورة”:

تعرَّض صاحب هذه الدراسة إلى هجوم شرس من أصحاب التيار الديني، فقد اتهموه بالجهل والتحريف والتطاول على علم شريف ليس من اختصاصه، كما سخروا من لحنه وأخطائه اللغويَّة آخدين من عدم إكمال الباحث دراسته الأكاديميَّة لأسباب اجتماعيَّة حجَّة على جهله، ولم يكلف أحد من هؤلاء نفسه لدراسة الكتاب وردّ الحجة بالحجة، كلهم أخذوا من إمبراطوريَّة حريتنا –التي قلنا عنها سابقا- وسيلة سهلة لنشر فيديوهاتهم محرِّضين المتلقي البسيط على تجنب الإنصات لمثل هؤلاء متشبثين بمثالهم الأوحد الذي يوحد بينهم على اختلاف تخصصاتهم [فقه/ تفسير/ حديث…] هل يمكن للفقيه أو المحدث أن يقوم بعمليَّة جراحيَّة لمريض! قاصدين أن لكل مجال طلابه وعلماؤه، مغفلين أن الدين فردي مشترك إنساني يحق لأي أحد أن يبحث ويتساءل فيه.

ردّ الشيخ سعيد الكاملي في أحد مجالسه قائلا: إن مثل هؤلاء لا يناقشون ولا يُقرأ لهم، كما ردّ الشيخ الفيزازي بحدَّة وعنف ناعتا الباحث بالسفيه والجاهل و…، ومن بين الردود التي تجاوزت مقاطع الفيديو إلى الكتابة والنقد الباحث الفلسطيني “نبيل بن أحمد بلهي” الذي ألَّف “التفنيد لشبهات أيلال رشيد حول صحيح البخاري”، يقول: “فلما بحثت عن اسم المؤلف في الشبكة العالميَّة إذا به صحفي عقلاني ينتمي إلى طائفة القرآنيين (منكري السنة) ركب موجة تنوير العقول، فأوصته إلى نكر المنقول (…) يتستَّر خلف القرآن الذي لا يحسن حتى النطق به نطقا صحيحا –كما سمعته في بعض تسجيلاته المرئيَّة-، ويقول: بيننا وبينكم كتاب الله، لا حلال إلا ما حله ولا حرام إلا ما حرمه… وهو في الحقيقة من أبعد الناس عن هدى القرآن ومنهج القرآن في كلامه وسمته…”[9]

ويظهر جليا أن لا اختلاف بين ما كُتب وما قيل فهو الآخر يتحجَّج بالنطق والأخطاء النحويَّة! هل نناقش الأفكار أم الأشخاص؟

أيلال انطلق من الكتاب وتتبعه ولم ينطلق من البخاري كشخص فلماذا يُنتقد هو لذاته ولا ينتقد كتابه؟!

“حين قرأت العنوان لأول وهلة، انقدح في ذهني قول الله تعالى عن الكفار المعاندين للوحي الرباني-بادي الرأي- {وقالوا أساطير الأولين اكتتبها فهي تملى عليه بكرة وأصيلا}[الفرقان:05]. وقوله تعالى:{وإذا قيل لهم ماذا أنزل ربكم قالوا أساطير الأولين}[النحل:24]… فقلت الطيور على أشكالها تقع، فكما قال معاندو القرآن بالأمس هو أسطورة لا غير، فهذا معاند عصرنا يقول عن الوحي المحمدي الذي جمعت زبدته في صحيح البخاري أسطورة، فما أشبه الليلة بالبارحة؟!”.[10]

ما يثير الاستغراب هنا هو إسقاط أيلال وهو مسلم يؤمن بالله ورسوله واليوم الآخر على من كفر من الأولين بالله واليوم الآخر، كيف نساوي بين منتقد لكتاب [وإن اعتبره البعض مقدسا لا خطأ فيه] بمن ينكر وجوده عز وجل؟ أليس هذا تضليلا وكذبا؟ أم جهلا وخلطا؟!

يضيف بعد حديثه عن إجماع الأمَّة حول الصحَّة قائلا: “فإما أن تكون الأمَّة قد ضلَّت حين اتفقت على صحَّة البخاري، أو أن يكون رشيد ومن معه من القرآنيين، قد ضلَّوا حين زعموا أحاديث البخاري أكاذيب الأولين… “[11]

يرد على قول أيلال بأن كتاب البخاري تعرَّض للانتقاد والمراجعة منذ ظهوره قائلا: “لم يكن هذا الكتاب في يوم من الأيام مثارا للجدل إلا عند أهل الأهواء والبدع، أمَّا أهل العلم أصحاب الصنعة الحديثيَّة إنما انتقدوا أحرفا يسيرة كالداراقطني في (الإلزامات والتتبع)، وجزئه في (أحاديث أودعها البخاري في كتابه الصحيح) جلها في الصناعة الإسناديَّة، ولم يقل الدارقطني عن حديث واحد أنه منكر أو مكذوب أو أنه مخالف للقرآن أو العقل”.[12]

إذا تأملنا كلام الباحث نجد أنفسنا أمام مجموعة من التناقضات، فهو يقول إن القدماء أمثال الدارقطني انتقدوا [الصناعة الإسناديَّة] ولم ينتقدوا المتن، ولكن أليس انتقاد الرواة مشكلا في حد ذاته؟ لأنه لو نقل الحديث عن مدلس أو كذاب كيف لي أن أعتبره دينا لا نقاش فيه ومن نقله مشكوك في أمره خصوصا وأن بين البخاري ووفاة الرسول سنين كثيرة [183 سنة]! الجواب ببساطة هو إحالة الحديث على القرآن الكريم الذي لا ريب فيه وعلى الفطرة السليمة والإنسانيَّة التي وهبنا إياها خالقنا عز وجل فحديث سحر الرسول الوارد في صحيح البخاري حتى وإن صح سنده فهو يتعارض مع الآيَّة الكريمة {يا أيها الرسول بلغ ما أنزل إليك من ربك وإن لم تفعل فما بلغت رسالته والله يعصمك من الناس إن الله لا يهدي القوم الكافرين} [المائدة: 67]

وبالتالي بديهي أن يرفض العديد من المسلمين هذا الحديث الذي يقول إن الرسول سُحر عدة شهور لدرجة أنه يخيّل إليه أنه فعل الشيء ولم يفعله والعكس صحيح، إذا أخدنا بهذا الحديث فأين عصمة الرسول من الناس الواردة في القرآن؟!

رد على مقارنة أيلال لحديث [أمرت أن أقاتل الناس حتى يشهدوا أن لا إله إلا الله وأن محمدا رسول الله…] ببعض الآيات الكريمات مثل: {لا إكراه في الدين فقد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع حكيم} [البقرة:256] وقوله سبحانه: {ولو شاء ربك لآمن من في الأرض كلهم جميعا أفأنت تكره الناس حتى يكونوا مؤمنين} [يونس:99] قائلا: “هذا تهافت وضرب للأدلة بعضها ببعض، وسوء فهم لمقاصد القرآن، وعدم ربطها بسيرة النبي عليه السلام، وقد سبقك لهذا جماعة من القرآنيين والعقلانيين (…) والجواب على هذا من وجوه: الوجه الأول: المقصود بكلمة الناس في الحديث [أمرت أن أقاتل الناس] هم المشركون دون أهل الكتاب الذين يقبل منهم الجزيَّة، قال العيني: قال الكرماني: [والناس] أريد به عبدة الأوتان دون أهل الكتاب؛ لأن القتال يسقط عنهم بقبول الجزيَّة… لا يمكن أن نتصور أن يقع التناقض بين كلام الله والوحي المنزل على رسوله، فلم يبق إلا أن يتهم الفهم القاصر بإحداث هذا التعارض، ونحن إذا تدبرنا الآيَّة في ضوء ما قاله المفسرون في تفسيرها ثلاثة أقوال كلها لا تتعارض مع مضمون الحديث: الأول: أن الآيَّة خاصة في قوم من الأنصار كان لهم أولاد هودوهم ونصروهم، فلما جاء الإسلام أرادوا إكراههم عليه، فنهاهم الله حتى يكونون هم من يختارون الإسلام… القول الثاني: أن الآيَّة خاصة بأهل الكتاب لا يكرهون على الدين، بشرط أن يدفعوا الجزيَّة ويقرون على دينهم… والثالث: أن الآيَّة منسوخة نزلت قبل أن يفرض القتال وهو قول زيد بن أسلم وعبد الله بن مسعود”[13]

ما أثار استغرابي هو استخدام الباحث لمصطلح “قرآنيون” أو “عقلانيون” على أساس أنها مسبة أو تنقيص! خصوصا وأن القرآن المصدر الأول الذي تأخذ منه العبادات والتشريعات والأحكام عند المسلمين –حتى وإن قدست آراء فقهيَّة فيها بعد إلا أنها تبقى في مرتبة أدنى من القرآن والسنة كما أنها تنهل منها للاجتهاد في الإفتاء…-.

كما أن الباحث أصر على صحة الحديث واستدل بكل الآراء والاختلافات الماضية فمجموعة قالت إن الآيات التي تنهي عن الاعتداء والقتال نسخت –تبريرا لجهاد الطلب والغزوات- ومجموعة أخرى قالت إن المقصود بالناس الكفار وليس أهل الكتاب الذين يدفعون الجزيَّة؛ رغم أن مسألة كبيرة كهذه لو صحت لحدد الرسول صلى الله عليه وسلم الفئة المقصودة لأنه يعلم –مما لا يقبل الشك- أن هذا تشريع سيتمر،  أما الفئة الأولى فقالت إن المقصود هم أبناء نصارى ويهود أرغموا أولادهم على الإسلام فنهاهم الله ورسولهم لأن الإسلام يجب أن يكون عن قناعة واختيار!

هنا أقف مستغربة مرة أخرى إلى أي حد تمتع القدماء بحريَّة الاختلاف والتأويل لدرجة أننا نستدل اليوم باختلافاتهم بكل فخر ولا ننتصر لإحداها، فالباحث لتفنيد قول أيلال [الرسول لا يمكن أن يَرد عنه حديث يخالف المقاصد العليا لكتاب الله عز وجل] تسلح بكل الآراء والاختلافات التي تنوعت ووصلت إلى اعتبار الآيَّة منسوخة.

من هنا تكشف الصورة واضحة:

  • لا حق للمعاصرين في التعبير والاجتهاد في المسائل الدينيَّة دون شتم واتهام وتسفيه.
  • يستدل المخالف لحريَّة التعبير باختلاف القدماء وتنوع آرائهم، وهذا يتعارض وما يؤمن به، فهو يناقض مبدأه؛ إذا كانت كتب الحديث والفقه لا مجال لمراجعتها وانتقادها فلماذا اختلف القدماء ولماذا يُستشهد بخلافهم لدحض الرأي الجديد.
  • تمتع القدماء بحريَّة لا نتمتع بها اليوم، لأن النقاش والاختلاف كان مسلّما به وليس جدلا غريبا يجب أن نقضي عليه كما اليوم.

________________

[1] أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد بن حزم بن غالب بن صالح بن خلف بن معدان بن سفيان بن يزيد الأندلسي القرطبي، (384هـ/456هـ)، أكثر العلماء تصنيفا بعد الإمام الطبري، إمام حافظ فقيه ظاهري، متكلم أديب شاعر فقيه عالم برجال الحديث.

[2] (محمد عبد الله) أبو صعيليك، أعلام المسلمين، الإمام ابن حزم الظاهري إمام أهل السنة، الناشر دار القلم- دمشق، الطبعة الأولى 1415ه/1995م، ص 71.

[3] (أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد) بن حزم، الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، الجزء الأول، دار الكتب المصريَّة، ص 99/100.

[4] مراتب الإجماع في العبادات والمعاملات والاعتقادات، للإمام الحافظ ابن حزم الظاهري، عنايَّة أحمد حسن إسبر، الناشر دار ابن حزم، بيروت-لبنان، الطبعة الأولى 1419ه/1998م، ص 26.

[5] الإحكام في أصول الأحكام، تحقيق الشيخ أحمد محمد شاكر، الجزء الرابع، ص 131.

[6]  شهاب الدين أبو الفضل أحمد بن علي بن محمد بن علي بن محمود بن أحمد بن أحمد الكناني العسقلاني ثم المصري الشافعي ولد بتاريخ 22 شعبان 773هـ، وتوفي أواخر ذي الحجة سنة 852هـ، من ألقابه الحافظ وشيخ الإسلام، هو شارح صحيح البخاري في كتابه “جمع الباري شرح صحيح البخاري”.

[7] (رشيد) أيلال، صحيح البخاري نهايَّة أسطورة، الناشر دار الوطن، الطبعة الأولى 2017، ص 169.

[8] (رشيد) أيلال، صحيح البخاري نهايَّة أسطورة، الناشر دار الوطن، الطبعة الأولى 2017، ص 179.

[9] (نبيل بن أحمد) بلهي، التفنيد لشبهات أيلال رشيد حول صحيح البخاري، وهو نقضه لكتابه: صحيح البخاري نهايَّة اسطورة، الحلقة الأولى، الطبعة الأولى 1439هـ، ص3.

[10] التفنيد لشبهات أيلال حول صحيح البخاري، مرجع سابق، ص 6.

[11] التفنيد لشبهات أيلال حول صحيح البخاري، ص 7.

[12]  المرجع السابق نفسه، ص8.

[13] المرجع السابق نفسه، ص 33/34/35.

جديدنا