أيديولوجيا التفوّق المدرسي ومشكلة إعادة الإنتاج في الأنظمة التعليميَّة المعاصرة

image_pdf

بالرغم من كون التعليم في الدولة الحديثة يرفع شعار تكافؤ الفرص، ويروّج لأديولوجيا الاستحقاق والأحقيَّة، إلاّ أنّ واقع الممارسة يشي بعكس هذا الشعار، حيث التفاوت الاجتماعي سيّد الموقف. فالأصل الاجتماعي الطبقي هو ما يسمح بالنجاح من خلال ما يوفّره من شروط ماديَّة تساعد على تحقيق التفوّق الدراسي موضوعيا. يؤكّد الواقع أنّه كلّما كان الانتماء الطبقي / الاجتماعي مرفّها وذا خلفيَّة ثقافيَّة حديثة، إلا وكان سببا مباشرا في تحقيق الرأسمال الرمزي المساعد للمتعلّمين على تحقيق النجاح والتفوّق. العكس يحدث أيضا عندما يكون هذا الأصل الاجتماعي فقيرا ومتواضعا وأقل من المتوسّط كما هو عليه الحال لدى الفئات الهشّة الضعيفة في المجتمع، حيث الشروط الموضوعيَّة والذاتيَّة لتحقيق التفوّق في زمن تسليع التعليم منعدمة تقريبا.

وعندما نضيف إلى هذا المعطى الاجتماعي المعطى المؤسَّساتي، فلسوف نلحظ، كما تحدّث عن ذلك عالم الاجتماع بيير بورديو، أنّ أفعال الترسيخ (actes de consécration) المؤسّساتيَّة التي تقوم من خلالها المؤسَّسات التعليميَّة على شرعنة طبقيَّة التفوّق الدراسي،[1] ومن ثمّ الشروع في إعادة إنتاج نفس التفاوتات الاجتماعيَّة الواقعة أصلا في المجتمع.[2] لقد انخرطت البيداغوجيات المعاصرة على تحليل سلوك التخلّف المدرسي، واضعة في الاعتبار دور المعلِّم والمتعلِّم في تحقيق النجاح وتجاوز العوائق البيداغوجيَّة التي تحول دون ذلك. غير أنها، من جهة أخرى، عادة ما تسكت عن هذه الخلفيَّة الاجتماعيَّة لصالح الأبعاد السيكولوجيَّة والثقافيَّة، ممّا يفسّر كونها نفسها ليست سوى أدوات أيديولوجيَّة لتكريس العنف الرمزي من خلال الممارسات البيداغوجيَّة المقنّعة (حسب تصور بورديو).

لقد اتَّضح بموجب عمليَّة الترسيخ هذه أنّ النظام التعليم الفرنسي، مثلا، ينزع نحو فرض ثقافة الطبقة المهيمنة على الفعل التربوي، وذلك اعتبارا من كونها هي الأفضل والأمثل للمجتمع، رغم أنّه ليس هناك أي مبرّر لاعتبارها الأفضل حقّا. إن فرض ثقافة النخبة المهيمنة من خلال المدرسة يعيد مساءلة الوظيفة الأيديولوجيَّة للتربيَّة والتعليم، فإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي القائم أصبح واقعا معاشا تكرّسه الاعتبارات التبريريَّة للأيديولوجيا الرسميَّة التي تعمل المؤسّسة التعليميَّة على تصريفه.

تقع خلف هذه المعضلة السوسيولوجيَّة خلفيَّة اجتماعيَّة ماديَّة، سبق أن فسّرها ماركس بنظريته الفلسفيَّة – الاقتصاديَّة حول الصراع الطبقي. صراع يعود إلى إرادة استدامة الفئات المحظوظة في المجتمع لهيمنتها وتوريث معظم الخيرات الموجودة لأبنائها، وأيضا إلى عمليَّة الترسيخ التي تشرعن بها المدرسة لهذا التفاوت وتبرير إعادة إنتاج نفس الواقع الاجتماعي القائم. وحسب تحليل بورديو، ينقسم هذا الترسيخ الذي تمارسه الأدوات البيداغوجيَّة الرسميَّة في الواقع الاجتماعي إلى ترسيخ ضمني عبر الطرائق البيداغوجيَّة التي تتمّ بها العمليَّة التدريسيَّة (التعليميَّة التعلميَّة)، وترسيخ صريح من خلال عمليَّة التوجيه التربوي التي تفرز متعلّمين متفوّقين وآخرين فاشلين. يعمل النمطان من الترسيخ على تكريس هيمنة أرستقراطيَّة النخبة التي يعمل النظام التعليمي على فرزها، بالتالي تتم عمليَّة إعادة إنتاجها بنجاح لتتسيّد الواقع الاجتماعي عبر أصلها الاجتماعي المساعد لها.

إنّ إنتاج نخبة المجتمع في المدرسة يمرّ عبر عمليَّة تحويل قاسية، حيث يلزم المؤسَّسة التعليميَّة الانخراط فيها القيام بها حتى تتمّ عمليَّة فرز الضعفاء من الأقوياء، بالتالي يضمن النظام الاجتماعي السائد ديمومته وسيرورته عبر اختيار المؤهّلين والنجباء من أبناء المحظوظين. يستفيد أبناء الطبقات العليا من مميزات هذا النظام أكثر من غيرهم، ولذلك يتمكّنون بيسر وسهولة من إقامة علاقات حرّة مع هذه الثقافة المؤسّساتيَّة التي تشيعها المدرسة في المجتمع.

 

إنّ إنتاج نخبة المجتمع في المدرسة يمرّ عبر عمليَّة تحويل قاسية، حيث يلزم المؤسَّسة التعليميَّة الانخراط فيها القيام بها حتى تتمّ عمليَّة فرز الضعفاء من الأقوياء، بالتالي يضمن النظام الاجتماعي السائد ديمومته وسيرورته عبر اختيار المؤهّلين والنجباء من أبناء المحظوظين. يستفيد أبناء الطبقات العليا من مميزات هذا النظام أكثر من غيرهم، ولذلك يتمكّنون بيسر وسهولة من إقامة علاقات حرّة مع هذه الثقافة المؤسّساتيَّة التي تشيعها المدرسة في المجتمع.

بذلك يصبح الاحتمال الموضوعي للنجاح المدرسي متوقّفا على الانتماء الاجتماعي، خاصة لدى أولئك الذين يمتلكون رأسمالا ثقافيا ورمزيا كبيرا (ينحدرون من أوساط اجتماعيَّة عليا)، حيث تتمّ عبرهم عمليَّة إعادة إنتاج “نبالة الدولة” نظرا لما يتوفرون عليه من حظوظ وافرة للتغلغل في مختلف مؤسّسات الدولة. فقبل أن يتخرَّج المتفوقّون من بعض الثانويات ومدارس الأقسام التحضير ومن ثم المعاهد العليا، يكون قد تمّ عزلهم عن باقي فئات المتعلمين وفق أنظمة خاصَّة للتكوين وفي داخليات معدّة لتعويدهم على نمط من التعليم النخبوي المنعزل عن المحيط الاجتماعي العام للحياة التربويَّة والتعليميَّة. يتمّ إكسابهم قدرات وأذواق خاصّة ستجعل منهم فيما بعد نخبة النخبة منفصلين عن أقرانهم البسطاء والمتوسّطين الذين يتكوّنون في الكليات العاديَّة. ولأنّ الدولة تحوّلت إلى جهاز تنظيمي عام يركِّز ويوحِّد مختلف الرساميل في بنياته البيروقراطيَّة، فإنّها هي التي تتولى عمليَّة إعادة الإنتاج هذه التي تستهدف إنتاج نبالتها من خلال المدرسة.[3]

وبلا شك، فإنّ الحدود التي ترسمها لجان الامتحانات في المباريات التعليميَّة والجامعيَّة المختلفة بين الناجحين والساقطين وبين المتفوقين والبسطاء العاديين، تفضي بالنهاية إلى فرز للتفوّق الذي يجد ما يزكّيه ويبرّره في العالم الاجتماعي. فأبناء الفئات الميسرة والمهيمنة ينقل إليه الإرث الثقافي الرمزي والمادي الذي يمكّنهم من تحقيق النجاح والتفوّق في الوسط المدرسي، وفي هذه الحالة لا تفعل المدرسة والتعليم عامة سوى تزكيَّة وترسيم وترسيخ تفوق الطبقات العليا في المجتمع باسم الاستحقاق المكتسب من هذا الواقع الذي يعيد إنتاج هيمنة الفئات العليا على الدنيا، لتكون بذلك هيمنة هذه النبالة مفروضة وواقع يعيد إنتاج نفسه. [4]

ونظرا لخطورة هذه الوظيفة الايديولوجيَّة للتعليم، انتقد بورديو فكرة الاستحقاق والكفاءة معتبرا فكرة النجاح إحدى أهم الأفكار الموجّهة للتقويم والامتحانات في الوسط التعليمي. غير أنّ الذي ينبغي الانتباه إليه، حسب هذا المنظور، هو أنّ المدرسة التي أصبحت من أهم أدوات إعادة إنتاج ارستقراطيَّة الدولة، من خلال تكريس هيمنة المتفوقين اجتماعيا، قد حولت مسألة التربية التعليم من منظور يدّعي كون المدرسة وسيلة للترقي والمساواة الاجتماعيَّة إلى مجرّد أداة للهيمنة وإعادة إنتاج التفاوت الاجتماعي.

لقد عرّى بورديو، وفقا لهذا التحليل النقدي، التباس فكرة التفوّق المدرسي، منتقدا بالخصوص وهم الأحقيَّة الذي يروِّج لأيديولوجيا الاستحقاق التربوي. وقد أبرز أنّ المؤسَّسة التعليميَّة، من خلال النموذج الفرنسي الذي يحلّله، هي التي تضمن الامتياز لأبناء الذين يملكون رأسمالا رمزيا متفوّقا مقارنة بأبناء الفئات الدنيا في المجتمع. إنّ النجاح والتفوّق الدراسيين، وفقا لهذا المنظور، يعدّ العلامة الفارقة التي تشهد على الامتياز الطبقي لأبناء المهيمنين في المجتمع. لذلك، فالفاعلون التربويون الذين يتصوّرون الفروق المدرسيَّة على أنها نتيجة الاستحقاق فقط، هؤلاء عادة ما ينسون أنّ الخلفيَّة الطبقيَّة للنجاح والتفوّق تظلّ قائمة، بل وحاسمة في تفسير بعض الظواهر التربويَّة السلبيَّة التي من بينها الهدر المدرسي (L’échec scolaire).

تجعل المؤسَّسة التعليميَّة  ظاهرة الفرز على أساس فكرة التفوّق مسألة عاديَّة بين المتعلمين، وهي بذلك تكرس للتفاوتات الاجتماعيَّة والطبقيَّة، وتعيد إنتاج هيمنة المحظوظين من خلال جعل القدرات المُمَعيرة بمعايير النجاح الدراسي مجرّد قناع للتفوّق الاجتماعي وامتلاك الرساميل الرمزيَّة والثقافيَّة والماديَّة. بهذا المعنى، تكون أيديولوجيَّة التفوّق لا تبرّر فقط نجاح التعليم، بل إنها تغطّي أيضا على الخلفيَّة الاجتماعيَّة للعنف الرمزي وإعادة الإنتاج. [5]

يكرِّس الطابع السلبي للفعل التربوي، بما هو فعل سوسيولوجي بامتياز، واقع هيمنة الطبقات المحظوظة على نسق الدولة الحديثة. ويفضي هذا الفعل التربوي “المؤدلج” إلى إعادة إنتاج نفس التفاوتات الاجتماعيَّة القائمة وتبريرها. لذلك، وخلافا للمنظورات السعيدة للتعليم الحديث، انتقد بيير بورديو ظاهرة الفرز والتمييز الذي يسمح به الفعل التربوي انطلاقا من تعرية الأساس الأيديولوجي لفكرة التفوّق المدرسي الذي ينتج العنف الرمزي، بالتالي يكرِّس هيمنة الأقوياء على الحقل الاجتماعي عبر آليَّة إعادة الإنتاج.

 

 

 

[1] Bourdieu Pierre: La noblesse d’Etat ; éd minuit, Paris, 1989, p.132.

[2] حسن أحجيج: نظريَّة العالم الاجتماعي: قواعد الممارسة السوسيولوجيَّة عند بيير بورديو؛ نشرة مؤسسة مؤمنون بلا حدود، 2019، ص، 179.

[3]  بيير بورديو، أسباب عمليَّة، تعريب أنور مغيت، الدار الجماهريَّة للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى، 1425 هجريَّة، ص 48.

[4] Bourdieu Pierre: La noblesse d’Etat,  op, cit, p.13 – 14.

[5]  بيير بورديو، جان كلود باسرون؛ إعادة الإنتاج، ترجمة ماهر ترميش مراجعة سعود المولى، نشرة المنظمة العربيَّة للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربيَّة، الطبعة الأولى، بيروت لبنان، 2007، ص 342.

جديدنا