المرض باعتباره تجربة فلسفيَّة

image_pdf

 

«لا يمكن للمرء أن يبقى في المنزل بسرور»/ ( باسكال )

تسجّل هذه السنة (2020) أكبر حدث صحّي عالمي عرفته الإنسانيَّة في الفترة المعاصرة بعد أحداث القرن الماضي (ق 20)، متمثّلا في انتشار وباء كورونا الناجم عن نوع جديد من فيروس كوفيد-19 (covid19).اضطرّ مئات الملايين من الناس إلى المكوث في منازلهم، ممّا جعل العديد منهم أمام صدمة نفسيَّة وثقافيَّة حقيقيَّة، حيث انقلبت حياتهم اليوميَّة بين عشيَّة وضحاها إلى ما يشبه الاحتجاز والحبس القسري في المنازل دون استعداد وقدرة على تحمّل الوضعيَّة الجديدة. وحتى لا نعمِّم الحكم بخصوص هذه المسألة، فإنّ البعض منهم استطاع فعلا أن يعتبر الحجر الصحِّي فرصة كبيرة لأخذ قسط من الراحة والتخلّص من روتين العمل  وعنائه، ومن نمطيَّة الحياة اليوميَّة، بينما منح للبعض الآخر وقتا كافيا للتمكّن من ممارسة أيّ نشاط مفضّل من داخل إقامته، مثل: كتابة روايَّة، تأليف أغنية، قراءة كتب، دراسة وتكوين عن بعد، ممارسة رياضة أو حتى تعلّم الطبخ وبعض المهارات الفنيَّة. فهل حياة العزلة في الحجر الصحي بديهيَّة وعاديَّة؟ أم أنها فعلا حياة ملل وضجر واكتئاب؟

واقع الأمر يشي بأنّ قلق هذه الجائحة العالميَّة ناجم عن كون هذه العدوى الوبائيَّة غير مسبوقة في تاريخنا البشري، حيث تبدو كما لو أنّها لغز محير. فالأمر يتعلَّق بكائن مجهري غير حيّ ولامرئي، لكنه بمجرّد ما يتسرّب إلى جسم الإنسان ينشط ليخنق أنفاس المريض حتى الموت. وهذا ما يثير الهلع الشامل. ولعلّ ما يزيد خطورة هذا الفيروس الفتّاك أنّه يحتمل أن يكون في كلّ مكان، لكنّه لا يُرى ولا يُحَسّ إلاّ بعد أن تشتدّ عدواه، وينتقل إلى الآخرين بسرعة خارقة. لقد حوَّل حياتنا في مدَّة وجيزة إلى سجن، فأصبحت الأشياء والأماكن جحيما، ممّا جعل درجة الحياة تصل إلى ما يقارب الصفر كما قال المفكّر المغربي محمد المصباحي؛ إذ لم نفقد فقط حريتنا في التنقَل والعيش المشترك فحسب، بل أصبحنا تحت طائلة الرقابة والحجز والمنع والتحريم.[1]

هذه الوضعيَّة كافية لكي تخلق القلق والوسواس في أنفس الناس، وبالتالي فإن الضرورة تفرض اعتزال الناس بعضهم البعض، وعدم المخالطة كحلّ وقائي لا محيد عنه. في سياق هذه الوضعيَّة الوبائيَّة، وجد البشر أنفسهم بين خيارين كلاهما مرّ : إمّا البقاء في المنازل وتحمّل سأم وقنوط جدران البيت وبطئ الزمن، أو المغامرة بالخروج حيث العدوى الوبائيَّة محتملة. لكن الناس اليوم ليست لهم قدرة تحمل حياة العزلة وتبعاتها التي تفرضها هذه الجائحة، بل كثيرا ما اشتكوا من السأم الناتج عن لزوم البيوت، وكثر التصريح بعدم القدرة على تحمّل الوحدة والعزلة الإجباريَّة هذه.

 

في سياق هذه الوضعيَّة الوبائيَّة، وجد البشر أنفسهم بين خيارين كلاهما مرّ : إمّا البقاء في المنازل وتحمّل سأم وقنوط جدران البيت وبطئ الزمن، أو المغامرة بالخروج حيث العدوى الوبائيَّة محتملة.

ما كشف عنه الوضع الجديد الذي فرضته ظروف الحجر الصحي، ليس بجديد من الناحية النفسيَّة والاجتماعيَّة، وإنّما هو معروف للإنسان. فقساوة الوحدة وملل الجلوس الطويل في غرف المنزل أمر لا يستطيع البشر تحمّله لمدّة طويلة، حيث الضجر والقلق والاكتئاب سيّد الموقف. فهل أعطى الحجر الصحي للبشريَّة المعاصرة درسًا بليغا في التواضع من خلال الشعور بالملل؟

تجلّت قسوة هذه الجائحة في معاناة أولئك الذين نشأوا وترعرعوا في كنف الحياة المعاصرة المليئة بالمظاهر البرّاقة وإمكانيّات الرفاه وتحقيق المتع، حيث يتمّ فقدان العلاقة الأصليَّة مع الذات من ثمّ غرابة حياة الوحدة والعزلة الناجمة عن تلاشي الكينونة في صخب الأشياء المعتادة. وحسب الفيلسوف المعاصر روجير بول دروا  (Roger-Pol Droit) يلزم الناس التفكير بجدّيَّة الآن في الرابطة الإنسانيَّة، لأنّها هي الممتحنة في مثل هذه الظروف أكثر من أيّ شيء آخر. فما لا يطاق، زيادة على الشعور بالوحدة، هو عدم مبالاة الناس بترك بعضهم البعض يواجهون مصيرهم في هذه العزلة التي فرضها كوفيد19.في الهند تذكّرنا حكمة ماهابهاراتا (Mahabharata) بمفارقتنا الإنسانيَّة المروّعة، إذ في “كل يوم يحوم الموت من حولنا بينما نتصرّف كما لو كنا سنعيش خالدين”. فهل يجبرنا هذا الوباء على إدراك محدوديَّة حياتنا اليوميَّة؟

يكمن تفرّد الإنسان الأساسي في أنّه يعي محدوديَّة حياته؛ لكن بمعرفته تلك، ظلّ يفكِّر في أشياء أخرى تنسيه هذه الحقيقة. إنّه يفكّر في اللحظي متناسيا مصيره المحتوم بوضع هذه الفكرة تحت السجادة. يذكرنا الفيلسوف مونطين (Montaigne) أنّه “يجب أن يكون لديك طعم الموت في الفم”، فلتقدير طعم الأشياء والحياة بشكل أفضل لا ينبغي الانغماس في تفاصيلها أكثر من اللازم، بل باستيعاب مكامن ضعفنا وهشاشتنا من خلالها. نتيجة لذلك، لا يكفي الاهتمام بالجوانب الاستهلاكيَّة والترفيه المبالغ فيه، وإنّما بتقدير الحياة قدرها الحقيقي المتمثّل فلسفيًا في وضع أنفسنا في الحاضر الحيّ وتحمّل مسؤوليتنا فيه. والظاهر أنّ تقييم الناس لحياتهم فيها لبس وعدم فهم بعمقها التراجيدي، لذلك تراهم لا يقدّرون غير جوانب الراحة والفرح والمتعة فيها، كما لو أنّها وعد هناء وموضوع رغبات لا حدود لها. فلذلك، ترى البشر عند كلّ محنة وكارثة يتباكون ويحزنون ويشتكون طلبا لتيسير الأمور، وعودة هذه الحياة إلى سابق عهدها، أي إلى حياة النعم والمسرّات.

خلافا لهذه الوضعيَّة البئيسة في مواجهة الأحداث الجسام، يقدّم الموقف الفلسفي نمطا مغايرا من التصرّف حيال المواقف الصعبة التي تجتازها منها الإنسانيَّة في أوقات الشدّة. فمثلا في حالة الشعور بالملل في ظرفيَّة هذه الجائحة، يمكن أن تكون التمارين الفلسفيَّة الروحيَّة نموذجا لا لتزجية الوقت في المنازل فقط، وإنّما لكيلا نخاف من التمزُّق الذي يفرضه الحجر والعزلة. ليس هناك داع للخوف من الشعور بالملل لأنّ الملل كما يقول بول فاليري (Paul Valéry)، “هو حياة عارية”. فالكيوننة عندما تنظر إلى نفسها تكون دائما مملّةً إلى حدّ ما. غير أنّه عندما نمرّ بزمن الملل، سرعان ما يبدو أنّ هناك الكثير من الأشياء التي يحملها. يجب ألا نخاف من الشعور بالملل، يعني أنّ في هذا الملل توجد أشياء خصبة تختمر، وهي التي ستظهر في وقت لاحق، عندما نحاول أن نجد فكرة جديدة في خضم هذا الملل.

بدوره يصوّر الفيلسوف المعاصر نيكولاس جريمالدي  (Nicolas Grimaldi)هذا الوضع بكونه يمثّل جانبا عفا عليه الزمن، حيث نسينا أن الأوبئة يمكن أن تكون عنيفة ومعدية، فتجعل الحياة هشَّة للغاية. لكن عندما اتّخذنا حالة المجتمع الراهن بداهة يقينيَّة، بدا لنا نظامه شبه طبيعي للتبادل، حيث لم يعد الناس يتصوّرون حالة البقاء في البيت لمدّة طويلة كهذه. لكن الآن، فجأة، وفي لحظة قصيرة، حوّلت جائحة كوفيد– 19هذا المجتمع إلى حالة إغلاق تام، فبدت الأمور الاعتياديَّة صعبة المنال. لقد نسي الناس فعلا أنّ ما يجعل الترفيه ضروريًا، كما كان يقول الفيلسوف بليز باسكال  (Balaise Pascal)، هو أنّه ينسينا ويحوّلنا من الاضطرار إلى التفكير في حياتنا الخاصَّة كي لا نضطر إلى التفكير في موتنا ونهايتنا. إذ لمّا مُنع الناس من مغادرة بيوتهم فقد صارت العودة إلى الذات أمرا يصعب تحمّله بالنسبة لأولئك الذين لم يتعودوا على ممارسة التفكير  والتأمُّل، وهكذا شعر الناس بضيق الإقامة والضجر الخانق في مساكنهم وبالملل من أنفسهم الشيء الذي أجَّج نوعا من قلق الوجود الحادّ.

حالة القلق هذه ليس سببها الملل فقط، وإنّما عدم تمكّن البشر من تحمّل الوحدة في غرفهم المنزليَّة. هذه الحالة تقتضي لمن يريد تجاوزها الخروج عن طور الحياة المعتادة، والدخول في نمط تواجد آخر، فلسفي وروحي؛ أي حالة العزلة كتجربة وجوديَّة وكتمرين روحي. إنّ لحظة الأزمة هذه، وبالنظر إلى ما يسمها من انسحاب وعزلة وتحصُّن، تجعلنا نعيش حقيقة ما وصفه بليز باسكال بالوضعيَّة الإنسانيَّة الهشّة. فالملل من الغرف المنعزلة يفرضه ضعف تحمّل البشر لأنفسهم وهم في وهن وهشاشة. نحن نعيش من لحظة إلى لحظة، ومن تحفيز إلى تحفيز، كطريقة لإضفاء المعنى على الحياة، لكنّنا ننسى أن جوهر هذه الحياة هو هذه الديناميَّة والاستمراريَّة والجهد، وهي في ذلك لا تضمن السعادة لأحد، بل يظل القلق ملازما لها حتى وإن تجاهله الإنسان بفعل الانغماس في الملذّات والترفيه.[2]

لكن، بمجرّد ما يظهر المرض فجأة أو تعمّ جائحة، يتسلَّل إلى الجميع الشعور بعدم الاستقرار وهشاشة الحياة والملل حين ملازمة مكان الإقامة. ويظهر في ظلّ هذا الحجر الصحي الذي نخضع له أنّ لا أحد يستفيد من هذه الحياة التي انتهت للتو. لكن الاكتشاف العظيم الذي يظهره هذا الموقف، هو أننا بالفعل لا نعيش لأنفسنا فقط، بل من أجل الآخرين أيضا، وهنا نكتشف أن حياتنا في البيت لا تساوي شيئا تقريبًا ما دمنا لا نتمكّن من تحقيق هذا الأمر. هكذا، تساهم العزلة القسريَّة في زيادة الإحساس بالملل والضجر لأنّ «مصيبة كلّ الناس تأتي من شيء واحد، هو عدم معرفة كيفيَّة البقاء في راحة داخل غرفة» كما قال باسْكال. مقابل ضياع التسلية وحريَّة التصرّف المتاحان خارج المنزل، يمكن للتمارين الفلسفيَّة الروحيَّة أن تعطي الناس بعض الوصفات الفكريَّة لتجاوز هذا الضجر والقلق الناجمان عن ملل البقاء بالمنازل لمدّة طويلة. فكيف ذلك؟

 

حالة القلق هذه ليس سببها الملل فقط، وإنّما عدم تمكّن البشر من تحمّل الوحدة في غرفهم المنزليَّة. هذه الحالة تقتضي لمن يريد تجاوزها الخروج عن طور الحياة المعتادة، والدخول في نمط تواجد آخر، فلسفي وروحي؛ أي حالة العزلة كتجربة وجوديَّة وكتمرين روحي.

تقدّم الفلسفة باعتبارها ممارسة عقلانيَّة تأمّليَّة تمارين روحيَّة تهدف إلى تعديل السلوك وتنوير الفكر نحو الأفضل، وبالتالي إيجاد نوع من التوازن  في النفس والانسجام في العقل. إنّها نوع من العمل على الذات الإنسانيَّة لتأهيلها والاهتمام بها على حدّ قول مشيل فوكو (Michel Foucault).[3] في هذا الإطار، قدّم الفيلسوف بيير آدو (Pierre Hadot) العديد من الفلسفات التي تهدف إلى مساعدة الإنسان على العيش بشكل أفضل، خاصّة منها الحكمة العمليَّة للمدارس الثلاث الكبرى في العصور القديمة (الأبيقوريَّة، الرواقيَّة، الكلبيَّة)، وهي نماذج للحكمة العمليَّة التي تقدّم تقنيات وأساليب لعيش حياة هادئة منسجمة في توافق مع الذات والعالم.[4]تقترح هذه الفلسفات تمارين فلسفيَّة لدفع الأحزان وتجنّب الكدر والسأم من الوضع المتأزّم، وهي عبارة عن “وصفات” حِكَمِيَّة وشذرات وخلاصات تجارب فلسفيَّة، تستبطن آلام الجسد والنفس وكيفيَّة التعامل معها في الحالات التي يعيش فيها الإنسان نوعا من القهر كما يمكن أن نجده في: “عزاء الفلسفة” لـ«بوئتيوس»، أو  “تأملاتي” لـ«مارك أوريل»، أو “الخواطر ” لـ«بليز باسكال»… إلخ. وتسمح هذه التمارين الروحيَّة بالأخذ بزمام الأمور في الرخاء والشدّة معا دون إفراط ولا تفريط، فيتغلّب بها على ملل وضجر النفس من قنوطها،  كما يسعى عبرها لخلق أجواء السعادة والسكينة وراحة البال وتحقيق الوئام مع الذات والعالم، بما يسمح له بالعيش بسلام مع إدراك أنّ الحياة قصيرة وأنّ وقت الحياة غير مؤكد.[5]

من شأن العمل بهذه التمارين الفلسفيَّة أن يحدث تحوّلا وجوديا وخلقيا معنويا في ذاتيَّة الإنسان. إلاّ أنّه ينبغي أن لا تأخذ عبارة تمارين روحيَّة على أنّها طقوس دينيَّة، وإنّما فقط استنهاض لهمّة العقل كي يتولى مأموريَّة قيادة النفس والجسد نحو الأفعال والتصرّفات المعتدلة والفاضلة، بدلا من الاستسلام للهواجس والمخاوف والغرائز. يمكن التغلّب على ملل الحجر الصحي وقلق الخوف من عدوى هذه الجائحة، فقط، بجعل التمارين الفلسفيَّة طريقة للعيش في منازلنا، وذلك بممارسة التأمّل والقراءة والاستبطان… إلخ، كتجارب روحيَّة تجعل التفكير في الحياة اليوميَّة تمرينا فلسفيا روحيا.

[1]– حوار مع المفكّر المغربي محمد المصباحي، أجراه معه الكاتب والصحفي صلاح بوسريف يوم الخميس 08 أبريل 2020، نشرته جريدة المساء المغربيَّة.

[2]Pierre Dulau, Thierry Formet, Martin Steffens, Une journée de philosophie, éditions ellipses, Paris, 2013, p7

[3]Michel Foucault , L’herméneutique du sujet. édition Seuil, Gallimard ;  Paris,  2001, p.79.

[4] – Hadot Pierre, Exercices spirituelles, Edition Albin Michel, Paris, 2002, p.385.

[5] – Xavier Pavie, Exercices Spirituels. Leçons de la philosophie antique, éd les belles lettre, Paris, 2012, pp. 78- 79.

جديدنا