القرآن والتعايش الإنساني

image_pdf

 

 

تزايد الاهتمام في السنوات الأخيرة بموضوعات القيم الإنسانيَّة خاصَّة من منظور ديي، ففي ظل الأحداث الدوليَّة التي شهدها العالم المعاصر، وتصاعد موجات التطرّف والعداء باسم الدين، برزت للوجود خطابات تحاول إعادة الأمور إلى نصابها. غايتها إبراز الجوانب القيميَّة والأخلاقيَّة للرسالات السماويَّة ومنها رسالة الإسلام.

ومن أكثر المواضيع اهتمامًا في هذا الصدد، التعايش والتسامح وحقوق الإنسان والاعتراف بالآخر، وغيرها من المفاهيم التي أصبحت تؤطِّر الحقل المفاهيمي للخطاب الديني المعاصر والتي كتب فيها وعنها الكثير.

والملاحظ إنَّ معظم هذه الكتابات كانت محكومة بالأجواء التي تحدّثنا عنها، المتّسمة بردود الأفعال في الغالب تحت ضغط الهجوم على الإسلام والاستغلال السياسي والإعلامي لتشويه صورته، فكان الرجوع إلى نصوص الوحي وإثبات بطلان مثل هذه الاتّهامات.

وفي غمرة هذا التدافع تقام المؤتمرات والمحاضرات والندوات للحديث عن أخلاقيّات التعايش والتسامح في الإسلام الذي احتضن ثقافات مختلفة في تاريخه، إلى غير ذلك ممّا لا خلاف فيه. غير أنّ حضور هذه المفاهيم اليوم في سياق التدافع مع الآخر، جعلتنا نتغافل عن الالتفات إلى المعالجة القرآنيَّة لترسيخ هذا السلوك الإنساني، مكتفين بترديد المقولات القرآنيَّة- النتائج- دون التنبّه إلى البناء التربوي الذي اتّخذه القرآن وفق منهجيّته الخاصَّة لتربية الإنسان والوصول به إلى المرتقى الأخلاقي للتعايش الإنساني. وهو ما أردنا مطارحته في هذا المقال.

لا سيما وأن ما يقع أحيانًا بين بعض الدعاة المسلمين من مشاحنات وتلاسن ينبئ عن تعصّب البعض لرأيه وعدم الاختلاف والرأي الآخر، دليل على عدم رسوخ قيم التسامح والتعايش. وسترى أنّ البناء القرآني لهذه القيم انطلق من الدائرة الداخليَّة للمجتمع الإسلامي ليصل إلى الدائرة العالميَّة الإنسانيَّة وفق منطق محكم لسلم المراقي الأخلاقيَّة.

 

غالبًا ما يتمّ الاستدلال في سياق الحديث عن خلق التعايش في الإسلام بالآية 13 من سورة الحجرات:  (يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَىٰ وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا ۚ إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ ۚ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ)، غير أن طبيعة هذا الموضوع أخلاقيَّة وتربويَّة بالدرجة الأولى، وإن كانت تستند إلى الجانب المعرفي، والذي هو في هذه الحالة إخبار من الله عز وجل (وحي)، فلنتأمّل البناء الأخلاقي لقيم التعايش من خلال هذه السورة.

فقد سعى الخطاب القرآني إلى غرس قيم التعايش والقبول للآخر ضمن دوائر الاختلاف الأضيق، داخل المجتمع الإسلامي ليخوله بعد ذلك، القدرة على استيعاب كل آخر، غريب عن مجتمعه ودينه وثقافته وفق سلسلة من التوجيهات. تعالج بالتدرّج أزمات الاجتماع الإنساني، وترتقي به نحو الأفق الإنساني الرحب.

فما أحوجنا إلى الإفادة المنهجيَّة من المعالجة القرآنيَّة لهذه المواضيع لتأسيس ثقافة أخلاقيَّة متأصّلة من المرجعيَّة القرآنيَّة، التي هي في حقيقة الأمر مرجعيَّة إنسانيَّة.

________

*الراصد التنويري (العدد 2) أيلول/ سبتمبر 2008.

جديدنا