سيكولوجيا الجنين

image_pdf

 

  يقول سامويل كوليردج Samuel-Coleridge : ” الأشهر التسعة التي يقضيها الإنسان في رحم الأم تفوق من حيث أهميتها وخطورتها حياة الكائن الإنساني برمتها

 

مقدِّمة

يرتهن أي فهم للطفولة ونموها بالمعرفة العلميَّة لأطوار نمو الجنين الإنساني فيزيائيا وانفعاليا، وتشكّل هذه المعرفة العلميَّة بتطوّر مراحل نمو الأجنة منطلق كل معرفة حقَّة وعماد كل رؤيَّة تربويَّة صادقة. وتكتسب هذه المرحلة الأوليَّة في نشأة الإنسان وتطوّره أهميَّة متزايدة الخطورة في العلوم التربويَّة وفي علم النفس التربوي على وجه التحديد. لقد كان سائدا ولفترات تاريخيَّة مديدة أن التربية تبدأ منذ مرحلة الولادة أي منذ اللحظة التي يرى فيها الجنين ضياء الوجود ولكم هذه الحقيقيَّة أصبحت من مخلفات المعرفة الإنسانيَّة إن لم تكن من أصداء الوهم الإنساني المتعلِّق بالحياة والتربية. فاليوم تنهض أفكار وتصورات علميَّة نشطة تؤكد لنا بأن عمر الإنسان في لحظة الولادة يكون تسعة أشهر وأن الإنسان يقضي تسعة أشهر تضج بالحياة والصيرورات الإنسانيَّة الفيزيولوجيَّة والانفعاليَّة. وهذه الصيرورات الوجوديَّة تؤثِّر بصورة واضحة في تشكُّل جسد الإنسان وعقله وفي تكوين انفعالاته. ولما كانت هذه الصيرورات التربويَّة ممكنة التحديد فإن التحكم فيها يمكِّن المربّين من السيطرة على كثير من العوامل التي تؤثِّر في حياة الكائن الإنساني عبر مرحلة التشكُّل الجنيني.

هذا وتبيِّن الدراسات الجارية في هذا الميدان أن التربية ممكنة في هذه المرحلة عن طريق التحكُّم بالظروف والبيئة التي تحكم حياة الجنين والتي تتمثَّل في مختلف ظروف ونشاط الأم الحامل جسديا ونفسيا وعقليا. ويقينا أن الخطوة الأولى في كل تربية تنطلق من فهم مختلف العمليات والأوليات والصيرورات والتفاعلات التي تطرأ على البنية النفسيَّة والجسديَّة للكائن الإنساني الحي في مختلف مراحل حياته بدءا من المرحلة الجنينيَّة حتى مرحلة الرشد والنضج.

 

فالمعرفة العلميَّة تشكِّل مهماز الفعل التربوي ومن أجل أن نربي يجب علينا أن نعرف، ومن منطلق هذه المعرفة يمكن للإنسان أن يتحكَّم بعمليَّة التربويَّة وأن يوجِّهها في الاتِّجاهات الإيجابيَّة الأمثل لحياة الكائن ونموّه. وعلى هذا الأساس يمكن القول بأن تربية الإنسان في مرحلة تكوّنه الجنيني أصبحت إمكانيَّة متاحة استنادا إلى التقدُّم العلمي الهائل في ميدان علم الأجنة الذي يكتشف اليوم آفاقا جديدة في ميدان النمو الإنساني في هذه المرحلة ويكشف عن حقائق مذهلة تتَّصل بحياة الجنين الانفعاليَّة. وبدأت أوهام الماضي مع هذا التقدُّم العلمي تتساقط وتتبدَّد فالطفل ليس كيانا أصمّا من الناحيَّة الانفعاليَّة والوجدانيَّة قبل الولادة بل هو كيان يفيض بالمشاعر والأحاسيس بل هو عالم حقيقي متدفِّق من التفاعلات الوجدانيَّة التي تعتريه وهو في مراحل تكوّنه الجنيني. ومن هنا يتوجَّب علينا أن نبحث في مختلف مظاهر نمو الجنين وتطوّر المراحل التي يمرّ بها ووصف أطوار النمو النفسي والانفعالي في سبيل تكوين معرفة تتَّصف بالعمق والشمول حول تكوين الطفل وتساعد في اتِّخاذ المواقف التربويَّة التي تساند هذا النمو وتعزِّز اتِّجاهاته.

 

بين الحامل والجنين:

يشكِّل رحم الأم البيئة النفسيَّة والفيزيائيَّة لنمو الجنين وتطوّره. وتشكِّل العلاقات الوجوديَّة بين الرحم والأم والجنين ثالوث تفاعل جدلي يثمر في تحديد سمات وملامح الجنين ويترك بصماته على تكوينه الخلقي والانفعالي في مراحل لاحقة ومتلاحقة بعد ولادة الجنين. ومن هنا يتوجَّب علينا أن ندرس هذه العلاقة بوصفها منطلقا معرفيا لإدراك عالم الجنين ومؤثراته المختلفة التي تبدأ بتقاسيم الحياة النفسيَّة للأم الحامل [1].

 

فالحمل تجربة بيولوجيَّة نفسيَّة واجتماعيَّة تتميَّز بدرجة عاليَّة من الأهميَّة والخطورة في حياة المرأة الحامل. وهي تجربة تتأرجح بين ثنائيات نفسيَّة متعدِّدة ومتناقضة في آن واحد. وتتجسَّد هذه الثنائيات في جدل العلاقة بين الخوف من هذه التجربة والإقدام على معايشتها، كما تتجلى في ثنائيَّة السعادة والألم، وفي ثنائيَّة الخوف من الموت والرغبة في إنجاب الحياة. ويشكِّل الحمل بالنسبة للمرأة مصدر سعادة وألم وخوف وإقدام وإحجام وحبّ وكراهية، وهو فوق ذلك كله رمز من رموز التضحية الذي يكرّس لإنجاب الحياة. فهي تذوب وتذوي في تجربتها هذه ولكنها تنجب الحياة وتجدّد الأمل والحب والحنان وتكرّس استمرار النوع الإنساني.

 

إن ما يعتري المرأة الحامل من تغيرات فيزيولوجيَّة وبيولوجيَّة لا يمكن لها في أي حال من الأحوال أن تضاهي هذه الدوامات النفسيَّة والعاطفيَّة التي تجتاح كيانها النفسي والانفعالي. فالحمل في أبسط صورة ومعانيه يشكل مصدرا حيويا متدفّقا لسيل من العواطف والتوتّرات والمخاوف النفسيَّة والتشنّجات العصبيَّة عند المرأة الحامل. وإذا كانت المرأة في مرحلة الحمل هي أحوج ما تكون إلى الرعاية والحنان والحبّ والمساندة في تكليل تجربتها بالنجاح، فإن الجنين الذي ينمو في أحشائها لأشد حاجة منها إلى مثل هذه الرعاية والحماية على المستويين النفسي والبيولوجي؛ ويتجلَّى ذلك بوضوح حين ندرك أن صعوبات الحمل وآلامه ما هي إلا صعوبات عارضة ومرحليَّة بالنسبة للأم الحامل، ولكن هذه الصعوبات قد تترك بصماتها وآثارها السلبيَّة على مستقبل الجنين في مرحلة لاحقة من حياته أي بعد ولادته بسنوات تقلّ أو تكثر، لأن ” الأشهر التسعة لحياة الإنسان في رحم الأم تفوق من حيث أهميّتها وخطورتها حياة الكائن الإنساني برمتها كما يقول سامويل كوليردج Samuel-Coleridge.

 

لقد شكَّلت العلاقة بين الأم والجنين الشغل الشاغل للمفكّرين والعلماء وبدأت الجهود العلميَّة تنهض لتفسير طبيعة هذه العلاقة وأهميتها في مختلف مستويات وجوانب حياة الأم الحامل والجنين. وغني عن البيان أن هذه الجهود تمركزت حول تأثير مرحلة الحمل وأهميتها في المستوى البيولوجي كما في المستوى النفسي. لقد بيَّنت الأبحاث الجارية في هذا المجال الأهميَّة الكبيرة للتقاليد القديمة التي تحدِّد طبيعة العلاقة التي يجب أن تقوم بين الأم والجنين، وطبيعة الرعاية الصحيَّة والنفسيَّة التي يجب أن تراعى أثناء فترة الحمل عند الأمهات. ومع أن هذه التقاليد العفويَّة لم تنشأ وتتكوَّن على أساس علمي محدَّد وممنهج، فإن أحكام ومعايير هذه التقاليد أثبتت درجة عالية من الأهميَّة والجدارة والمصداقيَّة التي تضاهي أهميَّة المعطيات العلميَّة الحقيقيَّة في هذا المجال. وهنا يشار بالبنان إلى أهميَّة الطقوس ومصداقيَّة العادات التي أكَّدتها حكيمات النساء في الأيام الخوالي. لقد بينت الدراسات أن حكيمات النساء (الداية) لم يكنّ ساذجات في أحكامهن وتصوراتهن بالقياس إلى معطيات العلوم السلوكيَّة. لقد بينت الملاحظات العلمية في هذا الميدان أن هذه التقاليد حافظت على وجودها وذلك لما تنطوي عليه من أهميَّة وخصوصيَّة وبقيت صامدة على الرغم من التطوّر العلمي الذي يضيق دائرة الحصار على التصورات غير العلميَّة واللاعقلانيَّة. لقد أسهم تطوّر الحياة العلميَّة للمجالات الطبيَّة في الحد من المخاطر الفيزيائيَّة التي تعترض الأم الحامل والجنين إلى الحدود الدنيا، ومع ذلك كله يجب الإقرار بحقيقة هامة قوامها وجود نقص كبير في مستوى الوعي النفسي وأهميَّة هذا الوعي في توفير المساندة النفسيَّة للأم الحامل. لقد تبيَّن بوضوح أن الاهتمام بوضعيَّة الأم الحامل يأخذ طابعا طبيّا مبالغا فيه وذلك على حساب الجوانب النفسيَّة التي لا تقل أهميَّة عن الجانب الصحي. ولا بد في هذا السياق من الإشارة إلى المبالغات الكبيرة التي يوجب على المرأة الحامل اتباع إرشادات صحيَّة والتكيُّف معها وذلك دون التركيز على أهميَّة الجانب النفسي.

فيزياء الأجنة:

في البحث عن أصل الوجود الإنساني مضى الإنسان عبر تاريخه الطويل يتساءل من أين تأتي الحياة الإنسانيَّة وكيف يتشكَّل الإنسان. وتمثّل هذه المسألة قضيَّة الخلق الإنساني ولعلها القضيَّة الأكثر أهميَّة في تاريخ العقل الإنساني. وما انفكَّ الإنسان عبر تاريخه الطويل يحاول أن يكشف ألغاز هذه المسألة ويهتك أسرارها. وأطلق الإنسان لخياله العنان في رسم أساطير الخلق والنشأة والتكوين، وها هو تراث الإنسانيَّة يفيض جمالا بأساطير الخلق وخرافات التكوين. وعندما تقدَّمت أدوات الإنسان في الكشف والبحث والاستطلاع استطاع أن يهتك حجب هذه المسألة ويبدِّد أسرارها منتهيا إلى توليد علم جديد هو علم الأجنة الذي يكشف عن إبداع الله سبحانه وتعالى في خلق الإنسان وفي تكوينه. ولم تعد اليوم في قضيَّة انبناء الإنسان وتشكّله الأولي سرا خافيا على أحد بل أصبحت حقيقة علميَّة شائعة يعرفها القاصي والداني كما يعرفها الكبير والصغير على حدّ سواء[2].

 

لقد شكَّلت حياة الأجنَّة ومراحل تطوّرها في رحم الأم واحدا من القضايا المعرفيَّة الوجوديَّة التي تترامى في عهود تاريخيَّة قديمة. وهي القضيَّة الوجوديَّة الأولى التي استحوذت على عقل الإنسان وشغلت قلبه وروحه أيضا. ولا يخفى على العارفين أنَّ قضيَّة الأجنَّة كانت موضوع سجال قديم بين العلماء والمفكّرين في مختلف الحضارات القديمة ولا سيما في الحضارتين الإغريقيَّة والفرعونيَّة القديمة.

 

وقد مرّ علم الأجنَّة بأطوار مختلفة تبدأ بالمرحلة الوصفيَّة أقدم هذه المراحل وأهمّها، وتعود هذه المرحلة تاريخيا إلى العهد الإغريقي القديم، زالت أطياف هذه المرحلة قائمة حتى اليوم، وهي تعتمد على وصف ظاهرة تطوّر الجنين عبر الملاحظات التي يمكن تدوينها. وقد وُجدت بعض السجلات المدونة السلالات الفرعونيَّة الرابعة والخامسة والسادسة في مصر القديمة التي تتضمَّن وصفا لمراحل نمو الجنين واعتقادا فرعونيا بأن للمشيمة خواص سحريَّة خفيَّة. ولم تسفر الجهود الحضاريَّة القديمة عن كشوف علميَّة في هذا السياق وبقيت هذه القضيَّة قضيَّة الأجنة منغلقة في دائرة التصنيفات الخرافيَّة. لقد أبدع القدماء مفهوم الإنسان القزم أو الجنين الكامل الذي يوجد مجهريا في نطفة الرجل أو في بويضة المرأة. لقد اعتقد الأقدمون أنَّ الإنسان مختزل في النطفة المنويَّة أو في البيضة الأنثويَّة فرسم له العلماء صورة وتخيلوا أنه يوجد كاملا في النطفة المنويَّة غير أنه ينمو ويكبر في الرحم ليصل إلى الحجم الطبيعي المقدر له.

 

وفي بداية القرن الثامن عشر مع بداية العصر المجهري ( اكتشاف المجهر) تمكن “فان لوفين هوك” Leeuwen Hoek من اكتشاف الحيوان المنوي مجهريا عام 1677. إلا أن اختراع المجهر لم يكن كافياً لبيان تفاصيل تكوين الحيوان المنوي وحلّ الصراع القائم بين عقيدة الإنسان الكامل في النطفة وبين الإنسان الكامل في البويضة: كان فريق من القدماء يعتقد بأن الإنسان يكون مخلوقاً خلقاً تاماً أصمّا في الحيوان المنوي في صورة قزم، بينما كان فريق آخر يرى أن الإنسان يُخلَقٌ خلْقاً تاماً في بيضة. ولم ينته الجدل بين الفريقين إلا حوالي عام 1775 عندما أثبت الإيطالي “سبالانزاني” Spallanzani أهميَّة كل من الحيوان المنوي والبويضة في عمليَّة تكوين الجنين، حيث يبيّن أن الحيوان المنوي يتلاقح مع البويضة الأنثويَّة ويتكاملان في تشكيل النواة الأوَّلى للجنين. وفي عام 1783 تمكّن “فان بندن” Van-Beneden من إثبات هذا التصوّر العلمي الخاص باللقاح بين البويضة والحيوين المنوي؛ وقد شكَّل هذا الاكتشاف نهاية مؤكّدة للمعتقدات السابقة التي تقول بفكرة الجنين القزم. وقد تطوّرت الاكتشافات العلميَّة في هذا المجال منذ نهاية القرن التاسع عشر حتى الأربعينات من القرن العشرين، وهنا يمكن الإشارة إلى أبحاث العالم “فون باير” في مجال علم الأجنَّة حيث ينتقل من مرحلة التجارب والمشاهدات إلى مرحلة صياغة المفاهيم الجنينيَّة بوضوح كبير. وقد وبدأ “أوتو واربوغ” دراساته عن الآليات الكيميائيَّة للتخلّق، ودرس “فرانك راتزي ليلي” طريقة إخصاب الحيوان المنوي للبويضة، كما درس “هانس سبيما” آليات التفاعل النسيجي كالذي يحدث خلال التطوّر الجنيني، ودرس “يوهانس هولتفرتر” العمليات الحيويَّة التي تُظهِر بعض الترابط بين خلايا الأنسجة فيما بينها أو بينها وبين خلايا الأنسجة الأخرى[3].

 

ومن أكثر هذه الاكتشافات في ميدان علم الأجنَّة اكتشاف “بوفري” Boveri بين عامي 1888 و 1909 الذي يبين فيه بأن النطفة الملقحة تحتوي على عدد كبير من الكروموسومات المسؤولة عن الخصائص الوراثيَّة للكائن الإنساني. ولاحقا استطاع “مورجان” Morgan عام 1912 أن يكتشف دور الجينات في والكروموسمات في التكوين الوراثي للإنسان. وهذا كله يعني أن المعرفة العلميَّة بطبيعة المكونات الوراثيَّة والبيولوجيَّة للإنسان كانت مجهولة حتى القرن الثامن عشر الذي يشكل نقطة البداية في تطور المعرفة البيولوجيَّة حول المكونات الأوليَّة الجينيَّة للإنسان وقد مهدت هذه المعرفة كما نعرف للثورة الأكبر في مجال الكشف عن تكوين الخريطة الجينيَّة للتكوين الوراثي للإنسان DNA في العقود الأخيرة من القرن العشرين([4]).

 

وقد بيَّن علم الوراثة إن النطفة الذكريَّة تحتوي على 23 كروموسوم (صبغي)، منها كروموسوم واحد لتحديد الجنس وقد يكون (Y) أو (X) أما البويضة فالكروموسوم الجنسي فيها هو دائماً (X)، فإن التحمت نطفة (Y) مع البويضة (X) فالبويضة الملقحة Zygote ستكون ذكراً (XY)، أما إذا التحمت نطفة (X) مع البويضة (X) فالجنين القادم سيكون أنثى (XX)، فالذي سيحدِّد الجنس إذاً هو النطفة وليس البويضة. وبعد حوالي 5 ساعات على تكون البويضة الملقحة وهي الخليَّة الإنسانيَّة الأوليَّة الحاويَّة على 46 كروموسوم تتحدَّد الصفات الوراثيَّة الرئيسة السائدة في الكائن الجديد. ويطلق على هذه العمليَّة مرحلة البرمجة الجنينيَّة، بعد ذلك تنقسم البويضة الملقَّحة انقسامات سريعة وفقا لمتواليات هندسة تؤدِّي في النهاية إلى تشكُّل الأعضاء وتكوين الجسم عند الجنين على مدى الأشهر التسعة التي يقضيها في رحم الأم([5]).

وتتم عمليَّة تلقيح البويضة الأنثويَّة وتشكّل النواة الأولى للجنين عير مراحل محّددة وفي منتهى الدقة العلميَّة. ففي اللحظة الأولى وقبل عمليَّة التلقيح بين البويضة والحيوين المنوي يجتاز جيش من الحيوانات المنويَّة الذكريَّة قوامه من 500 إلى 700 مليون ذرة منويَّة مسافة هائلة من العقبات في الرحم تصل عدة آلاف منها إلى البويضة، ولكن ذرة واحدة من هذا الجيش ستقوم بعمليَّة التلقيح ويكون الحظ لأول ذرة منويَّة تصل إلى البويضة وعندها تفرز البويضة بسرعة متناهيَّة مادة تصلّب غشاء هذه البويضة وتمنع أيَّة ذرة أخرى من الدخول والاختراق مكتفيَّة بذرة واحدة. وبعد التلقيح تتدامج النواتان الذكريَّة والأنثويَّة وتتدامج الصبغيات (الكروموسومات) الستة والأربعون، ومن هذا الاندماج تتولد بيضة نواة لكائن يجدِّد دورة الحياة الإنسانيَّة ([6]).

 

وفي الأسبوع الأول تنغرس البويضة في غشاء الرحم المخاطي وتبدأ سيرورة الانقسام الخلوي وفقا لمتواليَّة هندسيَّة معروفة حيث تنقسم البويضة إلى خليتين ثم إلى أربع خلايا ثم إلى ثمانيَة ثم إلى ستة عشر ثم إلى إثنتي وثلاثين خليَّة. وعندما يبلغ عدد الخلايا ستة وثلاثون وهذا يكون في اليوم الرابع تأخذ البويضة شكل ثمرة التوت الصغيرة، ومن هنا اسمها التويتة وهو ما يوازي التسمية الإسلاميَّة العلقة. وتتجمَّع الخلايا المتكاثرة في فصائل، ويشكِّل بعضها الحبة أو البرعم الذي يصبح المضغة وتشكل أخرى المشيمة.

 

وفي الأسبوع الثاني تشكل الخلايا ثلاث وريقات: تولد الأولى (الأديم الظاهر) الجهاز العصبي، والشعر والجلد، وتولد الثانيَّة (الأديم المتوسط) الهيكل العظمي، والقلب والعضلات، والجهاز البولي والتناسلي، وتولد الثالثة (الأديم الباطن) الرئتين والجهاز الهضمي. وفي الأسبوع الثالث تتجمَّع الخلايا لتشكيل الرأس والدماغ تتكاثر خلايا الدماغ بمعدل 250000 خليَّة في الدقيقة. وفي الأسبوع الرابع ينمو الجنين بسرعة فائقة فيصل طوله في نهاية الشهر إلى سدس بوصة. وفي هذا الأسبوع الرابع تكون جميع الأعضاء مثل القلب والكبد والجهاز الهضمي والمخ والرئتين قد أخذت تشكل فعلاً فيبدأ القلب في الخفقان وإن كان لا يمكن سماع دقَّاته إلا بعد ذلك بعدَّة أسابيع.

في الشهر الثاني: يبدأ العمود الفقري في التكوّن، ويكوُّن الرأس أسرع نموًا من الجسم بكثير. وفي الأسبوع الثاني يبلغ طول الجنين نصف بوصة، وتكون نتوءات الأطراف قد تحولت إلى يدين ورجلين ذات أصابع ملتصقة، وينمو للجنين ذيل كامل التكوين ويكون بطنه منتفخًا نتيجة سرعة نمو الأحشاء الداخليَّة. وفي الأسبوع الثالث، يتحدَّد شكل وجه الجنين على نحو أكثر وضوحًا وتتكون الأذنان والأجفان، كما تتَّخذ الأعضاء الداخليَّة وضعها الثابت.

 

وفي بداية الشهر الثالث تتشكَّل المشيمة، ويتكَّون السائل الذي يسبح فيه الجنين. وفي هذا الشهر تنفصل أصابع بعضها عن بعض، ويختفي الذيل تدريجيا مع استطالة. وفي نهاية الشهر يصل طول الجنين إلى بوصتين ونصف البوصة ويزن حوالي 14 جرامًا.

 

وفي الشهر الرابع تنمو أصابع اليدين والرجلين وتبدأ الأظافر بالظهور، ويكون ظهر الجنين منحنيًا على شكل القوس. ويبدأ شعر الرأس بالنمو. وتتكوَّن الأسنان الداخليَّة في الجزء العميق من لثة الجنين، وتتشكَّل الأعضاء التناسليَّة. ويصل وزنه إلى 120 جرامًا. وفي الشهر الخامس يستطيع الطبيب أن يسمع دقات قلب الجنين بالسماعة، وتبدو حركاته أكثر وضوحًا. أما طوله فيبلغ حوالي 25 سنتميترًا ويزن حوالي 227 جرامًا.

 

أما في الشهر السادس فتصبح حركات الجنين واضحة وعنيفة أحيانا. ويأخذ الوبر الناعم طريقه إلى النمو على جلد الجنين. أما طوله فيبلغ حوالي 30 سنتيمترًا ويزن حوالي 680 جرامًا. وفي الشهر السابع: تتفتح عينا الجنين ويزيد وزنه على كيلو واحد بقدر قليل، ويبلغ طوله حوالي 38 سنتيمترًا. وفي الشهر الثامن: تزداد حركة الجنين بحيث يمكن رؤية تأثيرها في الخارج، ويزداد وزنه إلى 2 كيلو وطوله إلى 42 سنتيمترًا تقريبًا، ويتخذ الوضع النهائي الذي سيولد به. وفي الشهر التاسع يزول الزغب الدقيق الذي يغطي جلد الجنين ويختفى ويأخذ لون الجلد صورته الطبيعيَّة وتكسوه طبقة من المادة الدهنيَّة. ويكون وزن الطفل الذي أتم مدَّة كاملة سبعة أرطال ونصفًا في المتوسط ويبلغ طوله 20 بوصة في المتوسط([7]).

 

النمو الانفعالي للجنين:

يعتقد كثير من الناس أن الجنين يعيش في عزلة عن المحيط الخارجي وتأثيراته المتنوعة، وذلك لما أحيط به من رعاية وحماية طبيعيَّة في رحم الأم. ولكن هذه الفكرة قد شهدت تطورا يناقضها في العقود الأخيرة من قرن العشرين. وبدا رأي سامويل السابق الذكر يحتلّ مكانا بالغ الأهميَّة في الدراسات النفسيَّة والسلوكيَّة. فالطفل يتفاعل ويستجيب لمثيرات الوسط الخارجي ويتأثّر بها إلى حدٍّ كبير كما تبين الدراسات العلميَّة في هذا الميدان. وهذا التوجه الجديد يتوافق وإلى حدّ كبير مع الحكمة النسائيَّة القديمة التي لطالما أشارت إلى الأهميَّة والخطورة التي تترتَّب على أشهر الحمل في تأثيرها على صحَّة الجنين وبنيته. ومن المدهش أن هذه الحكمة لم تقتصر على الاهتمام بالجوانب البيولوجيَّة والصحيَّة للحامل وإنما تعدَّت ذلك إلى الاهتمام والتركيز على الجوانب النفسيَّة في حياة الحامل.

 

يرى علماء الأجنة أن الجنين ينام ويحلم ويسمع ويحسّ بالألم ويتأثَّر بالعواطف والانفعالات والأصوات والموسيقى واللمسات الخارجيَّة، ويعبِّر عن انفعالاته بضربات قدميه وحركات جسمه، وهذا يعني بالضرورة أن الجنين يعيش حياته قبل أن يولد بفترة طويلة. فدماغ الجنين يتفاعل مع الأصوات الأليفة على منوال الطريقة التي يتفاعل معها دماغ الراشد([8]). وتؤكِّد العلوم السلوكيَّة أيضا اليوم أن الجنين لا يعيش في عزلة عن المحيط الخارجي الذي يعيش فيه، كما تؤكِّد أهميَّة البيئة الخارجيَّة وتأثيرها في نمو الجنين ومسار تطوّره وحياته المستقبليَّة. ومن البديهي اليوم على المستوى الفيزيائي أن نقول إن البنية البيولوجيَّة للجنين خلال مرحلة الحمل مرهونة بالشروط البيولوجيَّة للأم الحامل وأن الجينات الوراثيَّة تتحدَّد بطبيعة البيئة الفيزيائيَّة للأم. فصحة الجنين ومسار نموه مرهونان بمدى ما تتمتع به الأم الحامل على مستوى البيوفيزيائي والعصبي. وتلك حقيقة هي اليوم من عداد الحقائق الراسخة التي لا تقبل الشك.

 

هذا وتبيِّن الدراسات التي أجريت في هذا الميدان أن دماغ الطفل ينشط عندما يسمع مقاطع موسيقيَّة محدَّدة. وتبيّن هذه الدراسات أيضا أن الجنين حساس وأن الجنين يتأثَّر باللمس أيضاً، ويتَّضح هذا عندما يتلمسه أحد الأبوين له عبر جدار بطن الأم في بداية الشهر الرابع. ولما كان يتأثَّر بالانفعالات فإنه يستجيب لها بضربات من قدميه. ويرى بعض الأطباء أن الجنين يسمع منذ الشهر الخامس، دون أن يدرك أي معنى لهذه الأصوات ويفسّر ذلك بأنه السوائل التي يسبح فيها ذات حساسيَّة كبيرة لأصوات الخافتة، وتبين الملاحظات الإكلينيكيَّة أنه يدرك الضوء بعد الشهر السادس، وتتغيَّر حركاته وإيقاع نبضات قلبه عند سماعه الموسيقى.

وتشير الدراسات النفسيَّة إلى أن سلوك الجنين في داخل الرحم مرهون إلى حدّ كبير بالشروط التي تحيط بالأم الحامل. وتؤكِّد التجارب العلميَّة أيضا أن الجنين في الأشهر الأخيرة من الحمل يستجيب انفعاليا للضجة العالية التي تحدث قرب الأم الحامل، وهو بالتالي يتحرَّك بسرعة عالية حين حدوث أصوات قويَّة ومباغتة قريبة منه وهذا يعني أن الجنين لا يعيش في عزلة عن الوسط الخارجي ومثيراته بل يتفاعل معه ويستجيب لمثيراته المختلفة. وفي هذا ما يؤشِّر على إمكانيَّة تشريط الجنين في المرحلة الأخيرة من الحمل، أي أننا نستطيع أن نثير لديه ردود أفعال محدّدة في داخل رحم الأم عن طريق المثيرات الخارجيَّة. ويمكن لنا بالتالي أن نحدّد الشروط المناسبة لنمو أفضل وحماية الجنين من الشروط التي تنعكس سلبا على بنيته النفسيَّة.

 

وتشير بعض الدراسات أن الجنين يستطيع في الأشهر الأولى أن يكون علاقة مع الأصوات الموسيقيَّة، وذلك من خلال دقّات قلب الأم المنتظمة وحركة أعضاء الجسم الداخليَّة. وتؤكِّد هذه الدراسات أن الإيقاع المنتظم لنبضات قلب الأم يشكِّل توازناً عند الجنين يستجيب له وتهدأ حركاته، وإذا ما اختلف الإيقاع النبضي عند الأم، لأي سبب سيكولوجي من فرح أو حزن، فإن الطفل يتأثَّر تأثّراً مباشراَ بهذا التغيير في الإيقاع ويبدأ بحركات انفعاليَّة تتناسب والإيقاع الجديد. وفي هذا تتجلَّى مصداقيَّة المقولة الشعبيَّة بأن الجنين يفرح لفرح أمه ويحزن لحزنها([9]). وتأخذ هذه المقولة اليوم حلّة علميَّة جديدة حيث يبيّن علم الأجنة مصداقيَّة هذه الحقيقيَّة. فالجنين الذي ألف إيقاعاً نبضياً منتظماً واعتاد عليه يتأثّر سلباً أو إيجاباً عند هبوط حدّة هذه الإيقاعات أو ارتفاعها، “وهذا التجاوب مع أي تغيير في الإيقاع يدلّ على أثر الموسيقى في عالم الجنين فهو يساهم في تشكيل سكونه وحركته، فالجنين يبقى في وضع هادئ تماماً ساعة انتظام العزف النبضي وتزداد حركته مع أول تغيير تجاوباً رافضاً أو راضياً “([10]).

 

وينمو الجنين وتنمو علاقته بالموسيقى الحسيَّة وتصبح جزءاً من عالمه الداخلي “ويبقى تعلّقه وإحساسه بالموسيقى الحسيَّة وتجاوبه معها إلى مراحل ما بعد الولادة والنضج. والجنين لا يسمع الموسيقى على النحو الذي يسمعها الراشدون بل يدرك هذه الموسيقا على نحو حسّي مختلف خلال مسامات الجلد، وهذا النوع من التفاعل مع الموسيقى من أرقى أنواع الإحساس بالموسيقى وأكثرها تأثيراً وأصدقها عاطفة”([11]).

المستقبل الانفعالي للجنين:

تشكِّل انفعالات الحامل وحالاتها النفسيَّة البيئة النفسيَّة التي تحيط بالجنين وهي بيئة بالغة التأثير في بنيته الذهنيَّة والنفسيَّة ولا سيما في المراحل الأخيرة من الحمل وفيما بعد الولادة. وفي هذا الخصوص تشير أبحاث فيلس أن من شأن التشنجات العاطفيَّة للمرأة الحامل أن تؤثّر على نشاط الجنين ومسار نموه تأثيرا بالغ الأهميَّة والوضوح. ويذهب هذا الباحث إلى الاعتقاد أن تعرّض الأم الحامل للآلام النفسيَّة يؤدّي إلى ولادة الطفل شديد الإثارة والعصابيَّة. ويذهب بعض العلماء إلى الاعتقاد أن الجنين الذي ينمو في رحم أم تعاني من أزمة نفسيَّة وعصبيَّة حادة سيولد طفلا عصبيا منذ اللحظة الأولى لولادته. وهذا يشير إلى أهميَّة المحيط الحيوي النفسي للأم في تأثيره على نمو الجنين وعلى حياته النفسيَّة بعد مرحلة الولادة. والأطفال العصابيون هم هؤلاء الأجنة الذين لم يكن محيطهم الحيوي الجنيني كافيا لتلبيَة احتياجاتهم العاطفيَّة والنفسيَّة. وهذا يعني في نهاية المطاف أن الطفل العصبي ليس نتاجا لمرحلة الطفولة الأولى وإنما نتاج لمرحلة حمل يفتقر إلى الشروط النفسيَّة الملائمة لنموه. وهذا يعني أيضا أن هناك أطفال قد أصابهم الضرر قبل رؤيتهم النور.

 

ولا يقف المحلّلون النفسيون عند هذا الحدّ من التحليل، بل يذهبون إلى أبعد من ذلك بكثير وذلك عندما يعتقدون ويقترحون أن مرض الكآبة المزمن الذي يعاني منه الراشدون حالة تعود بأسبابها إلى مرحلة ما قبل الميلاد أي عندما كانوا أجنَّة حيث كانت أمهاتهم تعاني من توترات عاطفيَّة وانفعاليَّة. ويرجع بعض العلماء الصعوبات الغذائيَّة التي يعانيها بعض الأطفال إلى الشروط التي كان يعانيها هؤلاء الأطفال في مرحلة الحمل أي أن هناك علاقة واضحة بين المثيرات الانفعاليَّة للأم الحامل والصعوبات الغذائيَّة التي يعانيها الأطفال بعد الولادة. أن الأهميَّة المتناهية لنتائج هذه الأبحاث تكمن في الإشارة إلى أهميَّة الظروف النفسيَّة والصحيَّة التي تحيط بالأم الحامل وتأثير ذلك في نمو الجنين وفي حياته المستقبليَّة أي ما بعد الولادة. وبعبارة أخرى يذهب هؤلاء الباحثون إلى القول إنّ الشروط الفيزيائيَّة من أدوية وغذاء وعقاقير والشروط النفسيَّة من اضطراب وحزن وقلق وتوتر وسعادة ورضا كل ذلك يساهم في تحديد نمو الجنين على المستوى النفسي والصحي في مرحلة الطفولة الأولى أي بعد الولادة. فكثير من الاضطرابات النفسيَّة والصحيَّة للوليد قد تعود إلى اضطرابات صحيَّة ونفسيَّة عند الأم في مرحلة الحمل.

وكانت دراسات وبحوث سابقة قد ذكرت أن الضغوط النفسيَّة القويَّة خلال الحمل، مثل فقدان الوظيفة أو الطلاق أو الافتراق بين الأزواج أو الحزن على ميت، يمكن أن تؤدّي إلى حالات غير طبيعيَّة في الجنين وتشوّهات خلقيَّة كثيرة.

 

وهنا تجدر الإشارة إلى الدراسات التي أجراها فريق البحث العلمي الدانماركي برئاسة الدكتورة دوريث هانسن لاختبار صحة أو بطلان كثير من النتائج التي أسفرت عنها دراسات وأبحاث في هذا الميدان والتي تبدو غريبة بعض الشيء. ومن هذا المنطلق قام الفريق الطبي رئاسة دوريث هانسن بدراسة السجلات الطبيَّة ذات العلاقة في الدانمارك خلال الفترة ما بين 1980 و1992 للتعرّف على النساء المنجبات اللواتي تعرّضن لضغوط نفسيَّة حادة وقويَّة متأثرات بحوادث مؤلمة في حياتهن قبل مرحلة الإنجاب وتحديدا قبل 16 شهرا من الإنجاب. وقارن الباحثون بين 3560 حالة ولادة لنساء أنجبن ومررن قبل إنجابهن بتجارب نفسيَّة صعبة ومؤلمة، وبين 20000 ألف حالة ولادة لنساء لم يتعرضن لمثل هذه التجارب المؤلمة ( مثل فقدان شخص قريب وعزيز بسبب الموت، أو اكتشاف حالة سرطان خطيرة لدى قريب، وغيرها من الأمور العاطفيَّة الضاغطة نفسيا). وقد تبيَّن للباحثين أنّ معدَّل الإصابة بالتشوهات الخلقيَّة للمواليد من أمهات تعرّضن للضغوط النفسيَّة آنفة الذكر يبلغ ضعف معدل النساء اللواتي لم يتعرّضن لمثل هذه التجارب الضاغطة نفسيا. ووجد الباحثون أنه فرص تعرض الجنين لتشوّهات خلقيَّة تزداد كلما ازداد فرص تعرض الأمهات لصدمات نفسيَّة في الأشهر الثلاثة الأولى من الحمل. ويقدِّر العلماء أن يكون الضغط النفسي سببا في ارتفاع هرمون الكورتيزون الذي يؤدِّي إلى ارتفاع نسبة السكر في الدم، وتقلص نسبة الأوكسجين في الأنسجة، وهما عاملان يتسبّبان في تشوّهات خلقيَّة عند الجنين. وهذه النتائج لم تكن مفاجئة كما يعلن الدكتور بيتر هيبر من مركز أبحاث السلوكيات في جامعة الملكة في بلفاست بايرلندا الشماليَّة. ويبين هيبر في تصريح له أن الأوساط الطبيَّة تعلم أن الضغط النفسي يؤثر على النشاطات الفسيولوجيَّة في جسد المرأة الحامل، ولا نرى سببا في عدم انتقال التأثير إلى الجنين. وأوضح أن نتائج الدراسة الأخيرة تدعم البراهين التي تراكمت في السابق حول تأثيرات الأزمات النفسيَّة والضغط الناتج عنها على الحوامل ودورها في تشوّه الأجنّة.

تجربة الحمل النفسيَّة :

تحدِّد طبيعة العلاقة بين الحامل وجنينيها في المستقبل درجة قبولها للوليد. وفي الوقت الذي تعاني فيه الحامل من خبرات مؤلمة وغير سارَّة في مرحلة الحمل فإن ذلك سينعكس على الطفل بعد الولادة وعلى درجة قبولها ورفضها له فيما بعد مرحلة الولادة وهي المرحلة التي يصبح فيها حنان الأم إكسير الحياة بالنسبة للوليد. ويمثِّل هذا الحنان ضرورة حيويَّة للنمو الصحي والهرموني عند الطفل، فالطفل الوليد يحتاج إلى أم ناضجة نفسيا تقبله دون نفور أو مشاعر عدوانيَّة، إلى أم تستقبل ميلاده بدرجة عالية من الحرارة والتلهُّف والسعادة.

 

فالأم في وضعيَّة الحمل معنيَّة بإعادة تحقيق التوازن الفيزيائي والبيولوجي التي تسبّبها التحوّلات البيولوجيَّة والكيميائيَّة في حالة الحمل والتي تأخذ طابع صعوبات يطرحها الوليد الجديد تفرض عيها نوعا من التضحيات التي يجب عليها أن تكرّسها في الموقف الجديد. فهذه الاضطرابات التي تعانيها الأم الحامل في مواقفها الأولى قد تقود الأم إلى ردود أفعال سلبيَّة وانفعاليَّة معادية للحمل والجنين وبالتالي إلى رفض المولود في المستقبل.

 

وتشكِّل مرحلة الحمل كما تحدِّد بعض الدراسات والأبحاث مصدرا للتوتُّر والقلق بحدّ ذاته، وتلك هي النتائج التي وصل إليها فريق من الباحثين الذين يستدلّون على ذلك من خلال المقارنة بين الحالة النفسيَّة للحوامل وغير الحوامل من النساء. وفي هذا الخصوص يقول كريت بيبرنك Gret Bebring إذا كان من المتّفق عليه أن مرحلة المراهقة مصدر للقلق والتوتُّر فإننا نفترض بالقياس إلى ذلك وجود درجة أكبر من التوتّر والقلق في مرحلة الحمل بوصفها مرحلة متناهيَة الدقَّة والخصوصيَّة. وبالتالي فإن ذلك الاضطراب والتوتُّر النفسي الذي تعانيه الحامل يعود إلى طبيعة الحمل ذاته. وإذا كانت الفرضيَّة صحيحة يمكن لنا أن نتساءل عن النتائج التي يمكن أن تؤثِّر على مواقف الحوامل من أطفالهن في المستقبل. حيث تؤدِّي الاضطرابات النفسيَّة العنيفة إلى تكوين مواقف سلبيَّة للام من الطفل بعد الولادة ويتحدَّد ذلك في مدى قبول الأم أو رفضها لمولودها الجديد.

 

لقد أدَّى التطوّر العلمي ونمو الأبحاث والدراسات العلميَّة في كافة المجالات إلى تضييق الحصار على المكان الذي تحتلّه التصورات الشائعة غير العلميَّة حول الحمل. ولكن من الملاحظ أن هذا التطور الطبي ساهم إلى حد كبير في الحدّ من المخاطر الصحيَّة والفيزيائيَّة، قد أدَّى إلى تراجع الاهتمام بأهميَّة التحوّلات النفسيَّة المرافقة، أو إلى تراجع الاهتمام بضرورة المساندة النفسيَّة التي تحتاجها الأم الحامل. وفي ذلك السياق تبرز الأهميَّة الخاصة للاهتمامات والنصائح والإرشادات التي كانت حكيمات النساء تسعى إلى تكريسها. وهي نصائح وإرشادات تؤكِّدها اليوم الأبحاث والدراسات العلميَّة على المستوى النفسي والسلوكي.

وفي هذا الصدد يشير فرانك دونوفان إلى الخطورة الكبيرة التي تعود إلى نقص الاهتمامات بالجوانب النفسيَّة للأم الحامل. ففي المجتمعات التقليديَّة كانت المرأة الحامل تجد دائما نوعا من المعاضدة النفسيَّة التي تتمثَّل في طقوس اجتماعيَّة متنوِّعة ولكن ذلك اختفى على نحو تدريجي حيث لا تجد اليوم الأم الحامل المساندة المطلوبة على المستوى الاجتماعي لتجاوز صعوباتها. وبالتالي فإن الصعوبات النفسيَّة هذه تظهر اليوم على شكل أزمة عند المرأة الحامل وهي أزمة لن يستطيع الطبيب النسائي بمفرده أن يخفِّف من حدّتها. إن اكثر ما تحتاجه المرأة في مرحلة الحمل هو المعاضدة والمساندة النفسيَّة، وفي هذا الخصوص يقول أحد علماء النفس ” يجب أن يحظى الجنين بالمحبة والحنان أثناء الحمل و لكي يحظى بذلك يجب على الأم أن تحظى به أولا ” أي لا بد لنا من أجل ذلك أن نمنح الأم كل الحنان والمحبَّة والمساندة لنضمن لجنينها نمو نفسيا وروحيا متوازنا([12]).

 

تشير إحدى الدراسات التي قارنت بين وضع ثلاثين امرأة وضعن بصورة طبيعيَّة مع ثلاثين أخرى وضعن قبل الأوان، إنَّ مواقف النساء اللواتي أنجبن قبل الأوان كانت سلبيَّة من الحمل، وتعرف هذه المواقف السلبيَّة عن طريق دراسة الأحلام والكوابيس التي تعتريهن أثناء النوم وتحديد نوبات الغضب والسخط والمتوترة التي كانت تسيطر عليهن. وهذا يدلّ على أن العوامل النفسيَّة قد تلعب دورا هاما في وضع مبكّر قبل الأوان. وقد شكَّلت هذه الدراسة نوعا من الطموح العلمي الذي دفع بعض الباحثين إلى دراسة إمكانيَّة التنبّؤ بولادات قبل الأوان بالاستناد إلى نمط من الأسئلة التي توجَّه إلى الحوامل بمعرفة نمط العلاقة التي تربطهن بالجنين ومدى تأثير ذلك على طبيعة الولادة.

خاتمة:

ليس في الأمر ما يدهش اليوم عن طبيعة النمو في المرحلة الجنينيَّة للإنسان. فالأبحاث العلميَّة الجاريَّة في مجال علم النفس وعلم الأجنَّة تبيِّن لنا حقائق جليَّة كانت أشبه بالأساطير في الأمس البعيد[13]. لقد انتهت أبحاث عدَّة في مستوى البيولوجيا وفي مستوى علم الأجنَّة وعلم النفس إلى أن الإنسان في مرحلته الجنينيَّة لا يكون تشكيلا بيولوجيا أصما جامدا. فالأشهر التسعة التي يقضيها الإنسان في مرحلة التكوّن الجنيني تأخذ صورة حياة نابضة بالمعاني ذاخرة بالمشاعر والأحاسيس الجنينيَّة الانفعاليَّة. ولا يمكن لأحد أن ينكر أو أن يتنكَّر لكثير من الحقائق المذهلة في هذا الميدان. فالجنين لا يعيش في دائرة مغلقة عما سواها منقطعة عن العالم بل يتعايش مع العالم الخارجي عبر وسطه الرحمي وفي نسق منظَّم من العلاقات التي تربطه بالوجود الخارجي. وبالتالي فإن انفعالات الأم وتهدّجاتها العاطفيَّة ومشاعرها الإنسانيَّة تتدفَّق وتغمر الجنين بسعادة وانسجام لا يوصف. وهذه الحقائق التي نعلنها في صورتها العلميَّة اليوم هي حقائق دينيَّة مطلقة عرفناها بالأمس البعيد فالأديان تذهب مذهب اليقين بأن الروح كامنة في الإنسان في مرحلة الحمل. وقد ورد في الحديث النبوي الشريف تأكيدا لهذه المقولة أنَّ النبي صلى الله عليه وسلم قال ” إن أحدكم يُجمع خلقه في بطن أمه أربعين يوماً نطفةً، ثم يكون علقةً مثل ذلك، ثم يكون مضغةً مثل ذلك، ثم يرسل إليه الملك فينفخ فيه الروح” ([14]). فالجنين يكون حيّا بالمعنى الروحي بعد مرور ثلاثة أشهر على تكوينه وهل يمكن لروح أن تسكن جسدا من غير انفعالات وحياة نفسيَّة !

 

وخير ما نختتم به دراستنا هذه هذا التصوّر العظيم الذي يقدِّمه القرآن الكريم لمراحل نموّ الجنين وتشكّله حيث يقول جلّ جلاله في هذا الخصوص ( يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِن كُنتُمْ فِي رَيْبٍ مِّنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْنَاكُم مِّن تُرَابٍ ثُمَّ مِن نُّطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِن مُّضْغَةٍ مُّخَلَّقَةٍ وَغَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِّنُبَيِّنَ لَكُمْ ۚ وَنُقِرُّ فِي الْأَرْحَامِ مَا نَشَاءُ إِلَىٰ أَجَلٍ مُّسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ۖ وَمِنكُم مَّن يُتَوَفَّىٰ وَمِنكُم مَّن يُرَدُّ إِلَىٰ أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلَا يَعْلَمَ مِن بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئًا ۚ وَتَرَى الْأَرْضَ هَامِدَةً فَإِذَا أَنزَلْنَا عَلَيْهَا الْمَاءَ اهْتَزَّتْ وَرَبَتْ وَأَنبَتَتْ مِن كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ) ([15]). صدق الله العظيم.

 

علي أسعد وطفة

كليَّة التربية – جامعة الكويت

 

مراجع الدراسة وهوامشها :

 

[1] -regarde :  Jean-Yves Nau  , Les temps sont-ils venus de soigner les embryons humains ? Rev Med Suisse 2018; volume 14. 396-397 >

[2]– انظر: فؤاد البهي السيد، الأسس النفسيَّة للنمو: من الطفولة إلى الشيخوخة، دار الفكر العربي، القاهرة، 1968، صص102-114.

[3] –  Regarde: Institut Europeen de bioethique , La recherche sur les embryons humains en Belgique , Mars 2019. https://www.ieb-eib.org/ancien-site/pdf/20190221-dossier-rech-embryons.pdf

 

[4] I. Cohen, J. Poirier & J. Baudet, Embryologie humaine , Maloine, 2e éd. 1981.

 [5] شريف كف الغزال، الجنين ونشأة الإنسان بين العلم والقرآن، موقع الطب الإسلامي على الإنترنت (بإشراف د. شريف كف الغزال ) http://www.islamicmedicine.org.

[6] A. Dollander & R. Fenart, Embryologie générale comparée et humaine , Flammarion, 4e éd. 1979.

[7]. C. Beetschen, L’Embryologie , P.U.F., 3e éd. Paris 1990

[8] محمد الدنيا، الباحثون يكتشفون ملامح حياة الجنين، البيان، الاحد 26 ذو الحجة 1422 هـ الموافق 10 مارس 2002.

[9] حسن عبد الفتاح ناجي، الطفل والشعر الغنائي، الموقف الأدبي، العدد 385، أيار/مايو 2003.

[10] حسن عبد الفتاح ناجي، الطفل والشعر الغنائي، المرجع السابق.

[11] حسن عبد الفتاح ناجي، الطفل والشعر الغنائي، المرجع السابق.

[12] – Frank R. Donovan: Education stricte ou éducation libérale, E.Robert. Laffont, Paris. 1970.

[13] – voir : J. J. Rozenberg, « L’homme in statu nascendi et l’embryo-éthique », in Vers la fin de l’homme ?, C. Hervé et J. J. Rozenberg (éd.), Bruxelles-Paris, De Bœck Université, 2005, p. 34-36.

[14] – رواه البخاري ومسلم.

[15]– القرآن الكريم، الحج، 5.

التعليقات:

  1. مقال جداً جميل دكتور ، واكد الباحثون سوء العلاقة بين الوالدين تؤثر على الطفل وايضاً الطفل بخزن المعلومات من والدته لتهيئة للبيئة

Comments are closed.

جديدنا