مالك شبل والإصلاح الديني في الإسلام

image_pdf

أخذ المفكِّر الجزائري مالك شبل يحتلّ مؤخّراً موقع المنظّر الإسلامي لإسلام التنوير في الساحة الثقافية الفرنسيَّة. فقد صدرت له خلال بضع سنوات فقط عدَّة كتب تمشي في هذا الاتّجاه، ككتاب: بيان من أجل إسلام التنوير. سبعة وعشرون مقترحاً لإصلاح الإسلام (2004)، ثم: الإسلام والعقل. معركة الأفكار (2005)، ثم قبل أسبوعين  أو ثلاثة كتاب جديد تحت عنوان: الإسلام مشروحا من قبل مالك شبل (2007). في كل هذه الكتب وسواها يحاول هذا المفكّر الجزائري، أن يواجه الجمهور الفرنسي والغربي عموماً بالحقائق التالية: الإسلام دين كبير ذو تراث حضاري عريق وليس دين عنف وتفجيرات، كما يشيع حالياً من خلال وسائل الإعلام الكبرى. غالبية المسلمين أصبحوا الآن بين فكي كماشة: فكّ جماعات الإرهاب من داخله وهي أقلية قليلة، وفكّ العداء الغربي لكل ما هو عربي  أو مسلم والاشتباه فيه والخوف منه. الإسلام في الماضي كان مبدعاً في مجالات عديدة، فهو الذي قدَّم للبشرية علم الجبر، وعلم الحساب، وصناعة العطور، والمطبخ الشهي، والموسيقى، وبعضاً من اجمل قصائد الشعر العالمي، والفلسفة، والطب، وحتى تقنيات السقاية والري واستصلاح الأراضي.

 

بعد أن يذكر مالك شبل الجمهور الأوروبي بكل هذه الحقائق واخرى غيرها، نلاحظ أنه يعترف بأن العالم العربي لا يعيش أفضل حالاته في الوقت الراهن. هذا أقل ما يمكن أن يقال. ولكن بما أن الإسلام سمح بإنشاء حضارة ضخمة في الماضي، فإن هذا يعني انه ليس هو سبب التخلف الحالي، كما يزعم بعضهم. وانما الفهم الخاطئ له هو السبب. وينبغي التفريق بين الإسلام من جهة، والتأويلات التي قد تشيع عنه في هذا العصر  أو ذاك من جهة أخرى. ففي العصر الذهبي شاع تأويل منفتح عقلاني، متفاعل مع الحضارات الأخرى. ولكن بدءا من عصر الانحطاط أخذ يسود التأويل الآخر: أي الفهم الجامد، المنغلق، المتعصِّب. وهذا الذي ورثناه حاليا. وبالتالي فالإسلام الذي أدخل العرب في التاريخ، بعد أن كانوا نكرة لا يمكن تحميله مسؤولية المأزق الحالي الذي نعاني منه. لا ينبغي أن نسقط على كل تاريخ الإسلام جرائم التطرف الحالي، فبالاضافة إلى أن هذا ظلم فإنه مضاد للحقيقة التاريخية. وبالتالي ينبغي الاعتراف بأن المسؤول الاول عن هذا الوضع هو الفهم المتزمت والخاطئ للرسالة القرآنية والإسلامية. ولا يمكن أن نخرج من هذا المأزق إلا بإعادة تأويل النصوص التأسيسيَّة الكبرى، على ضوء العلوم الحديثة: كعلم التاريخ، وعلم اللغويات  أو الألسنيات، وعلم الانتربولوجيا، وعلم الأديان المقارنة، الخ.. ينبغي تأسيس كليات جديدة في الجامعات العربية لتدريس هذه العلوم بالإضافة إلى الفلسفة.

 

وبالتالي فنحن بحاجة إلى اجتهاد جديد  أو تفسير جديد لكل موروثنا القديم، لنفضّ الغبار عنه وتمييز الصالح من الطالح. نحن بحاجة إلى غربلة شاملة لكل التراث العربي الإسلامي، من أجل طرح كل ما عفى عليه الزمن، والإبقاء على القيم الروحية والأخلاقية العليا فقط. وبعد أن نتخفَّف من أعباء التراث المتراكم بكل ثقله على ظهرنا، يمكننا أن ننطلق بكل خفَّة وقوّة لصنع الحضارة من جديد على هذه الأرض التي هجرتها الحضارة منذ زمن طويل.

 

إذا لم نقم بذلك فإن الإصلاح الديني في الإسلام سوف يواجه عراقيل كثيرة وسوف يظل التنوير الديني مستحيلا.

 

كل هذا الكلام جيد ويستحق التأييد في رأيي، ولكن الشيء الذي لا أفهمه لدى مالك شبل هو قوله: لكي ينجح هذا التأويل الجديد والشامل للإسلام ينبغي أن تكون هناك لجنة عليا مشكلة من كبار علماء الدين المسلمين، وكذلك من كبار الاختصاصيين في العلوم الحديثة التي ذكرناها آنفا.

 

فكيف يمكن أن يساهم رجال التقليد في تحقيق هذه الطفرة النوعيَّة في فهم الإسلام وإصلاح الفقه القديم؟ أليسوا هم سبب المشكلة؟ فكيف يمكن إذن أن يكونوا هم الحلّ؟ نلاحظ أنَّ مالك شبل يتردَّد في تشخيصاته وطروحاته أحيانا. يحصل ذلك كما لو أنه يخشى القطيعة مع الماضي بشكل كامل،  أو بالاحرى مع ممثلي الماضي الذين يسيطرون على الشارع حالياً، وهذا مفهوم في الواقع، فالقطيعة سوف تجيء على مراحل لا دفعة واحدة. ولكن يبقى المنظور العام الذي ينطلق منه هذا المفكر الجزائري سليماً لا غبار عليه. فهو يقول مثلاً في كتابه الأخير، بأن معركة التنوير في الإسلام لا تزال رازحة، حيث تركها فولتير في القرن الثامن عشر. وهذا يعني أن التفاوت التاريخي الكائن بين الغرب والعالم الإسلامي يبلغ قرنين من الزمن. وهذا ما كنت قد أوضحته في كتابي «مدخل إلى التنوير الأوروبي» قبل فترة. فالتنوير أمامنا وليس خلفنا على عكس الأوروبيين. ولكن التنوير العربي الإسلامي لن يكون نسخة طبق الأصل عن التنوير الأوروبي. وانما ينبغي أن يحصل داخل تراثنا ومن خلال التفاعل  أو التصادم الطبيعي معه. وسوف يحصل ذلك بشكل تدريجي، وخطوة، خطوة. وأول مبدأ يقترحه مالك شبل لهذا التنوير هو: تغليب المعرفة العقلانية على كل أنواع المعارف الغيبية  أو اللاهوتية أياً تكن.

 

فالعقل هو سيد الأحكام، وهو الذي صنع مجد الحضارة الحديثة كما القديمة. وينبغي على المسلمين أن يتَّبعوه اذا ما أرادوا الخروج من المأزق الذي يتخبَّطون فيه حالياً. ولكن الأصوليين السلفيين يرفضون ذلك بالطبع لأنهم يغلبون النقل على العقل. ولذا فإن المعركة الفكريَّة معهم أمر محتوم لا بد منه، ولن تنتهي إلا بغالب ومغلوب. وكل مصير المجتمعات العربية الإسلامية يتوقَّف على نتائج هذه المعركة الدائرة حالياً، التي قد تصبح ضارية أكثر فأكثر. ولكن لا بد مما ليس منه بد. اشتدِّي أزمة تنفرجي..

 

هناك مبدأ آخر يلح عليه مالك شبل، من أجل التنوير والإصلاح ألا وهو: لا يمكن للمسلمين أن يخرجوا من محنتهم الحاليَّة، إلا إذا شرعوا بتطبيق المنهجيَّة التاريخيَّة على القرآن الكريم والنصوص التأسيسيَّة الأخرى. ينبغي أن نقرأ القرآن بروحه وجوهره، لا بحرفيته  أو شكلانيته الخارجية فقط. هناك مقاصد عميقة للقرآن الكريم وهي التي ينبغي أن تهمنا بالدرجة الأولى.

 

اخيراً فإن مالك شبل يدعو إلى قطع حبل السرة بين الدين والاستخدام السياسي  أو الانتهازي له. وهو هنا يسير على خطى الشيخ علي عبد الرازق ويدين ذلك الخلط المستمر بين السلطة الدينية والسلطة الدنيوية. ويرى أنه خلط مضاد لروح الإسلام وجوهره. فالنبي عليه الصلاة والسلام لم يكن ملكاً سلطوياً وانما كان قائداً روحياً وأخلاقياً للبشرية. وبالتالي من الآن فصاعداً ينبغي على الشيخ أن يظل إماماً في المسجد، وعلى العاهل أن يهتمّ بشؤون السلطة والمواطنين. ولا ينبغي تلويث الدين بكل نزاهته وتعاليه بالمناورات  أو الضرورات السياسية المتقلبة. على هذا النحو يسحب المفكِّر الجزائري البساط من تحت أقدام المتزمتين وقادة الإسلام السياسي ويعيد الأمور إلى نصابها. وبالتالي فلن تصلح أمور الدنيا قبل أن تصلح أمور الدين، لأن الدين في مجتمعاتنا هو الذروة المقدسة التي تعلو ولا يعلى عليها. وواضح أن الخلل وصل ليس إلى الدين، معاذ الله، وانما إلى فهم الدين  أو بالاحرى عدم فهمه على حقيقته وبشكل صحيح.

__________
* نشرت في “الشرق الأوسط” بتاريخ 1/ حزيران/ 2008/ وأعيد نشرها  الراصد التنويري (العدد 2) أيلول/ سبتمبر 2008.

جديدنا