الحوار جوهر الحياة

image_pdf

الحوار هو تبادل الحديث بين كيانين أو أكثر، وإذا كان هذا التعبير رائجاً في مجال الدراما منذ الحضارات الإغريقيَّة والهنديَّة وغيرها، إلا أنّ حوارات أفلاطون تستوقف من يتابع أصل هذا التعبير لانطوائها على فكرة “الخلاف” بين السقراطيّين ومخالفيهم، لذا كانت تلك الحوارات تسير باتّجاه “حلّ خلافات”.
تنهض تلك “الحوارات” على إمكانيَّة أن يدرك المحاور استحالة فرضيّاته. ليحاول بعدها التدقيق بفرضيّات أخرى، تطرح هي الأخرى للفحص بالدقَّة نفسها. وهكذا تتواصل الحوارات. في القسم الأعظم منها، بهذا النحو بلا انتهاء، كما لو في الحياة الحقيقيَّة.

 

مفهوم “الحوار” يفترض إذاً، وجود “خلاف” ينتظر على الدوام حلا، أو يطرح نفسه بديلاً من “الصدام” أو الصراع، أو النزاع .. وإلى ذلك من المفاهيم التي تنطوي بدرجة أو بأخرى، على “عنفٍ حقيقي”.

ويبدو أنّ المفهوم الفلسفي هذا رُحِّلَ بقوّة، في تسعينيّات القرن الماضي، إلى المجال الثقافي، وتحديداً بين الإسلام الذي شكَّل مؤسّسات سوسيو ثقافيَّة واستبطنها. والغرب بوصفه نسقاً سوسيو ثقافيّاً واقتصاديّاً وسياسيّاً- وضعيّاً- تلفَّع بعباءة “عقيدة”.

لقد اختزل عرب ومسلمون “الغرب كلّه” بدول معدودة، تتصدَّر المواجهة والجبهة، واختزل غربيّون “قراءات الإسلام كلها” بنسخةٍ واحدة تقريباً، اختطفت نسخ وأصوات كثيرة، على أنّها نسخة تحتاج إلى مساحةٍ أكبر بكثير من هذه السطور لفحصها بموضوعيَّة، في حواضنها العربيَّة والمسلمة، بل حتّى الغربيَّة.

أمّا داخل أسوار “دار الإسلام” نفسها، فكان لظهور الجماعات التكفيريَّة والسلفيَّة- بهذا المعنى- في منتصف القرن السابع عشر الميلادي، أن أدَّى إلى عنفٍ تجلَّى بأبشع صوره في هجمات مسلّحة على مسلمي الداخل- آخر الداخل- في أوقات معيّنة، منذ ذلك التاريخ حتى اليوم، أي أنّه سبق عنف هذه الحركات الموجّهة ضدّ آخر الخارج.

والحال هذه، هناك مستويان من “الخلاف” أو “الصراع” الأوّل خارجي؛ بين دول غربيَّة بعينها وتنظيمات سياسيَّة لا تفيد من الإسلام إلا قدرة إحدى مقولاته “الجهاد” على التجنيد والتعبئة، لهذا لا تجدها تطرح مشروع إدارة لمجتمعاتها بنحوٍ واضح دقيق ومحدّد؛ بل إنَّ هويّتها يشكّلها “السيف” وليس الفكر.

والمستوى الآخر داخلي، يتمثَّل بظهور التيّارات “السلفيَّة” و”التكفيريَّة” التي لم تتورّع عن “شرعنة” العنف واستخدامه.

هذان المستويان أنتجا بدورهما مقولة “العدو البعيد والعدو القريب” التي ظهرت في أدبيّات السلفيّين الجدد في القرن العشرين، الأمر الذي يفرض على “المتنوّرين” و”المعتدلين” كما على “العلمانيّين” و”الليبراليّين” التثقيف على هاتين الجبهتين، كما هو الحال، ولا مجال في عالم اليوم، إن اخترنا البقاء فيه بشراً يسهمون ببنائه وجعله مكاناً أكثر مقبوليَّة، إلا بحوار لا ينتهي يسلّم أولا بأحقيَّة وجود تنوّع، اختلافات، ويتّجه لحلّ خلافات، فهذا هو جوهر الحياة.
______
*الراصد التنويري/ العدد 2/ أيلول 2008.

جديدنا