نصر حامد أبو زيد وهاجس التجديد

image_pdf

 

تمهيد

تتميَّز المجهودات الفكرية والعلمية التي بذلها نصر حامد أبو زيد ببعدين أساسيين، يتمثَّل البعد الأول في إعادة النظر في الكثير من القضايا التي تقبّلها العقل الإسلامي بوصفها مسلّمات انتهى حولها النقاش، ومنها بحثه في ماهية الوحي، عن طريق الحفر في الشروط التاريخية والمعرفية التي جعلته ظاهرة متحقّقة ومعقولة، ويتجلَّى البعد الثاني في سعيه إلى تحليل النصّ القرآني من حيث طريقته في إنتاج الدلالة والكشف عن آليّات تشكّلها وتكوّنها، إضافة إلى البحث عن الآليّات التي ميَّزته عن باقي النصوص الأخرى وأكسبته سلطة التفوُّق. يقول علي حرب:” أمّا نصر حامد أبو زيد، فإنَّ أهمِّية عمله الفكري لا تكمن في جرأته على القول بإنَّ النصّ القرآني هو نتاج لواقع العرب والثقافة العربية في العصر الجاهلي، لأنَّ مثل هذا القول لا يضيف جديدا للفكر، الأحرى أن نبحث عن الأهمّية الفكرية في تحليلات أبي زيد لآليات النصّ القرآني في إثبات تفوّقه أو تثبيت سلطته. وهو أمر لم يلفت نظر الذين اتَّهموه أو أدانوه، وهكذا فالأهمّية تتأتَّى من مصداقية الأفكار وقوَّة المفاهيم”[1]. إنَّ القول بإنَّ القرآن منتج ثقافي لغوي تاريخي، وإعادة التأكيد عليه في كل وقت وحين ليس بالأمر البسيط كما يتصوَّر علي حرب، لأنَّ هذه الفكرة التاريخية الموضوعية غير متقبَّلة إطلاقا داخل المجال التداولي الإسلامي، أمَّا تنبيهه إلى المجهودات التحليلية لأبي زيد في كشف آليات النصّ القرآني في إنتاج الدلالات والمعاني، فهذا ما ينبغي أن تنصبَّ عليه البحوث والدراسات، إذ يشكِّل النصّ القرآني في بنيته الكلية ظاهرة أو واقعة نصية لغوية تفرض سلطتها على القارئ بشكل متكرِّر، ومن هنا قوّته واستمراريته، وما علينا إلا البحث عن تلك الآليَّات والوسائل والقواعد اللغوية والدلالية والفنية التي يوظِّفها ويبني بها سلطته وقوّته.

 

  • أسس منهج قراءة التراث عند نصر حامد أبي زيد

يسعى أبو زيد من خلال مجهوداته العلمية إلى”قراءة التراث الفكري الديني في الثقافة العربية الإسلامية قراءة تحليلية تفكيكية”،[2] وما دام هذا التراث المتعدِّد يستمدّ خلفيته المرجعية الثابتة من النصّ الديني الإسلامي الأصلي”فإنَّ إشكالية قراءة النصّ الديني وتأويله تعدُّ إشكاليات جوهرية ــ تأسيسية ــ لكثير من إشكاليات القراءة التي يطرحها التراث من ذاته، فضلا عن إشكاليات قراءة هذا التراث وتأويله”[3].

إنَّ الهمَّ الأساس الذي حكم مشروعه الفكري هو إعادة قراءة التراث العربي الإسلامي والنصّ القرآني بشكلٍ خاصّ قراءة جديدة، اعتمادا على المنجزات النظرية والمعرفية المعاصرة، فتحاً لآفاق جديدة في الدراسات الإسلامية، ومستفيدا من المناهج الحديثة في قراءة النصّ القرآني، ومن الحفريات والاكتشافات التي تتعلَّق بالمصحف. من هنا ينبغي على الدراسات القرآنية الحديثة أن تفتح “النصّ القرآني على الحياة، والإسهام في بناء حياة يدخلها النور، نور المعرفة والفهم، والحقّ في اختلاف الفهم والقراءة والتفسير”[4].

يشتغل أبو زيد وفق منجزات منهج تحليل الخطاب، الذي يأخذ بعين الاعتبار طبيعة الخطاب وخصوصيته في تحديد آليّات الاشتغال، ومنهجه في كليته ينطلق من حقيقة أنَّ قراءة التراث والنصّ الديني تتجلَّى في شكل خطابات، تستوجب التحليل من أجل الكشف عن الدلالات الصريحة والمضمرة في الخطاب، سواء على مستوى المنطوق أم على مستوى المفهوم، وصولا إلى تحليل بنية الخطاب أسلوبيا وسرديا.

ولكل خطاب سياق يمثِّل جزءا من بنيته الدلالية “سواء أكان هذا السياق خطابا أم خطابات أخرى، أم كان سياق مساجلة دينية أو سياسية..إلخ، ولا يتوقَّف منهج تحليل الخطاب عند مستوى اكتشاف الدلالة اللغوية والسردية والسياقية، لأن بعض الخطابات توظِّف دلالات سيميولوجية تحتاج للتحليل والكشف عن بنيتها”،[5] إنه منهج يتميَّز بالمرونة والانفتاح المستمرّ، وقابل لتجديد آليّاته تبعا لطبيعة الخطاب موضوع التحليل.

يحاول هذا المنهج مقاربة الخطابات على تعدُّد مرجعياتها بشكل شمولي، لذلك “يعتمد منهج تحليل الخطاب على الإفادة من “السيميولوجيا” و”الهيرمنيوطيقا” بالإضافة إلى اعتماده على “اللسانيات” و”الأسلوبية” و”علم السرد”، ولا يقوم هذا الاعتماد على توظيف حرفي ميكانيكي لمقولات تلك المعارف وقواعدها المنهجية، بقدر ما يحاول الانطلاق من قراءة معاصرة للإنجازات التراثية في علوم اللغة والبلاغة، خاصَّة تلك الإنجازات ذات الطابع المتقدِّم، والتي تطرح بذورا تسمح بتأسيس إنجازات العلوم الحديثة تأسيسا ثقافيا عربيا”[6].

لقد استطاع أبو زيد الإفادة من “المناهج البنيوية والسيميائية وفقه اللغة وغيرها في تفكيك النصوص واستبار غور مضامينها اللغوية والأسلوبية ودلالاتها المعرفية، كما ركَّز على المباحث في الفلسفة والعقيدة واللغة، وأظهر طول باعٍ في قراءة المصطلحات وكشف مضامينها معوّلا على تاريخية المصطلح والمفهوم في آن. كما لم يهمل مناهج القدماء من المفسِّرين والبلاغيين وعلماء الكلام، وأفاد منها جميعها بعد دعمها بالمنهجيات الحديثة والمعاصرة”[7]، وهو من المفكرين الباحثين الذين جمعوا في مجهوداتهم العلمية بين الإلمام بالمنجزات التراثية على تعدّدها، ومعرفتها معرفة علمية أكاديمية، خصوصا مناهج العلوم الإنسانية والاجتماعية، ولا تنحصر همومه عند حدود البحث الأكاديمي الصرف، وإنما تتجاوزها إلى الاهتمام بقضايا وإشكالات الواقع العربي المعاصر، سياسيا وفكريا، فهو من رواد حركة التنوير المعاصر، إذ سعى إلى الإسهام في صياغة مشروع نهضوي تنويري عربي معاصر، من خلال دراسات رائدة متعدِّدة في مجال نقد التراث العربي الإسلامي.

يرى محمود أمين العالم أن: “قراءة الدكتور أبو زيد هي قراءة في إطار الدين نفسه، لا بما يعلنه ويؤكِّده بأقواله وكتاباته فحسب، بل بمضامينها ونتائجها كذلك..ولهذا يقول الدكتور أبو زيد في مقدمة كتابه “النصّ، السلطة، الحقيقة”: إنَّ الخطاب الذي يطرحه هذا الكتاب يعدُّ في جانبٍ منه تواصلا مع خطاب عصر النهضة في جانبه الديني، ليس بدءا من محمد عبده حتى محمد أحمد خلف الله. بل هو تواصل مع هذا التراث في بعده الأعمق المتمثِّل في الإنجازات الاعتزالية ــــ الرشدية. ولكنه تواصل يمثِّل الامتداد النقدي لا لخطاب النهضة فقط بل للخطاب التراثي كذلك”[8].

تعدّ قراءة أبي زيد للتراث الديني امتدادا في بعض عناصرها ومفاهيمها للمشاريع الفكرية التنويرية، وإن اختلفت معها اختلافا من حيث بنية المنهج، فكلّها مشاريع سعت إلى إعادة قراءة الفكر الديني بمنظور جديد مختلف عن القراءات السابقة، وذلك لإعادة بنائه بناء جديدا، وهي قراءة تعدّ ـــ في نظرنا ـــ امتداداً للرؤية الاعتزالية العقلانية القديمة لكن بأدوات منهجية جديدة ومعاصرة، فقراءته تقوم على التحليل العلمي النقدي التاريخي للنصوص والخطابات في حين نجد معظم القراءات الأخرى تقتصر على النصّ الديني الثاني” السنَّة”[9] دون النص الأول “القرآن”، الذي قام أبو زيد بتحليل آليات إنتاجه للدلالة. واللافت للانتباه أنه ركز على التحليل البنيوي الداخلي للنصوص التراثية. كشفا لدلالتها المحايثة، إلى جانب تركيزه على أثر العوامل التاريخية والاجتماعية في تشكيل التراث في تعدديته تنوعه، وإن لم يقف عند ذلك طويلا لطبيعة دراسته التي يكرسها لدراسة البنية الداخلية للنصوص وآليات إنتاجها للدلالة وبنائه للمعنى..

إنَّ الهاجس المتحكِّم في كل دراسات أبي زيد هو هاجس التجديد، والتجديد يعني أشياء كثيرة؛ منها الإيمان بالتعدُّد الفكري وبالديمقراطية وحرّية الرأي والعدالة الاجتماعية..

  • التراث وهاجس التجديد

يمكننا تحديد اللحظة التاريخية التي ظهرت فيها محاولات إعادة قراءة التراث قراءة جديدة بنهاية القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين، بحيث كانت الدعوات إلى قراءة التراث الإسلامي قراءة تتوافق مع روح العصر ومستجدّاته، وتركَّزت المجهودات على قضية إصلاح الفكر الديني وتجديده بشكل خاص، ونذكر هنا العديد من المفكِّرين: رفاعة الطهطاوي(1801 ـــ 1873)، خير الدين التونسي(1820 ـــ 1890)، جمال الدين الأفغاني(1838 ـــ 1897)، محمد عبده(1849 ـــ1905)، قاسم أمين(1863 ـــ 1908).. ويمكن للمطلع على تلك المجهودات الفكرية تسجيل ملاحظتين:

الملاحظة الأولى: تُعدُّ تلك المجهودات محاولة للتوفيق بين التراث الإسلامي ونتائج الفكر الغربي الحديث، ولم يكن همها الأساس هو تجديد تأويل الخطاب الديني، وإنما  انحصر الأفق في تقديم الإسلام بشكلٍ يوافق الفكر الغربي المتطوِّر، وهو خطاب ـــ في نظرنا ـــ له مسوّغاته التاريخية والموضوعية.

الملاحظة الثانية: اعتمدت تلك المجهودات في مجملها على آليَّات منهجية ونظرية تراثية لم تتجاوز ما أبدعته الأدبيات الإسلامية القديمة.

وظهرت بعد هذا الجيل من الروّاد النهضويين تصوّرات سعت إلى الاعتماد على المناهج الحديثة في مقاربة القضايا التراثية، ونذكر هنا طه حسين وأمين الخولي وأحمد خلف الله بعد ذلك. ثم ظهرت في بداية السبيعينات مشاريع فكرية لثلَّة من المفكِّرين اهتمَّت بنقد التراث وإعادة قراءة نصوصه المتعدِّدة، سواء الأدبية الإبداعية، أو الدينية التشريعية، اعتمادا على منجزات المناهج الحديثة المرتبطة بالمجالات المعرفية المختلفة والمتنوعة. وفيما يتعلَّق بالتعامل مع النصوص الدينية نجد فئة تعاملت معها بشكلٍ غير مباشر مثل حسين مروة وجورج طرابيشي وعبد الله العروي، وفئة تعاملت معها بشكل مباشر مثل زكي نجيب محمود ومحمد أركون وحسن حنفي وطيب تيزيني ومحمد شحرور وهشام جعيط.. ولكن هذه القراءات الحداثية تمايزت من حيث الأدوات المنهجية والمقاربات النقدية، مع إجماعها على ضرورة قراءة النصوص الدينية وفق أنظمة قراءة جديدة.

ينتمي نصر حامد أبو زيد إلى هذه المدرسة الحديثة بالضبط، بحيث يعتمد القراءة العلمية الإنسانية التاريخية للنصّ الديني، والبحث في بنية وماهية النصّ القرآني، إضافة إلى اهتمامه بمقاربة التراث الإسلامي في أبعاده المتعدِّدة، سواء التراث النقدي البلاغي واللغوي، أو التراث الفلسفي الكلامي، أو التراث الفقهي الأصولي، أو التراث التفسيري.

إنَّ القانون الذي يحكم الفكر هو “التجديد”، والتجديد ” حاجة دائمة، سيرورة اجتماعية وسياسية وثقافية، بدونه تتجمَّد الحياة وتفقد رونقها، وتدخل الثقافات نفق الاندثار والموت”[10]، وكل حركة تجديدية مرهونة بسياقاتها التاريخية والاجتماعية والسياسية والفكرية التي تستدعيها وتفرضها فرضا، من هنا ” يمكن القول إنَّ التجديد ليس حالة فكرية طارئة، بل هو الفكر ذاته في تجاوبه مع الأصول التي ينبع منها ويتجاوب معها بوسائله الخاصة”[11]، ومنهج التجديد الذي يتميَّز به البحث النقدي التحليلي لا تقوم له قائمة إلا بعد “قتل القديم بحثا”، لأن “التجديد دون فحص القديم فحصا علميا نقديا من شأنه أن يضيف أفكارا إلى أفكار، فتتجاور الأفكار القديمة والأفكار الحديثة دون أن يزحزح الجديد القديم ويحل محله”[12]، وكثيرة هي الأفكار القديمة التي أصبحت بفعل الترديد المستمرّ والامتداد الزمني عقائد لا يجوز مناقشتها وإعادة النظر فيها، من هنا يعدُّ التجديد خروجا من دائرة العقائد المغلقة “الدوغمائية” إلى دائرة الأفكار المنفتحة، إنه يحفر في جذور الأفكار ويفصح ” عن دلالاتها في سياق تكونها التاريخي الاجتماعي، وبذلك يردّها إلى أصولها بوصفها فكرة وليست عقيدة”[13]، أي أنه يقدمها بكونها نتاجا بشريا تاريخيا.

تتطلَّب أي قراءة جادَّة للتراث ــ في تصوّرنا ــ شروطا أساسية:

ـــ الإلمام بالجوانب المعرفية المتعدِّدة للتراث، والاطّلاع على كل التيارات التي تعاملت معه قراءة ونقدا وتأويلا.

ـــ تحديد المنهج المتَّبع في عملية القراءة والتأويل.

ـــ الوعي الدقيق بالتموضع التاريخي والاجتماعي للقارئ.

ـــ الاستفادة من كل طرق الاجتهاد والبحث الحديثة، وأنظمة القراءة المعاصرة.

ونصر حامد أبو زيد كان على وعيٍ تامّ بهذه الشروط، لذلك نجده يرصد ثلاثة خطابات أساسية في التعامل مع التراث.

الخطاب الأول: خطاب القطيعة

       يؤمِّن هذا الخطاب بضرورة الانقطاع عن الماضي/التراث بشكلٍ كلي، سواء في شكل الحياة أو أنماط السلوك أو في مناهج التفكير” وفي رأي أصحاب هذا الاتِّجاه أنَّ التراث هو الماضي بخيره وشره، بليبراليته وتقليديته، وبعقلانيته وأساطيره، وإنه أيا ما كانت عناصر التقدُّم والاستنارة العقلانية في هذا التراث، فإنها تظلُّ في النهاية عناصر تنتمي إلى الماضي وتعجز عن مخاطبة الهموم والمشكلات التي تطرحها الحياة في شكلها الراهن”[14]. إنه خطاب يرى أنَّ الانقطاع المعرفي هو الحل.

الخطاب الثاني: خطاب التقليد

       يتعامل هذا الخطاب مع التراث بوصفه” إنجازا مقدَّسا لا يجب المساس به إلا بالتوقير والتعظيم والإجلال”[15]، وهو خطاب لا يفرق بين مفهوم التراث بوصفه مجهودات العقل الإنساني في عملية تقريب دلالات الوحي إلى الواقع في سياق اجتماعي تاريخي معين، وبين مفهوم الدين بوصفه النصوص الأصلية مجرَّدة من أي تفسير أو تأويل، بل يحاول ــ في نظر أبي زيد ـــ إدماج التراث ” في هيكل المقدَّس، وهكذا يتمُّ إعلاء التراث وتقديمه ليس على الحاضر فقط، بل تكريس سيطرته على قاعدة من التمسُّك العقائدي الانتقائي المسيطر كتعبير عن السيطرة السلطوية”[16]. إنَّه خطاب يؤمن بشعار الإسلام/التراث هو الحل.

الخطاب الثالث: خطاب التوفيق[17]

       يتعامل هذا الخطاب مع التراث بمبدأ الانتقاء، ومشكلة هذا الخطاب أنه “ينتهي إلى التلفيق بانتقاء عناصر فكرية من هنا وهناك، أي عناصر فكرية مأخوذة من أنظمة فكرية مختلفة، بل متعارضة أحيانا، ليصنع منها على تفاوتها بناء واحدا يصلح للحاضر”[18]، وهو خطاب ينطلق من مفهوم محدَّد للزمن، يكون فيه الحاضر نقطة التقاء الماضي بالمستقبل، نقطة مليئة بالحركة والحيوية، لكنّه يظلّ مشدودا إلى التراث “الأكثر امتلاء بالعافية وبالخبرة، وبهاجس الآخر الغربي الطامع المستعمر المهدّد للهوية”[19]، وهو بهذا يعيد إنتاج القراءة التراثية للتراث.

تجعل هذه الخطابات التراث موسوما بملامح عدّة، لأنه: “لا ينطق بل تتكلم به الإيديولوجية”[20]، لكن كيف يتكلم التراث أو ينطق[21]؟ يجيبنا أبو زيد على الفور بقوله: “فالسبيل إلى ذلك يتطلَّب تغيير الشروط العلمية المعرفية وتحريرها، بدون تغيير هذه الشروط، من المستحيل أن يصبح التراث مجالا للدرس العلمي النقدي، الذي يستنبط دلالة التراث في سياقه التاريخي الاجتماعي، فيصبح قادرا على التمييز بين مستوى المعنى السياقي التاريخي ومستوى المغزى الكلي العام”[22].

إنَّ إشكالية الأصالة والمعاصرة التي تتخبَّط فيها كل الخطابات التي أنتجت منذ مرحلة ما سمي بـ”النهضة” تحتاج منا ـــ في نظر أبي زيد ـــ إنجاز عمليتين علميتين:

العملية الأولى: إدراك “العمق التاريخي للتراث من جهة(…) وإدراك تعدّدية هذا التراث من حيث الرؤى والتوجهات من جهة أخرى، بعبارة أخرى لا بدّ من إنجاز وعي علمي بالتراث يضعه في سياقه التاريخي”[23].

العملية الثانية: لا بد من “إنجاز وعي علمي بالحضارة الحديثة، بأصولها وأسسها، وبإنجازاتها الحقيقية، مع ضرورة التمييز بين الإنجاز العلمي والفكري وبين الإيديولوجيات التي تلتبس بها عادة”[24].

تستمد هاتان العمليتان فرادتهما من كون تلك الخطابات تعاملت مع التراث العربي الإسلامي “باعتباره كلا جوهريا موحّدا يمثِّل نوعا من الانعكاس لازدواجية التعامل مع أوربا بوصفها كلا جوهريا موحدا. إنه في الحالتين انعدام الوعي التاريخي بالظاهرة، سواء كانت تلك الظاهرة أوروبا أو كانت التراث العربي الإسلامي”.[25]

لا يملّ نصر حامد أبو زيد من التذكير بفكرة مركزية في تعامله مع التراث، تتمثَّل في طبيعة العلاقة الرابطة “بين التراث في أي مجال من مجالاته المتعدِّدة ووعينا المعاصر، إذ ليس للتراث وجود مستقلّ خارج وعينا به، وفهمنا إياه”[26]، ومن هنا فإن طبيعة القراءة التي يأمل الباحث تحقيقها هي” القراءة الموضوعية الحقَّة، التي لا تغفل المنطق الداخلي الخاصّ للتراث من جهة، ولا تتعامل معه بمعزل تامّ عن الوعي المعاصر من جهة أخرى”[27]. وهي قراءة واعية بأنَّ التراث ليس كيانا واحدا، بل هو “متنوِّع متغيِّر طبقا لطبيعة القوى المنتجة له. إنَّ التراث ليس معطى واحدا بل هو اتِّجاهات وتيارات عبَّرت عن مواقف وقوى اجتماعية وعن إيديولوجية ورؤى مختلفة”[28]، وما دام التراث يتمتَّع بصفة التنوُّع والتعدُّد، فعملية الاختيار تقوم على أساس “موقف الباحث من الواقع الذي يعيش فيه بوصفه شرطا أوليا للتجديد”[29]، وبناء على دراسته النقدية لخطاب النهضة وما تلاه من خطابات نقدية تجديدية، يحذِّرنا أبو زيد من أن التجديد على أساس” إيديولوجي دون استناد إلى وعي علمي بالتراث لا يقل في خطورته عن التقليد”[30]، ولذلك ينبغي إبداع قراءة علمية للتراث تنظر في الأصول التي كوّنته، وكل العوامل التي ساهمت في تطوّره، لكن هذه القراءة تعترضها عقبات عدَّة وعلى الباحث أن يمتلك” كثيرا من الجرأة والشجاعة في طرح الأسئلة، ويستلزم منه جرأة أشدّ وشجاعة أعظم في البحث عن الإجابات الدقيقة لهذه الأسئلة”[31].

تسعى القراءة العلمية للتراث إذاً إلى استكناه مدلولاته ومنتوجاته المعرفية المتعدِّدة، إنها “القراءة الواعية” التي تنطلق من اكتشاف التعالقات الخفية بين مجالات الفكر التراثي وصولا إلى وحدته، فالتراث منظومة واحدة متوزِّعة إلى أنماط وأنساق جزئية متغايرة في مجالٍ معرفي خاص، إنه الوعي بالتداخل المعرفي بين المعارف التراثية، وهذا الأساس المنهجي ينبغي استحضاره حتى لا تكون النتائج قاصرة وغير علمية، فسبيويه وهو يؤثِّث الأساس النظري والقوانين الكلية للغة العربية لم يكن منفصلا نظريا ومعرفيا عن نتائج وإنجازات الفقهاء والمحدّثين والمتكلّمين، وعبد القاهر الجرجاني لم يكن منعزلا في دراساته عن إطار علم الكلام وأصول الفقه واللغة. والنتيجة التي نخلص إليها تتمثَّل في كون “علوم النقد والبلاغة لم تنعزل لحظة واحدة عن العلوم الدينية..”[32]، وتتَّحد وظيفة القراءة الواعية في استكناه الدلالات انطلاقا من سياقاتها المتعددة، بل تتجاوز هذه المرحلة إلى مرحلة الوقوف على “المغزى”، أي غاية ومقصدية النصوص التراثية.

إن القراءة الواعية قراءة مهمومة ومثقلة بهموم الحاضر وتساؤلاته، هذه الأسئلة ينبغي أن تكون واضحة حتى تكون القراءة منتجة ونافعة وقاصدة وفاعلة، وإذا تحدّثنا عن الأسئلة نتحدَّث بتلقائية عن آليّات القراءة، أمّا إذا كانت الأسئلة غير واضحة وغامضة فغالبا ما تستبطن أبعادا إيديولوجية ضيقة. وتكون المحصِّلة نتائج متحايلة ومزاجية، فتتعقَّد القراءة من ثمَّة وتتناقض آلياتها، والأهم هو السعي إلى إثارة أكبر عدد من الإشكالات والتساؤلات الحقيقية التي تؤدِّي إلى نوع من المراجعة الواعية، فهناك ثنائية مترابطة: “التساؤل المستمرّ والمراجعة الدائمة”، وهو ما يؤدّي إلى تصحيح المعرفة وأخطائها، وفتح باب الاجتهاد المستمر. هكذا تصبح “القراءة فعلا مستمرا لا يتوقَّف. يبدأ من الحاضر والراهن وينطلق إلى الماضي والتراث ثم يرتدّ إلى الحاضر مرة أخرى في حركة لا تهدأ ولا يقرّ لها قرار، لكنها الحركة التي تؤكِّد الحياة وتنفي سكون الموت، إنها حركة الوجود والمعرفة في نفس الوقت”[33].

تقوم القراءة العلمية الواعية والكاشفة للتراث في تصور أبي زيد على عدة مسلمات:

المسلَّمة الأولى: وجود علاقة تفاعلية تداخلية وتكمالية بين المجالات المعرفية داخل الثقافة العربية الإسلامية.

المسلَّمة الثانية: الارتباط الجدلي بين النشاط الفكري وبين الإشكالات (الاجتماعية الاقتصاد ـــ السياسية ـــ الفكرية) التي تشغل الكائن الاجتماعي. والمفكِّر كائن اجتماعي يمارس فعاليته الفكرية غير منعزل أو متعالٍ عن طبيعته الأساسية تلك.

المسلَّمة الثالثة: تعدّ قضية “رؤية العالم” في بعدها العام مجالا مشتركا داخل الثقافة العربية الإسلامية إلا أن تفاصيلها تختلف من جماعة إلى أخرى، وهكذا فمصداقية وصحَّة الفكر نابعة من رؤية العالم لدى كل جماعة. وحين “ندخل” “رؤية العالم” في تحليلنا للفكر يصبح”الصدق” أو “عدم الصدق” أمورا نسبية، أو تاريخية بالمعنى الاجتماعي، وهذا هو الذي يجعل ممكنا لنا الحديث عن “أيديولوجيات” مختلفة داخل النظام الفكري الإسلامي..”[34].

المسلَّمة الرابعة: إن كل”الخلافات الاجتماعية(الاقتصادية، السياسية، الفكرية) بين الجماعات المختلفة في تاريخ الدولة الإسلامية كان يتم التعبير عنها من خلال اللغة الدينية في شكلها الأيديولوجي”[35]. وكان الصراع يتمركز حول قضايا التفسير والتأويل، وخاصة النزاع على ملكية النصوص، والسعي إلى استنطاقها دعما للمصالح التي تعبر عنها الجماعات الفكرية.

المسلَّمة الخامسة: إنَّ سيطرة اتِّجاه فكري على اتّجاه آخر لفترة زمنية طويلة لا تعني ملكيته للحقيقة المطلقة لأنَّ السيطرة لا تتمّ على أساس الجدل الفكري والمعرفي، وإنما عن طريق آليّات سلطوية، وهي آليَّات” لا علاقة لها بمفهوم “الحقيقة” بالمعنى الفلسفي، لأنها آليَّات تفرض “حقائقها” في الوعي الجماعي بعد أن تضفي عليها السرمدية والأبدية”[36].

المسلَّمة السادسة: تعدّ العديد من الأفكار التي يتبنّاها الفكر الديني المعاصر ذات أصل تراثي، لكن تلك الأفكار التي تتميَّز بالنسبية التاريخية يتمّ تحويلها إلى عقائد فيدخل “في مجال “الدين” ما ليس منه، ويصبح الاجتهاد البشري ذو الطابع الأيديولوجي نصوصا مقدَّسة”[37].

 

  • سؤال المنهج في مقاربة التراث

يتشكَّل منهج مقاربة التراث ــ في نظر أبي زيد ــ انطلاقا من التفاعل بين “قراءة مفاهيم الدراسات الحديثة والإفادة منها، وبين القراءة النقدية للإنجازات التراثية في مجال علوم اللغة والبلاغة والنقد بمعناه العام”.[38] وسؤال المنهج سؤال لا يتوقف أبدا، والذي يتحكَّم في طبيعة المنهج هو طبيعة الموضوع، ويرى أبو زيد أن “قراءات في الهيرمنوطيقا والسيميولوجيا وتحليل السرد والألسنية والأسلوبية ليست وحدها منهجا، ذلك أن المنهج هو ناتج حركة التفاعل العميقة جدا والخصبة بين سؤال الباحث وموضوع البحث”[39].

ويعد منهجه امتدادا لحركة النهضة من حيث الإشكالات والإجراءات التحليلية، لكن على مستوى علمي أعمق وأدقّ، والغاية التي يرسمها لمشروعه النقدي هي:” استنباط الجوهري والإنساني والمعرفي، وتعرية المرحلي والعرقي والإيديولوجي”[40]. والاهتمام الكبير بإشكالية المنهج لها ما يسوغها في تصوّره، فهي التي “تميِّز العقل المتسائل عن العقل المذعن من جهة، كما أنها تميِّز العقل القادر على إنتاج المعرفة من ذلك القابل للمعلومات لحفظها وتكرارها من جهة أخرى..”[41].

 

  • الخطاب الديني وهاجس التجديد

سبق أن أشرنا إلى أن المشروع الفكري والنقدي لنصر حامد أبي زيد يعدّ امتدادا لخطاب النهضة، سواء من حيث الأسئلة والإشكالات، أو من حيث الآليّات الإجرائية، والذي يهمّنا استحضاره هنا هو إشكالية إصلاح وتجديد الخطاب الديني التي شغلت جلّ المشاريع الفكرية الإسلامية المعاصرة، وذلك إيمانا منها بأن هذه الإشكالية هي بوابة الإصلاح الشامل.

يعدّ الخطاب الديني جزءا لا يتجزَّأ من السياق الثقافي العام، يتطوَّر بتطوره، ويتراجع بتراجعه، وفي تحليلاته للخطاب الديني في عالمنا العربي الإسلامي اليوم، لا يستطيع أبو زيد فصله أو عزله عن الخطاب التعليمي والسياسي والاقتصادي، الذي يعكس حالة التراجع والتدهور بشكل كبير، الشيء الذي أثَّر في نوعية الفكر والثقافة في العالم العربي الإسلامي، ولا يمكن تطوير هذا الخطاب إلا في وجود تحليل نقدي حرّ للفكر، وتفكيك للمصالح السياسية التي تتحكَّم فيه وتوجّهه[42].

إنَّ تجديد الخطاب الديني له مسوّغاته، وهي:

أ ـــ المسوِّغ التاريخي

تنبع الحاجة إلى التجديد “من مطلب التغييرـ وهذا المطلب الأخير يصبح بدوره ضرورة ملحَّة حين تتأزَّم الأوضاع على كل المستويات والأصعدة: الاجتماعية، السياسية، الاقتصادية، والثقافية والفكرية على السواء”[43]. تشكِّل هزيمة (1967) لحظة فارقة في الوعي العربي الإسلامي الحديث، إذ كشفت تهافت الخطابات التغييرية سواء الثورية التقدّمية أو التراثية الماضوية، والصدمة التي أنتجتها الأزمة خلقت” الحاجة إلى التغيير، وأول مظهر من مظاهر التغيير هو الحاجة إلى التجديد الفكري والسياسي والاجتماعي، أي التجديد في كل مجالات المعرفة وحقولها، وأيضا التجديد في إطار الفكر الديني، خاصَّة وأن الهزيمة تمَّ تفسيرها في الخطاب الديني بشقّيه الرسمي والشعبي تفسيرا دينيا”[44].

لقد نظر الخطاب الديني إلى الهزيمة بوصفها عقابا إلهيا سببه تقليد الغرب والتحالف معه والتخلِّي عن التقاليد والقيم الإسلامية، هذا التفسير لا يسعى إلى كشف الأسباب الحقيقية للأزمة، وإنما هدفه تزييف وعي المواطن العربي الإسلامي، ومن هنا “نشأت الحاجة إلى إعادة النظر في ما اعتبر مسلمات فكرية وعقيدية ينطلق منها ذلك الخطاب، وظهرت كتابات تبحث في التراث من وجهات نظر مغايرة ومختلفة، مثل كتابات زكي نجيب محمود وحسين مروة ومحمد عابد الجابري وحسن حنفي وغيرهم[45]، ومفكّرين آخرين تناقش المبرِّر التاريخي لمطلب (تجديد الخطاب الديني)”[46].

ب ـــ المسوِّغ المعرفي

يقوم هذا المسوِّغ على أساس “تحقيق عملية التواصل الخلاق بين الماضي والحاضر، والمقصود بعملية التواصل الخلاق الخروج من أسر التقليد الأعمى وإعادة إنتاج الماضي باسم الأصالة، وكذلك الخروج من أسوار التبعية السياسية والفكرية التامَّة للغرب باسم المعاصرة”[47]. وتهدف هذه العملية إلى إعادة النظر في كل مسلمات الخطاب الديني القديم، ودراستها وتسليط النقد على كل جوانبها بوصفها أصل الخطاب الديني المعاصر[48]، والعودة إلى تلك المسلمات هي عودة تستهدف نقد جذورها وتفكيكها “إذ لا انقطاع بلا تواصل نقدي مبدع وخلاق، أما التواصل لغاية التواصل فهو التقليد”[49].

ج ـــ مسوِّغ التوظيف الإيديولوجي للدين

تعدُّ هذه القضية من التحدّيات التي تعيشها المجتمعات الإسلامية، إذ أصبح الإسلام وسيلة لتحقيق مصالح فئوية وسياسية معينة، وتقوم هذه العملية بتحويل “الإسلام إلى أداة من الأدوات واختزاله في وظائف وغايات ذات طبيعة دنيوية متدنية”[50]، بحيث تفرغ الإسلام من محتواه الخلقي والروحي الرفيع وتحمله ما لا يحتمل، كأن تتبنَّى أطروحة “الشمولية، إنه الفهم السقيم للإسلام الذي من شأنه أن يرسخ سلطة رجل الدين والمؤسَّسات الدينية، لتصبح سلطة شاملة ومهيمنة في كل  المجالات”[51]. هكذا يصبح الخطاب الديني خطابا سلطويا لأنه يربط علاقة تحالفية نفعية مع السلطة السياسية لفرض منطق الوصاية[52]، ويتم التلاعب بدلالات النصوص الدينية للحفاظ على أوضاع فئة معينة، ويقوم الخطاب الديني بعمليات اختزال متعددة للنصوص الدينية الإسلامية، ويؤدّي هذا إلى سجن “الفرد باسم دين الحرية في سلاسل من القهر والامتثال والإذعان تحت زعم طاعة الله الذي يمثّله الخليفة أو السلطان أو أمير أو جماعة تحتكر الإسلام ومغفرة الرب”[53].

من هنا تنبع الحاجة إلى اللجوء إلى عملية ” التثوير الفكري” التي تتجاوز عملية “التنوير”، بل وتتجاوز حتى “التجديد”، يقول: ” والحقيقة أننا في مجتمعاتنا العربية الإسلامية في حاجة إلى ما هو أكثر من التجديد، نحن بحاجة إلى تثوير فكري”[54]، والمقصود بالتثوير هو “تحريك العقول بدءا من سن الطفولة، فقد سيطرت على أفق الحياة العامة في مجتمعاتنا ــ سواء في السياسة أو الاقتصاد أو التعليم ـــ حالة من الركود طال بها العهد حتى أوشكت أن تتحوَّل إلى موت”[55]. هذه الحالة المتأزِّمة على كل المستويات انعكست على البنية الفكرية والثقافية، فنحن نعيش حالة مخاصمة للفكر النقدي الحرّ وأهله، لقد تمّ تعويض منهج التفكير بنهج التكفير، لهذا نحتاج إلى تثوير الفكر عبر السعي إلى “تحريك العقول بالتحدّي والدخول إلى المناطق المحرَّمة، وفتح النقاش حول القضايا التي تفتح إمكانات التفكير، وتدخل النور إلى المناطق المعتمة التي يعتبرها الفقهاء من اختصاصهم وحدهم، وأنَّ قولهم فيها هو القول الفصل وليس فقط اجتهادا من بين اجتهادات”[56].

تعدّ عملية نقد وتجديد الخطاب الديني ـــ الخاضع للتوظيف السياسي والإيديولوجي ـــ “مطلبا ملحا بالنسبة للباحثين، بدءا بالدراسة النقدية للتاريخ في تجلياته الأدبية والثقافية والسياسية”[57]، كما أنها تنصب في قلب “الكفاح لتجديد حياة هذا المجتمع، وفي قلب الكفاح للخروج من الوضع المأزوم الذي نعيشه”[58].

 

  • القرآن وهاجس تجديد القراءة والتأويل

إنَّ الحاجة إلى تجديد قراءة القرآن وتأويله نابعة من طبيعة الهموم التي تشغل العقل الإسلامي اليوم، ونوعية القراءة المطلوبة للقرآن تتحكَّم فيها طبيعة الهموم والإشكالات التي تطرحها كل مرحلة تاريخية معينة، بحيث إن “فهم القرآن مهمَّة مطروحة في كل وقت ومطلوبة في كل زمان، وقد يكفي التذكير بأن اقتناعنا بأن القرآن يخاطب أهل كل زمان ومكان، يفرض علينا اكتساب فهم متجدِّد للقرآن بتجدُّد الأحوال في كل عصر..”[59].

يعدّ القرآن ــ في نظر المسلمين ــ وحيا، وهو معطى أولي ومركزي في نظام التلقّي الإسلامي، وأي صياغة جديدة لمعنى الحياة ترتكز على هذه البؤرة المركزية للمعنى. وإعادة قراءة القرآن والاجتهاد في تأويل دلالاته ومقاصده ضرورة عملية يقتضيها تطوّر الواقع وتعدُّد المجتمعات الإسلامية واختلافها، هذا الاجتهاد كان عاملا مهمّا من عوامل الاختلاف في الفكر الإسلامي الكلاسيكي، وهو اختلاف رحمة بين الناس، وفهمت التأويلات المتعدِّدة على أنها دلالة قوية على احتمال النصّ لهذه التأويلات كلها، بل عدّت من علامات “الإعجاز القرآني”.

وإذا كان النص القرآني نصّا محوريا في الحضارة العربية الإسلامية، فلا بدّ من أن تتعدَّد تفسيرات وتأويلاته “ويخضع هذا التعدَّد التأويلي لمتغيرات عديدة متنوعة، أهمّ هذه المتغيرات مثلا طبيعة العلم الذي يتناول النص، إلى المجال المعرفي الخاصّ الذي يحدِّد أهداف التأويل وطرائقه، ثاني هذه المتغيرات الأفق المعرفي الذي يتناول العالم المتخصِّص من خلاله النصّ، فيحاول أن يفهم النصّ من خلاله، أو يحاول ان يجعل النصّ يفصح عنه”[60].

إنَّ التأويل ـــ حسب هذا الفهم ـــ يتحكَّم في طبيعته:

  • المجال المعرفي أو المنظور الإبستمولوجي الذي يعتمده المؤول.
  • الأفق المعرفي والتموضع الاجتماعي للمؤول.

وإعادة تجديد فهمنا للقرآن مرده إلى عاملين اثنين:

ــ تغيّر الأحوال والأوضاع الاجتماعية والسياسية والاقتصادية والثقافية للمسلمين، وبروز إشكالات وتحدّيات جديدة تحتاج إلى إجابات واقعية ومقنعة.

ــ تجدّد المعارف وأدوات الاجتهاد وأنظمة القراءة، الأمر الذي يدفعنا إلى تجديد مناهجنا في القراءة والتأويل.

يشكِّل الحادي عشر من سبتمبر 2001 منطلقا للتفكير من جديد في الظاهرة الدينية عموما والظاهرة القرآنية خاصة، فقد أنتج هذا الحدث ما يسمى بالإسلامفوبيا في الغرب، بحيث عدّ الإسلام دينا راديكاليا إرهابيا إقصائيا، ومن هنا “يجب تأكيد أهمّية دعوة كل المسلمين بصرف النظر عن اختلافاتهم العرقية والثقافية، للتفكير مجدّدا في القرآن”، وليس أبو زيد هنا صاحب دعوة يحاول أن يصوغ نسخة خاصَّة للإسلام، بقدر ما يحاول أن يرسم فضاء لموقفه التأويلي، يتمثل هذا الفضاء في حقيقة كون” عملية التفكير مجددا في التراث عملية بدأت ولم تتوقف حتى الآن في العالم الإسلامي منذ القرن الثامن عشر. وبالمثل لم تتوقف أبدا عملية مفاوضة المعنى القرآني بطرق وأساليب شتى منذ أواخر القرن التاسع عشر حتى الآن”[61]. والقضية لا تقف عند هذه الحدود، بل تتجاوزها إلى ضرورة ” أن يحاول المسلمون ـــ أينما كانوا ـــ التقدُّم خطوة أبعد في هذه العملية من أجل إنجاز منهج تأويلي ناجزـ وذلك ليكونوا مشاركين ناشطين في صياغة معنى حياتهم، في العصر الذي يعيشون فيه، بدل أن يكونوا متلقّين سلبيين للمعاني التي تفرض عليهم بالقهر والانصياع من هنا أو هناك”[62].

 

خاتمة

إنَّ قراءة المشروع الفكري لنصر حامد أبو زيد تتطلَّب كثيرا من الدقَّة العلمية والموضوعية والجرأة المعرفية لعدَّة أسباب، أهمَّها الأوصاف السلبية التي ألصقت به، والاتهامات الجارحة التي وجهت له، والأحكام القضائية التي صدرت ضده، ونادرا ما يجد الباحث دراسات أو مقالات أنصفت هذا المفكر وعرضت أفكاره وتصوراته متجردة من كل نزعة إيديولوجية أو مصلحة حزبية.

ويمكننا إرجاع سوء فهم دراساته إلى اعتماده لغة علمية جريئة غالبا ما تصطدم بالشعور العاطفي الانفعالي للقراء الوثوقيين، ومهمَّة تلك اللغة هي إحداث الدهشة والصدمة في ذهن المتلقّي، وكسر أفق انتظاراته، فالمفكِّر الباحث لا يخوض في المألوف والمعتاد، وإنما يتَّسم عمله بسمة المغامرة، وعندما نفقد هذه السمة يموت البحث العلمي، كما أن ماهية البحث العلمي أساسها السؤال، وكل سؤال تتناسل منه حزمة من الأسئلة، وحين يتوقَّف العقل عن السؤال فلا قيمة للبحث. وهذا الترابط الجدلي بين الأسئلة هو ما يميز المفكِّر النسقي، ولذلك ينبغي قراءة دراسات أبي زيد ومؤلّفاته قراءة نسقية تربط السابق باللاحق، وتتجنَّب الفصل بين إنجازاته المتفرقة، وعدم التعامل معها بمنطق تبسيطي سطحي تجنبا للأحكام الانطباعية غير العلمية.

يعدّ أبو زيد بناء على ما أسلفنا من المفكّرين البارزين الذين يشتغلون بتجديد وتأويل التراث الديني بكل مستوياته وتجلياته، بناء على منهجية علمية دقيقة، ومنطلقات ابستمولوجية محكمة، وبنوع من الجرأة والشجاعة المعرفيتين، وانطلاقا من أسئلة حيَّة وحارقة تتعلَّق براهنية وواقع المجتمعات العربية الإسلامية، والتداخل الحاصل بين هذه المستويات هو ما يجعل تناول منجزاته العلمية يتَّسم بكثير من التعقيد والصعوبة.

 

مراجع البحث

  • إسماعيل (محمود)
  • قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر ودروس في الهيرمنوطيقا التاريخية، مصر العربية للنشر والتوزيع، الطبعة الأولى 1998.
  • أمين العالم(محمود)
  • مواقف نقدية من التراث، دار قضايا فكرية للنشر، القاهرة، الطبعة الأولى 1997.
  • الجابر(محمد عابد)
  • مدخل إلى القرآن، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الاولى 2008.
  • حرب (علي)
  • أوهام النخبة أو نقد المثقف، المركز الثقافي العربي، بيروت/البيضاء، الطبعة الثانية 1998.
  • نصر حامد(أبو زيد)
  • إشكاليات القراءة وآليات التأويل، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة السابعة 2005.
  • التجديد والتحريم والتأويل، بين المعرفة العلمية والخوف من التكفير، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الأولى 2010.
  • التفكير في زمن التكفير، ضد الجهل والزيف والخرافة، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1995.
  • الخطاب والتأويل، المركز الثقافي العربي، الدر البيضاء، الطبعة الثانية 2005.
  • مفهوم النص، دراسة علمية في علوم القرآن، المركز الثقافي العربي، بيروت، لبنان، الطبعة الثالثة 1996.
  • النص والسلطة والحقيقة، إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة الخامسة، 2006.
  • نقد الخطاب الديني، مدبولي، القاهرة 1997/ طبعة سينا للنشر، الطبعة الأولى 1992.

 

 

[1] أوهام النخبة، أو نقد المثقف، علي حرب، المركز الثقافي العربي، بيروت/البيضاء، ط2 ـــ 1998، ص 164.

[2] النص والسلطة والحقيقة: إرادة المعرفة وإرادة الهيمنة، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط5 ــ 2006، ص7.

[3] المرجع نفسه، ص 7.

[4] التجديد والتحريم والتأويل، نصر حامد أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، ط1 ــ 2010، ص 10.

[5] النص والسلطة والحقيقة، ص 8.

[6] المرجع نفسه، ص 8.

[7] قراءات نقدية في الفكر العربي المعاصر ودروس في الهيرمنوطيقا التاريخية، محمود إسماعيل، مصر العربية للنشر والتوزيع. الطبعة الأولى 1998، ص 24،25.

[8] مواقف نقدية من التراث، محمود أمين العالم، دار قضايا فكرية للنشر. القاهرة. الطبعة الأولى 1997. ص59 ـ 60. ينظر كذلك “النص،السلطة، الحقيقة”، نصر حامد أبو زيد، ص 10.

[9] المفكر المصري حسن حنفي نموذجا.

[10] التجديد والتحريم والتأويل، أبو زيد، ص21.

[11] المرجع نفسه، ص 21.

[12] الخطاب والتأويل، أبو زيد، ص19.

[13] المرجع نفسه، ص19.

[14] نفسه، ص 177.

[15] ن، ص 180.

[16] ن، ص 180.

[17] حاول أبو زيد مقاربة هذا الخطاب بشكل موسع في الفصل الثالث من كتابه نقد الخطاب الديني، تحت عنوان: التراث بين التأويل والتلوين، قراءة في مشروع اليسار الإسلامي، الطبعة الرابعة، مدبولي، القاهرة 1997. ص 137 وما بعدها. أو طبعة سينا للنشر، الطبعة الأولى 1992. ص108 وما بعدها.

[18] الخطاب والتأويل، ص 184.

[19] نفسه، ص 186.

[20] ن، ص 186.

[21] يعد الماضي صفحة مفتوحة للقراءة الدائمة والمستمرة، ويظل “سؤال التراث مفتوحا، لأن السؤال الحاضر وكذلك أسئلة المستقبل تعيد صياغة أسئلة الماضي فلا شيء مكتمل، لأنه لا شيء مغلق إلا عقول البعض..” ينظر الخطاب والتأويل، أبو زيد، ص 186.

[22] المرجع نفسه، ص 186. يشير أبو زيد في موضع آخر إلى ضرورة إحداث قطيعة واضحة بين المفكر والمثقف والسياسي والعمل “على استقلال أدوات إنتاج المعرفة بكل فروعها من العلوم إلى الأغاني والأناشيد، مرورا بالفلسفات والفنون والآداب عن سلطة السياسي. إن السياسة كما يقال ــ هي فن تحقيق الممكن ـــ أما المعرفة فهي بناء المستقبل وتحقيق المستحيل”. النص، السلطة، الحقيقة، ص 66.

[23] النص، السلطة، الحقيقة، أبو زيد، ص14.

[24] المرجع نفسه، ص 14.

[25] ن، ص32.

[26] إشكاليات القراءة وآليات التأويل، أبو زيد، المركز الثقافي العربي، الدار البيضاء، المغرب، الطبعة السابعة 2005.ص149.

[27] المرجع نفسه، ص 151.

[28] مفهوم النص، دراسة في علوم القرآن، أبو زيد، المركز الثقافي العربي، بيروت،الطبعة الثالثة 1996،ص16.

[29] المرجع نفسه، ص 17.

[30] ن، ص17.

[31] ن، ن ص.

[32] إشكاليات القراءة وآليات التأويل، أبو زيد، ص5.

[33] المرجع نفسه، ص9.

[34] التفكير في زمن التكفير، ضد الجهل والزيف والخرافة، أبو زيد، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1995.ص130.

[35] المرجع نفسه، ص131.

[36] نفسه، 132.

[37] ن، ص133.

[38] النص، السلطة، الحقيقة، ص 12.

[39] المرجع نفسه، ص12.

[40] نفسه، ن ص.

[41] الخطاب والتأويل، ص 74.

[42] لقد خصص أبو زيد كتابا خاصا لتفكيك الخطاب الديني المعاصر، وكشف مستضمراته وخباياه، والنتيجة التي خلص إليها هي أن هذا الخطاب هو خطاب متهافت يقوم على أسس إيديولوجية نفعية، بعيدة كل البعد عن العلمية والدقة المنهجية، ينظر نقد الخطاب الديني، سينا للنشر، الطبعة الأولى 1992.

[43] التجديد والتحريم والتأويل، أبو زيد، ص22.

[44] المرجع نفسه، ص 23.

[45] ومنهم نصر حامد أبو زيد ومحمد أركون.

[46] المرجع نفسه، ص 23 ــ 24.

[47] الخطاب والتأويل، أبو زيد، ص 228.

[48] حاول أبو زيد البحث في سؤال المعنى الديني عند التيارات الفكرية الإسلامية القديمة، بحيث خصص دراسات للمعتزلة وخصومهم، وانتقل إلى الصوفية من خلال التركيز على محي الدين بن عربي، واهتم بالمدارس النقدية البلاغية، وركز في هذا الإطار على صراع التأويلات، وامتد خطابه النقدي التفكيكي ليشمل الخطابات التفسيرية المعاصرة.

[49] التجديد والتحريم والتأويل، أبو زيد، ص26.

[50] المرجع نفسه، ص27.

[51] نفسه، ص 29.

[52] يقول أبو زيد: “إنه للأسف منطق (الوصاية) يتذرع باسم(الحماية) لممارسة ديكتاتورية فكرية وعقلية لا تقل خطرا عن الديكتاتورية السياسية في مجتمعاتنا”. المرجع نفسه، ص 34. ويقول كذلك ” استطاع التحالف بين المؤسسة السياسية والمؤسسة الدينية أن يخنق تيارات الإصلاح والتجديد”، المرجع نفسه، ص82.

[53] المرجع نفسه، 31.

[54] الخطاب والتأويل، أبو زيد، ص232.

[55] التجديد والتحريم والتأويل، أبو زيد، ص31.

[56] المرجع نفسه، ص32. يقصد أبو زيد مفهوم “اللامفكر فيه” الذي وظفه محمد أركون كثيرا.

[57] المرجع نفسه، ص 83.

[58] ن، ص86.

[59] مدخل إلى القرآن، محمد عابد الجابري، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، الطبعة الأولى، 2008، ص9.

[60] مفهوم النص، قراءة في علوم القرآن، أبو زيد، ص 9.

[61] المرجع نفسه، ص244.

[62] نفسه، ص 244.

جديدنا