العنف السياسي بين الإسلاميِّين والدولة الحديثة

image_pdf

ظاهرة العنف السياسي في المنطقة العربيَّة والإسلاميَّة، ظاهرة قديمة وليست طارئة، مارستها قوى سياسيَّة واجتماعيَّة مختلفة، سواء كانت قوى حاكمة أو معارضة، أو بين القوى السياسيَّة نفسها، أي داخل بنائها وإطاراتها التنظيميَّة، ولجأت إليها قوى اجتماعيَّة للمطالبة بحقوقها ولتحقيق أهدافها السياسيَّة والاجتماعيَّة.

إلا أنَّ خطورة هذه القضيَّة، لم تدفع بعد إلى دراستها بعيداً عن الخلفيّات الأيدولوجيَّة والنوعة التبريريَّة المسكونة بالعداء للقوى الإسلاميَّة، بل اتّجه الخطاب الثقافي إلى إلقاء تبعة العنف على عاتق الإسلاميّين وحدهم، وقد أنتج هذا الخطاب أدوات ومفاهيم واستعار غيرها من الغرب لتوصيف القوى الإسلاميّضة، فأصبحت مصطلحات التطرّف والعنف الديني، والعنف الأصولي، وجماعات الإسلام السياسي، وجماعات العنف الإسلامي تقترن بالقوى الإسلاميَّة وصفة ملازمة لها، وجرى في المقابل تبرئة الدولة وأنظمة الحكم، والنخب السياسيَّة (مدنيَّة وعسكريَّة) والثقافيّضة من مسؤوليَّة تصاعد العنف، أي أنَّ العنف أصبح سمة ذاتيَّة للقوى الإسلاميَّة.

إنَّ الفكر الذرائعي الذي يلتمس المعاذير للدولة في ممارستها للعنف لم يكن يريد دراسة الظاهرة في سياق البحث عن الحلّ المناسب لعلاجها، بل كان يوفِّر الوسائل الضروريَّة (لشرعنة) عنف الدولة السلطوي ويشجّعها على المضي في مهمّتها المقدّسة.

ولهذا كان الخطاب الثقافي عديم الفاعليَّة والجدوى في ملامسة القضايا الاجتماعيَّة والمشاكل السياسيَّة والاقتصاديَّة وإيجاد الحلول لها، لأنّه ينتهي في الأغلب لصالح الدولة ضدّ المجتمع وعلى حسابه وكان يوفِّر لها الفرصة لكسب المعارك التي تخوضها ضدّ المجتمع، فاستمرَّت تسخِّر أجهزتها وقوانينها في هذه المعارك، وتمّ خنق الصوت الآخر أو إضعافه لدرجة أنّه أصبح غير مسموع، وفي مثل هذه الأجواء التي تغلق فيها أبواب الأمل والتغيير الخاضعة لعنف مباشر وغير مباشر يتوالد العنف المضاد وتكتمل دورة العنف السياسي لتسيطر على الحياة العامَّة، ولتأتي النتائج المدمّرة على أكثر من صعيد.

ما هو العنف؟

يتعدَّد التعريف الاصطلاحي لمفهوم العنف إلى ثلاث اتّجاهات أساسيَّة:

  • الاتّجاه الأوَّل: العنف هو الاستخدام الفعلي للقوَّة المادّيَّة لإلحاق الضرر والأذى بالذات أو بالأشخاص الآخرين وتخريب الممتلكات للتأثير على إرادة المستهدف. وعلى هذا الأساس، فإنَّ السلوك العنيف يتضمَّن معنى الإرغام والقهر من جانب الفاعل، والخضوع أو المقاومة من جانب المفعول به أو المستهدف.
  • الاتّجاه الثاني: العنف هو الاستخدام الفعلي للقوَّة المادّيَّة أو ااالللتهديد باستخدامها، وهذا التعريف يوسع المفهوم ليشمل التهديد بالقوَّة إلى جانب الاستخدام الفعلي لها، أي ليشمل السلوك القولي إلى جانب السلوك الفعلي.
  • الاتّجاه الثالث: ينظر هذا الاتّجاه إلى العنف باعتباره مجموعة من الاختلالات والتناقضات الكامنة في الهياكل الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة والسياسيَّة للمجتمع، ولذا يطلق عليه اسم العنف الكلّي.

وعلى هذا الأساس، فإنّ العنف، هو كل سلوك فعلي أو قولي، يتضمّن استخداماً للقوَّة أو تهديداً باستخدامها لإلحاق الأذى والضرر بالذات أو بالآخرين، وإتلاف الممتلكات لتحقيق أهداف معيّنة وهو بهذه اللحظة يكون سلوكاً فعليّاً أو قوليّاً وينطوي على ممارسات ضغط نفسي أو معنوي بأساليب مختلفة، وإنّه يقوم على أساس إلحاق الأذى والضرر والإتلاف المادّي والمعنوي بالنسبة للأشخاص والممتلكات للتأثير على إرادة المستهدَفين أي أنّه يتضمَّن معنى الإكراه والإرغام، كما أنَّ السلوك العنيف قد يكون فرديّاً أو جماعيّاً منظّماً أو غير منظَّم، علنيّاً أو سرّيّاً، صريحاً أو كامناً. وعندما تكون دوافع العنف أو أهدافه سياسيَّة فإنّه يصبح سياسيّاً.

 

أشكال العنف السياسي:

  1. العنف الحكومي: وهو العنف الذي يوجّهه النظام إلى المواطنين أو إلى جماعات وعناصر معيّنة وذلك لضمان استمراره، وتقليص دور القوى المعارضة والمناوئة له.
  2. العنف الشعبي: وهو العنف الموجّه من المواطنين إلى النظام وهناك نوعان من العنف السياسي تمارسهما أجنحة السلطة ضدّ بعضها البعض أو قوى وجماعات منافسة لأسباب سياسيَّة أو اقتصاديَّة أو اجتماعيَّة أو دينيَّة.

وعليه يكون تعريف العنف السياسي بأنّه “كافة الممارسات التي تتضمَّن استخداماً فعليّاً للقوَّة أو تهديداً باستخدامها لتحقيق أهداف سياسيَّة تتعلَّق بشكل نظام الحكم وتوجّهاته الأيديولوجيَّة وبسياساته الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

وقد يختلط مفهوم الإرهاب السياسي بالعنف السياسي ومن الواضح أنّ مجال التدخّل بينهما كبير جدا، لكن الإرهاب يتميَّز عن العنف بشكلٍ عامّ، بأنّه حماية لأشكال معيّنة عن العنف تتّسم بدرجة عالية من التنظيم ولا يستغرق تنفيذها وقتاً طويلاً، ولا تحتاج إلى أعداد كبيرة من البشر أو المعدّات العسكريَّة والقوّات لإنجازه.

وإذا كان نموذج الدولة الغربيَّة قد رسخ أقدامه في الديمقراطيَّة وتداول السلطة واحترام المجتمع والالتزام بالقانون والدستور، فإنَّ الدولة العلمانيَّة في منطقتنا لم تكن ترى نفسها ملزمة بالانصياع لقانون والالتزام بدستور والنزول عند رأي الشعب، بل أنها كانت من النوع الذي لا يقيم وزناً للمجتمع وتعتقد بتخلّفه وهي مخوّلة بإعادة تشكيل بناه الاجتماعيَّة والثقافيَّة ومكلّفة بمهمّة تحضيره وتحديثه وإخراجه من تقليديته وسلفيّته، فجاءت مهمَّة التبديل والتحويل الثقافي مصحوبة بمزيد من المعاداة للإسلام والاستخدام الواسع للعنف.

وقد بقيت الدولة تمثّل سلطة النخبة في قبال سلطة المجتمع، أي أنّها مستقلَّة عن مجتمعها ومعتمدة على الخارج، فهي دولة الخارج ضدّ الداخل ولا تستطيع أن تتصوّر أنّ للمجتمع الحقّ في أن يقول كلمته في أيديولوجيتها العلمانيَّة بل عليه الخضوع لها والتسليم لمنطقها.

ورغم محاولات السلطة الحاكمة حتى القبليّضة منها والتي بنت شرعيَّة نظامها على توليفة مشتركة بين سلطة القبيلة والإسلام، تبديد أي اتّهام لها بأن تفصل فصلا تاماً وقاطعاً بين سلوكها وقوانينها وبين الإسلام الذي يشكِّل دائرة تفكير الجمهور، إلاا أنّها أخفقت في ذلك، لأن الدولة القائمة ضربت بعرض الحائط الأسس المعياريَّة الإسلاميَّة الأخلاقيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة والميتافيزيقيَّة، أمّا القرآن والسنَّة اللذان شكّلا الأسس العامّة للبنية الإسلاميَّة، فقد فصلا عن الحياة السياسيَّة، وبهذا أصبح المؤمن يعاني من نظامٍ أخلاقي وإيماني غير قابل للتطبيع إلا من خلال وجود دولة تحمل أعباءه، ويعاني من أخلاقيَّة دولة انفصلت عن أسس الإسلام الشرعيَّة والميتافيزيقيَّة، ممّا أدَّى إلى تمزيق البنية الأخلاقيَّة للمجتمع.

ومثل هذه الدولة لا بد أن تصل إلى موقع الصدام مع التيّار الإسلامي الذي أصبح بديلاً لوجودها ويدعو إلى استبدالها، ويحمّلها مسؤوليَّة الهزائم والانكسارات المتلاحقة، فكلّما اتّسعت قاعدة هذا التيّار وتنامت جماهيريّته، كانت هذه الدولة ترى في ذلك خطوة نحو نهايتها، فهي محاصرة بالأزمات الخانقة التي ساهمت من دون شكّ في صنعها، وهي تفتقد أي شرعيَة تضمن لها الدعم الشعبي، وتواجه قوى جماهيريَّة ذات خطاب مفهوم ومقبول لدى الجمهور. فما تدعو إليه القوى الإسلاميَّة، لا يخرج عن المطالب الشعبيَّة التي حرّكت جماهير هذه الأمَّة منذ عصر النهضة؛ الأصالة في مواجهة التغريب، الاستقلال في مواجهة الهيمنة الأجنبيَّة، العدالة في مواجهة الظلم، الشورى في وحكم الأمَّة في مواجهة الاستبداد. وليس مصادفة أن تعمد هذه الجماعات الساخطة من الشباب إلى رفع راية الإسلام، فقد كان الإسلام هو دائماً ملاذ الأمَّة حينما يشتدّ الكرب وتتعقَّد الأزمة. إنَّ الإسلام بالمعنى السياسي الاجتماعي، قبل أن يكون بالمعنى الفقهي والشعائري، هو السيف الموحَّد الذي ترفعه الجماعات الساخطة في وجه الأنظمة المستبدَّة، من المحيط إلى الخليج، أنَّ الإسلام الثوري العادل في نظر هذه الجماعات هو الأيديولوجيَّة البديلة والشرعيَّة البديلة لأنظمة الحكم العاجزة، ولأيديولوجيتها البديلة لأنظمة الحكم العاجزة ولإيديولوجيتها المهزومة.

وحينما يشتدّ خوف السلطة من التيّار الإسلامي فإنّها تلجأ إلى استخدام وسائل القمع المباشر أو تلجأ إلى أسلوب التحايل إذا تنازلت قليلا، بتطبيع نوع من الديمقراطيَّة الموجّهة والشكليَّة لامتصاص الغضب الشعبي واحتوائه وتنفيس الاحتقان، وهدف الديمقراطيَّة هو ضبط المجتمع وامتصاصه لصالح الدولة وإسكاته، وليس لتمكين المجتمع من حكم نفسه وممارسة التغيير المنتظر، وإذا جاءت صناديق الاقتراع بنتائج لا ترضاها النخبة الحاكمة، يتمّ الانقلاب على الديمقراطيَّة ويصبح إغراق البلاد في بحر من الدماء والعنف السياسي وحتى الحرب الأهليَّة ثمناً يسهل دفعه طالما كان الهدف هو قطع الطريق على الإسلاميّين حتى لا يصلوا إلى السلطة، وإن كان الجمهور هو الذي يمكّنهم من ذلك.

 

موقف فقهاء أهل السنَّة من الثورة:

يرفض معظم فقهاء السنَّة السابقين الصورة ضدّ الحاكم الظالم ولا يجيزون الخروج عليه رغم إيمانهم بأنّ الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر فريضة واجبة ويشترطون الثورة المسلّحة في حال كفر الحاكم الصريح وإنكاره معلوماً من الدين فقط، وما عدا ذلك فإنّ أغلبهم يدعو إلى الصبر والتغيير السلمي.

يقول الدكتور محمد عمارة: لم يختلف أي من علماء الإسلام على وجوب الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر ولقد أجمعوا على وجوب التغيير السلمي، لكن الخلاف بينهم قام حول استخدام العنف، السيف، الثورة، في التغيير، لا كراهية للتغيير وإنما لاختلافهم في الموازنة بين إيجابيّات وسلبيّات استخدام العنف في التغيير ولقد نهضت طبيعة مناهج التفكير، وملابسات العصر بدور كبير في هذا الاختلاف.

جاءت في مقالات الإسلاميّين للأشعري، أنّ أهل الحديث اتّفقوا على أنّ السيف باطل ولو قتلت الرجال وسبيت الذريَّة، وإنّ الإمام قد يكون عادلاً وقد يكون غير عادل، وليس لنا إزالته وإن كان فاسقاً وأنكروا الخروج على السلطان ولم يروه.

وهناك قلَّة من فقهاء السنَّة أجازت أو أوجبت الخروج على الحاكم الفاسق المتمادي في الجور والظلم بشرط امتلاك القدرة على ذلك ومن هؤلاء ابن حزم الذي أفتى بجواز الخروج على الحاكم الظالم لأنَّ الأحاديث المجيزة للخروج على الفاسق الظالم ناسخة في رأيه للأحاديث الآمرة بالصبر التي وردت في مبدأ الإسلام لقوله تعالى (وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا ۖ فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَىٰ فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّىٰ تَفِيءَ إِلَىٰ أَمْرِ اللَّهِ ) ولأنّه يجب على المسلم إزالة المنكر، ولا طاعة في معصية. ومن قُتِل دون ماله أو دينه أو مظلمته فهو شهيد.

ويقول الدكتور عبد الكريم زيدان في كتابه “الفرد والدولة في الشريعة الإسلاميَّة” إنَّ المركز القانوني لرئيس الدولة هو مركز الوكيل بالنسبة للأمَّة، فمن البديهي أن يكون من حقّها عزله إذا خرج عن حدود وكالته أو لم يقم بمهام الوكالة عجزاً أو تقصيراً، ولأنَّ من يملك التعيين يملك العزل، يقول ابن حزم فهو “الإمام الواجب طاعته ما قادنا بكتاب الله تعالى وسنّة رسوله صلى الله عليه وسلم، فإذا زاغ عن شيء منهما منع من ذلك وأقيم عليه الحدّ، والحقّ فإن لم يؤمن أذاه إلا بخلع خلع وولي غيره”  وإذا كان للأمَّة عزل رئيس الدولة فلها أن تباشره بواسطة ممثّليها وهم أهل الحلّ والعقد بأن يسحبوا ثقتهم منه ويقرّروا عزله ولكن ربما لا يستجيب رئيس الدولة لهذا القرار، وفي هذه الحالة يجوز للأمَّة استعمال القوّة لتنحيته من منصبه إذا وجد المبرّر الشرعي لذلك مثل خروجه السافر على نهج الإسلام وأحكامه، ولكن اللجوء إلى القوّة مشترط بتوافر القوّة اللازمة ورجحان النجاح وبدون ذلك لا يجوز العنف، لأنّ من قواعد الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، ألا يكون العمل على إزالته المنكر مستلزماً منكراً أعظم.

ويقول الدكتور القرضاوي في كتابه “الحلّ الإسلامي فريضة وضرورة” اتّفق فقهاء المسلمين على أنّ إزالة المنكر باليد تشرع لمن يملك القدرة على التغيير وبشرط أن لا يترتّب على إزالة المنكر منكر أكبر منه، فالواجب هو التغيير باللسان والقلب حسب الاستطاعة حتى تحين الفرصة”.

______

*الراصد التنويري العدد (1) / أيار (مايو) 2008.

 

 

جديدنا