هل يكون المنهاج حلَّا مناسبا لتطوير المنظومة التربويّة في تونس؟

image_pdf
  1. الإشكاليّة

إنَّ مستعرض تاريخ نظامنا التربوي في محطاته الإصلاحية الثلاث يلحظ ما كانت تزخر به النصوص القانونية والتنظيميّة من أفكار عظيمة ومن مقاربات بيداغوجية كان لها صداها في الفترات الإصلاحية التي استُقدمت فيها، وهي أفكار ومقاربات أثبتت نجاعتها وتفوّقها[1]في أنظمة تربوية مختلفة سواء إقليميا أو دوليا. لكن الدارس المتمعّن لواقع التربية في تونس يلحظ بيسر كذلك أنّ هذه الأفكار والمقاربات كثيرا ما تتعثّر بل تفشل جزئيا أو كلّيا إذا استنبتت في واقع مدرستنا التونسيّة. وليس أدلّ على هذا من أن المقاربة بالكفايات، التي اعتمدت لمدّة ربع قرن تقريبا في المرحلة الأولى من التعليم الأساسي وكذلك بيداغوجيا الأهداف في المرحلة الإعدادية والمرحلة الثانوية لم يحقّقا النتائج المأمولة، فلم تستطع المدرسة عموما والتعلّمات خصوصا أن تكون ذات معنى لدى المتعلّمين ولم تبدِ آثارا بارزة في ترسيخ القيم الضروريّة لمواطنة مثمرة ومتطوّرة.

إن الإصلاحات التربوية المتعاقبة في تونس أثبتت عدم قدرتها على تلبية طموحات مدرستنا وقصورها عن بلوغ الأهداف التي نصبو إليها، وفي كل مرّة كان الناظرون في مخرجات المدرسة من تربويين وباحثين واجتماعيين وسياسيين وأولياء يعبّرون عن انشغالهم الكبير لضعف مستوى هذه المخرجات ويبنون أملا جديدا فيما يخطّطون له من إصلاح.

ولعلّ الملاحظة الأبرز في كل هذه الحلقات الإصلاحيّة أنها فشلت في أغلبها في نقل العمليّة التعليميّة من محوريّة المدرّس أو المعلّم إلى محوريّة المتعلّم حيث يكون خرّيج منظومتنا فعّالا وإيجابيا قادرا على التعلّم مدى حياته منميّا مهاراته العلميّة والبحثيّة من خلال قدرته على تفعيل التمشي الاستقصائي وعلى العمل التشاركي وحل ّالمشكلات وبناء مشاريعه الذاتية. ثمّ إنّها لم تصل إلى تخريج موطن متشبع بالقيم صالح في مجتمعه يحمل مبادئ التربية على احترام الغير والتربية على المحافظة على المحيط والتنمية المستدامة وغيرها …

كل هذه الملاحظات دفعتنا إلى طرح أسئلة مهمّة ونحن نقبل على التفكير في الإصلاح التربويّ الجديد أهمّها: كيف يمكن لمدرستنا المستقبليّة أن تنهض بوظيفتها الحقيقيّة؟ كيف يمكن أن تجمع هذه المدرسة بين عمق المعارف ونبل القيم؟ وكيف تكوّن متعلّمين مبتكرين ومبدعين، قادرين على توظيف تكنولوجيا والمعلومات والاتصال؟  ثمّ هل يكون المنهاج باعتباره إطارا تربويا متطوّرا الحلَّ الأنسب الذي يضمن لنا متعلّما فاعلا ومدرسة ناجعة ومجتمعا فعّالا.

  1. تحليل الواقع التربوي من خلال مستوي ممارسات المدرّسينفي الابتكار والكفايات البيداغوجيّة

انّ العديد من التحولات في المشهد التربوي المعاصر تكمن في السعي نحو تمحور التعليم على المتعلّم. بطبيعة الحال ليس في ذلك تجديد كلّي وجذري اذ ابقينا على أسلوب الإلقاء والتلقّي وغلبة العمليّة التعليميّة على العمليّة التعلّميّة (التعليم على حساب التعلّم). من السهل التعرّف على ذلك من خلال مستوى مخرجات المدرسة التونسيّة ولكن التساؤل المطروح إلى متى ستتواصل هذه الممارسات التي لها تأثير مباشر وسلبي على المتعلّمين وعلى العمليّة التربويّة بكل مكوّناتها؟

للوقوف أقرب ما يكون من ممارسات المدرّسين اعتمدنا على التقارير التأليفيّة للمواد والتي تهدف أساسا إلى:

  • تقييم مدى جودة التعلّمات.
  • قيس مدى جودة استغلال المواد البيداغوجيّة المتوفرة.
  • تحديد مدى انخراط المدرّسين في التجديدات البيداغوجيّة.
  • تقدير مدى انخراط الدرسين في العمل التشاركي.
  • وضع استراتيجيّة تكوين تستجيب لحاجيات المدرّسين.
  1. 3. طريقة البحث

حاولنا تحليل ودراسة عنصرين أساسيين مما تحتويه التقارير التأليفيّة لزيارات التفقد للمواد العلميّة والتكنولوجيا.  أنجزت التقارير التأليفيّة اعتماد على 5227 تقرير تفقد للسنة الدراسيّة 2016/2017 (هندسة آليّة – هندسة كهربائيّة – إعلامية – علوم فيزيائيّة – علوم الحياة والأرض – رياضيات). أكتفينا في هذا البحث على عنصرين أساسين في التقرير التأليفي وهما الكفايات البيداغوجيّة والتجديد البيداغوجي لأهميتهما في تحديد مستوى أي منظومة تربويّة. اعتمدنا على المؤشرات الواردة في التقارير التأليفية وهي بالنسبة للكفايات البيداغوجيّة:

  • التمكّن من غايات تدريس المادّة.
  • تصميم وضعيات تعليم /تعلّم.
  • التمكّن من تعليميّة المادّة.
  • التنشيط أثناء وضعيات التعلّم.
  • استغلال الموارد التعليمية.
  • مراعاة عدم تجانس التلاميذ في القسم.
  • التواصل البيداغوجي.
  • استعمال مختلف طرق التقويم.
  • التمكّن من غايات مادة التدريس.
  1. النتائج

وقع التطرّق لكل من هذه المؤشرات من جانب مستوى ظهورها وتواجدها في عمليّة التعليم والتعلّم داخل الفصل فهو إمّا حسن أو قريب من الحسن أو متوسّط او غير كاف.

في الجدول التالي نعرض تلخيصا لما دوّنه المتفقدون في تقاريرهم الفرديّة والذي جاء في التقارير التأليفيّة.

حسن قريب من الحسن متوسط غير كاف التمكّن من غايات مادة التدريس
1337 1697 1513 677 تصميم وضعيات تعليم/تعلّم
1019 1649 1790 946 التمكّن من تعليميّة مادة التدريس
1028 1296 1533 1350 التنشيط أثناء وضعيات تعلّم
1207 1524 1629 885 استغلال الموارد التعليمية.
1208 1395 1732 906 مراعاة عدم تجانس التلاميذ. في القسم
873 1133 1673 1549 التواصل البيداغوجي
1452 1697 1255 805 استعمال مختلف طرق التقويم
1007 1403 1693 1125 التمكّن من غايات مادة التدريس

جدول لبيان مستوى الكفايات البيداغوجيّة عند المدرّسين

 

نلاحظ أنّ تصميم وضعيات التعلّم تبقى في مستوى متوسّط أو قريب من الحسن وهو تقريبا نفس المستوى بالنسبة لاستعمال مختلف طرق التقويم وخاصّة التقويم التكويني رغم أنهما أساس العمليّة التربويّة.رغم الحديث عن المدرسة الدامجة تبقى مراعاة عدم تجانس التلاميذ في القسم غير كافية وتتطلّب إعادة النظر فيها.تبقى غايات مادة التدريس غائبة عند المدرّسين وهي وضعيّة محرجة لا عطاء معنى للتعلّمات لدى المتعلّمين. عموما يطغى المستوى المتوسط والقريب من الحسن وغير الكافي على أغلب المؤشرات. وهو ما يدعونا إلى التفكير في مراجعة تكوين المدرّسين والاعتناء بتمهينهم.

التجديدات البيداغوجيّة

غير كافية متوسطة قريبة من الحسن حسن مجالات التجديدات البيداغوجيّة
2336 1565 780 505 1.تصوّرات وضعيات تعلّم مجدّدة
2706 1363 720 418 2. تطبيق مقاربات بيداغوجيّة مبتكرة (بيداغوجيا المشروع…)
2963 1297 600 335 3. المشاركة في ابتكار أدوات تعليمية جديدة.
1868 1344 1121 895 4. استخدام التكنولوجيات الجديدة (ت م ا)

 

 

تباين عناصر التجديد البيداغوجي

وفقا للجدول والرسم البياني الواردين أعلاه واللذين يحتويان على البيانات التي جمعها المتفقدون خلال السنة الدراسيّة 2016/2017 في تقاريرهم أثناء التفقد، نلاحظ أن الابتكار في وضعيات التعليم والتعلّم متوسط ​​للغاية بل غيركاف.ويبدو استخدام التكنولوجيات الحديثة متوسط جدا في محيط مملوء بوسائل التواصل وكم هائل من المعلومات الرقميّة. لا يزال المسار البيداغوجي العام موجها إلى حد كبير نحو الممارسات التي تستخدم الوسائل التقليدية ومتجذرة في سياق التعليم.

  1. خصوصيات مدرسة المستقبل

تتميّز المنظومات المتطوّرة بمخرجاتها ذات الجودة الشاملة المعرفيّة والحياتيّة والمواطنيّة والتي تسعى من خلالها كل الدول إلى تجويد التعليم وجعله أكثر فعاليّة ومردوديّة بهدف تحقيق نقلة نوعيّة في التعليم والتعلّم لمواكبة متطلّبات الحياة والاهتمام بالابتكار والتفكير النقدي والتعلّم الذاتي وتحقيق المواطنة وتربية النشء تربية متوازنة. بات واضحا اليوم ضعف أداء مدرستنا التونسيّة ومحدوديّة مخرجاتها والتركيز على ما هو معرفي أو شكلي على حساب قيم المواطنة وما تتطلب سوق الشغل.

فعلينا أن نسعى إلى إعطاءمعنىللتعلّماتومن خلالها للمدرسة معنى أيضا. سبق وأن اقترح تجميع المواد في عائلات للوصل بينها لكن الصفة التحليليّة بقيت مسيطرة وبقيت المواد متجاورة عوضا أن تكزن متكاملة. من هذا المنطلق يمكن أن نفكّر في تخطّي محدوديّة البراديغم التحليلي إلى البراديغمالمنظومي لتحقيق وصل المعارف بعضها ببعض وبناء شخصيّة المتعلّم من جميع النواحي. المنهاج قد يكون هو الحل إذ من بين خصائصه البعد المنظومي والبحث عن المعنى وتقصّي رؤية أكثر شموليّة في مستوى المحتويات والممارسات البيداغوجيّة.

  1. المنهاج كإطار علمي لبناء استراتيجيّة للنهوض بمدرستنا

1.4 تعريف المنهاج

المنهاج “هو مخطط عمل يضمن تكوين المتعلّمين عبر جميع مراحل تعلّمهم يعطي معنى محسوسا للفعل البيداغوجي في صلب النظام التربوي ومنه تنبثق المناهج الخاصّة بالمواد” [المنهاج العام التونسي، ص 5].

2.4 محتوى المنهاج[2]

يحتوي المنهاج على:

  • غايات المدرسة التونسيّة.
  • ملامح الخرّيج في نهاية كل مرحلة.
  • التنظيمات والهيكلة التعليميّة لكل مرحلة.
  • مجالات التعلّم والكفايات.
  • التوجهات العامّة لبناء مناهج المواد وضبط محتوياتها.
  • التوجهات البيداغوجيّة والتعليميّة.
  • أنماط التقويم ونماذجه في كل المراحل التعليميّة.
  • أسس المواطنة لإنشاء مرجعيات تكوين الفاعلين التربويين وهندسة الكتب المدرسيّة والمعينات البيداغوجيّة.

الخريطة الذهنية للمنهاج العام التونسي

تبيّن هذه الخريطة الذهنية المنهاج العام التونسي وكل عناصره الأساسيّة وكل تفرعاته في المستويين الأول والثاني وهو ما يبرز الترابط بين كل العناصر والمكوّنات. كل هذه العناصر تبرز حول المنهاج العام في شكل شبكة مترابطة ومتفاعلة فيما بينها.

من خلال ما يحتويه المنهاج في إطاره المنظومي لعناصر بناء الفرد الصالح فإنّه يرمي إلى تحقيق أقصى حدود الانسجام بين النظام التربوي والمشروع المجتمعي الشامل الذي يطمح إلى بلوغه والعيش فيه كل مجتمع متطوّر. كما يضمن أيضا تحسن مستوى تكوين المدرّسين وكل الفاعلين التربويين من خلال مخطّطات العمل البيداغوجي والديداكتيكي ومقتضيات إجراءاتها وتنفيذها. أضافة إلى كل هذافأنّه ومن خلال مكوّناته الديناميّة مدرسة قوامها التقدّم الفكري والثقافي والاجتماعي والاقتصادي عبر الوعي الضروري بقيمة المعارف والمكتسبات لبناء الشخصيّة وتنميتها في جميع أبعادها العرفانية والوجدانيّة والإيتيقيّة والجماليّة.

  1. خاتمة

عموما وبالرغم من بعض التحفظات من العديد من الباحثين في الحقل التربوي فإنّ الشموليّة والمنظوميّة باتتا ضروريّتين لربط كل عناصر المنظومة التربويّة بعضها بالبعض ارتباطا وثيقا تجعله مؤسسّا للإنسان كوحدة تفاعل مع محيطها وليس كجزء منفصل لكي يصبح تكوينه شاملا من الكفايات العلميّة والقيم المواطنيّة وحقوق الانسان إلى العيش معا. بذلك يكون اعتماد المنهاج كما قدّمناه سلفا الطريق الوحيدة للنهوض بالنظام التربوي التونسي الذي يضمن بذلك مدرسة مبدعة وتلميذا مبدعالخير الإنسان وسعادته وسعادة مجتمعه.

 

المراجع

 

التفقديّة العامة لبيداغوجيا التربية، (2017): التقرير التأليفي العام للمواد التقنية والعلميّة.

اللّقاني أحمد حسن، (1995):”تطوير مناهج التعليم”، عالم الكتاب، القاهرة

الوكيل حلمي حمد، (1999)، “تطوير المناهج”، دار الفكر العربي، القاهرة

محمد الدريج، (2005): تطوير مناهج التعليم- معايير علمية متطلبات الواقع أم ضغوط خارجيّة، منشورات رمسيس

وزارة التربية،(2018)، “المنهاج العام التونسي”: وثيقة مشروع تطوير التعليم، الحمّامات 2018

 

 

[1] من خلال التقييمات الدوليّة مثل “بيزا” و “تيمس” التي شاركت فيها تونس من حوالي 15 سنة.

[2]مشروع المنهاج العام التونسي

جديدنا