سياسية تكوين مدرِّسي الابتدائي في العشريَّة الأولى 1958-1968

image_pdf

 

الملخَّص:
حين أقرَّ إصلاح 1958 مبدأ تعميم التعليم الابتدائي ليشمل جميع الأطفال في سن التمدرس بعد سنوات من الحرمان نتيجة السياسة الاستعمارية وتونسته طرحت مسألة توفير إطار التدريس وكانت الحاجيات ضخمة، ولم تكن مدرستا تكوين المعلّمين الموجودتين آنذاك  بتونس العاصمة ( واحدة للفتيان والثانية للفتيات) قادرتين على تلبية الحاجيات المتزايدة، ولمَّا كان الاختيار  هو الاعتماد على العنصر المحلي وعدم اللجوء إلى استجلاب معلِّمين  من الخارج ، وضعت كتابة الدولة للمعارف مخطّطا  وطنيا يهدف إلى توفير إطار تدريس  تونسي فكان الهاجس الكمِّي هو الطاغي واستطاعت البلاد رفع التحدي، فكيف تمَّ ذلك وماهي أبرز ملامح الخطة، وماهي  حدودها ؟ تلك هي النقاط التي ننوي أن نستعرضها في هذه الورقة.

لماذا اخترت هذا الموضوع وهذه الحقبة الزمنية بالتحديد؟

بالنسبة إلى الموضوع، إنَّ اختياري لمسألة تكوين المعلِّمين في العشرية الأولى من إصلاح 1958 يعود لعدَّة أسباب سأكتفي باستعراض اثنين منها:

  • أولهما سبب موضوعي ويتمثَّل في أنَّ تكوين المعلِّمين كان عنصرا مهمّا من مكوّنات البرنامج الإصلاحي وقد جاء ذلك على لسان رئيس الجمهورية الحبيب بورقيبة في خطابٍ ألقاه بمناسبة اختتام السنة الدراسية يوم 25 جوان 1958 بالمدرسة الصادقية حيث قال في سياق تقديمه للإصلاح الجديد:” ولتنجح هذه البرامج لا بد من وجود أساتذة ومعلّمين تتوفَّر فيهم شروط المقدرة والكفاءة والإخلاص ولقد أعددنا لهذا الغرض مدارس للتكوين المهني (يقصد مدارس الترشيح)  حتى نُقوّم المُعْوج ونُكمِل الناقص وليس المُهم تسطير البرامج وإعدادها وإنما المهمّ وجود رجال مقتنعين بسموّ رسالتهم وبكفاءتهم البيداغوجية وعلى قدرتهم على ملء العقول وقد اشتمل برنامج الإصلاح  من أجل ذلك إصلاح المُدرّس نفسه حتى يصبح قادرا على القيام بدوره على الوجه الأكمل”[1]. إذا كان هناك وعي بأهمّية إعداد المعلم الكفء من الناحيتين العلمية والبيداغوجية والمُخْلص لقيم الدولة الوطنية ولمبادئها؛ لأن ذلك هو في نظر المسؤولين على الإصلاح الشرط الأول لنجاح الإصلاح وتحقُّق غاياته.
  • أمَّا السبب الثاني فهو سبب ذاتي وهو أنني أردت أن أكرم مدارس ترشيح المعلِّمين وشعبة الترشيح التي انتسبت إليها مكرها في النصف الثاني من الستينات وتخرَّجت منها سنة 1968 ثمَّ درست بها بمدينة قابس في منتصف السبعينات.

أمَّا في خصوص التاريخيّين الذين حددت بهما الفترة المعنية بالدرس فإن التبرير بسيط ، فسنة 1958 هي سنة انطلاق العمل بالإصلاح  التربوي الأول لتونس المستقلة[2] أما سنة 1968 فهي توافق السنة الأولى بعد عملية التقييم الشامل لحصيلة العشرية الأولى من الإصلاح  التي كُلّفت بهافي بداية 1967 [3]  اللجنة القومية للتعليم برئاسة أحمد بن صالح،  وقد حدّد رئيسُ الجمهوريّة في الاجتماع الأوّل للجنة  الذي انعقد يوم 31 جانفي 1967 مهمّتها بقوله: ” إنّ التنظيم الحاليّ لتعليمنا يطرح عدّة قضايا، علينا أن نعالجها بشجاعة ونظرة ثاقبة. وإنّه من الطبيعيّ، بعد تجربة دامت عشرَ سنوات، أن تتأكّد الحاجة إلى مراجعة نظامنا التربويّ... وجب الاهتمامُ بظاهرة الانقطاع الكبير في مستوى المدرسة الابتدائيّة، فالبعضُ يُرجعه إلى مستوى المعلّمين والبرامج وكثافة الأقسام. لذا وجب تمحيصُ كلّ هذه العناصر وإيجاد الحلول… مع ضرورة التأكيد على الجوانب البيداغوجيّة وعلى التفقّد[4]. كما دعا اللجنةَ إلى إبداء رأيها في نسق التمدْرس، وفي مردوديّة المدرسة. وألحّ على أنّ السّؤال المطروح … اليوم هو”هل يُقرّبنا تنظيمُ التعليم الجاري به العمل منذ ثماني سنوات من الأهداف المرسومة؟ هل يمكن الاقترابُ منها بثمن أرخص أو بسرعة أكبر، دون كلفة كبيرة؟”

أنهت اللجنة أعمالها بعد ثمانية أشهر وشُرع في تنفيذ العديد من التوصيات مع العودة المدرسية ومن هذه الإصلاحات ما يخصُّ تكوين المعلمين كما سنرى لاحقا في الجزء الأخير من هذه الورقة التي ستركِّز على ثلاثة محاور وهي:

  • تحدّيات إصلاح 1958.
  • سياسة الدولة لرفع تلك التحدّيات.
  • حصيلة تلك السياسة: النجاحات والاخفاقات.

 

تحدِّيات إصلاح 1958

كان على إصلاح58 أن يرفع بصفة عاجلة تحدّيين اثنين، هما تعميم التعليم وإيجاد إطار التدريس اللازم بالكمّ والكيف في ذات الوقت:

التحدّي الأول: تحقيق التمدرس الشامل لجميع الأطفال الذين هم في سن الدراسة (التوسّع الافقي) وهو تحدٍّ كبير فقد كان عدد التلاميذ بالمدارس الابتدائية سنة 1957.1958 يقدَّر بـ 266288 وحسب تقديرات المخطَّط، فإن هذا العدد سيكون في حدود 800 ألف في نهاية المخطط (1967.1968 = 788000) معنى ذلك ستناهز الزيادة السنوية أكثر من 50 ألف تلميذ (52171).

التحدّي الثاني: توفير إطار التدريس بالعدد الكافي وبالكفاءة المطلوبة التي تحدَّث عنها رئيس الجمهورية في خطاب جوان 1958، أي المرور من 6156 معلّما ومعلّمة خلال السنة الدراسية 1957.1958 (منهم 810 فرنسي) إلى 16 ألف مدرس في نهاية المخطَّط أي بمعدل 1000 معلِّم جديد في السنة.

وهو أمر لم يكن بالهيِّن خاصَّة أنَّ القيادة السياسية اختارت تونسة الإطار والاعتماد على المعلِّم التونسي وعدم اللجوء إلى جلب المعلِّمين من الخارج سواء من البلدان الشقيقة أو الصديقة.

سياسة الدولة لرفع التحدّي

اتَّخذت كتابة الدولة للتربية القومية آنذاك الإجراءات التالية لمجابهة حاجياتها من المدرِّسين:

أولا: قامت بتخفيض ساعات التعليم لتلاميذ التعليم الابتدائي والتخلِّي عن النظام الذي كان معمولا به (30س/أسبوعيا و40 تلميذا في القسم الواحد) الأمر الذي كان يتطلَّب انتداب 20000 معلِّم لتأمين التعليم لــ 800000 طفلا بلغوا أو سيبلغون سن الدراسة وأقرَّت نظاما جيدا يتمثَّل في الاكتفاء بـــ 15 ساعة اسبوعية للسنتين الأولى والثانية و25 ساعة لبقية السنوات. هذا الإجراء مكَّنَ الدولة من اقتصاد معلم عن كل ثلاثة معلّمين على امتداد الأربع سنوات الأولى من الإصلاح.

ثانيا: وضع خطة لتكوين المعلمين: يقول الأستاذ محمود المسعدي في هذا الصدد  إنّ البلاد التونسية  لم تتبع منهج بعض الأمم  لحلِّ مشكل نقص المدرِّسين ” والمتمثِّل” في انتداب معلِّمين يقع تكوينهم بطرق سريعة بعد تخرَّجهم من مرحلة التعليم الابتدائي أو عند بلوغهم نهاية المرحلة الأولى من التعليم الثانوي وليس بخافٍ أنَّ هذا الحلّ وإن بدا جذّابا فإنّه لا يخلو من نقائص وأخطار اذ هو يقتضي الرضى بالحطِّ من مستوى المعلِّمين وذلك يؤدي حتما للحطّ من مستوى التعليم الابتدائي وبالتالي في جميع المراحل الأخرى الثانوية والعالية” (المسعدي)[5] واختارت تدعيم وإحداث مسالك متنوِّعة لتكوين معلِّمين أكفّاء قادرين على تحقيق  غايات الإصلاح  التربوي وأهدافه.

انطلاقا من هذا التوجه تمَّ وضع الخطَّة الوطنية لتوفير العدد اللازم من المعلِّمين تمثَّلت مكوناتها فيما يلي:

أوَّل مكوِّن هو تدعيم مسلك ترشيح المعلِّمين: هنا لا بد من الإشارة إلى أن هذا المسلك هو مسلك عريق بالبلاد التونسية فأول مدرسة لترشيح المعلِّمين يعود تاريخها إلى سنة 1884[6] وهي المدرسة العلوية  تلتها مدرسة ثانية لتكوين المؤدِّبين سنة 1894 ( المدرسة الـتأديبية)[7] التي ضُمّت منذ سنة 1908  إلى مدرسة ترشيح معلِّمين بتونس لتكوّن شعبة خاصَّة بتكوين معلِّمي اللغة العربية إلى جانب شعبة معلِّمي اللغة الفرنسية وشعبة ثالثة  لمعلِّمي اللسانين[8]ثم أحدث فرع لتكوين المعلّمات بمدرسة جول فيري سنة 1911 الذي تحول إلى مدرسة ترشيح المعلِّمات سنة 1917.

حافظت دولة الاستقلال على المدرستين بنفس النظام تقريبا ودعمتها بمدرسة ثالثة سنة 1960.61 فمدرسة رابعة سنة 1964.65[9].ورغم ذلك ظلَّت طاقة استيعاب المدارس محدودة فأحدثت كتابة الدولة شعبة ترشيح المعلِّمين بعدد من المعاهد لاستقطاب أكبر عدد ممكن من التلاميذ.

وتخلَّت كتابة الدولة عن مناظرة   الدخول لمدارس الترشيح التي كان معمول بها والتي كانت تمثل عقبة نظرا لصرامتها و طابعها الانتقائي وعوضتها بآلية التوجيه القصري فمنذ 1961 [10]  تقرَّر توجيه ما ” بين 25 و 30 % من التلاميذ الذين أنهوا المرحلة الأولى من التعليم الثانوي أو بانتخاب أحسن العناصر من بين التلاميذ الذين أنهوا تعليمهم بالشعبة العامّة من التعليم الإعدادي للالتحاق بمسلك ترشيح المعلمين “ (المسعدي، 1963)[11].

مكَّنت هذه السياسة من مضاعفة عدد التلاميذ المسجلين في شعبة تكوين المعلمين خمس مرّات بين 1958/1959 و1967/68 أي من 874 تلميذا إلى 4447 ومن مضاعفة عدد المتخرِّجين 8 مرّات (من 56 متخرِّجا إلى 469).

جدول1:  إحصائيات تخصّ مسلك ترشيح المعلِّمين

عدد المتخرِّجين المجموع عدد المسجّلين بشعبة الترشيح بالمعاهد عدد المسجّلين بمدارس الترشيح عدد مدارس الترشيح السنة الدراسية
  465 128 337 2 1956/57
  729 241 488 2 1957/58
56 874 276 598 2 1958/59
60 1063 335 728 2 1959/60
301 1191 422 769 3 1960.61
237 1776 768 1008 3 1961/62
309 2174 1153 1021 3 1962/63
465 4447 3269 1178 4 1967.66

 

لكن رغم المجهود لم يكن عدد المتخرِّجين قادرا على تسديد حاجيات المدارس الابتدائية وهنا تأتي المكوّنات الأخرى التي التجأت إليها كتابة الدولة رغم أنها تتناقض في جوهرها مع التوجّهات التي أعلن عنها المسعدي سابقا، وتتمثَّل فيما يلي:

  • بعث مسلك لتكوين المدرِّبين والمدرِّبات انطلقت في شكل تجربة بمدرسة ترشيح المعلمين بالمرسى في اكتوبر 1961ب50 تلميذا[12]وبلغ هذا العدد 1278 تلميذا في ظرف 6 سنوات السنة (الدراسية 1967/1968) وهي مفتوحة عن طريق التناظر لتلامذة السنة الثالثة من التعليم الإعدادي من خريجي الشعبة العامة المتفوقين[13] ” وما يتميز به هذا المسلك هو اختصار مدة التكوين بسنة مقارنة بالتكوين بمدارس الترشيح العادي (سنتان تكوين عام  وسنة تكوين صناعي).

جدول 2 :تطوّر عدد المسجّلين والمتخرِّجين من شعبة المدرِّبين والمدرِّبات

  عدد المسجّلين عدد المتخرّجين
1961/1962 50
1963/1964 285
1967/1968 1278 166

 

  • إحداث حلقة تربص بيداغوجي وتكوين مهني تدوم سنة أمام الراغبين في الالتحاق بالتدريس دون متابعة مسلك ترشيح المعلّمين منذ السنة الأولى[14]  ويتمّ الالتحاق بهذه الحلقة عن طريق امتحان لحاملي الجزء الأوّل من البكالوريا “الشعبة العصرية ” ( أي مستوى السنة الخامسة ثانوي آنذاك) وللتلاميذ الذين  زاولوا التعلُّم بقسم يُعِدُّ الى الجزء الثاني من البكالوريا  “جميع الشعب”.
  • انتداب عدد مهمّ من بين حاملي شهادة التحصيل من خريجي جامع الزيتونة: ففي السنة الدراسية 1961.1962 تمَّ انتداب 373 متحصِّل على تلك الشهادة لمتابعة تكوين صناعي نظري وتطبيقي مدة سنة، يتمّ انتدابهم إثرها برتبة معلِّم مساعد (instituteurs délégués)[15]
  • انتداب عدد من حاملي شهادة البكالوريا.
  • مواصلة الاعتماد على المعلِّمين الفرنسيِّين في نطاق التعاون فقد كان عددهم 740 معلما في السنة الدراسية 1967/ 1968 وهو ما يمثِّل قرابة 5 بالمائة من مجموع المعلمين (كان عددهم في السنة الدراسية 1957.58 – 810 معلّما ومعلّمة وهو ما يساوي 13 بالمائة من جملة المعلِّمين.

الحصيلة

ما هو إيجابي

  • نجاح كتابة الدولة للتربية القومية في تحقيق أهداف المخطّط فيما يخصّ نشر التعليم بل تجاوزتها بقليل: إذ بلغ عدد التلاميذ بالمدارس الابتدائية810795 تلميذا في السنة الدراسية 1967/68 (تقديرات المخطط = 788000)[16] وبذلك بلغت نسبة التمدرس 75,6%.
  • توفير العدد اللازم من المعلّمين لتأمين حسب المخطّط فقد تضاعف عددهم قرابة ثلاث مرّات بين1958 و1968 مارا من 5346 إلى 14448 في10 عشرة سنوات، وانخفضت نسبة المعلّمين الفرنسيين إلى دون %5 بعد أن كانوا يمثّلون قرابة الثلث في السنة الدراسية 1956.1955 وبذلك تحقَّقت تونسة إطار التدريس في مستوى التعليم الابتدائي.

جدول 3 : تطوّر عدد المعلّمين بين 1956 و 1968  *

السنة الدراسية تونسيون فرنسيون نسبتهم المجموع
1956- 1955 3647 1478 28,84% 5125
1958- 1957 5346 810 13,16% 6156
1959- 1958 4765 590 11,02% *5355
1960- 1959 5419 736 11,96% 6155
1966- 1965 12327 335 2,65% 12662
1967- 1966 13392 739 5,23% 14131
1968- 1967 14448 740 4,87% 15188

*يفسّر هذا التراجع بالتوقيت الجديد الذي دخل حيِّز التطبيق

  • وضع منظومة لتكوين المعلِّمين جيدة، جمعت بين التكوين العام والتكوين الصناعي وبين التكوين النظري والتكوين التطبيقي مكَّنت من توفير معلمين ذوي كفاءة وحرفية عالية.

يلتحق التلميذ بمسلك تكوين المعلِّمين (إمّا بمدرسة الترشيح أو بشعبة الترشيح) أثر إتمام المرحلة الأولى من التعليم الثانوي العام، وينظم إما إلى الفرع – أ – المعرب كليا الذي يكوّن معلمي اللغة العربية أو إلى الفرع – ب- الذي يكوّن معلِّمي اللسانين العربي والفرنسي. ليقضي، أربع سنوات[17]: تخصص السنوات الثلاث الأولى للتكوين العامّ المتوازن (يدرس جميع المواد به [18] وسنة رابعة تخصص للتكوين الصناعيّ [19] بالمدارس الابتدائيّة التطبيقيّة تحت إشراف متفقّدي التعليم الابتدائي تُـتوّج بالحصول على شهادة انتهاء التربّص وكان التلاميذ المعلمون يتمتّعون بتفرّغ كامل طيلة سنة التكوين الصناعي غير أنه منذ السنة الدراسية 1964 – 1965 أصبحوا مطالبين بالتدريس نصف الوقت ويعود هذا القرار للحاجة الكبيرة للمعلِّمين في ذلك الوقت.

قامت مدارس الترشيح بدور مهمّ في تكوين أجيال من المدرّسين ساهموا في وضع أسس المدرسة التونسية منذ الاستقلال، ارتقى عدد منهم إلى مستوى الإطارات العليا في الوزارة، توقف التعليم في مدارس الترشيح مع تخرّج آخر فوج من تلاميذ السنة الرابعة في نهاية السنة الدراسية 1991 – 1992، وحلّت محلّها ابتداء من السنة الدراسية 1989 – 1990 المعاهد العليا لتكوين المعلِّمين (في عهد الوزير محمد الشرفي).

 

 

ما هو سلبي

  1. عدم نجاح مخطّط كتابة الدولة في جعل كلّ إطار التدريس على نفس القدر من الكفاءة وكان ذلك مصدرا من مصادر تفاوت في نوعية التكوين بين التلاميذ.

بين السنة الدراسية 55 – 56 والسنة الدراسية 67 – 68   تخرج من مسلك تكوين المعلمين 3045   ترشيحي وترشيحية، كان نسق التخرج متواضعا في السنوات الأولى ففي جوان 1958 تقدم لنيل شهادة ختم الدروس الترشيحية 55 مترشحا (41 فتى و14فتاة) نجح منهم 46 (32 فتى و14فتاة)[20]، ارتفع عدد المتخرِّجين إلى 368 في جوان 1966.

هذا العدد على أهمّيته لم يكن قادرا على تغطية سوى 30,26% من حاجيات المدارس الابتدائية ولكن نسبة التغطية كانت دون ذلك بكثير؛ لأن عدد مهمّ من المتخرّجين لم يلحقوا بالتدريس وغيَّروا وجهتهم بعد حصولهم على شهادتهم، وقد شمل ذلك بين 1960 و1969 حوالي 1400 ترشيحي وترشيحيةمن مجموع 3632 متخرِّج (أي نسبة 38.6 %)(Bousnina, 1991)[21] بحيث لم تتجاوز نسبة خريجي الترشيح من مجموع المعلمين الخُمس في نهاية الستينات (19% في السنة الدراسية 1965 – 1966 و21% في السنة الدراسية 1969 – 1970.

  1. انتداب عدد كبير من غير المؤهلين للتدريس ونتج عن ذلك بروز أزمة في مستوى التعليم حسب تقرير الجنة القومية للتعليم التي عهد لها مهمَّة تقييم النظام التربوي[22] وكان تقرير اللجنة قاسيا على سياسة المسعدي في مجال انتداب المعلمين منتقدة ” انتداب أصناف من المدرّسين مثل المدرّبين لا تتوفّر فيهم دائما شروط الكفاءة اللازمة، فكان لهذا انعكاسه السيء على مستوى التعليم”.

لم يقف الانتقاد في هذا المستوى وإنما شمل جوانب أخرى من سياسة الوزير منها مثلا:

  • “تجمّع المعلمين الخبراء- بحكم ما اكتسبوه من الحقوق- في المدارس الكبرى بالمدن والعواصم.
  • تفرّق المدرّبين في المدارس الصغرى ذات القسم الواحد أو القسمين بالأرياف بعيدين عن مصادر التوجيه والإرشاد من معاهد ومكتبات ودور للثقافة وعن الصلات الضرورية مع أهل الخبرة من إطارات التعليم وصعوبة تنقلهم في أكثر الأحيان.
  • توزّع جهود مديري المدارس في ساعات التعليم على أعمال لا صلة لبعضها بالعمل المدرسي المباشر كتسيير المطاعم المدرسية مثلا.
  • قلة عدد المتفقّدين الذين تتوفّر فيهم شروط الكفاءة والخبرة بشؤون التعليم الابتدائي.

لم تكتفِ اللجنة برصد مواطن الخلل بل اقترحت على كتابة الدولة تسعة إجراءات كفيلة بتجاوز النقائص، وتتمحور الإجراءات حول: مسائل انتداب المعلّمين والتكوين الأساسي والمستمر ولتعيينهم وتأطيرهم.

  • ففي خصوص الانتداب اقترحت اللجنة إيقاف العمل بمسلك تكوين المدربين والامتناع عن ” انتداب الشبان الذين لم يبلغوا مستوى السنة الخامسة من التعليم الثانوي، وفي المقابل اقترحت اللجنة دعم مسلك الترشيح بالتخلّي عن التوجيه القصري و” ترغيب الشبان في الاقبال على مهنة التعليم حتى يكون هذا الاقبال ‘تلقائي مبني على الاقتناع والشعور بشرف الرسالة التعليمية التربوية” ويكون هذا الترغيب من خلال الامتيازات المادية وفتح الآفاق في وجه المتفوقين وبمراجعة الوضعية الوظيفية للمعلم.
  • في خصوص تعيين وتوزيع المعلّمين الأكفاء، دعت اللجنة في هذا المجال إلى الاستغناء عن” المدرّبين وخاصَّة الذين لم ينجحوا في التلاؤم مع المهنة”، وكما دعت إلى العدل بين المدارس والجهات وفي هذا السياق اقترحت اللجنة ” توزيع بعض المعلِّمين الأكفّاء على المدارس الريفية بجهاتهم ” لضمان مستوى لائق للتعليم ولتعهُّد المبتدئين من زملائهم مع توفير وسائل الترغيب والتشجيع اللازمة”.
  • في خصوص التكوين والتأطير: ألحَّت اللجنة على ضرورة مزيد الاعتناء بالمدرّبين والمعلّمين الشبّان للرفع من قدراتهم وتحسين كفاءاتهم (تنظيم دروس إجبارية في الثقافة العامَّة وصناعة التعليم أيام العطل).

خلاصة القول؛ أوصت اللجنة المشار إليها سابقا بإعادة النظر في السياسة التربوية بصفة عامَّة وفي سياسة تكوين المتعلِّمين وانتدابهم بصفة أخصّ، باعتبارها مفتاح الرفع من مستوى التحصيل لدى المتعلِّمين والحدّ من الانقطاع والفشل المدرسيين.

وتنفيذا لهذه التوصيات تمّت الزيادة في طاقة تكوين المعلّمين بمضاعفة عدد مدارس الترشيح وتوسيع الشبكة وقد بلغ عددها 18 مدرسة ترشيح في السنة الدراسية 1975 – 1976 وازداد عدد روّادها رغم التخلّي عن التوجيه القصري واعتماد المناظرة لانتداب التلاميذ المعلّمين، فقد سجَّلت تلك السنة الدراسية رقما قياسيا (حوالي 12000 تلميذ أي أربعة أضعاف متوسط العشرية السابقة) غير أنَّ الأمر لم يتواصل.

الخاتمة

تعكس هذه الحقبة معضلة انتداب المدرسين في بلادنا التي تواصلت إلى الآن والمتمثلة منذ البداية في تعايش مسلكين للانتداب المسلك الأول وهو الذي يتمّ عبر التكوين المتخصِّص، والثاني وهو الذي يمثِّل الأغلبية هو مسلك الانتداب العشوائي الذي أضرّ بالمدرسة التونسية والغريب في الأمر أن هذا المسلك الثاني الذي ندَّدت به كل الدراسات والتقارير ظلّ هو الممول الأساسي في بضع الحقبات[23] والوحيد في حقبات أخرى ( من2007 إلى اليوم).

أعتقد أن هذا الأمر يعود إلى عدم اقتناع عدد من المسؤولين الأول الذين تعاقبوا على باب بنات بأن التعليم مهنة تستوجب تكوينا خصوصيا وطالما تواصل الأمر على ما هو عليه اليوم لن يصلح حال المدرسة التونسية.

ملحق

جدول 4 :تطور الوضع الدراسي بين 1956 و1968

السنة الدراسية عدد المدرسين عدد التلاميذ تلميذ/ معلم
1956- 1955 5125 209438 40,9
1957- 1956 5499 226676 41,2
1958- 1957 6156 266288 43,3
1959- 1958 5355 320363 59,8
1960- 1959 6155 361532 58,7
1966- 1965 12662 717093 56,6
1967- 1966 14131 777686 55,0
1968- 1967 15188 810795 53,4

 

قائمة المراجع

محمود المسعدي: انبعاثنا التربوي منذ الاستقلال: إصلاح التعليم والتخطيط التربوي، الجمهورية التونسية، كتابة الدولة للتربية القومية – الديوان التربوي – 1963.

شادلي العياري. كشف عن التطور الكمي للتعليم بالجمهورية التونسية – الجمهورية التونسية – وزارة التربية القومية – 1971.

هادي بوحوش ومنجي عكروت: تاريخ موجز للتكوين الأساسيّ للمدرّسين في البلاد التونسيّة الجزء الأوّل: فترة الحماية وعشرية الاستقلال الأولى. المدونة البيداغوجية – أفريل 2015

http ://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/04/blog-post.html

هادي بوحوش ومنجي عكروت: تاريخ موجز للتكوين الأساسيّ للمدرّسين في البلاد التونسيّة من عهد الحماية إلى اليوم الجزء الثاني: الفترة الثانية (1971 – 1989) والفترةالثالثة: 1990- 1998. المدونة البيداغوجية – أفريل 2015.

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/04/1971-1989-1990-1998.html

هادي بوحوش ومنجي عكروت: تقرير اللجنة الفرعيّة للتعليم الثانويّ صدر بجريدة “لاكسيون ” لسان الحزب الاشتراكي الدّستور.

http ://akroutbouhouch.blogspot.com/2015/09/blog-post_13.html

هادي بوحوش ومنجي عكروت: الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال القسم الثالث: تقييم إصلاحات 1958 ومحاولات تطويع المنظومة التربويّة للواقع المتجدّد الجزء الأول.

http ://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/01/1958_18.html#more

هادي بوحوش ومنجي عكروت: الإصلاحات التعليميّة الكبرى زمن الاستقلال القسم الثالث: تقييم إصلاحات 1958 ومحاولات تطويع المنظومة التربويّة للواقع المتجدّد: الجزء الثاني.

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2016/01/1958_25.html

هادي بوحوش ومنجي عكروت: المدرسة العلويّة أولى مؤسّسات تكوين المعلمين بتونس.

http ://akroutbouhouch.blogspot.com/2014/01/blog-post.html

هادي بوحوش ومنجي عكروت: تاريخ موجز لمدارس ترشيح المعلّمين والمعلّمات في البلاد التونسية منذ الاستقلال (الجزء الأول).

http ://akroutbouhouch.blogspot.com/2017/02/blog-post.html

هادي بوحوش ومنجي عكروت: تاريخ موجز لمدارس ترشيح المعلّمين والمعلّمات في البلاد التونسية منذ الاستقلال (الجزء الثاني).

MongiBousnina. Développement scolaire et disparités régionales en Tunisie, publication de l’université de Tunis,1991

Situation de l’enseignement après quatre années d’application de la réforme – 1962/1963RT / SEEN.

 

________________________

[1]محمود المسعدي،  انبعاثنا التربوي منذ الاستقلال : اصلاح التعليم و التخطيط التربوي، الجمهورية التونسية، كتابة الدولة للتربية القومية –  الديوان التربوي – 1963  .ص .27.

[2] قانون عدد 118 لسنة 1958 مؤرخ في 21 ربيع الثاني 1378 – 4 نوفمبر 1958 يتعلق بالتعليم .

[3]أحدثتْ لجنة قوميّة للتّعليم في 17 جانفي1967و عقدت اجتماعها الأول يوم 31 من نفس الشهر  الذي أشرف عليه رئيس الجمهوريةبنفسه.

[4]من خطاب رئيس الجمهوريّة بتاريخ 31 جانفي 1967 في افتتاح أعمال اللجنة المكلّفة بتقييم النظام التربويّ. نشر هذا الخطاب بجريدة Le petit Matin بتاريخ 2 فيفري 1967. والمقتطف معرّب عن النصّ الفرنسيّ لا مستخرج من النصّ الأصليّ.

[5]محمود المسعدي –انبعاثنا التربوي منذ الاستقلال: إصلاح التعليم والتخطيط التربوي، الديوان التربوي- 1963.

[6]فتحت المدرسة العلوية لتكوين المعلمين أبوابها في 3 نوفمبر 1884، ودشنت رسميّا الباي في 29 ديسمبر 1884

في موكب مشهود، حضره المقيمُ العام الفرنسيّ، بول كامبون( Paul Cambon)، والوزير الأوّل، ووزير التعليم، ومدير المعارف وكوكبة من الموظفين السامين.  عن هادي بوحوش ومنجي عكروت : المدرسة العلويّة أولى مؤسّسات تكوين المعلمين بتونس- المدونة البيداغوجية – 14/01/2014

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2014/01/blog-post.html

[7] هادي بوحوش ومنجي عكروت : المدرسة التأديبيّة: أولى مؤسّسات تكوين معلّمي اللغة العربيّة- 14/12/2014

http://akroutbouhouch.blogspot.com/2014/12/blog-post_14.html

[8]هادي بوحوش ومنجي عكروت : بعث شعبة التلاميذ المُدرّسين أوْ دواعي إلحاق المدرسة التأديبيّة بالمدرسة العلويّة لترشيح المعلّمين– المدونة البيداغوجية – 5 مارس 2018 http://akroutbouhouch.blogspot.com/2018/03/blog-post.html

المدارس الأربعة هي م. ت. المعلمين بتونس – م. ت. المعلمات بتونس – م. ت. المعلمين بالمنستير و م. ت. المعلمات بالمرسى [9]

[10]MongiBousnina . Développement scolaire et disparités régionales en Tunisie, publication de l’université de Tunis I,1991

[11]المصدر: محمود المسعدي: انبعاثنا التربوي منذ الاستقلال – إصلاح التعليم والتخطيط التربوي – الديوان التربوي -1963.

 

محمود  المسعدي – انبعاثنا التربوي منذ الاستقلال:إصلاح التعليم والتخطيط التربوي، الديوان التربوي . 1963[12]

[13]الفصل 26 من الأمر عدد 342 المؤرخ في 20 – 11 – 1963 المنقح للأمر عدد 14 لسنة 1961 المؤرخ في 3 جانفي 1961 المتعلِّق بالتعليم الابتدائي.

[14]بالنسبة للالتحاق بحلقة التربص البيداغوجية والتكوين مهني التي أحدثها أمر1961 .

[15]RT / SEEN.  Situation de l’enseignement après quatre années d’application de la réforme – 1962/1963

[16] شادلي العياري . كشف عن التطور الكمي للتعليم  بالجمهورية التونسية – الجمهورية التونسية – وزارة التربية القومية – 1971

[17]منذ السنة الدراسية 1968-1969 أصبحت مدة الدراسة 5 سنوات: 4 سنوات تكوين عام وسنة تكوين صناعي.

[18]قرار كاتب الدولة للتربية القومية المؤرخ في 5 أفريل 1963 المتعلق بامتحانات شهادة انتهاء الدروس الثانوية الترشيحية.

[19]كان التلاميذ المعلمون يتمتعون بتفرّغ كامل في سنة التكوين الصناعي غير أنه منذ السنة الدراسية 1964 – 1965 أصبحوا مطالبين بالتدريس نصف الوقت ويعود هذا القرار للحاجة الكبيرة للمعلمين في ذلك الوقت.

[20]RT / SEEN.  Situation de l’enseignement après quatre années d’application de la réforme – 1962/1963

 

[21]قدّر المسعدي أنّ مع سنة 1965 يُنتظر أن يتم تحقيق الاكتفاء الذاتي من المعلمين ويمكن الشروع في تعويض المعلِّمين الأجانب.

غير أن ذلك لم يتحقَّق ويقدم الدكتور منجي بوسنينة – الذي شغل منصب رئيس ديوان وزير التربية ادريس قيقة في بداية السبعينات وكاتب دولة مكلف بالتربية في بداية التسعينات –  في أطروحته تفسيرا لذلك.

Bousnina .M: Développement scolaire et disparités scolaires en Tunisie , thèse de doctorat soutenue en 1981 . Publication de l’université de Tunis 1, 1991.2 tomes

[22] تقارير لجنة التعليم . مجلة التربية الشاملة ، عدد مضعف 5-6 ، ديسمبر 1967 ، 94 شارع الحرية تونس.ص 4- 28.

[23]كان ” 54%  من المعلمين المتربصين في السنة الدراسية 1978-79  من حاملي البكالوريا تمّ انتدابهم عن طريق المناظرة” [23] ممّا أدّى إلى تحويل مدرسة الترشيح بقربة في مفتتح السنة الدراسية 1973 – 1974 إلى  مركز وطني للتكوين المستمر لتكوين المنتدبين الجدد من حاملي البكالوريا.

جديدنا