الاستعباد والعبودية المقنَّعة

image_pdf

“الاستعباد” غيرُ “العبودية الطَّوعية”، إذ هو إكراهُ إنسان على ما يفُوق طاقته البشرية، بفرض العبودية عليه. إنّ أكثر ما يتفشى في المجتمعات: “العبوديةُ الطوعية”، حيث يَرضخ الناس باختيارهم لبشر يستعبدونهم. والأمثلة على ذلك متنوعة، نراها في السياسة والدين والعشيرة، حتى في الثقافة والأدب والفن.

فرضُ العبودية على الإنسان يتخذ أشكالًا متعدّدة، تارة تكون “مقنَّعة”، وأخرى تكون “مكشوفة”. أشهرُها وأوضحُها الرِّقّ، الذي شاع منذ فجر التاريخ. الرِّقُّ أقبحُ أشكال نزَعات التسلط وامتهان الإنسان لأخيه الإنسان، وأقسى صور هتك الكرامة البشرية. إنه ظاهرة بشعة مزمنة في الحياة، لم يتورط فيها كائن آخر غير الإنسان. ولم تَصدر قرارات صارمة تُلغي تشريعه حتى القرن التاسع عشر. فهذه القرارات -وإن ربما استطاعت تحريمه والقضاء عليه-، عجزت عن استئصال جذوره ومنابعه المزمنة. فمع أنه اختفى شكلُه القديم، غير أنه واصَل حضورَه بِعُنوانات وأشكال بديلة.

خلَق اللهُ الناس متساوين في إنسانيتهم، إذ ليس هناك إنسان كامل الإنسانية، وآخَر إنسانيته ناقصة. أمّا الرقُّ، فهو أقسى أنماط احتقار البشر، لأنه هتكٌ للكرامة. ولا تتحقق إنسانية أية ديانة إلَّا بتبنِّي المساواة بين الإنسان وأخيه الإنسان، وتجسيدِها في مختلف المواقف والأفعال والسلوك، بغضِّ النظر عن الدين والثقافة والجنس والنسب واللون والطبقة. فلا قيمة سامية تعلو على قيمة الكرامة، وهتكُها يُثير الفزع في كيان أيّ كائن بشري، مهْما كان بَلِيدًا أو أبْلَهَ في نظر بعضهم. هتكُ الكرامة يُنتجُ عمليات الثأر العنيفة، والثورات والأشكال المتنوعة للمقاومة. وجميعُها ليست إلَّا مَساعِيَ لاسترداد الكرامة، وإنْ أخطأت مراميها أحيانًا.

الرقُّ غيرُ مستهجَن عند أكثر الناس الذين يمارسونه؛ إذ هناك حاجة نفسية مختبِئة، إلى استرقاق البشر وإخضاعهم لدى كثير من الناس، الذين يتلذذون بالتسلط على غيرهم، مضافة إلى حاجتهم إلى الخدمة والعمل. ذلك سببٌ خفيّ اليوم لاستنساخه في المجتمعات بأقنعةٍ جديدة، مِن أبشعها ظاهرةُ “الخدم”، المتفشية في مجتمعات التمييز العنصري واحتقار الإنسان المُتْخمة. العبوديةُ تختبئ في الكلمات، وتَشِي كلمةُ “الخدم” بحمولة سالبة، تحطُّ برأيي من كرامة الإنسان الذي كرّمه اللهُ تكوينًا.

إنْ كان بعضُهم يلتمس مبررات للرقّ في التاريخ، فإنَّ استئناف الرقّ بأقنعة بديلة في مجتمعات اليوم، لا يمْكن تبريرُه أبدًا. في “العبودية المقنَّعة” نرى شابَّاتٍ وشبابًا يعملون في المنازل، ويتعامل معهم أهلُ المنزل باحتقار وإذلال ومهانة، بخِلاف الكلاب والقطط والطيور التي يهتمون بها في الغالب أكثرَ منهم. فيُسكِنون أولئك الخدم في أماكن غير ملائمة، ويطعمونهم أحيانًا بقايا الطعام، وغالبًا ما يُلبسونهم ثيابًا غيرَ ثيابهم، دون أن يكترث أحد لِمشاعرهم وعواطفهم وحساسياتهم وانفعالاتهم بصِفَتهم بشَرًا.

“الخدم” يفكرون ويشعرون مثل كلّ البشر. هؤلاء بشرٌ مُكرَّمون، كرامتُهم هبة من الخالق لهم، كرامتُهم مُكوِّن لهُويَّتهم الوجودية. أكرهَتهم الفاقةُ والحرمان والجوع وفقدان فرص العمل الكريم، على زجّ أنفسهم في هذا النوع من العمل المُزْري الذي يمتهنهم. هؤلاء بشر، ينفعلون، يتألمون، يحزنون، يكرهون، يحبون، يشعرون بالسعادة، وتنزف قلوبُهم أسًى لحظةَ يتعرضون لإهانة أو تنكيل. لكنْ مع ذلك، يتعامل معهم أكثرُ من يستخدمهم، وكأنهم محكومون باكتئاب وحزن أبديّ. هؤلاء بشرٌ، لديهم احتياجات جسدية وروحية وأخلاقية. فيحتاجون إلى الحياة العاطفية والجنسية، كما كلُّ كائنٍ بشري. أيضًا يحتاجون إلى الفرح والحبّ والحنان، ويحتاجون إلى الاعتراف بهم وبمُنجَزهم مهْما كان، ويحتاجون إلى الاحترام والشكر والتكريم.

هؤلاء بشرٌ، لديهم حياتهم الباطنية. فالذات البشريّة بطبيعتها باطنية داخلية عميقة، تنطوي على أسرارها، وتَخْصَب وتغتني بمنابع إلهامها وديناميّتها الجوّانية، وتتحقّق على الدوام حين تَشْرع في وُجودها وتجاربها وحياتها الخاصّة. ولا يمْكن لنا اختراق هذه الحياة واكتشاف غاياتها، إلّا بحدود ما تبوح هي به. يولَد الإنسان بمفرده، ويحيا بمفرده، ويموت بمفرده، ويتألّم بمفرده، ويمرض بمفرده، ويشعر بالخطيئة بمفرده، ويستفيق ضميرُه بمفرده، ويؤمن بمفرده، ويُلحد بمفرده. أيضًا يجتاحه بمفرده: القلق، واليأس، والاغتراب، والضجر، والسأم، والألم، والحزن، والغثيان، وفقدان المعنى، وذبول الروح، وانطفاء القلب، والعدمية، والعبثية، والجنون.

تفشَّى “استيرادُ الخدم” بين عوائل في مجتمعات التُّخمة. اتَّخذ هذا الاستعبادُ صيغة عبودية بقناع جديد، لأن هؤلاء البشر -وإنْ لم تَجْرِ عليهم أحكامُ الرقّ في الفقه أو القانون-، لا تختلف برأيي كثيرًا النظرةُ الاجتماعية إليهم، وأساليب التعامل معهم وطريقة استخدامهم، عن تلك التي كانت تجاه الرقيق.

حذّرَت كتاباتٌ كثيرة من شيوع هذه الظاهرة، وتهديدِها لنظام القيم، وللأمنِ الأُسَري والمجتمعي، ولآثارها الخطيرة. لكن أغلب هذه الكتابات تَسكت عن أنين الضحية، وما تُكابده من نزيف القلب واكتِئاب النفس ووجع الجسد. قلّما نقرأ كتاباتٍ تدعو إلى تحرير “الإنسان” الضحية من هذه “العبودية المقنَّعة”، واستردادِ كرامته المهدورة، والاعترافِ به بصِفَته بشرًا، وحمايةِ حقوقه وحرياتِه.

*المصدر: تعدديَّة.

جديدنا