قراءات في مساهمات ندوة: “أزمة التطوّر الحضاري في الوطن العربي”

image_pdf

محور: “الحضارة وقضيَّة التقدُّم والتخلُّف”

 

 

مدخل:

بحثتُ، قبل بضعة أعوام، موضوعاً عن الثقافة والحضارة، فأدركت بعض أعمال “ندوة التطوُّر الحضاري في الوطن العربي”، التي عقدت ما بين 7 و12 أبريل/نيسان 1974 في الكويت، وألفيتُ نفسي أتأمَّل جدارة فكرتها، وحسن توقيتها، ومساهماتها المتميِّزة والقيمة، واطّلعت على أفضل الأعمال الفكريَّة التي قدّمت فيها، وممّا كتب عنها لاحقاً، ولكن ما ظننت أنني سأكون على موعد معها مرَّة أخرى، وفي الكويت حيث كانت. وأذكر جيّداً أنني بعد ما فرغت من قراءة مساهمة الدكتور زكي نجيب محمود، عن “الحضارة والتقدُّم والتخلُّف”، سألتُ نفسي أكثر من سؤال مركب ممتدّ عبر ما طُرح من قضايا: لماذا تراجعت حضارتنا؟ ولماذا أضعنا العقل في المراوحة العاطفيَّة بين الحاضر والماضي، أو المكوث الدائم بين جُدر التاريخ؟ وأين نحن من شروط التقدُّم نحو المستقبل؟ ولماذا نحن متخلّفون، تماماً كما تراجعت وتخلَّفت كل أمَّة أخرى في التاريخ، وهل هناك شيء يمكننا القيام به حيال ذلك؟

وقد التمست محاولة الإجابة على هذه الأسئلة، وغيرها، فيما أسهبت في شرحه أوراق في ندوة 1974، فوجدت فيها إضاءات كاشفة للحال العربي، وتصوّرات موضوعيَّة لمستقبل أفضل. فطوّرت وجهة نظري عن الكيفيَّة التي يعمل بها العالم العربي، وليس لدي شكّ في أن من يقرأ ما قاله أعلام الأمّة من العلماء، الذين قدموا لنا تلك القراءات المبصرة عن حال الأمَّة العربيَّة وفرص وتحدّيات توقّعاتها وتطلّعاتها في تلك الندوة، لن يجعلني الوحيد الذي يقول إنّها كانت حدثاً فكرياً رفيعاً. فقد وفَّروا لنا، مع التشخيص والتوصيف والاستشراف، ولمصلحة المقاربة والمقارنة، ثروة من الأمثلة التاريخيَّة من جميع أنحاء العالم، ومن القديم إلى العصر الحديث. وكما هو معلوم، فإن الأمثلة العديدة المتنوّعة تسمح للمفكّرين والباحثين بعدهم لتوضيح أفكارهم بالوقائع الملموسة والحالات المشابهة.

وفي تقديري أنَّ الصورة الناطقة للوطن العربي، التي كانت أمامهم، وبكل ما كان يتجاذبها من تحدّيات، مشحونة بالرجاءات؛ نصر أكتوبر 1973، استخدام سلاح النفط وظهور إرادة سياسيَّة، وتجمّعات إقليميَّة، وطفرة اقتصاديَّة نفطيَّة. أمّا ما نشهده منها اليوم من تلاوين الحال فيقول لنا بنبرة مستغيثة؛ إنَّنا أمام منعطف خطير، ورغم أن هذه الجملة قد تردَّدت على مسامع العرب عبر تتالي النكبات، إلا أنها ولشديد الأسف تَصِحُّ في كل مرة يسمعها فيه الإنسان العربي أكثر من سابقتها. في حين أنَّ القليل من التفاؤل، الذي بنى عليه العلماء والمفكّرون العرب تحليلاتهم للواقع العربي في عام 1974، ووضعوا بشأنه تصوراتهم للمستقبل المأمول، قد تراجع اليوم إلى ما دون أكثر التوقّعات تشاؤماً في ذلك التاريخ. وحتى الآن، فإنَّ المرء لابد أن يكون أعمى إذا لم يستطع أن يرى مجموعة الكوارث التي تلهب في حاضر أمّتنا العربيَّة والإسلاميَّة على حدٍّ سواء.

ولفهم تراجعات الحاضر، التي قد تقودنا إلى مزيد من التخلُّف بدل التقدُّم، دعونا نفكر في منطق سؤال الحال الراهن، دون أن نجهد أنفسنا الآن بمحاولة الإجابة عليه، لفهم مدى عنف الصدام والخصام، الذي نشهده أمام ناظرينا، ولماذا منطلقات هذا السؤال الآن محوريَّة، لو أردنا أن ننظر إلى ما أوصلنا إلى هذه اللحظة؛ من ينتقم مِمن في محيط عالمينا العربي والإسلامي، ومن يتحالف مع من خارجه، للإجهاز على حاضره وحواضره العتيقة العتيدة؛ مِن انفصال جنوب السودان، مروراً بهلاك الصومال وأفغانستان، وإضطراب حال دول الثورات العربيَّة، إلى نَذير “الفوضى الخلاقة” في العراق، وحقيقة “التدمير الخلاق” في سوريا؟!

 

السؤال يصنع الأفكار:

لقد أدرك المشاركون من مفكِّري الأمَّة العربيَّة عمق الأزمة وأكَّدوا في “ندوة التطوّر الحضاري في الوطن العربي” على أهميَّة السؤال الفلسفي، والسؤال المعرفي والعلمي العقلاني في صنع النهضة العربيَّة، وتدبير مشاريع الإصلاح والتطوير الإنساني، سواء في الزمن الحاضر، أو في المستقبل المأمول للأمَّة العربيَّة. وكان للأهميَّة البالغة لقضيَّة التطوّر الحضاري مطلباً معرفيّاً حاضراً بقوَّة في المحاضرات والمداخلات والتعقيبات التي حفلت بها؛ استهدافاً لتحقيق مجموعة من الأغراض على رأسها: تعيين مفهوم الحضارة والعلم والعقلانيَّة والتقدُّم. وتوَّقفت الندوة كثيراً عند إشكاليَّات مفهوم الحضارة وتعريفاتها، وعقدت مقارنات بين ابن خلدون، الذي يعتبرها غاية المبالغة في التحضر والترف المؤذن بعدها بالانحطاط، وقدَّمت ما يشبه المفهوم الديناميكي لها عند مالك بن نبي، الذي يجعل حقيقة الحضارة أهمّ من العمران المادِّي، وبين تعاريف الغربيين المعاصرين مثل: ديورانت، تايلور، لامبادر، وكثيرين غيرهم. وخلصت إلى أن الوعي الحضاري الشامل هو رهان المستقبل للأمَّة العربيَّة، مهما بلغت من تراجع، واقعدها التخلُّف.

ولكن، ما الذي جعل عام 1974 مختلفاً عن بقيَّة الأعوام؟ وهو قد لا يبدو للكثيرين مختلفاً الآن، غير أنه بالنسبة للمشاركين في تلك الندوة، كان قد خلق شعوراً وكأنه بداية مرحلة ملحميَّة من تاريخ العرب والمسلمين، وهذا ما عكسته الأوراق والمداخلات والتعقيبات. وفي تقديرنا أن العودة إليه، وبعد ما جرى خلال أربعة عقود من انقضائه، تلخِّص كل قصة كبيرة حدثت في تاريخ المنطقة الحديث، بل والعالم. فمشهد التحوّلات السياسيَّة والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة والاستراتيجيَّة قد بدأت إرهاصاته الحقيقة عند هذه الفاصلة التاريخيَّة. وقد لا نستطيع أن نُحصي كل الأحداث التي وقعت فيه، أو تبدَّت نُزرها قبيله وبعيده، ولكن ما نستطيع أن نؤكِّده أن أثرها كان عظيماً على ترتيبات عيشنا في هذا الجزء من العالم اليوم. فقَصَّرنا في إدراك معادلة الواقع وعمق دلالاته، ولم نُحْسِن استيعاب الإيجابيات منه وتعظيمها، فتراكمت السلبيات، وتفاقمت الأزمات. وعلّمتنا دروس الحياة أنَّ كل شيء آخر يتراكم لإحداث تحوّل من نوع ما، وما تراكم في منطقتنا منذ ذلك التاريخ هو ما يشكِّل حاضرنا المأزوم، ويستحثنا أن نُسارع بتصحيح مسار مستقبلنا غير المعلوم. فمن نتائج هذه العقود الأربعة، التي مضت، أنها شكَّلت الحاضر بكل تعقيداته، وتستحوذ على مؤشِّرات المستقبل، وترهن مصير العديد من طموحاتنا، ويبقى الخيار الوحيد المتاح وراء ذلك هو الانخراط الجاد مباشرة في معركة التحدِّي القادمة.

لقد كان ذلك العام 1974 عام الفرص المتاحة، والتحدّيات الجسام، والعطاءات الثرَّة، والتناقضات الكبيرة، التي تراوحت بين التفاؤل البازغ البازخ واليأس المقعد. إذ أنه، وأكثر من أي وقت مضى، وفَّر لحظة تاريخيَّة مناسبة لجرد الحساب، إذ استبان المفكَّرون، في منابرهم المختلفة، التي انتدت في أكثر من مكان، خاصَّة هنا في الكويت، أهميَّة المرحلة، وحاولوا مقايسة مقدار الربح والخسارة في الحال العربي العام؛ عاينوا الميراث، وعيَّنوا نقاط الارتكاز في الحاضر، واجتهدوا في توجيه بوصلة المستقبل. وخاضوا معركة ملحميَّة مع الذات، بنقد الذات، وتحديد علاقتهم بالحاضر، وموقعهم بين التاريخ والتقدُّم، وأين هم من شروط النهضة والشهود الحضاري. فكانت وقفات مع الذات، من أجل الذات، في لحظة تقاطع مع انتقالات التاريخ الإنساني المتسارعة، والعولمة، وما فيها من توتّر درامي، وحقائق مستحدثة متجدِّدة، تُفقد حركة الحاضر جميع فواصل الزمان والمكان، فقرَّبت هذا الحاضر إلى المستقبل أكثر من أي وقت مضى.

إننا اليوم أمام مستوى متغيِّر من الحراك التاريخي، تضيع مع سرعته معالم المراحل، ويتعذَّر على المتأني الوقوف للتأمُّل. إننا أمام زمنين يصطرعان حول أحقيَّة البقاء؛ زمن هادئ بطيء تاريخي يجرجر ما تبقى من أيامه للرحيل الأبدي، وزمن متسارع كالوميض يحرق المراحل ولا يلوي على شيء، ويحتوي الزمان وصل في حدود المكان. ومع ذلك، فهما زمنان يعنيان بالنسبة لنا أكثر من مجرد فترة استراحة نُحصي فيها كسب الماضي والمستقبل في مشهد تقاتلهما مع بعضهما البعض، وسعيهما للسيطرة على حصاد إنجازنا الحضاري. لقد كان التاريخ في الزمن الذي يمضي حقباً مديدة الآجال، أما الآن فسنجد أن في كل منعطف هناك توتّر بين أنظمة معاش جديدة تُسيطر وأخرى قديمة تُفارق الحياة، ونشهد أن العالم المتحرِّك في كل اتِّجاه تجتاحه عمليات العولمة بسلبها وإيجابها. هل نبتدع الحلول التي تساعدنا على التنقُّل في العالم الجديد، بسرعة حركة العولمة، مع التحكُّم في خياراتنا المستقبليَّة، أم نعيش في الحاضر المرتهن للماضي، ونترك شأننا لغيرنا؟ إنَّ الإجابة بنعم على شقِّ السؤال الأول هي المخرج، الذي تبنَّاه مؤتمر الكويت 1974، ولا مناص من تبنِّيه الآن، لأنَّ استحقاقاته ما تزال مترتِّبة علينا، وإنجازها لم يتم، وقد تراكمت على التحدّيات تحدّيات، وتعقَّدت الأزمة العربيَّة بأشكال جديدة من الأزمات. أما الإطمئنان لخيار الشقّ الثاني من السؤال سيجعلنا عرضة لخطر داهم عظيم، إذ لم تعد هناك في عالم العولمة حماية مكانيَّة، أو زمانيَّة؛ فإما أن نتقدَّم بخطى واثقة سريعة نحو المستقبل، ونؤسِّس لنا واقعاً حضارياً جديداً، وإلا سوف نُصبح مثل الباعة المتجوّلين في سوق لسنا جزءاً من تركيبته، ولا من نظامه، لأنّنا سنعيش في زمان ومكان مغايرين للراهن العالمي العولمي، ونعتمد فيهما لحياتنا أنظمة مغلقة تاريخياً، وتخضع لرقابة مشدَّدة من الماضي، يصعب تكييفها مع متطلّبات العالم الجديد، لأنها تمثِّل ببساطة تخلّفاً منهجياً، وتراجعاً حضارياً. وإن كان لنا فيها من سعي يُذكر، فهو في أحسن الأحوال؛ إعادة اختراع الماضي؟ لذا، فالأسلم، ونحن نعيد قراءة هذا الميراث الفكري المهمّ، أن ننطلق من سؤال كيف سنحصل على المستقبل الذي نُريد، والذي هو الأكثر أهميَّة بالنسبة لنا؟ وأن نُطلق مرة أخرى صافرة الاستنهاض لإعداد العدّة لبناء مستقبل أفضل، بناء على أساس ما تَثْبُت صحّته من كسب الماضي والحاضر.

 

الأسلم، ونحن نعيد قراءة هذا الميراث الفكري المهمّ، أن ننطلق من سؤال كيف سنحصل على المستقبل الذي نُريد، والذي هو الأكثر أهميَّة بالنسبة لنا؟ وأن نُطلق مرة أخرى صافرة الاستنهاض لإعداد العدّة لبناء مستقبل أفضل، بناء على أساس ما تَثْبُت صحّته من كسب الماضي والحاضر.

هل تهمّ القيادة؟

لقد طرحت الندوة هذا السؤال، وهو سؤال لم ولن تكون إجابته بقدر التوقّع، رغم أنه شغلنا ويشغلنا كثيراً، إذ كلما إدلهمت علينا الأزمات بحثنا عن صلاح الدين المخلص. ونتمثَّل في تاريخنا الحديث بقيادات؛ لم تستوف كل الإجماع، ولكنها قدّمت نماذج للتغيير. فهل مَثَّل جمال عبد الناصر تحدّياً للاقتصاد الإقطاعي المصري؟ مثلما يتساءل الناس اليوم: هل يمكن تقديم ​​ نيلسون مانديلا كمثال على التحدّي للاقتصاد السياسي: بدمج دور القيادة والأفكار إلى تحقيقاتنا النظريَّة والتجريبيَّة حول الحضارة وقضيَّة التقدُّم والتخلُّف؟ إن نيلسون مانديلا، الذي وافته المنيَّة يوم 5 ديسمبر 2013، لم يكن مجرد سياسي كبير والزعيم الملهم لشعبه وشعوب العالم، ولكن أيضاً لأنه شكل تحدّياً لنماذج الاقتصاد السياسي التي لدينا. فهل تلعب الأفكار؛ إلى جانب القيادة، دوراً في هذه النماذج؟ إن نماذج الاقتصاد السياسي تحاول بطريقة منهجيَّة دراسة توزيع السلطة السياسيَّة في المجتمع وما ينتج عنها من توازن السياسات والمؤسّسات. فهذه تذهب عادة عن طريق نموذج نظريَّة اللعبة Game Theory، التي تفترض أن فيها مجموعتين مختلفين؛ ضمناً أو صراحة، قد حلا مشاكل العمل الجماعي الداخلي، بالمنافسة، والتفاوض، أو القتال، من أجل الحصول على ما تسعيان لبلوغه. أو الأفراد، الذين يفترض أن لديهم معتقدات واضحة المعالم عن تفضيلات تتعلَّق بالسياسات، يصوّتون، أو بوسائل أخرى، يدعمون الأطراف المختلفة والسياسات، أو المؤسّسات.

إن هذا المثال يقترب قليلاً من مثال السلام العالمي، الذي هو مثل التقدُّم، قضيَّة سيصوّت الجميع لها، أو على الأقل سيقولون إنهم يعملون لصالحها. ولكن قلَّة تعرف بالضبط كيفيَّة تحقيق ذلك. وبطبيعة الحال، فإنه من السهل أن ينتقدوا النهج القائم لأنهم لا يملكون القيادة، أو دوراً للأفكار مستقلاً عن الفائدة، أو المنفعة، كما أسماها الدكتور زكي نجيب محمود في محاضرته الإفتتاحيَّة لندوة 1974. ولكن هذا أيضاً تفسيرٌ محدودٌ على نحوٍ ما. وعلى الرغم من أن البعض يختلف مع هذا الطرح، إلا أنني أعتقد اعتقاداً راسخاً بأن الاقتصاد – وبشكل أكثر عموميَّة؛ العلوم الاجتماعيَّة – يجعل التقدُّم الذي يجري أكثر تحديداً حول الكيفيَّة، التي يمكن بها نمذجة بعض الظواهر الاجتماعيَّة رسمياً، كأن تكون على غرار ما نرجوه لها، عن طريق استخلاص الرؤى ووجهات النظر الجديدة، والتي لن تكون واضحة دون أن تفعل فعل هذه النمذجة؛ عن طريق ابتكار طرق جديدة لقياس المقابلة لهذه المفاهيم الجديدة؛ واختبار الفرضيات والأفكار الجديدة باستخدام أحدث مناهج الاقتصاد القياسي والأساليب الإحصائيَّة.

وبالتالي، فإن إدراك أن الوعي يكمن في التفاصيل سيمكننا من استيعاب كامل الحقيقة. ويكون ذلك وفقاً لما نراه، بأن هناك فعلاً في عمل الاقتصاد السياسي، والاقتصاد بشكل عام، تفسير لهذه المواضيع تقتله التفاصيل. أولهما، هو أن هناك نوعين من فروع الأعمال ذات الصلة يظهران أنَّ القادة هم في الواقع مهمّون. ويتمثَّل فيما طرحه بنيامين جونز وبنيامين أولكن، في “هل القادة مهمّون؟”[1] مع التركيز على التغيرات في القيادة الوطنيَّة الناجمة عن وفاة زعيم بشكل فجائي، حيث الزعيم هنا يعني الشخص، الذي بيده السلطة التنفيذيَّة، والذي يمكن أن يكون الرئيس، أو رئيس الوزراء، أو الدكتاتور. وقد وجد جونز وأولكن أدلة على أن القادة فعلاً مهمّون. إذ أجريا، على وجه الخصوص، اختباراً لفرضيَّة أن معدَّل نمو الناتج المحلي الإجمالي هو نفسه قبل وبعد وفاة الزعيم المفاجئة، ورفضا هذه الفرضيَّة بشكل مريح، مما يوحي بأن هناك تغييراً في النمو عندما يموت القادة ويحل محلهم آخرون جُدد. وهناك شيئان مثيران للاهتمام بشكل خاصّ بشأن هذه الفرضيَّة، هما:

الأول، أنهما يختبران ما إذا كان التغيير في القيادة يرتبط مع أي تغيير في النمو – فرضيَّة أضعف بكثير من مجرّد تغيير في القيادة من شخص بخصائص معيّنة؛ مثل التعليم المنخفض، إلى الخصائص الأخرى؛ مثل التعليم العالي، تعملان على زيادة النمو الاقتصادي. هذا لسبب وجيه. ولا يبدو أن هناك أنماطاً قويَّة كما هو الحال عندما يتعلَّق الأمر بخصائص الزعيم. والثاني، والمثير للاهتمام أكثر، يبين جونز وأولكن أن هذه النتيجة مدفوعة بالتغيّرات في القيادة في البلدان ذات المؤسّسات السياسيَّة الضعيفة وغير الديمقراطيَّة. وهذه النتيجة تقول إنّ التغيير من جورج بوش إلى باراك أوباما، على الرغم من أهميته بالنسبة لأشياء كثيرة، لا ينبغي أن يتغيَّر بسببه معدّل النمو في الولايات المتحدة، رغم أنها قابلة للتطبيق. وهذا يجعل الكثير من معانيها في بعض المستويات جيدة. فما الذي يمكن أن نسميه شاملاً وتضمينياً عندما ستسمح المؤسّسات السياسيَّة بتقدير أقل للسياسيين لاتباع سياسات من شأنها أن تكون كارثيَّة. وبالتالي، يجب أن تكون تقلبات النمو الاقتصادي أيضاً أكثر محدوديَّة. وهذا يعني، بتقدير آخر، أنه إذا كنت تعتقد – كما نفعل بحزم بالطبع – أن المؤسّسات مركزيَّة لفهم الأداء الاقتصادي، وليس هناك تعارض مع هذا الرأي، الذي يمكن أن يُثبت أن القادة غير مهمّين: يعمل القادة في أطر أنشأتها المؤسّسات، ويعتمد تأثيرهم إلى حدٍّ كبير على ما هو مُتضمِّن من قبل هذه المؤسّسات. على الرغم من أنهم يسهمون بدورهم في تشكيل تطوّر هذه المؤسّسات. والثاني، هو خط العمل المتعلِّق بالتحقيق في تأثير المدراء التنفيذيين على أداء المؤسّسات.  وبالتالي، يمكن للمرء أن يقدِّر أحد مواصفات الاقتصاد القياسي، التي يمكن أن ننسب أداء المؤسّسات فيها، من بين أمور أخرى، إلى “آثار الرئيس التنفيذي للمؤسّسة”، و”آثار المؤسّسة”. ومنطقياً، فإن هذا يعني تقدير انحدار لوحة البيانات، التي يوجد فيها ثبات لآثار كل من الرئيس التنفيذي والمؤسّسة. وبهذا، فإن الفرضيَّة القائلة بأن النمو، قبل وبعد وفاة الزعيم المفاجئة، يجري على قدم المساواة يمكن رفضها. بالإضافة إلى ذلك، وباستخدام البيانات المتاحة عن الممارسات في عهود الرؤساء المختلفة، فإنه يمكن أن تكون هناك محاولة أولى في التحقيق عن لماذا يهمّ الأمر المدراء التنفيذيين المختلفين. وأن هذه تُظْهِر، على وجه الخصوص، أن سياسة توزيع الأرباح، وسياسة الاستثمار، واستراتيجيات خفض التكاليف، والسياسات الماليَّة، وعمليات الدمج والاستحواذ، تُظْهِر قرارات حسَّاسة بشكل خاصّ إلى الذي يمسك بزمام المؤسَّسة، وكذا الزعيم على رأس الدولة. ويؤيِّد هذا الاستنتاج من خلال الدراسات، التي أجريت مؤخّراً من قبل نيك بلوم وجون فان رينين،[2] والتي تدل على اختلافات كبيرة في الممارسات الإداريَّة في جميع أنحاء البلدان وداخلها، وتُقَدَم أدلة تُشير إلى أن هذه من المحتمل أن تكون مهمَّة جداً لأداء المؤسّسات والدول. وتساهم مثل هذه الدراسات في إحراز تقدّم كبير يُظْهِر أن القيادة في المؤسَّسة، أو على المستوى القطري، مسألة مهمَّة، وتضع أيضاً بعض الأفكار الجديدة على الطاولة، التي تتَّصل في ما قد يهمّ من طُرق القيادة.

بالطبع، هناك العديد من الأسئلة المفتوحة. على سبيل المثال، على المستوى الوطني، وفاة زعيم قد تهمّ ليس بسبب شخصيته، أو الرؤية التي يحملها، ولكن لأن هناك “الائتلافات الساعية للمصالح” المرتبطة بقادة مختلفين، مثل مساعي تحالفات جماعات المصالح في دول “الربيع العربي” قبل وبعد الإطاحة بقيادات هذه الدول. فعندما يموت أحد القادة، فإن هذا يؤدِّي إلى تفكُّك أحد التحالفات الريعيَّة وتشكيل آخر. وسوف يكون لهذا؛ بطبيعة الحال، أثر على الأداء الاقتصادي حتى، لو أن الاثنين من التحالفات الريعيَّة لديهما بالضبط نفس الأفضليات على النمو الاقتصادي والاستثمار في مختلف قطاعات الاقتصاد. أضف إلى ذلك احتمال أن مختلف التحالفات الريعيَّة المدعومة من قبل، أو التي تفضل، مؤسَّسات أعمال مختلفة في قطاعات الاقتصاد، قد تُصبح من الممكن تماماً مرتبطة بتحوّلات القيادة، والتي يمكن أن تترافق مع تغييرات كبيرة جداً في النمو الاقتصادي، من دون أن تتأثَّر بأي من المفاهيم حول “القيادة”، والتي نعتقد عادة بها – وخاصَّة عندما تكون مثل هذه القيادة مستوحاة من نموذج “نيلسون مانديلا”، كونه زعيماً مهماً. وهذا هو بطبيعة الحال مجرد خدش على السطح، لا يتكامل به رسم لوحة كاملة من العلاقات السببيَّة. إذ أن هناك حاجة إلى أكثر من ذلك بكثير لتعزيز فهمنا لكيفيَّة النظر لأهميَّة القيادة على المستوى الوطني، أو على مستوى المؤسَّسة. ونحن بحاجة أيضاً إلى دراسة الوضع عندما يكون هناك تحوّلات في القيادة، وربما أيضاً ما إذا كان، ومتى، وكيف، يغير القادة الموجودون استراتيجياتهم ونهجهم بسبب الظروف المتغيِّرة. لهذا، هناك الكثير مما ينبغي القيام به في هذا الصدد. وينطبق الشيء نفسه عندما يتعلَّق الأمر بنمذجة القيادة، التي لا تقل أهميَّة عن القيادة ذاتها.

 

سؤال الاقتصاد؟

إن سؤال الاقتصاد هو واحد من أهم الأسئلة، التي طرحت في ندوة 1974، وهو على بساطة طرحه إلا أنه من أعقد القضايا، والتي يمكن تَخَيُّلها في الوطن العربي، بل في العالم اليوم، لأنه بعض متعلقات التخلف اقتصاديَّة بالضرورة. كما أنه واحد من أكثر الأسئلة المشحونة سياسياً. وقد ظهر هذا جلياً في الأعمال القيمة للمفكرين العرب، الذين أسهموا في تلك الندوة، وأسهبوا في شرح وتوضيح الظاهرة. وأنا أقرأ كذلك محاولات عديدة من قبل الاقتصاديين والمؤرِّخين، وغيرهم من الباحثين، لشرح السبب في أن معظم دول أمريكا الشماليَّة وأوروبا وبعض دول آسيا وأمريكا اللاتينيَّة، جعلتني أكرِّر ذات السؤال، الذي طرح عام 1974: لماذا تتقدَّم هذه الدول وأن بلادنا العربيَّة ليست كذلك. وقد وجدت أن الكثير من محاولات التفسير تعتسف الأسباب وصولاً إلى مزاعم بأن الدول المتقدِّمة قد فازت في المباراة عن طريق التغوّل على مقدّرات الدول المتخلِّفة، أو أن الدول المتخلِّفة ورثت ثقافات بطبيعتها في موقع أدنى في ترتيب السلم الحضاري، وهي التي منعتها من النهوض والتقدُّم. ويستخدم الاقتصاديون المحافظون هذه الحجج كفرصة لتمجيد فكرة الأسواق الواسعة المفتوحة، التي يعتقدون فيها بالفعل، بينما يستخدمها الاقتصاديون الليبراليّون لشنّ الهجمات على الرأسماليَّة المنفلتة، والتي لم يألوا يوماً جهداً في توضيحها. وكثيراً ما يبدو، على حدٍّ سواء، جهل الطرفين الكبير بالتاريخ. إذ لا يستطيع أحد أن يذكر موضوعاً آخر أنْفَقَ فيه الكثيرُ من الناس الكثيرَ من الطاقة لتوليد القليل جداً من الضوء الكاشف للحقيقة.

إنَّ الأمر يحتاج، في الواقع، إلى جمع وتأسيس قاعدة بيانات عملاقة فائقة الدقَّة، وكاملة، عبر التاريخ ومن كل البلاد العربيَّة، واستخدامها لطرح الأسئلة بكل أنواعها؛ الأسئلة العاديَّة والذكيَّة. عندها فقط سنجد إجابات غير متوقَّعة، تلك التي قد لا يرضي بها أنصار الأحكام المتعجلة، ولكن فيها المؤشِّرات الدالة على الحقيقة. لماذا تفشل الأمم في مسيرة التقدُّم؟ ولماذا بعض الدول غنيَّة والأخرى فقيرة؟ ولماذا عالمنا العربي مليء بالقصص المذهلة عن الأسباب والمسبّبات؟ هل نعلم حقاً أياً منها؟ إن الكثير مما يُشْبِه هذه الأسئلة قد احتلَّ عقول علماء الاجتماع والفلسفة والتاريخ، وانشغل بمحاولة الإجابة عليها الاقتصاديون منذ أن كتب آدم سميث “التحقيق في طبيعة وأسباب ثروة الأمم”. وكما قال روبرت لوكاس، الحائز على جائزة نوبل، بمجرد البدء في التفكير في هذا السؤال، “فمن الصعب أن نفكِّر في أي شيء آخر.”[3] بينما بذل دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون جهداً وتفكيراً جادّاً حول هذا الموضوع، وضمنا جوابهما في كتاب “لماذا تفشل الأمم.”[4] وأطروحتهما الرئيسة في ذلك هي “أنه في حين أن المؤسّسات الاقتصاديَّة هي الحاسمة لتحديد ما إذا كان البلد فقيراً أو في حالة رخاء، فإن السياسة والمؤسّسات السياسيَّة هي التي تحدِّد ما المؤسّسات الاقتصاديَّة لدى البلاد.”[5] إن المؤسّسات الاقتصاديَّة الصحيحة هي مسألة حيويَّة أمر مُعترفٌ به منذ فترة طويلة؛ وما قام به أسيموغلو وروبنسون هو التأكيد على الدور الحاسم للجانب السياسي. ويقولان إن وجود نظام سياسي شامل سيسمح للنظام الاقتصادي الشامل بالتطور. إذ يوفر هذا النظام حوافز للناس لاكتساب المهارات، والعمل الجاد، والتوفير، والاستثمار؛ والأهم من ذلك، الابتكار. في المقابل، يوجد النظام السياسي الريعي لصالح نخبة ضيِّقة، ويخلق النظام الاقتصادي الريعي، ولا يمكن للجماهير التأثير على النظام السياسي، وليس لديهم حوافز لبذل جهودهم وخلق الثروة، التي ستأخذها منهم النخب السياسيَّة. ويمكن للنظم الاقتصاديَّة الريعيَّة تحقيق النمو لفترة قصيرة، ولكن لا يمكنها تحقيق النمو المستمر. وهذا لأنها لا يمكن أن تخلق تغيرات مهمَّة، ولأن الاقتتال سيحتدم على غنائم النظام.

وقد تبتعد الإجابة أكثر كلما كرَّرنا السؤال: لماذا بعض الدول تزدهر، وتحسن حياة مواطنيها، وتفشل أخرى، وغالباً بشكل كارثي جداً؟ ومثلما فعل دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون، وغيرهما من الأكاديميين، واقترحا نموذجاً يستند على مفاهيم “الريعيَّة” مقابل “المؤسّسات الشاملة”، يلزم تقديم أطروحة أخرى مغايرة. إنها محاولة لدعم هذه الأطروحة الأخرى من خلال إجراء مراجعة واسعة للغاية للتطوّرات الاقتصاديَّة والتاريخيَّة في مجموعة من ثلاثين، أو نحو ذلك، من البلدان. أنهما، أي دارون أسيموغلو وجيمس روبنسون، يبدآن، مثل ما فعل الدكتور زكي نجيب محمود عندما تأمّل الطب للحدّ من عدد من المتغيّرات، أو ما يقوم به الباحثون من خلال دراسة “التوائم”، حين يكون أحدهما في وضع صحي أفضل من الآخر، أو بالمنطق الاقتصادي، واحد في حالة ازدهار نسبي، والآخر ليس كذلك. إنها بداية جيدة لتقريب الصورة، أو مدخل جيِّد للفهم، وفي الكتاب، يستخدم المؤلفان أسيموغلو وروبنسون الكوريتين كمثال نابض بالتماثل والمغايرة. إذ أنه في كلتا الحالتين هناك وحدة في الجغرافيا، والثقافة ثابتة نسبياً، والذي يبدو، لدعم وجهة نظرهما، هو “المؤسّسات” التي تنظِّم حياة المواطنين فيهما، والتي هي المسبِّب للتقدُّم في واحدة والتخلُّف في الأخرى.

إن هذه المقاربة، التي تبدو منطقيَّة، هي محدودة بوجه من الوجوه، فالمسألة بمدخل الحكمة أعمق من ذلك بكثير، لا لأن الصدق يمكن أن يكون قليلاً، ولكن بالتأكيد هناك أبعاد أخرى كثيرة يتطلبها التفسير الصحيح لظاهرات التقدُّم والتخلُّف، وقد يرتبط بعضها بحالة المؤسّسات السياسيَّة والاقتصاديَّة، بما في ذلك الجوانب الثقافيَّة. فإذا كان واحد من الأسباب يمكن أن يحدِّد الحالة، التي عليها الأفراد الذين لديهم حوافز للإنتاج، وأنهم سيعملون وفقاً لها بجد، لماذا لم يُحتضن هذا المفهوم عالمياً، من قبل الشركات والبلدان؟

وهذا هو عين المحدوديَّة بلا شك. ففي الأساس، تقول الحجّة إنَّ مؤسَّسات أمّة، أو مجتمع، يمكن وضعها على سلسلة متَّصلة واحدة الأبعاد يمتدّ من “الريعيَّة” إلى “الشاملة”. وهذا ما يفسِّر تاريخ البشريَّة من العصر الحجري الحديث وحتى يومنا هذا، بافتراض أن المؤسّسات الاقتصاديَّة والسياسيَّة يكمل كل منهما الآخر، وأن المؤسّسات الشاملة اقتصادياً ولكن الريعيَّة سياسياً لا يمكن أن تستمرّ لفترة طويلة، وكذلك العكس. إذ إن المؤسّسات السياسيَّة والاقتصاديَّة تعزِّز بعضها البعض، فهي من الصعب جداً تغييرها، مما يؤدِّي إلى ما يسمِّيه الكتاب “القانون الحديدي للأوليغارشيَّة.” بينما أسيموغلو وروبنسون يعطيان الكثير والكثير من الأمثلة التاريخيَّة لتوضيح أطروحتهما، وبعضها أكثر إقناعاً من غيرها، فإنهما يستخدمان مطرقة ضخمة لوضع كل الحقائق في القالب، إما بتجاهل ما يخالف رؤيتهما، أو إعادة تفسير الأدلة بعكس ما تحتمل. وغني عن القول، فإن هذا يحدِّد حقاً تحليل المؤسّسات والتاريخ معاً.

 

إن سؤال الاقتصاد هو واحد من أهم الأسئلة، التي طرحت في ندوة 1974، وهو على بساطة طرحه إلا أنه من أعقد القضايا، والتي يمكن تَخَيُّلها في الوطن العربي، بل في العالم اليوم، لأنه بعض متعلقات التخلف اقتصاديَّة بالضرورة. كما أنه واحد من أكثر الأسئلة المشحونة سياسياً. 

أي تقدُّم نُريد؟

يبدو أن الميل لابتكار أنماط من التقدُّم متجذِّر بشكل عميق داخل النفس البشريَّة، وهذا ما أشارت إليه الأوراق والمداخلات القيمة في ندوة أبريل 1974، بل هو جزء من الأسطورة “الميتافيزيقيَّة” العامَّة لكل الشعوب، بما فيها الجماعات البدائيَّة. ومجرَّد التفكير في ماضينا كمواطنين عاديين، نلحظ كم مرة أخذنا الاعتقاد، أو على الأقل الأمل، أننا قد حقّقنا تقدّماً خلال السنوات القليلة الماضية، سواء كان ذلك في عملنا الوظيفي، وفهم المسائل الماليَّة المرتبطة بتصريف معاشنا ومصروفات عيشنا، وحتى في إطار محبّتنا الخاصَّة لمن نُحبهم في المجال الاجتماعي؟ فضلاً عن أن أي من الأنواع الأخرى، التي يمكن أن تنطبق عليها فكرة التقدُّم. ولكي تبقى لمجرد البقاء مع حياة المرء الخاصَّة؛ نعم، ربما وربما نعتقد أننا قد أحرزنا بعض التقدُّم في الآونة الأخيرة في لعب كرة القدم، ولكن سرعان ما قد نضطر إلى ترك اللعب بسبب الشيخوخة، أو الإصابة، نعم، ربما كنا قد تعلمنا بشكل أفضل كيف ننجز عملاً معيناً، ولكن ظروفاً طرأت غيرت وضعنا الوظيفي، أو أن المؤسَّسة التي نعمل بها أحالتنا للتقاعد. في إطار هذا المفهوم، إذن، يبدو أن التقدُّم الذي نحدّده لأنفسنا هو دائماً مؤقَّت، مجرد جزء فرعي من الماضي يقع اختيارنا له بعناية لمحاولة فهم كيفيَّة تحسين بعض جوانب الحياة.

ومثلما نَتَطَلَّع نحن كأفراد لواقع أفضل، نُحسن الظن ونَحْسَب أن رجال الدولة، الذين يتولون شأننا، يهدفون بعملهم لتقدُّم شعوبهم والارتقاء بها، تماماً كما يفعل المدربّون في حلبات الرياضة، الذين يجتهدون لتقدّم فرقهم وتمكينها من عناصر النصر، ومعهم يسهر العلماء في البحث لتحقيق تقدم في نظرتهم إلى الظواهر الدنيويَّة ومحاولة تفسيرها، أو التحكُّم فيها، وتسخيرها لمصلحة الإنسان. وبهذا النهج المنطقي التقدُّمي، نطمئن أن الأمور تسير على ما يُرام. وهكذا هو التفاؤل، الذي نأمله أن يتسلَّح بمعارف ضبطه ومفاتيح تحقيقه، ويتعمَّد براءات العلم لا براءة التمنيات العاطفيَّة، التي لم تتخط بنا عتبة الأزمة قيد أنملة. وكما طالب المفكِّرون العرب في 1974، نُجدِّد النداء، وبإلحاح أشد، أن يجب النظر إلى مجمل قضايانا بالعقل وتصوّرات المنطق العلمي، ووضعها في إطار هذا المفهوم، إذ إن التقدُّم كفكرة بناء صاعد أمر لا مفر منه لبقائنا كأمَّة، وينبغي سيادته على ترتيبات حياتنا.

 

التثبُّت من التقدُّم:

إنَّ عصرنا، الذي وصفه الدكتور زكي نجيب محمود في ندوة الكويت “بصفات ثلاث: فهو عصر علمي، وهو عصر تقني، وهو عصر مدار الأخلاق فيه على المنفعة،”[6] هو أيضاً الذي يوفر الفرص ويخلق التحدّيات. فالتقدُّم هو مفهوم حديث ومهمّ جداً، انبثقت منه مجموعة من المبادئ الأخرى؛ الأولى، أن هناك تاريخاً؛ والثانيَّة، أن المستقبل سيكون أفضل؛ والثالثة، هي أن الانحطاط ممكن. وقد تَشَكَّلَ اعتقادٌ في أوربا خلال فترة العصور الوسطى أن السماوات كانت مثاليَّة، من خلال معرفة الناس بالله في الحاضر عبر الكتاب المقدس، الذي أُخِذَ بإيمان عميق أنه خَطٌ مثالي آخر للمعلومات، سيتمّ الحصول على الجنَّة والنعيم من خلاله، دون إجهاد للنفس والعقل في الدنيا. وقد تركت هذه الفكرة العقل في العصور الوسطى دون وجودٍ للأنا، ولا مفهومٍ للوقت، وبالتالي التاريخ. غير أن العالم أصبح مختلفاً كثيراً اليوم، ولم يكن ممكناً حتى فترة الإصلاح، والنهضة التي تلت ذلك، معرفة ماذا يعني التقدُّم. وكانت فى الصين أيضاً قضايا خاصَّة بها في هذا المجال، وساعد مفهوم الكونفوشيوسيَّة للانسجام مع كبح الطبيعة الفلسفيَّة للتقدُّم، ولكن كما يمكن أن ينظر إليه في الآونة الأخيرة – على الرغم من أحداث الاضطرابات – أصبح التقدُّم جزءاً من الثقافة الصينيَّة وسياسة الحكومة المركزيَّة. ويمكن القول إنَّ الثورة الشيوعيَّة في الصين أنشأت هذا المبدأ على الرغم من عدم الكفاءة، التي جرت بها محاولة التقدُّم. وفي يومنا هذا صار التقدُّم يُعرف في ساحة السوق بالابتكار، فمن المهمّ جداً للعمليَّة الاقتصاديَّة أن تكون مبتكرة، وأن “مايكروسوفت”، مثلاً، على استعداد لأن تجادل السلطات الأمريكيَّة بأنه بمعاملتها على أنها تمارس الاحتكار من شأنه أن يؤثِّر سلباً على الابتكار. وهذا هو الاختلاف الأقل شوفينيَّة من حجة “ما هو جيد لجنرال موتورز هو جيد لأمريكا”، وفي ذلك فصل بين العلم وضرورات السياسة الاقتصاديَّة، أو الشوفينيَّة الوطنيَّة. كما أن التقدُّم أصبح، قبل الصين بكثير، جزءاً لا يتجزأ من الثقافة والنفسيَّة الغربيَّة. كما أن فكرة التقدُّم نفسها كانت قد تقدَّمت كثيراً في المجتمعات الغربيَّة.

لقد تطوَّر التقدُّم، في الواقع، إلى فكرة التطور. وكان هذا تغيراً فلسفياً ذا صلة، وذلك لأن التطور لم تكن له أيَّة دلالة سياسيَّة، أو اجتماعيَّة، أو دينيَّة، ذات أهميَّة. إنها نظريَّة قد تعطينا بعض الأمل في العالم العربي بأنه سيكون هناك تقدم دون تحديد أي اتجاه زمني سوف يستغرقه التأسيس لهذا التقدُّم. فقد اعتقدت بعض وجهات النظر المبكرة للتقدم أن المجتمع المثالي كان ممكناً، ولكن بعد نشر “أصل الأنواع”[7] لتشارلز دارون، فإن فكرة التقدُّم اكتسبت احتمالات متفائلة ومتشائمة. وهذا هو مفهوم الانحدار، أو التخلف – بدلاً من التقدُّم. لذا، كانت كل الاكتشافات، بغض النظر عن القيمة التي لديها في حدِّ ذاتها، قد تمَّ تحليلها على أنها الطريقة التي شغلت فهمنا للتطوّر – التقدُّم. وكانت نتيجة ذلك أن الفهم للتقدّم أدْخَلَ في كل أنواع الدراسات وجود البُعد التاريخي.

لنفترض أننا جميعاً نُؤثِر المحفاظة على الالتزام بالتقدُّم، فكيف يمكن إثبات مدى التزامنا بذلك؟ وهنا، يمكننا التمييز بين نوعين من المدارس المختلفة جذرياً في فهم التقدُّم. واحدة – والأكثر شيوعاً – تسعى لاسترداد براهين التقدُّم من خلال الأحداث الماضيَّة. ولكن هناك طريقة أخرى للرد على سؤالنا أيضاً، اُقْتُرِحَت بشكل واضح من قبل فرانز كافكا [8]. خصوصيَّة هذا الموقف ترتكز على وجهة النظر المعرفيَّة. فالتقدُّم لا يمكن إثباته، مثل وجود الله لا يمكن اثباته تجريبياً لغير المؤمن؛ التقدُّم هو مادة الإيمان. وبعبارة أخرى، فإن التقدُّم هو عنصر ضروري لروحانيَّة الإنسان. والاعتقاد في التقدُّم لا يعني أن نصدِّق أنه موجود بالفعل، أو سابق في الوجود، بل أن نؤمن بالتقدُّم هو أن يكون لنا إيمان بأن المستقبل يتضمَّن تحسين بعض الشروط المطلوبة.

إننا بسبب سلطة العلم، من خلال الأدوات التقنيَّة، تمَّت بعثرة صور حياتنا باتجاهات مختلفة، وأنها غير قابلة للانعكاس للماضي، ولا نستطيع، وهذا هو الوضع المفترض، الذي نادت إليه ندوة الكويت عام 1974، أن ننظر إلى الوراء من فوق كتف التاريخ لنطل على أنفسنا هناك، أو من هناك، وأن جميع الجوانب الأخرى من الثقافة والمجتمع يتبعون يقظة العلوم.

 

لقد تطوَّر التقدُّم، في الواقع، إلى فكرة التطور. وكان هذا تغيراً فلسفياً ذا صلة، وذلك لأن التطور لم تكن له أيَّة دلالة سياسيَّة، أو اجتماعيَّة، أو دينيَّة، ذات أهميَّة. إنها نظريَّة قد تعطينا بعض الأمل في العالم العربي بأنه سيكون هناك تقدم دون تحديد أي اتجاه زمني سوف يستغرقه التأسيس لهذا التقدُّم.

ما هو التقدُّم العلمي؟

إن فكرة التقدُّم، حسب فهمي لرؤية الدكتور زكي نجيب محمود، كانت قد اُستُخدِمت، أولاً وقبل كل شيء، لتأهيل حالة الإنسان ليصبح عضواً فاعلاً في المجتمع. ومع ذلك، ومن وقت لآخر، فإن الأعمال المختلفة للفكر، قد ارتبطت بمصادر التقدُّم. ويمكن أن تُسمَّى وجهات النظر الأكثر وضوحاً بـ” الأحاديَّة” بسبب جاذبيتها لبعد فريد من التقدُّم: المعرفة؛ الثراء؛ السلطة، أو السيطرة على أنفسنا والعالم. بينما وجهات النظر الأخرى، التي ينبغي إدركها هي نوع من” الخطة”، بل قد تكون الخطة، التي أرادها الله للعالم، أو – على سبيل المثال في التقليد الهيغلي – تَكَشُف خطة التاريخ، والتي هي قًدَر العالم.

إن دراسة فكرة التقدُّم تفتح أيضاً مسألة العلاقة بين الطبيعة والثقافة. في الواقع، هناك من قرأ في تقدُّم الثقافة الإنسانيَّة اتجاهاً داخل العالم الحي للتقدم. في “الإنتخاب الطبيعي”،[9] وتحت هذا الضوء، هناك المسيرة المنتصرة لتقدُّم العالم الطبيعي: بينما الكائنات وحيدة الخليَّة قد تُعاني، الخطَّة الشاملة للتطوُّر لا تزال تُظهر أن التقدُّم أمر لا مفر منه خلال الطبيعة. هذه وجهة نظر تبدو بعيدة عما تحدَّث به داروين، وكذلك معظم علماء الأحياء التطوريَّة المعاصرين، ولكنها ما تزال تشكل الاتجاه لقراءة عالم الطبيعة بطريقة هي في كثير من الأحيان قد تمَّ القضاء عليها في قلوب الكثيرين.

ويتميَّز العلم عن المجالات الأخرى لثقافة الإنسان غالباً بحكم طبيعته التقدُّميَّة: على النقيض من الفن، ووبعض جوانب الدين، والفلسفة، والأخلاق، والسياسة، إذ توجد معايير واضحة، أو مقاييس معياريَّة، لتحديد التحسينات والتطوّرات في مجال العلوم، وربما أن هذه الفكرة هي عين ما أراده الدكتور زكي نجيب محمود في توصيفه المتقن للتقدُّم العلمي، الذي يظهر جليّاً في ردِّه على اعتراضات الدكتور سهيل إدريس، الذي طالب هو الآخر محقاً بضرورة استصحاب عالم الشعور مع عقلانيَّة العلم،[10] والذي أسميه بـ”ضرورات الأنتقال من عالم الضرورة، لتأكيد الحضور في عالم الضرورة”، أي أن نشفع لرفعة الواقع الكثيف بإبداعات لطيفة ترتقي بنا فيه. وبهذا، فعالم الشعور لازمة من لوازم العقلانيَّة والتقدُّم العلمي والحضاري، ولا حاجة لتجزئة لبناء الكل الحضاري المتقدّم والمتَّسق والمتناغم.

ومثلما اعتمد الباحثون في تلك الندوة كثيراً على نتاج الفكر الغربي في توضيح الأفكار المتعلِّقة بالعلم والتقدُّم والحضارة، أجد أنه من المفيد أن أعود إلى ذات المصادر، أو ما يشابهها لتركيز بعض المفاهيم وتقريب، لا تغريب، معانيها. على سبيل المثال، جادل مؤرِّخ العلوم جورج سارتون أن “اقتناء ومنهجة المعرفة الإيجابيَّة هي الأنشطة البشريَّة الوحيدة التراكميَّة والتقدُّميَّة حقاً”، و”التقدُّم ليس له معنى محدَّد ولا يرقى إليه الشك في المجالات الأخرى غير مجال العلوم”، (سارتون 1936).[11] ومع ذلك، فإن الرأي التراكمي التقليدي للمعرفة العلميَّة قد تمَّ تحدّيه بشكل فعَّال من قبل العديد من فلاسفة العلوم في ستينيات وسبعينيات القرن الماضي، أي نفس الفترة تقريباً التي التأمت فيها ندوة الكويت. وبالتالي، فإنَّ فكرة التقدُّم في مجال العلوم كانت محلّ شكّ أيضاً في الغرب، كما هو الحال عند العرب. والمناقشات عن مفهوم معياريَّة التقدُّم قد هاتفت عقول العلماء الغربيين والعرب الحداثيين، في نفس الوقت، بأسئلة القيمة المعنيَّة حول أهداف وغايات العلم. وتبقى مهمَّة التحليل الفلسفي دائماً هي النظر في الإجابات البديلة على السؤال: ما هو المقصود من التقدُّم في العلم؟ وهذا السؤال المفاهيمي يمكن بعد ذلك أن نستكمله بسؤال منهجي: كيف يمكننا التعرُّف على التطوّرات التقدُّميَّة في العلم؟ وبالنسبة لتعريف التقدُّم وأفضل مؤشّراته، فإنه يمكن للمرء دراسته من خلال سؤال الحقائق: إلى أي مدى، وفي أي اتِّجاه، يعتبر العلم تقدّمياً؟

 

تبقى مهمَّة التحليل الفلسفي دائماً هي النظر في الإجابات البديلة على السؤال: ما هو المقصود من التقدُّم في العلم؟ وهذا السؤال المفاهيمي يمكن بعد ذلك أن نستكمله بسؤال منهجي: كيف يمكننا التعرُّف على التطوّرات التقدُّميَّة في العلم؟ وبالنسبة لتعريف التقدُّم وأفضل مؤشّراته، فإنه يمكن للمرء دراسته من خلال سؤال الحقائق: إلى أي مدى، وفي أي اتِّجاه، يعتبر العلم تقدّمياً؟

عقلانيَّة التغيُّر:

إنَّ من يطَّلع على نصوص محاضرة الدكتور زكي نجيب محمود، وتعقيباته على مداخلات المتداخلين، يتسنى له أخذ فكرة معمَّقة حول الكيفيَّة التي يناقش بها الفكر الإنساني قضايا التحوّلات الكبرى، سواء في الوطن العربي، أو العالم بأسره. إذ تبدو فكرة أن العلم هو مؤسَّسة جماعيَّة يملكها كل الباحثين في بلدان مختلفة ومن أجيال متعاقبة هي من سمات العصر الحديث (نيسبت 1980).[12] وقد حثّ التجريبيون الكلاسيكيون (فرانسيس بيكون) والعقلانيون (رينيه ديكارت) في القرن السابع عشر أن استخدام الطرق الصحيحة للتحقيق يضمن اكتشاف وتبرير الحقائق الجديدة. وكان هذا الرأي التكاملي والتراكمي للتقدُّم العلمي عنصراً مهماً في التفاؤل بعصر التنوير في القرن الثامن عشر، وكان قد تأسَّس عليه في ثلاثينيات القرن التاسع عشر برنامج الوضعيَّة لأوغست كونت: من خلال تجميع الحقائق المعتمدة تجريبياً التي تقول بأن العلم أيضاً يعزز التقدُّم في المجتمع، وهي النظريَّة، التي تبنَّاها عدد من علمائنا العرب، الذين أسهموا في ندوة الكويت 1974. وكانت الاتِّجاهات الأخرى المؤثِّرة في القرن التاسع عشر الرؤية الرومانسيَّة للنمو العضوي في الثقافة، وحساب هيغل لديناميكيَّة التغيير التاريخي، ونظريَّة التطور. لقد أثَّرُوا جميعاً على الرؤى المعرفيَّة، على سبيل المثال، من بين الماركسيين والبراغماتيين، التي تعتبر المعرفة البشريَّة كعمليَّة. وأعطى فلاسفة العلوم، الذين لديهم اهتمام بتاريخ العلم، من أمثال وليام ويويل، تشارلز بيرس، إرنست ماخ، بيير دوهم، تحليلات مثيرة للاهتمام لبعض جوانب التغيير العلميَّة.

وفي أوائل القرن العشرين، بدأ فلاسفة تحليل العلوم بتطبيق المنطق الحديث لدراسة العلوم. وكان تركيزهم الرئيس على بنية النظريات العلميَّة وأنماط الاستدلال (سوبي1977). [13]وهذا التحقيق “المتزامن” للـ”المنتجات النهائيَّة” للأنشطة العلميَّة قد تمَّت محاكمته من قبل الفلاسفة، الذين رغبوا في إيلاء اهتمام جدّي لدراسة” علّة” التغيير العلمي، ومن ثم التقدُّم وبناءات الحضارة. يمكن للمرء أن يذكر من بين هذه المساهمات “أنماط الإكتشاف” لـ(ن. ر. هانسون 1958)،[14] ومنطق “الاكتشاف العلمي” و”التخمين والتفنيد” لـ(كارل بوبر 1959-1963)،[15] و”بنية الثورات العلميَّة” لـ(توماس كون 1962)،[16] وفي أطروحة “قابليَّة القياس” لـ(بول فيرابند 1962)،[17] ومنهجيَّة “برامج البحث العلمي” لـ(ايمري لكاتوس وموسغريف 1970)،[18] و”التقدُّم ومشاكله” لـ(لاري لاودان 1977).[19] وروّجت أعمال بوبر في “المعرفة الموضوعيَّة: مدخل تطوّري” (بوبر 1972)،[20] وستيفن تولمين في “فهم الإنسان” (تولمين 1972)[21] لنماذج نظريَّة المعرفة الداروينيَّة التطوريَّة.

لقد تحدَّت هذه الأعمال الرأي الفكري الغربي السائد حول تطوير المعرفة العلميَّة والعقلانيَّة. فمغالطات بوبر، وحساب كوهن للثورات العلميَّة، وأطروحة فيرابند لمعنى التباين، تشاطر جميعها الرأي القائل بأن العلم لا ينمو ببساطة عن طريق تراكم الحقائق، التي أنشئت حديثاً على تلك القديمة. وربما باستثناء ما جرى خلال فترات العلوم الطبيعيَّة الكوهنينيَّة، فإن تغير النظريَّة ليس تراكمياً أو مستمرّاً: وإنما يتمّ رفض النتائج السابقة للعلم واستبدالها، أو تفسيرها من قبل نظريات وأطر مفاهيميَّة جديدة. وقد اختلف بوبر وكوهن، بالتالي، في تعريفهما للتقدُّم: ففي حين مال الأول لفكرة أن النظريات المتعاقبة قد تقترب نحو الحقيقة، إلا أن الثاني ميّز التقدُّم من حيث قدرة النظريات على حلِّ المشاكل.

ومما يؤسف له أن الشحذ الفكري المتميّز لـ”ندوة التطور الحضاري في الوطن العربي – 1974″ لم يقابله عمل مماثل من مؤسَّسات المعرفة العربيَّة، مثل الجامعات والمعاهد والمراكز الفكريَّة والبحثيَّة العربيَّة، يحقق هذه الأفكار المبثوثة في طيّات أدبيات الندوة في شكل دراسات وبرامج بحث معرفيَّة علميَّة، ولم يحفز إنتاجاً فكرياً فردياً من المفكّرين العرب يستوعب تحدّيات المرحلة، مثلما يحدث في مناطق أخرى من العالم، وفي الغرب خاصَّة، من حوارات مكثفة ومعمّقة حول ذات القضايا والموضوعات والتحدّيات. وللتمثيل فقط، فقد تمّ، منذ منتصف سبعينيات القرن الماضي، أي نفس فترة ندوة الكويت، نشر عدد كبير من الأعمال الفلسفيَّة حول مواضيع التغيير، والتنمية، والتقدُّم في العلوم، أنجزها (هُرا عام 1975؛ وستقمولر 1976؛ وهاوسن 1976؛ ورسشر 1978؛ ورادنتسكي وأندرسون 1978، 1979؛ ونينيلوتو وتاوملا 1979؛ وديلوورث 1981؛ وسميث 1981؛ وهاكنغ 1981؛ وشافر 1983؛ ونينيلوتو 1984؛ ولاودان 1984؛ ورسشر 1984؛ وبيت 1985؛ ورادنتسكي وبارتلي 1987؛ وكاليبوت وبنكستن 1987؛ وبلازر وآخرون 1987؛ وهَل 1988؛  وغفروغلو وآخرون 1989؛ وكيتشر 1993؛ وبيرا عام 1994).[22] وقد أدت هذه الدراسات أيضاً إلى خلق العديد من المستجدّات الهامة، التي تضاف إلى حصيلة جهد مجموعة فلاسفة العلم في الغرب. واحد منها هي الدراسة المنهجيَّة للعلاقات عبر النظريَّة، مثل الاختصار (بلازر وآخرون 1984؛ وبيرس 1987؛ وبلازر 2000؛ وجونكسز2000 )،[23] والمراسلات (كراجويسكي 1977؛ ونواك 1980؛ وبيرس ورانتالا 1984؛ ونينيلوتو 1999؛ ونواكاوا ونوفاك 2000؛ ورانتالا 2002)،[24] ومراجعة المعتقد (كاردنفورز1988 ؛ وأليسيدا 2006).[25] والجانب الآخر، هو الاعتراف أنه، إلى جانب البيانات والنظريات الفرديَّة، هناك أيضاً حاجة إلى النظر إلى وحدات النشاط العلمي الموقوتة وما صاحبها من إنجاز: نموذج كوهن الموجه للعلوم العاديَّة، وبرنامج بحوث اكاتوس، وتقاليد لاودان البحثيَّة، وولفغانغ ستيغمولر في ديناميكيَّة تطور النظريَّة (1976)،[26] وفيليب كيتشر في ممارسة الوعي/الضمير ((1993.[27] واستحدثت أدوات معرفيَّة جديدة، واستخدمت في العديد من محاولات الدفاع عن وجهات النظر الواقعيَّة للتقدُّم العلمي (نينيلوتو1980، و1984 و1999؛ وارونسون، وهارا، وواي 1994؛ وكيبرز 2000)،[28] وهي مفهوم التحقُّق، أو الشيء المحتمل (بوبر 1963، 1970؛ ونينيلوتو 1987).[29] وساعدت هذه الأعمال الفكريَّة المميّزة على إدارة حوار جدّي في كل مؤسَّسات المعرفة الغربيَّة، وأثًّرَت على، وأثْرَت، النقاشات العلميَّة في أجزاء أخرى من العالم، وطوَّرت بلا شكّ الفهم العام للقضايا المطروحة حول العلم والتغيير والتقدُّم.

 

مما يؤسف له أن الشحذ الفكري المتميّز لـ”ندوة التطور الحضاري في الوطن العربي – 1974″ لم يقابله عمل مماثل من مؤسَّسات المعرفة العربيَّة، مثل الجامعات والمعاهد والمراكز الفكريَّة والبحثيَّة العربيَّة، يحقق هذه الأفكار المبثوثة في طيّات أدبيات الندوة في شكل دراسات وبرامج بحث معرفيَّة علميَّة، ولم يحفز إنتاجاً فكرياً فردياً من المفكّرين العرب يستوعب تحدّيات المرحلة.

تداخل العلوم:

لقد أدَّى الاهتمام الجديد بتطوير العلوم، الذي برز في هذه الكتابات، لتشجيع التعاون الوثيق بين المؤرِّخين وفلاسفة العلوم. إذ ألهمت، على سبيل المثال، دراسات الحالة من الأمثلة التاريخيَّة؛ على شاكلة، استبدال ميكانيكا نيوتن الكلاسيكيَّة بواسطة نظريَّة الكم ونظريَّة النسبيَّة، العديد من المعالجات الفلسفيَّة للثورات العلميَّة. وجرى توفير مزيد من المواد المثيرة للاهتمام لإجراء مناقشات فلسفيَّة حول التقدُّم العلمي من خلال النهج الكمّي في دراسة نمو المطبوعات العلميَّة، أو ما ينشره الباحث من دراسات علميَّة محكمة، (دي سولا برايس 1963؛ وريسشر1978)،[30] ومؤشّرات العلم (إلكانا وآخرون 1978).[31] وقد درس علماء اجتماع العلوم التفاعل الديناميكي بين الأوساط العلميَّة والمؤسّسات الاجتماعيَّة الأخرى. وكان أحد الموضوعات المفضّلة لديهم ظهور تخصُّصات علميَّة جديدة (مولكاي1975؛ ونينيلوتو 1995).[32] ويشعر علماء الاجتماع هؤلاء بالقلق أيضاً مع مشكلة واقعيَّة التقدُّم، ويتساءلون: ما هي أفضل وسيلة لتنظيم أنشطة البحوث من أجل تعزيز التقدُّم العلمي. غير أنه لو تمّ اعتماد هذه الطريقة، فإن نماذج التغيير العلميَّة ستتحوّل إلى أن تكون ذات صلة بقضايا السياسة العلميَّة (بوهمي1977؛ وشافر 1983؛ ونينيلوتو 1984).[33]

وبإقرارنا بأن العلم هو الذي ينتج التقنية، إلا أن ارتباط الأخلاق بالمنفعة من متعلّقات الثقافة الغربيَّة، وقد لا تنطبق بشكل كامل مع دول أخرى في العالم حقّقت بالعلم قفزات تقنيَّة واسعة واحتفظت مجتمعاتها بأصالة ثقافيَّة لا تدور فيها الأخلاق على المنفعة. والعلم في التقدير العام ليس حالة واحدة، أو يخضع لمحدّدات ثقافة أو حضارة معينة، بل هو نظام معقّد متعدّد الطبقات وينضوي تحتها مجموعة من العلماء يعملون في مجال البحث باستخدام الأساليب العلميَّة المختلفة من أجل إنتاج معرفة جديدة. وبالتالي، فإن فكرة العلم قد تُشير إلى المؤسَّسة الاجتماعيَّة، والباحثين، وعمليَّة البحث، وطريقة التحقيق، والمعرفة العلميَّة. ويمكن تعريف مفهوم التقدُّم بشكل مختلف بالنسبة لكل واحدة من هذه الجوانب من العلوم. وبالتالي، فإن أنواع مختلفة من التقدُّم يمكن تمييزها بنسبتها للعلم: اقتصاديَّة (زيادة التمويل للبحث العلمي)، ومهنيَّة (حالة ارتفاع وضع العلماء ومؤسساتهم الأكاديميَّة في المجتمع)، وتعليميَّة (زيادة مهارة وخبرة العلماء)، ومنهجيَّة (اختراع طرق جديدة للبحث، وصقل الأدوات العلميَّة)، ومعرفيَّة (زيادة أو تقدم المعرفة العلميَّة). وهذه الأنواع من التقدُّم، يجب أن تكون متميزة من الناحيَّة النظريَّة من التقدُّم في الأنشطة البشريَّة الأخرى، على الرغم من أنها قد تكشف أن التقدُّم العلمي لديه، على الأقل، بعض الصلات الواقعيَّة مع التقدُّم التكنولوجي (زيادة فعاليَّة الأدوات والتقنيات) والتقدُّم الاجتماعي (الازدهار الاقتصادي، ونوعيَّة الحياة، والعدالة في المجتمع).

بيد أن كل هذه الجوانب من التقدُّم العلمي قد تنطوي على اعتبارات مختلفة، بحيث لا يوجد مفهوم واحد من شأنه أن يغطيها جميعاً. ولأغراض هذه القراءة الراصدة لأعمال الندوة المُشار إليها سابقاً، ولطبيعة عملنا البحثي، فمن المناسب أن نركز هنا فقط على التقدُّم المعرفي، أي أن نُعطي تقييماً لتطوّرات العلم من حيث نجاحه في التماس المعرفة. إذ إن “التقدُّم” هو القيميَّة، أو مفهوم المعياريَّة، الذي ينبغي تمييزه عن تلك المصطلحات الوصفيَّة المحايدة، مثل “التغيير” و”التنميَّة” (نينيلوتو 1995).[34] وبشكل عام، يمكن القول بإن خطوة الانتقال من المرحلة “أ” إلى المرحلة “باء” يشكِّل تقدّماً، بمعني أن “باء” هي تحسن عن “أ” في بعض الوجوه، أي أن “باء” أفضل من “أ” بالمقاربة مع بعض المقاييس، أو المعايير. وفي العلم، فإن المطلب المعياري هو أن جميع المساهمات في البحث ينبغي أن تسفر عن بعض الربح المعرفي، ونجاحها في هذا الصدد يمكن تقييمه قبل النشر من قبل الحكام (استعراض الأقران) ومن قبل الزملاء بعد النشر. وبالتالي، فإن نظريَّة التقدُّم العلمي ليست مجرَّد سرد وصفي لأنماط من التطوّرات، التي اتبعها العلم في الواقع. بدلاً من ذلك، ينبغي أن تُعطي مواصفات من “القيم”، أو “الأهداف”، التي يمكن استخدامها كمعايير تأسيسيَّة للـ” العلم الجيد،” الذي نحن بصدد التأكيد على أهميَّة وجوده في مؤسّساتنا البحثيَّة العربيَّة.

يقترح برنامج “الطبيعيين” في الدراسات العلميَّة أن الأسئلة المعياريَّة في فلسفة العلم يمكن خفضها إلى تحقيقات تاريخيَّة وسوسيولوجيَّة في الممارسة الفعليَّة للعلم. وبهذه الروح، دافع لاودان عن مشروع اختبار النماذج الفلسفيَّة للتغيير العلمي من خلال تاريخ العلم: هذه النماذج، التي “غالباً ما تصاغ في لغة معياريَّة،” يمكن إعادة صياغتا “في تصريحات تعريفيَّة حول كيف يتصرَّف العلم” (لاودان وآخرون 1986؛ دونوفان وآخرون 1988).[35] قد يكون الحال أن معظم العمل العلمي، على الأقل أفضل العلم في كل عصر، هو أيضاً العلم الجيد. ولكن من الواضح أيضاً أن العلماء في كثير من الأحيان لديهم آراء مختلفة حول معايير العلوم الجيدة، ويتَّخذ الباحثون، والمدارس المتنافسة خيارات مختلفة في تفضيلهم للنظريات والبرامج البحثيَّة. وبالتالي، يمكن استخدام الحجَّة ضدّ الطبيعيين أن التقدُّم لا ينبغي أن تحدّده التطوّرات الفعليَّة للعلم: إذ إن تعريف التقدُّم يجب أن يعطينا القياس المعياري لتقييم الخيارات، التي أوجدتها الأوساط العلميَّة، أو قد أوجدتها، أو تُوجدها الآن، وستوجدها في المستقبل. إن مهمَّة إيجاد، والدفاع عن، هذه المعايير هو شأن فلسفي بامتياز، الذي يمكن الاستنارة فيه بالتاريخ وعلم الاجتماع، ولكن لا يمكن اختزاله إلى الدراسات التجريبيَّة للعلم.

 

نظريَّة التقدُّم العلمي ليست مجرَّد سرد وصفي لأنماط من التطوّرات، التي اتبعها العلم في الواقع. بدلاً من ذلك، ينبغي أن تُعطي مواصفات من “القيم”، أو “الأهداف”، التي يمكن استخدامها كمعايير تأسيسيَّة للـ” العلم الجيد،” الذي نحن بصدد التأكيد على أهميَّة وجوده في مؤسّساتنا البحثيَّة العربيَّة.

الجودة والأثر:

بالنسبة للعديد من الأنشطة الموجّهة الهدف من المهمّ أن نميِّز بين “الجودة” و”التقدُّم”. فالجودة هي في المقام الأول مفهوم متعلِّق بالنشاط، ويهتمّ المهارة والكفاءة في أداء بعض المهام. بينما التقدُّم هو مفهوم مرتبط بالنتيجة، ويهتم بنجاح المنتج بالنسبيَّة للهدف. إن كل عمل مقبول في العلم عليه تحقيق معايير معيَّنة للجودة. ولكن يبدو أنه لا توجد صلات لازمة بين الجودة والتقدُّم في العلم. فأحياناً تفشل مشاريع بحثيَّة مؤهلة تأهيلاً جيداً جداً في تحقيق نتائج جديدة هامة، في حين أن هناك أعمال هي أقل كفاءة ولكنها أكثر حظاَ وتؤدِّي إلى النجاح. ومع ذلك، فإن الاستخدام الماهر لأساليب ومناهج العلم سوف تجعل من إحراز تقدّم أمراً محتملاً جداً. وبالتالي، فإن أفضل استراتيجيَّة عمليَّة لتعزيز التقدُّم العلمي هي دعم البحوث ذات الجودة العاليَّة.

في أعقاب العمل الريادي، الذي قام به ديريك دي سولا برايس (1963)،[36] فيما عُرف بـ”القياسات العلميَّة”، قد تمّ اقتراح مؤشِّرات العلم الكمّي كمعايير للنشاط العلمي (إلكانا وآخرون 1978).[37] على سبيل المثال، معايير الانتاج مثل حسابات المطبوع من الأعمال الفكريَّة هي من معايير الإنجاز العلمي، ولكنها تخلق إشكاليَّة عما إذا كان مثل هذا المعيار الخام يكفي للإشارة إلى النوعيَّة (تشوتكويسكي لافوليت 1982).[38] إن عدد المقالات في مجلات محكمة هو مؤشِّر على نوعيَّة المؤلف، ولكن من الواضح أن هذا المؤشِّر لا يمكن أن يحدِّد بعد ماذا يعني التقدُّم، خاصَّة وأن المطبوعات قد تسهم بأقدار مختلفة في تقدّم المعرفة العلميَّة. ويحدِّد “قانون روسو”، الذي اقترحه نيكولاس ريسشر [39](1978) جزءاً معيناً من إجمالي عدد المطبوعات بأنها “مهمَّة”، أو “من الدرجة الأولى”، ولكن هذه هي مجرد مزاعم منظومات إحصائيَّة قد لا تصمد أمام أي اختبار حقيقي للقيمة المعياريَّة.

مثال آخر على مؤشِّر العلم، هو “مؤشِّر الاقتباس”، وهو مؤشِّر على “الأثر” للمطبوعة ومدى “المكانة”، التي يحظى بها المؤلف داخل المجتمع العلمي. ويشير مارتن وارفين (1983)[40] إلى أن مفهوم التقدُّم العلمي يجب أن يرتبط بمفهوم الأثر، أي التأثير الفعلي للبحوث على الأنشطة العلميَّة المحيطة في وقت معين، فإنه مما لا شكّ فيه أن المرء لا يمكن أن يطوّر المعرفة العلميَّة بشكل صحيح دون التأثير على الحالة المعرفيَّة للمجتمع العلمي. ولكن تأثير مطبوع، أو كتاب منشور، على هذا النحو يظهر فقط عندما يُحدث “نُقلة” ناحجة للمجتمع العلمي في بعض الاتجاهات. وإذا كان العلم هو الهدف الموجه، فإننا يجب أن نعترف بأن الحركة في الاتجاه الخاطئ لا تشكِّل تقدّماً (نينيلوتو 1984).[41] والمؤسف أنَّ كثيراً من حركتنا العربيَّة منذ 1974 هي في هذا الاتِّجاه الخاطئ.

إن فشل مؤشِّرات العلم، في عدد المطبوعات العلميَّة، أو إذا كان عدد زيادة الجامعات العربيَّة داخلٌ في هذا الحساب، لتعمل كتعريفات للتقدُّم العلمي، يرجع إلى حقيقة أنها، أي هذه المطبوعات والجامعات، لا تأخذ بعين الاعتبار المحتوى الدلالي للمعرفة العلميَّة. ولتحديد ما إذا كان الارتفاع الكبير في عدد الجامعات العربيَّة في الأربعة عقود الأخيرة يعطي مؤشّراً على مساهمتها في التقدُّم العلمي، علينا تحديد ماذا تقول المطبوعات العلميَّة والكتب الفكريَّة المنشورة، وكبديل آخر لهذا السؤال: ما هي المشاكل التي تحلّها الجامعات، ومن ثم نصل هذا المحتوى منها بوضع المعرفة في المجتمع العلمي، في الوقت الذي نشرت فيه المعرفة، أو المطبوعات والكتب. ولنفس السبب، قد تستخدم عمليات تقييم بحوث مؤشِّرات العلم كأدوات، ولكن في نهاية المطاف فإنها تضطر إلى الاعتماد على حكم الأقران، الذين لديهم معرفة كبيرة في هذا المجال، وقليل من مطبوعاتنا المحكمة يعترف بها العالم، أو لا تعطيها مؤسّساتنا، التي تشرف عليها مصداقيَّة المنافسة العالميَّة، لأن هذه المؤسّسات الجامعيَّة العربيَّة ذاتها هي خارج دائرة التنافس والتصنيفات الأكاديميَّة المعتمدة عالمياً.

 

إن فشل مؤشِّرات العلم، في عدد المطبوعات العلميَّة، أو إذا كان عدد زيادة الجامعات العربيَّة داخلٌ في هذا الحساب، لتعمل كتعريفات للتقدُّم العلمي، يرجع إلى حقيقة أنها، أي هذه المطبوعات والجامعات، لا تأخذ بعين الاعتبار المحتوى الدلالي للمعرفة العلميَّة.

التصويب على الأهداف:

إن التقدُّم هو مفهوم الهدف النسبي. ولكن حتى عندما نعتبر العلم كما هو التماس للمعرفة كمؤسسة إدراكيَّة، فليس هناك سبب لافتراض أن الهدف من العلم هو ذو بعد واحد. في المقابل، وكما جادل اسحق ليفي في مؤلفه الكلاسيكي ” المقامرة مع الحقيقة (1967)،”[42] بأن الهدف المعرفي للبحث العلمي لابد من تعريفه بأنه المزيج المرجح لعدد مختلف، وحتى متناقض، من الأدوات المعرفيَّة. وذلك، لأنها قد تشمل الحقيقة والمعلومات ( ليفي عام 1967؛ أنظر أيضاً بوبر عام 1959، و1963)،[43] أو القوة التفسيريَّة والتنبؤيَّة (همبل 1965).[44] وتشمل قائمة كوهن (1977)[45] من قيم العلم على، الدقة، والاتساق، والنطاق، والبساطة، والإثمار .

ونطمئن أحياناً أن الوصول إلى الهدف قد يكون متاحاً، بمعنى أنه يمكن الوصول إليه في عدد محدود من الخطوات في وقت محدود. ويكون الهدف طوباوياً إذا كان لا يمكن الوصول إليه، أو حتى الإقتراب منه. وبالتالي، فإن الأهداف الطوباويَّة لا يمكن متابعتها بعقلانيَّة، لأنه لا يمكن إحراز أي تقدم في محاولة الوصول إليها. إن فكرة المشي إلى القمر راجلين هي مهمَّة طوباويَّة بهذا المعنى. ومع ذلك، ليس كل الأهداف التي يتعذَّر الوصول إليها هي طوباويَّة؛ مثلاً هناك هدف بعيد المنال، كأن تبلغ الكمال الأخلاقي، إذ يمكن أن يعمل هذا الهدف كمبدأ تنظيمي، حسب تقدير كانط، إذا كان سيوجّه سلوكنا بحيث نكون قادرين على إحراز تقدُّم نحو ذلك.

إن حجَّة المشكِّكين الكلاسيكيَّة ضدّ العلم، التي كرَّرها لاودان (1984)،[46] هي أن معرفة الحقيقة مهمَّة طوباويَّة. وقد كان جواب كانط على هذه الحجَّة هو اعتبار الحقيقة كمبدأ تنظيمي للعلوم. وجادل تشارلز بيرس، مؤسس البراغماتيَّة الأمريكيَّة، أن الوصول إلى الحقيقة كحدٍّ مثالي للبحث العلمي هو “مقدّر”، أو مضمون في مجتمع “غير محدَّد” من المحققين (نينيلوتو 1980، 1984).[47] وتفسير ألمدر (1983)[48] لوجهة نظر بيرس في التقدُّم العلمي هو أنه لا يوجد سوى عدد محدود من المشاكل العلميَّة، وأنها سوف تحلّ جميعاً في وقت محدود. ومع ذلك، لا يبدو أن هناك أي سبب للاعتقاد بأنَّ الحقيقة هي عموماً في متناول اليد بهذا الإحساس القوي. وبالتالي، فإن السؤال الحاسم هو ما إذا كان من الممكن خلق تقييم عقلاني والاكتفاء بالقول إننا حقَّقنا تقدُّماً في اتِّجاه الحقيقة.

إن أي هدف يمكن عملياً التعرُّف عليه على نحو فعّال إذا كانت هناك اختبارات روتينيَّة، أو ميكانيكيَّة، لتبيان أن الهدف قد تمَّ بلوغه، أو الاقتراب منه. إذا كانت معايير تحديد التقدُّم لا يمكن التعرُّف عليها في هذا الشعور القوي، فعلينا أن نميِّز التقدُّم الواقعي، أو الحقيقي، من تصوّراتنا، أو تقديرات، التقدُّم. وبعبارة أخرى، فإنَّ مطالبات النموذج “الخطوة من مرحلة “أ” إلى مرحلة “ب” هو تقدّمي” يتعيَّن تمييزها عن تقييم موقعنا من النموذج “الخطوة من مرحلة “أ” إلى مرحلة “ب” يبدو تقدمياَ بناءً على الأدلة المتاحة”. ويبدو هذا التقييم الأخير، كما الأحكام الخاصَّة بنا، معترف به، ولكن قد تكون المطالبات السابقة صحيحة دون أن نتعرَّف عليها. لذا، فإن الخصائص والتدابير التي تساعدنا على خلق هذه التقييمات هي من ثم متعلِّقة بمؤشِّرات التقدُّم. ويشترط لاودان أن الهدف العقلاني للعلوم ينبغي أن يكون الوصول إليه متاحاً والتعرُّف عليه بشكل فعال (لاودان 1977، 1984).[49] وهذا الشرط، الذي كان يستخدمه لاستبعاد الحقيقة كهدف للعلوم، قوي جداً. إذ لا تستطيع مطالب العقلانيَّة أن تُملي أن الهدف يجب أن يكون قد تمَّ التخلِّي عنه، إذا كانت هناك مؤشِّرات معقولة من التقدُّم نحوه.

قد يكون صاحب الهدف ناظراً للخلف، أو متطلعأ إلى الأمام: أنه قد يُشير إلى نقطة البداية، أو إلى نقطة المقصد للنشاط. إذا هدفي هو السفر بعيداَ عن المنزل قدر الإمكان، سيقاس النجاح من خلال المسافة التي أقطعها. إذا كنت ترغب في أن تصبح أفضل من أي وقت مضى وأفضل لاعب موسيقى، فإنَّ التحسُّن يمكن تقييمه نسبة إلى المراحل التي بلغتها في وقت سابق، وليس إلى أي عازف موسيقى بلغ مستوى الكمال المثالي. ولكن إذا كنت ترغب في السفر إلى مدينة معينة، يصبح التقدُّم المحرز هو وظيفة المسافة المقطوعة بين بلدك والجهة المقصودة. وفقط في حالة خاصَّة، حيث لا يوجد سوى طريقة واحدة من  النقطة “أ” إلى “ب”، فإن النظرة إلى الخلف، أو إلى الأمام، (أي المسافة من “أ” إلى المسافة “ب”) تحدّد بعضها البعض.

لقد دعا كوهن واستغمولر إلى تبنِّي معايير النظر إلى الوراء لتحقيق التقدُّم. وفي الجدل ضدّ الرأي القائل بأن “المعيار السليم للإنجاز العلمي هو المدى الذي يقربنا إلى” الهدف النهائي المتمثِّل في “رؤية موضوعيَّة متكاملة لحقيقة الطبيعة”، واقترح كوهن أنه ينبغي لنا أن “نتعلَّم استبدال التطوّر من بين ما نحن نعرف عن التطوّر تجاه ماذا نحن نرغب في أن نعرفه” ( كوهن عام 1970).[50] وبنفس الروح، جادل استغمولر [51](1976) أنه ينبغي علينا أن نرفض كل خيارات “الميتافيزيقيا الغائيَّة” في تحديدها للتقدُّم من حيث “الاقتراب رويداً رويداً إلى الحقيقة”.

ويمكن اقتراح حل وسط بين معايير النظر إلى الوراء والنظر إلى الأمام على النحو التالي. إذا نظرنا إلى العلم باعتباره النشاط الذي يلتمس المعرفة، فمن الطبيعي أن نحدِّد تقدّماً حقيقياً بمنطق النظر إلى الأمام: إذ أن الهدف المعرفي من العلم هو معرفة الشيء الذي لا يزال مجهولاً، وتقدّمنا ​​الحقيقي يعتمد على مسافتنا من هذه الوجهة. ولكن، وبما أن هذا الهدف هو غير معروف لنا، وتقديراتنا، أو تصوّرات التقدُّم، يجب أن تتمّ على أساس اعتبارات إثباتات النظر إلى الوراء. وهذا النوع من النظر لأهداف العلم لا يفترض وجود هدف واحد فريد من نوعه في نهاية المطاف. ولاستخدام كلمات ليفي، قد تكون أهدافنا “قصيرة النظر” بدلاً من “التنبؤيَّة” (ليفي 1985)[52]: إن الهدف المعين الذي نتمنَّى أن نصل إليه في سياق تحقيقنا لابد من إعادة تعريفه “محلياً”، نسبة إلى كل حالة مشكلة لقيمة معرفيَّة. وعلاوة على ذلك، وبالإضافة إلى تعدُّد الأهداف المحتملة، قد يكون هناك العديد من الطرق التي تؤدِّي إلى نفس الوجهة. ولا يستبعد الطابع التطلعي، أو النظر إلى الأمام، تحقيق أهداف ما يسمِّيه استغمولر” التقدُّم المتفرع.” وهذا هو ما يماثل الحقيقة المحدّدة، وهي أننا قد نتمكَّن من الاقتراب من القاهرة عبر اثنين من الطرق المختلفة، أي بالسفر عبر الدوحة، أو مباشرة من الكويت.

 

 

الهدف المعرفي من العلم هو معرفة الشيء الذي لا يزال مجهولاً، وتقدّمنا ​​الحقيقي يعتمد على مسافتنا من هذه الوجهة

شرط العقلانيَّة:

إنَّ استخدام بعض الفلاسفة، ومنهم الدكتور زكي نجيب محمود، لمفاهيم التقدُّم والعقلانيَّة كمترادفات، هو ما يعني أن الخطوات التقدُّميَّة في مجال العلوم هي بالتحديد تلك التي تستند إلى خيارات العلماء الرشيدة. وواحدة من الاعتراضات المحتملة على هذا الزعم هي أن الاكتشافات العلميَّة تُعتبر تقدميَّة عندما تقدِّم أفكاراً مبدعة، على الرغم من أنها لا يمكن تفسيرها بشكل كامل من وجهة نظر عقلانيَّة (بوبر 1959؛ هانسون 1958؛ كلاينر 1993).[53] ومع ذلك، هنا ثمَّة مشكلة أخرى هي أكثر أهميَّة: فمن خلال وضع أضواء كاشفة على من ينبغي عليه تقييم مثل هذه الخطوات؟ فإن هذا السؤال يعتبر عاجلاً، خاصة إذا اعترفنا بأن معايير العلم الجيد تغيَّرت عبر التاريخ (لاودان 1984).[54]

وكما سنرى، فإن نظريات التقدُّم الفلسفيَّة المتنافسة الرئيسة تقترح معايير مطلقة، مثل القدرة على حلِّ المشكلة وزيادة التحقُّق، التي تنطبق على جميع التطوّرات العلميَّة طوال تاريخها، من ناحيّة. ومن ناحية أخرى، فإن العقلانيَّة هي مفهوم منهجي نسبي تاريخياً: ولتقييم عقلانيَّة الخيارات التي قام بها العلماء في الماضي، يجب علينا دراسة الأهداف، والمعايير، والأساليب، والنظريات البديلة، والأدلة المتاحة المقبولة في الأوساط العلميَّة في ذلك الوقت (دوبلت، 1983، لاودان، 1987؛ نينيلوتو 1999). [55]

ولا يخفى على المتابعين أن هناك نظريات كثيرة للتقدُّم العلمي، ولكن غالباً ما يثور الجدل بين فلاسفة العلم الذرائعيين والواقعيين حول وجهات نظرهم في النظريات العلميَّة (لبلن 1984؛ بيسلوس 1999؛ نينيلوتو 1999). [56]وقد تبع الذرائعيون دُوهَم في التفكير في أن النظريات ليست سوى الأدوات المفاهيميَّة لتصنيف، وتنظيم، وتوقع البيانات الرصديَّة، إذ إنَّ المضمون الحقيقي للعلم لا يمكن العثور عليه على مستوى النظريات (دوهم 1954).[57] وعلى النقيض من ذلك، يعتبر الواقعيون العلميون النظريات بأنها محاولات لوصف الواقع حتى خارج عالم الأشياء والأنساق الملاحظة، بحيث يمكن اعتبار النظريات كبيانات تمثِّل قيمة الحقيقة. وباستثناء بعض الواقعيين السذج، فإن معظم العلماء عُرضة للخطأ، إذ إن النظريات العلميَّة هي افتراضيَّة، ومن حيث المبدأ يمكن إصلاحها دائماً. وقد يحدث أن تكون صحيحة، ولكن لا يمكننا أن نعرف هذا على وجه اليقين في أي حالة معينة. ولكن حتى عندما تكون النظريات غير صحيحة، فإنها يمكن أن تكون ذات قيمة معرفيَّة إذا كانت أقرب إلى الحقيقة من تلك المغايرة لها (بوبر 1963).[58] وينبغي أن تكون النظريات قابلة للاختبار بأدلة الرصد، ويعطي النجاح في الاختبارات التجريبيَّة تأكيداً استقرائياً (هينتكا 1968؛ نينيلوتو وتاوميلا 1973؛ كيبرز 2000)[59]، أو تأييداً غير استقرائي للنظريَّة (بوبر 1959).[60]

قد يبدو من الطبيعي أن نتوقع أن حسابات المنافس الرئيس للتقدم العلمي من شأنه أن يستند إلى المواقف الذرائعيَّة والواقعيَّة. ولكن هذا صحيح بشكل جزئي فقط. وللتأكد، سنرى الواقعيين السذج – كقاعدة – يحملون وجهة نظر تراكم الحقائق للتقدم، ويجمع العديد من الفلاسفة بين وجهة نظر واقعيَّة للنظريات مع الأطروحة القيميَّة أن الحقيقة هي هدف مهم للتحقيق العلمي. وهناك نسخة غير تراكميَّة من وجهة النظر الواقعيَّة للتقدُّم يمكن أن تصاغ باستخدام مفهوم التحقق. ولكن هناك أيضاً الفلاسفة الذين يقبلون إمكانيَّة معالجة الواقعيين للنظريات، ولكن لا يزالون ينكرون أن الحقيقة لها صلة بقيمة العلم، الذي يمكن أن يكون له وظيفة في توصيف التقدُّم العلمي. وقد أخذت التجريبيَّة البناءة لـ(باس فان فراسن 1980)[61] تراكم العلم ليكون كفايَّة التجريبيَّة: ما تقوله نظريَّة حول الملاحظ يجب أن يكون صحيحاً. وقبول النظريَّة ينطوي فقط على الزعم بأنها ملائمة تجريبياً، وليس حقيقتها على المستوى النظري. ولم يطوّر فان فراسن حساباً للتقدُّم العلمي من حيث تجريبيته البنّاءة، ولكن بافتراض أن مثل هذا الحساب سوف يكون قريباً من مفاهيم التجريبيين للاستقراء وحساب لاودان للقدرة على حلِّ المشكلات.

 

ثورة المعرفة:

اليقين عندي الآن، بعد كل المراجعات التي أجريتها والملاحظات التي حرَّرتها، أن الدعوة لمؤتمر 1974 لم تكن بنفس الطريقة التي تمَّت بها دعوتنا لهذا المؤتمر. وقد قصر المنتدون في الكويت آنذاك في توقّع رافعة التحوّل الكلي للمجتمع الإنساني؛ ثورة الاتِّصالات. فقد غيَّرت ثورة الاتِّصالات وتكنولوجيا المعلومات كل شيء مرتبط بالإنسان في العقود الأخيرة، وأظهرت الإنترنت قوة جماعيَّة غير مسبوقة في التاريخ. وذلك عن طريق وضع الجميع على منصَّة مشتركة؛ رأينا فيها الابتكارات الإبداعيَّة الخاصَّة في المحتوى والمساهمة الجماعيَّة في الاستهلاك. ثم شاهدنا ابتكارات في ربط المعلومات من مصادر متعدِّدة، مع سهولة كبيرة لإنتاج أشياء أكثر جوهريَّة من مجموع الأجزاء. فجأة، كان الشخص الأكثر أهميَّة هو المستخدم، و”الأنظمة والحلول” المصمّمة أصلاً حول طرائق استخدامه. ومرة أخرى برز “الغرب” النموذج المركزي، وأصبح العالم، بما فيه نحن العرب، امتداداً طبيعياً لسلطان تنميطه الثقافي والاجتماعي والاقتصادي، بل والحضاري. وأخيراً تحوّلت تكنولوجيا الهواتف المحمولة إلى مُستوعبٍ جديدٍ لجماع احتياجاتنا، فغدا كل شيء كان يستخدم للمحادثات الصوتيَّة إلى مرافق ومراقب، وأصبح جزءاً لا يتجزّأ من حياتنا كلها – أينما كنا، وكيف ما كنا، ومهما كنا نفعل. وحتى لو توقَّف العلم والتقدُّم هنا فقط، أي عند هذا الحدّ من الابتكار والتجديد، فإنَّ توقّعاتنا عن نظم المؤسّسات ستكون مختلفة جذرياً عما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد. وبعد أن شهدنا التطبيقات المعقّدة والقويَّة، التي هي محدودة وطبيعيَّة في استخدامها، بدأنا نتوقَّع نفس الشيء من التجديد والتحسين والتطوير في النظم الداخليَّة لمؤسَّساتنا، ولحكوماتنا، ولأوطاننا االعربيَّة.

قد يبدو هذا أمراً عادياً الآن، ولكن هناك شيء آخر حدث، هو هذا النمط الجديد من التواصل الاجتماعي. ولأن الإنترنت ربطت الناس معاً على نطاق واسع، أصبح من الممكن لهم أن ينظِّموا أنفسهم بطريقة لم يسبق لها مثيل من خلال وسائل الاتصال الاجتماعيَّة، مثل الفيسبوك وتويتر، وغيرهما من مئات المواقع، التي تتيح نفس الخدمات والميزات. في تلك اللحظة، وبهذه المتغيِّرات الجديدة، فإن حكومات العالم العربي، التي كانت في عام 1974 وحدها من يتحكَّم في انتاج وتوزيع المعلومات، قد وجدت نفسها في منعرج آخر، ودخلت منعطفاً في عالم تغيَّرت فيه قواعد اللعبة، وانتهت فيه الفرضيات والمسلمات القديمة إلى الأبد. المواطنون العاديون يمكنهم الآن أن يديروا محادثات مصيريَّة على نطاق واسع، وحول كل شيء – بما في ذلك السياسة والاقتصاد والاجتماع، وربما اسقاط النظام، كما حدث بالفعل في أكثر من بلد عربي في الثلاث سنوات الأخيرة. إن كميَّة المحتوى الذي يتمّ إنشاؤه من قبل المواطنين داخل وسائل التواصل الاجتماعي، هو حول تفضيلاتهم السياسيَّة والثقافيَّة والاقتصاديَّة الخاصَّة، وتجاربهم مع الأنظمة، وكيف تأثَّرت حياتهم بكل شيء كانت تتحكَّم فيه الحكومات، ولم يكن لهم السيطرة على تغييره، رغم جهودهم النضاليَّة العامة والخاصَّة. وحتى الآن، فإنَّ العالم العربي، المحكوم بأنظمة ثقافيَّة واجتماعيَّة واقتصاديَّة وسياسيَّة تقليديَّة وقديمة، يواجه على ما يبدو حرباً على جبهتين؛ مطالب داخليَّة بالإصلاح والتطوير، واستراتيجيَّات تكنولوجيا المعلومات، التي تتفاعل وتتناغم مع عمليَّات العولمة بأبعادها المختلفة.

 

حتى لو توقَّف العلم والتقدُّم هنا فقط، أي عند هذا الحدّ من الابتكار والتجديد، فإنَّ توقّعاتنا عن نظم المؤسّسات ستكون مختلفة جذرياً عما كانت عليه في الماضي القريب والبعيد. وبعد أن شهدنا التطبيقات المعقّدة والقويَّة، التي هي محدودة وطبيعيَّة في استخدامها، بدأنا نتوقَّع نفس الشيء من التجديد والتحسين والتطوير في النظم الداخليَّة لمؤسَّساتنا، ولحكوماتنا، ولأوطاننا االعربيَّة.

صافرة إنذار:

لقد توقَّع المتشائمون لسنوات عديدة التراجع، وربما انقراض هذه الأمَّة. وعلى الرغم من أن العديد من هذه التنبّؤات على المدى القصير قد ثبت أنها غير دقيقة، إلا أن هناك بعض الحقيقة في الاعتقاد السائد بأن هذه الأمَّة سوف تتراجع وتتخلَّف أكثر، مثل كل أمَّة عظيمة قبل ذلك، إذا لم تتدارك حالها عاجلاً. وبصرف النظر عن الإحياء والإصلاح ودعوات الاستنهاض والانتفاضات والثورات، فإن هؤلاء المتشائمون يصرُّون على القول إنّ هذه الأمَّة مقدّر لها أن تتخلَّف. والمشكلة مع العديد من هؤلاء المتشائمين هي أنه في حين أن تكهناتهم بها بعض الحق، إلا أن تشخيصهم غير صحيح. نعم، إن الحاضر مأزوم والمستقبل غير معلوم، بل لا تلوح بشائر خير في الأفق المنظور. ولكن مشكلة الأمَّة العربيَّة ليست فقط سياسيَّة واقتصاديَّة، أو اجتماعيَّة، كما يريد المتشائمون أن يحملونا على الاعتقاد بها. ولكن مشكلة تراجع هذه الأمَّة الحقيقيَّة وتخلفها، يعود إلى جانب تلك المشاكل، التي نواجهها، والتي هي أعراض للأزمة العامَّة، إلى أزمة العقل والفكر والتدهور العلمي والمعرفي، الذي قيد التقدُّم، وأخَّر النهوض، وأوجد العجز الحضاري. وكما أن هناك مبادئ روحيَّة تؤثِّر في حياة الفرد، فإن هناك مبادئ سياسيَّة واقتصاديَّة تتحكَّم في حياة الأمَّة. وعلى الرغم من أننا قد نشعر أحياناً أن أسباب التخلُّف هذه قد تبدو غامضة ويصعب تمييزها، إلا أنها في الواقع مرئيَّة لأي شخص على استعداد للنظر في سجل التاريخ الحديث.

بيد أن مشكلتنا، التي وصفتها ندوة 1974، هي أننا، رغم حبّنا للتارخ وتعلّقنا الدائم به، لا نتعلَّم منه حقاً. وفي هذا، قال الفيلسون الأمريكي جورج سانتيانا: “إن هؤلاء الذين ينسون الماضي محكوم عليهم بتكراره.” وقال الفيلسوف هيغل، “ما هي الخبرة والتاريخ يعلمنا هذا: أن الشعب والحكومة لم يتعلما أي شيء من التاريخ أو تصرّفوا وفقاً للمبادئ المستخلصة منه.” أو كما قال ونستون تشرشل: “شيء واحد تعلّمناه من التاريخ هو أننا لا نتعلَّم من التاريخ.” والمغالطة التي غالباً ما نسمعها، وردَّدها بعض الحكام العرب، عند انتصار الثورة الشعبيَّة في تونس، هي: “لا يمكن أن يحدث هنا”، أو “أن بلدنا مختلف.” ولكن الواقع هو أن الأمم تولد وتموت تماماً مثل الأفراد. طول العمر قد يتجاوز عمر الشخص العادي. ولكن الواقع هو أن الأمم تموت أيضاً. وقد أثبت التاريخ أن متوسَّط ​​عمر الحضارات العظيمة حوالي مائتي سنة. ودول مثل بريطانيا العظمى قد تجاوزت المتوسط، ​​بينما دول أخرى مثل الولايات المتَّحدة، قد وصلت الآن فقط إلى متوسّط ​​العمر.

لقد مرَّت كل الحضارات العظيمة في العالم عبر سلسلة من المراحل من ولادتها وتقدّمها إلى تراجعها ثم وفاتها. وقد سرد المؤرِّخون عشر مراحل للصعود والتراجع. المرحلة الأولى، تتمثَّل في الانتقال من العبوديَّة إلى الإيمان الروحي. والثانيَّة، من الإيمان الروحي للشجاعة الكبيرة، أو التحدِّي. المرحلة الثالثة، الانتقال من الشجاعة الكبيرة إلى الحريَّة. المرحلة الرابعة، تنتقل من الحريَّة للوفرة. المرحلة الخامسة، تنتقل من الوفرة إلى الأنانيَّة. المرحلة السادسة، ينتقل من الأنانيَّة إلى الرضا عن النفس. في المرحلة السابعة، تتحرَّك من الرضا إلى اللامبالاة. المرحلة الثامنة، تنتقل من اللامبالاة إلى الانحلال الأخلاقي. المرحلة التاسعة تنتقل من الانحطاط الأخلاقي إلى التبعيَّة. وتتحرَّك المرحلة العاشرة والأخيرة من التبعيَّة إلى العبوديَّة.

فهذه هي المراحل العشر التي من خلالها ذهبت الحضارات العظيمة، التي نلاحظ فيها دورة التطور من العبوديَّة إلى الحريَّة ثم العودة مرة أخرى إلى العبوديَّة. فالجيل الأول كأنه رمى أغلال العبوديَّة ليأتي الجيل اللاحق من خلال اللامبالاة وعدم الاكتراث ليسمح لنفسه مرَّة أخرى أن يُستعْبَد. وهذا هو الاتجاه الذي سارت فيه الحضارات وتنكبته الأمم، وعلى نفس الطريق ستسير حضارات وأمم أخرى. وتاريخ أمتنا العربيَّة قد مر بمراحل شبيهة من هذه، وتعيش أضعف حالاتها الآن، وقد تبلغ النهاية ذاتها إذا لم نحصّنها بالعلم والعقلانيَّة والإحياء والإصلاح وعكس اتجاه التراجع بتملّك كل أسباب النهضة والتحضُّر، وبكلمات موجزة: يجب أن لا نسلمها لعبوديَّة أخرى.

 

__________________

[1] بنيامين جونز وبنيامين أولكن، “هل القادة مهمون؟” مجلة الاقتصادي، الجمعيَّة الاقتصاديَّة الملكيَّة، المجلد  121، العدد 554، صفحات 205-227، أغسطس 2011.

 

[2]  أظهرت دراسة، أعدها في عام 2007 نيك بلوم من جامعة ستانفورد، وجون فان رينين من كليَّة لندن للدراسات الاقتصاديَّة، طريقة لتفادي “الإصابات العكسيَّة” في الإدارة. وتناول هذا الفريق بيانات لعينة مكونة من 672 شركة تصنيع بريطانيَّة في الفترة ما بين سنة 1972 حتى 1991، واستندوا إلى معيار تقلبات أسعار الأسهم كمقياس للشكوك وحالات عدم اليقين.

[3] روبرت لوكاس جونيور اقتصادي أمريكي حاز على جائزة نوبل في العلوم الاقتصاديَّة عام 1995. وكتب عن “التوقعات وحياديه المال” في عام 1970 ونشرت في عام 1972. في عام 1974 عمل بجامعة شيكاغو كعضو هيئة تدريس. وفي عام 1980 التقى جون ديوي الفيلسوف المعروف في شيكاغو، وتركزت دراستة في تلك الفترة عن البحث عن “النظريَّة النقديَّة”، التجارة الدوليَّة، والسياسة الماليَّة، والنمو الاقتصادي.

[4] Daron Acemoglu and James Robinson Why Nations Fail:The Origins of Power, Prosperity and Poverty New York:Crown Publishing Group, 2012, p 43.

[5] Ibid, p 75.

 

[6]  أنظر أوراق ندوة الكويت، ص 24.

 [7]  يعتبر كتاب “أصل الأنواع”، من تأليف تشارلز داروين، الذي صدر عام1859 ، هو أحد الأعمال المؤثرة في العلم الحديث وإحدى ركائز علم الأحياء التطوري. وعنوان الكتاب الكامل: “في أصل الأنواع عن طريق الانتقاء الطبيعي – أو بقاء الأعراق المفضلة في أثناء الكفاح من اجل الحياة”. يقدم فيه داروين نظريته القائلة أن الكائنات تتطور على مر الأجيال. أثار الكتاب جدلاً بسبب مناقضته الاعتقادات الدينيَّة التي شكلت أساساً للنظريات البيولوجيَّة حينئذ.

[8] Franz Kafka,”The Complete Stories”, Published by Random House, London, New York, 1995.

[9] http://evolution.about.com/od/Overview/a/What-Is-Evolution.htm

[10]  أنظر الدكتور زكي نجيب محمود، “مجموعة أعمال ندوة الكويت”، ص 32، والدكتور سهيل إدريس، ص 28.

[11] Sarton, G., The Study of the History of Science. Harvard: Harvard University Press, 1936.

[12] Nisbet, R., History of the Idea of Progress. London: Heinemann, 1980.

[13] Suppe, F. (ed.), The Structure of Scientific Theories, 2nd ed. Urbana: University of Illinois Press, 1977.

[14] Hanson, N.R., Patterns of Discovery. Cambridge: Cambridge University Press, 1958.

[15] Popper, K., The Logic of Scientific Discovery. London: Hutchinson, 1959.

–––, Conjectures and Refutations: The Growth of Scientific Knowledge. London: Hutchinson, 1963.

[16] Kuhn, T.S., The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: University of Chicago Press, 1970, 1962. 2nd enlarged ed.

[17] Feyerabend, P., “Explanation, Reduction, and Empiricism,” in: H. Feigl and G. Maxwell (eds.), Minnesota Studies in the Philosophy of Science, vol. II. Minneapolis: University of Minnesota Press, 1962, pp. 28–97.

[18] Lakatos, I. and Musgrave, A. (eds.), Criticism and the Growth of Knowledge. Cambridge: Cambridge University Press, 1970.

[19] Laudan, L., Progress and Its Problems: Toward a Theory of Scientific Growth. London: Routledge and Kegan Paul, 1977.

[20] Popper, K, Objective Knowledge: An Evolutionary Approach. Oxford: Oxford University Press, 1972. 2nd enlarged ed. 1979.

[21] Toulmin, S., Human Understanding, vol. 1. Oxford: Clarendon Press, 1972.

[22] Harré, R. (ed.), Problems of Scientific Revolutions: Progress and Obstacles to Progress in the Sciences. Oxford: Oxford University Press, 1975. Stegmüller, W., The Structure and Dynamics of Theories. New York-Heidelberg-Berlin: Springer-Verlag, 1976. Howson, C. (ed.), Method and Appraisal in the Physical Sciences: The Critical Background to Modern Science, 1800–1905. Cambridge: Cambridge University Press, 1976.  Rescher, N., Scientific Progress: A Philosophical Essay on the Economics of Research in Natural Science. Oxford: Blackwell, 1978m. Radnitzky, G.; Andersson, G. (eds.) Progress and Rationality in Science. Dordrecht-Boston: Reidel, 1978. Radnitzky, G.; Andersson, G., (eds.), The Structure and Development of Science. Dordrecht: D. Reidel, 1979. Niiniluoto, I. and Tuomela, R. (eds.), The Logic and Epistemology of Scientific Change. Acta Philosophica Fennica 30, Helsinki, 1979. Dilworth, C., Scientific Progress: A Study Concerning the Nature of the Relation Between Successive Scientific Theories. Dordrecht: Reidel, 1981. Smith, P., Realism and the Progress of Science. Cambridge: Cambridge University Press, 1981. Hacking, I. (ed.), Scientific Revolutions. Oxford: Oxford University Press, 1981. Schäfer, W. (ed.), Finalization in Science: The Social Orientation of Scientific Progress. Dordrecht: Reidel, 1983. Niiniluoto, I., Is Science Progressive? Dordrecht: D. Reidel, 1984. Laudan, L., , Science and Values: The Aims of Science and Their Role in Scientific Debate. Berkeley: University of California Press1984a. Rescher, N., The Limits of Science. Berkeley: The University of California Press, 1984. Pitt, J.C., (ed.), Change and Progress in Modern Science. Dordrecht: D. Reidel, 1985. Radnitzky, G. and Bartley, W.W. III (eds.), Evolutionary Epistemology, Rationality, and the Sociology of Knowledge, Open Court, La Salle, Illinois, 1987. Callebaut, W. and Pinxten, R. (eds.), Evolutionary Epistemology. Dordrecht: D. Reidel, 1987. Balzwe, W., Moulines, C.U., and Sneed, J.D., An Architectonic for Science. Dordrecht: D. Reidel, 1987. Hull, D.L., Science as a Process: Evolutionary Account of the Social and Conceptual Development of Science. Chicago: The University of Chicago Press, 1988. Gavroglu, K., Goudaroulis, Y. and Nicolacopoulos, P. (eds.), Imre Lakatos and Theories of Scientific Change. Dordrecht: Kluwer Academic Publishers, 1989. Kitcher, P., The Advancement of Science: Science without Legend, Objectivity without Illusions. Oxford: Oxford University Press, 1993. Pera, M., The Discourse of Science. Chicago: The University of Chicago Press, 1994.

[23] Balzer, W., Pearce, D., and Schmidt, H.J. (eds.), Reduction in Science: Structure, Examples, Philosophical Problems. Dordrecht: D. Reidel, 1984. Pearce, D., Roads to Commensurability. Dordrecht: Reidel, 1987. Balzer, W., “On Approximate Reduction,” in: Jonkisz and Koj (2000), 2000, pp. 153–170. Jonkisz, A., “On Relative Progress in Science,” in Jonkisz and Koj (2000) , 2000, pp. 199–234.

[24] Krajewski, W., Correspondence Principle and the Growth of Knowledge. Dordrecht: D. Reidel, 1977. Nowak, L., The Structure of Idealization: Towards a Systematic Interpretation of the Marxian Idea of Science. Dordrecht: D. Reidel, 1980. Pearce, D. and Rantala, V., “A Logical Study of the Correspondence Relation.” Journal of Philosophical Logic 13, 47–84, 1984. Niiniluoto, I., Critical Scientific Realism. Oxford: Oxford University Press, 1999. Nowakowa, I. and Nowak, L., The Richness of Idealization, Amsterdam: Rodopi, 2000. Rantala, V., Explanatory Translation: Beyond the Kuhnian Model of Conceptual Change. Dordrecht: Kluwer, 2002.

[25] Gärdenfors, P., Knowledge in Flux: Modelling the Dynamics of Epistemic States. Cambridge, MA: The MIT Press, 1988. Aliseda, A., Abductive Reasoning. Dordrecht: Springer, 2006.

[26] Stegmüller, W., The Structure and Dynamics of Theories. New York-Heidelberg-Berlin: Springer-Verlag, 1976.

[27] Kitcher, P., The Advancement of Science: Science without Legend, Objectivity without Illusions. Oxford: Oxford University Press, 1993.

[28] Niiniluoto, I., “Scientific Progress.” Synthese 45, 427–464, 1980. Aronson, J.L., Harré, R. and Way, E.C., Realism Rescued: How Scientific Progress is Possible. London: Duckworth, 1994. Kuipers, T., From Instrumentalism to Constructive Realism. Dordrecht: D. Reidel, 2000.

[29] Popper, K, Conjectures and Refutations: The Growth of Scientific Knowledge. London: Hutchinson, 1963. Popper, K, Objective Knowledge: An Evolutionary Approach. Oxford: Oxford University Press, 1972. 2nd enlarged ed. 1979. Niiniluoto, I., Truthlikeness. Dordrecht: D. Reidel, 1987.

[30] Price, D. de Solla, Little Science, Big Science. New York: Columbia University Press, 1963. Rescher, N., Scientific Progress: A Philosophical Essay on the Economics of Research in Natural Science. Oxford: Blackwell, 1978m.

[31] Elkana, Y. et al. (eds.), Toward a Metric of Science: The Advent of Science Indicators. New York: Wiley and Sons, 1978.

[32] Mulkay, M., “Three Models of Scientific Development,” The Sociological Review 23, 509–526, 1975. Niiniluoto, “Emergence of Scientific Specialties: Six Models,” in: W. Herfel et al, 1995b. (eds.), Theories and Models in Scientific Processes. Amsterdam: Rodopi pp. 21–223.

[33] Böhme, G., “Models for the Development of Science,” in: I. Spiegel-Rösing and D. de Solla Price (eds.), Science, Technology, and Society. London: Sage Publications, pp. 319–351, 1977. Schäfer, W. (ed.), Finalization in Science: The Social Orientation of Scientific Progress. Dordrecht: Reidel, 1983. Niiniluoto, I., Is Science Progressive? Dordrecht: D. Reidel, 1984.

[34] Niiniluoto, “Emergence of Scientific Specialties: Six Models,” in: W. Herfel et al, 1995b. (eds.), Theories and Models in Scientific Processes. Amsterdam: Rodopi pp. 21–223.

[35] Laudan, L., et al., “Scientific Change: Philosophical Models and Historical Research.” Synthese 69, 141–224, 1986. Donovan, A., Laudan, L., and Laudan, R. (eds.), Scrutinizing Science: Empirical Studies of Scientific Change, Dordrecht: Kluwer, 1988.

[36] Price, D. de Solla, Little Science, Big Science. New York: Columbia University Press, 1963.

[37] Elkana, Y. et al. (eds.), Toward a Metric of Science: The Advent of Science Indicators. New York: Wiley and Sons, 1978.

[38] Chotkowski La Follette, M. (ed.), Quality in Science. Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1982.

[39] Rescher, N., Scientific Progress: A Philosophical Essay on the Economics of Research in Natural Science. Oxford: Blackwell, 1978m.

[40] Martin, B.and Irvine, J., “Assessing Basic Research: Some Partial Indicators of Scientific Progress in Radio Astronomy.” Research Policy 12, 61–90, 1983.

[41] Niiniluoto, Is Science Progressive? Dordrecht: D. Reidel, 1984.

[42] Levi, I., Gambling With Truth: An Essay on Induction and the Aims of Science. New York: Harper & Row. 2nd ed. Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1967, 1973.

[43] Levi, I., Gambling With Truth: An Essay on Induction and the Aims of Science. New York: Harper & Row. 2nd ed. Cambridge, Mass.: The MIT Press, 1967, 1973. Popper, K., The Logic of Scientific Discovery. London: Hutchinson, 1959.

[44] Hempel, C.G., Aspects of Scientific Explanation. New York: The Free Press, 1965.

[45] Kuhn, T.S., The Essential Tension. Chicago: The University of Chicago Press, 1977.

[46] Laudan, L., , Science and Values: The Aims of Science and Their Role in Scientific Debate. Berkeley: University of California Press1984a.

[47] Niiniluoto, I., “Scientific Progress.” Synthese 45, 427–464, 1980.

[48] Almeder, R., “Scientific Progress and Peircean Utopian Realism.” Erkenntnis 20, 253–280, 1983.

[49] Laudan, L., Progress and Its Problems: Toward a Theory of Scientific Growth. London: Routledge and Kegan Paul, 1977. Laudan, L., , Science and Values: The Aims of Science and Their Role in Scientific Debate. Berkeley: University of California Press1984a.

[50] Kuhn, T.S., The Structure of Scientific Revolutions. Chicago: University of Chicago Press, 1970, 1962. 2nd enlarged ed, p 171.

[51] Stegmüller, W., The Structure and Dynamics of Theories. New York-Heidelberg-Berlin: Springer-Verlag, 1976.

[52] Levi, I., “Messianic vs Myopic Realism,” in: P.D. Asquith and P. Kitcher (eds.), PSA 1984, vol. 2; East Lansing, Michigan: Philosophy of Science Association, pp. 617–636, 1985.

[53] Popper, K., The Logic of Scientific Discovery. London: Hutchinson, 1959. Hanson, N.R., Patterns of Discovery. Cambridge: Cambridge University Press, 1958. Kleiner, S.A., The Logic of Discovery: A Theory of the Rationality of Scientific Research. Dordrecht: Kluwer, 1993.

[54] Laudan, L., “Explaining the Success of Science: Beyond Epistemic Realism and Relativism,” in: J.T. Cushing, C.F. Delaney, and G.M. Gutting (eds.), Science and Reality. Notre Dame, Indiana: University of Notre Dame Press, 1984b, pp. 83–105.

[55] Doppelt, G., “Relativism and Recent Pragmatic Conceptions of Scientific Rationality,” in: N. Rescher (ed.), Scientific Explanation and Understanding. Lanham: University Press of America, 1983, pp. 107–142. Laudan, L., “Progress or Rationality? The Prospects for Normative Naturalism.” American Philosophical Quarterly 24, 19–31, 1987. Niiniluoto, I., Critical Scientific Realism. Oxford: Oxford University Press,  1999.

[56] Leplin, J. (ed.), Scientific Realism. Berkeley: University of California Press, 1984. Psillos, S., Scientific Realism: How Science Tracks Truth. London: Routledge, 1999. Niiniluoto, I., Critical Scientific Realism. Oxford: Oxford University Press,  1999.

[57] Duhem, P., The Aim and Structure of Physical Theory. Princeton: Princeton University Press, 1954.

[58] Popper, K, Conjectures and Refutations: The Growth of Scientific Knowledge. London: Hutchinson, 1963.

[59] Hintikka, J., “The Varieties of Information and Scientific Explanation,” in: B. van Rootselaar and J.E. Staal (eds.), Logic, Methodology and Philosophy of Science III. Amsterdam: North-Holland, 1968, pp. 151-171.

[60] Popper, K., The Logic of Scientific Discovery. London: Hutchinson, 1959.

[61] van Fraassen, B., The Scientific Image. Oxford: Oxford University Press, 1980.

____
عمان، المملكة الأردنيَّة الهاشميَّة

5 كانون الثاني/ يناير 2014

جديدنا