العزلة صوفيًّا… وراثة معرفة الدنيا

image_pdf

“لا يعتزل إلّا مَنْ عرف نفسه، ومَنْ عرف نفسه عرف ربّه؛ فليس له مشهود إلّا الله، من حيث أسماؤه الحسنى، وتخلّقه بها ظاهرًا وباطنًا” – ابن عربي الحاتميّ.

 

في زمن الجائحة، الّتي تطلّبت من أفراد غالبيّة المجتمعات الانعزال في البيوت أو أماكن الحجر الصحّيّ، أو كليهما معًا، وتقليص الحركة قدر ما أمكن، تصبح العزلة السمة الغالبة على هذه المرحلة؛ فالإنسان يتأرجح تاريخيًّا بين سلوكين متقابلين في علاقته بالآخر، هما التقارب والابتعاد؛ أو بكلمات أخرى، المخالطة والانعزال. غير أنّ الطبيعة الغالبة على الإنسان المخالطة لا العزلة؛ فمن ناحية، هو كائن اجتماعيّ بطبعه، يحتاج إلى الجماعة الّتي تمنحه لا الأُنس فقط، بل الأمان النفسيّ والرعاية الاجتماعيّة أيضًا، عدا سعيه الضروريّ إلى الرزق، الّذي يتطلّب منه ترجيح السلوك الاجتماعيّ على ذلك الانعزاليّ، ومن ناحية ثانية، تبدو العزلة الاختيار الأصعب؛ إذ تتطلّب من الفرد مقدرة خاصّة تؤهّله للاكتفاء الذاتيّ بنفسه، والاستغناء عن الآخرين نفسيًّا واجتماعيًّا. بل اتُّخذت العزلة عبر التاريخ، نظرًا إلى صعوبتها وقسوتها على الفرد، وسيلةً للعقوبة، تتمثّل في حبس مَنْ يخالفون القانون، أو المعارضين للسلطة.

في المقابل، كانت العزلة تاريخيًّا السبيل الأمثل للمبدعين، من أدباء وفنّانين ومفكّرين، ومخترعين كذلك، لينتجوا ما أنتجوه من أعمال إبداعيّة واختراعات واكتشافات؛ إذ ينقطع هؤلاء عن مجتمعاتهم، وعن المقرّبين منهم أيضًا، وذلك لفترة زمنيّة معيّنة، ليختلوا بأنفسهم وبأفكارهم؛ ذلك أنّ العزلة تمنحهم الصفاء الذهنيّ اللازم للإبداع والابتكار. في هذا السياق، يقول العارف الصوفيّ ابن عطاء الله السكندريّ: “ما نفَعَ القلب مثلُ عزلة يدخل بها ميدان فكرة”؛ إذ إنّ العزلة تُعَدّ شرطًا أساسيًّا في الطريق إلى الله، للوصول إلى الصفاء الروحيّ اللازم لتلقّي المعرفة وحصول التجلّيات.

ويأتي هذا المقال مدخلًا إلى معنى العزلة، ومستوياتها وثمراتها، من وجهة صوفيّة، ولبيان جماليّاتها الّتي تتولّد من رحم قسوتها.

العزلة صوفيًّا

يرد في “معجم التعريفات” للجرجانيّ، أنّ معنى العزلة “الخروج عن مخالطة الخَلْق بالانزواء والانقطاع”[1]. غير أنّ معنى العزلة عند الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، لا يقف عند حدود الانقطاع الحسّيّ – الجسديّ عن الآخرين؛ إذ هو يشير بها إلى ثلاثة مستويات من الاعتزال: عزلة حال، وعزلة قلب، وعزلة حِسّ.

فعزلة الحال تعني: أن يعتزل المريد كلّ صفة مذمومة وكلّ خُلُق دنيء. والعزلة القلبيّة هي: اعتزال المريد بقلبه عن التعلّق بأحد من الخَلْق، من أهل ومال وولد وصاحب، وكلّ ما يَحول بينه وذكر ربّه بقلبه، وهي أيضًا عزلة عن الخواطر؛ فلا يكون للقلب سوى همّ واحد هو تعلّقه باللّه. أمّا العزلة الحسّيّة – الجسديّة فتأتي عادة في بدايات المريد في طريقه إلى الله، وتكون بانقطاعه عن الناس والمألوفات؛ فيلزم بيته، أو تكون بالسياحة في الأرض؛ فيلزم السواحل والجبال والأماكن البعيدة عن الناس[2].

والعزلة واحدة من أربعة أسس تشكّل عماد الطريق إلى الله، كما يرد في أدبيّات العارفين، والثلاثة الأخرى هي: الجوع والسهر والصمت. يقول أبو طالب المكّيّ في كتابه “قوت القلوب”: “فهذه الأربع سجن النفس وضيقها، وضرب النفس وتقييدها، بهنّ يضعف صفاتها، وعليهنّ تحسُن معاملاتها. ولكلّ واحدة من الأربع صنعة حسنة في القلب… وقال سهل رحمه الله: اجتمع الخير كلّه في هذه الأربع خصال، وبها صار الأبدال أبدالًا: إخماص البطون، والصمت، والسهر، والاعتزال عن الناس”[3].

 

دوافع العزلة

العزلة صوفيًّا توجّه قلبيّ، تأتي بعد وحشة تطرأ على القلب من المعتزَل عنهم (الخَلْق)، وأُنس بالمعتزَل إليه (الله). ويذكر ابن العربي أنّ للمعتزِلين نيّات ثلاثًا: نيّة اتّقاء شرّ الناس، ونيّة اتّقاء شرّ المتعدّي إلى الغير؛ أي أن تكون نيّة المعتزِل سلامة الناس من شرّه، وهذه أرفع من الأولى؛ “فإنّ في الأوّل سوء الظنّ بالناس، وفي الثاني سوء الظنّ بنفسه، وسوء الظنّ بنفسك أولى؛ لأنّك بنفسك أعرَف”، والثالثة: نيّة إيثار صحبة الله، وهذه أرفع أحوال العزلة؛ “فأعلى الناس مَنْ اعتزل عن نفسه إيثارًا لصحبة ربّه؛ فمَنْ آثر العزلة على المخالطة فقد آثر ربّه على غيره، ومَنْ آثر ربّه لم يعرف أحدٌ ما يعطيه الله تعالى من المواهب والأسرار”[4].

 

أحوال المعتزِلين

ويفرّق ابن العربي بين أصناف المعتزِلين؛ فهناك أوّلًا: عزلة المريدين، وهي بالأجسام عن مخالطة الأغيار، وهناك ثانيًا: عزلة المحقّقين، وهي بالقلوب عن الأكوان؛ فليست قلوبهم محلًّا لشيء سوى العلم بالله تعالى[5]. فعزلة المريد في البدايات تكون بالانقطاع الحسّيّ – الجسديّ عن المألوف، وعمّا يتعلّق به القلب، من أهل ومال ودنيا؛ فالعزلة هنا وسيلة تربويّة هدفها تدريب القلب على الانقطاع عن كلّ ما هو فانٍ والوحشة منه، والتعلّق بالله الباقي والأُنس به.

ذلك يدحض الصورة النمطيّة المتبنّاة حول الصوفيّين، الّتي ترى أنّهم أهل انعزال؛ فالعزلة من المنظور الصوفيّ مرحلة محدّدة يمرّ بها المريد، وهي لازمة له لنضج تجربته الروحيّة والمعرفيّة؛ ذلك أنّه في مرحلة لاحقة، سيتحقّق بالعزلة القلبيّة، وهي عزلة المحقّقين المذكورة أعلاه؛ فيكون بجسده بين الناس، يخالطهم ويعمل معهم، لكن قلبه مع الله، وبعين قلبه يرى الكون والخلق، وبالله يعاملهم. يقول تعالى في الحديث القدسيّ “مَنْ عادى لي وليًّا فقد آذنته بالحرب. وما تقرّب إليّ عبدي بشيء أحبّ إليّ ممّا افترضْتُ عليه، وما يزال عبدي يتقرّب إليّ بالنوافل حتّى أحبّه، فإذا أحببته كنتُ سمْعَهُ الّذي يسمع به، وبصره الّذي يبصر به، ويده الّتي يبطش بها، ورجله الّتي يمشي بها، وإن سألني لأعطينّه، ولئن استعاذني لأعيذنّه”.

إنّ العزلة الحسّيّة – الجسديّة المرحليّة، الّتي ينتهجها الصوفيّون في بداياتهم، تأتي أيضًا من باب الاتّباع لمَنْ يُعتبر قدوتهم العليا، وقدوة المسلمين عامّة، وهو النبيّ محمّد صلّى الله عليه وسلّم؛ إذ كان في بداياته وقبل خروجه للدعوة، يعتزل في “غار حراء”، فنزل عليه الوحي، ثمّ خرج إلى الناس بما أُنزل عليه.

 

عزلة العارف

عزلة العارف بالله إقراره بفقره وذلّه وعجزه وقصوره وجهله، وعودته إلى خصوصيّته، وهي عبوديّته الّتي لا مزاحمة للربوبيّة فيها، وقعوده في بيت بشيئيّة ثُبوته لا بشيئيّة وجوده، كما يقول ابن العربي، ويقول: “فمَنْ اعتزل هذه العزلة، فهي عزلة العلماء بالله، لا هجران الخلائق ولا غلق الأبواب وملازمة البيوت، وهي العزلة الّتي عند الناس؛ أن يلزم الإنسان بيته ولا يعاشر ولا يخالط، ويطلب السلامة ما استطاع بعزلته، ليسلَم من الناس ويسلَم الناس منه؛ فهذا طلبُ عامّة أهل الطريق‏ بالعزلة. ثمّ إن ارتقى إلى طور أعلى من هذا، فيجعل عزلته رياضة وتَقْدِمة بين يدَي خَلوته؛ لتأْلَف النفس قطْعَ المألوفات من الأُنس بالخَلْق؛ فإنّه يرى الأُنس بالخَلْق من العلائق والعوائق الحائلة بينه وبين مطلوبه من الأُنس بالله والانفراد به. فإذا انتقل من العزلة، بعد إحكامه شرائطها، سَهُل عليه أمر الخَلوة. هذا سبب العزلة عند خاصّة أهل الله”[6].‏

 

ثمرة العزلة

وتؤدّي العزلة إلى الصمت بمعناه الظاهريّ؛ إذ لا يجد المعتزِل مَنْ يتحدّث إليه، غير أنّ صمت القلب عن الحديث بغير الله لا تعطيه العزلة الحسّيّة، بل تَلزمه العزلة القلبيّة، وهي الامتناع عن حديث النفس والخواطر، فلا يكون للقلب شغل سوى الله؛ ولهذا جُعل الصمت ركنًا مستقلًّا من أركان الطريق. ومَنْ لازم العزلة وقف على سرّ الوحدانيّة الإلهيّة، وعرف أسرار الأحديّة الّتي هي الصفة. وحال العزلة التنزيه عن الأوصاف؛ أي الرجوع إلى العبوديّة المحضة كما ذُكر أعلاه؛ فلا رَسْم له ولا اسم ولا صفة، سالكًا كان المعتزِل أو محقّقًا؛ إذ يتجلّى الحقّ لمَنْ امّحى رسمه وزال عنه اسمه، كما يقول ابن العربي. والعزلة تورِث معرفة الدنيا[7]. وثمرة العزلة الخَلوة، أو هي المرحلة اللاحقة عليها.

الخَلوة: عزلة في العزلة

الخَلوة أرفع أحوال العزلة، فهي عزلة في العزلة؛ ولذلك فإنّ نتيجتها أقوى من نتيجة العزلة العامّة، وثمرتها أكثر نضجًا وأحلى مذاقًا. والخَلوة هي: “محادثة السرّ مع الحقّ، حيث لا مَلَك ولا أحد، وهنالك يكون الصعق”، والصعق هو “الفناء عند التجلّي الربّانيّ”. وبعد الخَلوة تكون الجَلوة الّتي هي: “خروج العبد من الخَلوة بنعوت الحقّ، فيحرق ما أدركه بصره”[8]. وشرط الخَلوة أن يكون المعتزِل صاحب يقين مع الله؛ أي ألّا يكون في قلبه ربّانيّة لغير الله، وألّا يكون له خاطر متعلّق خارجًا عن بيت خَلوته، فإذا لم يكن لديه هذا اليقين، يستعدّ للخَلوة بالعزلة، حتّى يتقوّى يقينه بما يتجلّى له في عزلته.

فالعزلة تدرُّب على الخَلوة، ولا سبيل إلى الخَلوة إلّا بالتروّض بالعزلة واعتيادها: “ولتقدّم قبل دخولك إلى الخَلوة… رياضةً، وعزلة عن الخلق وصمتًا، وتقليلًا من الطعام… فإذا أَنِسَت النفس بالوحدة، فعند ذلك تدخل الخَلوة”[9]. وهدف الخَلوة أن يخلو القلب لاتّساع الحقّ وتجلّياته، ليتحقّق المريد بالعلم بالله وبالتخلُّق بأسمائه؛ وذلك تحقيقًا للحديث القدسيّ: “ما وسعني أرضي ولا سمائي، ووسعني قلب عبدي المؤمن”، “ومن أسمائه سبحانه المؤمِن، فمَنْ تخلَّقَ به فقد طهّر قلبَه؛ لأنّ القلب محلّ الإيمان، وكانت السَّعة الإلهيّة والتجلّي الربّانيّ‏”[10]. فالخَلوة هي طريق العارف في سعيه نحو الكمال، وهو الاتّصاف بالأخلاق والنعوت الإلهيّة؛ فيصير عندئذ صورة الحقّ، الّتي هي: الإنسان الكامل، حينئذ تكون جَلوته، والإنسان الكامل بين خَلوة وجَلوة دائمًا، لا بدّ من ذلك.

……….

  إحالات:

[1]  عليّ بن محمّد السيّد الشريف الجرجانيّ، معجم التعريفات، تحقيق ودراسة: محمّد صدّيق المنشاوي (القاهرة، دار الفضيلة، 2004)، ص 126.

[2]  محيي الدين ابن العربي، الفتوحات المكّيّة، تحقيق: عبد العزيز سلطان المنصوب، الجزء الثاني (الجمهوريّة اليمنيّة: وزارة الثقافة، 2010)، ص 95 – 98.

[3]  أبو طالب المكّيّ محمّد بن عليّ بن عطيّة، قوت القلوب في معاملة المحبوب ووصف طريق المريد إلى مقام التوحيد، حقّقه وقدّم له وعلّق على حواشيه: محمود إبراهيم محمّد الرضواني، الجزء الأوّل (القاهرة: مكتبة دار التراث، 2001)، ص 273 – 274.

[4]  محيي الدين ابن العربي، حلية الأبدال وما يظهر عنها من المعارف والأحوال، 06/02/2020، شوهد في 06/05/2020، في: https://bit.ly/2W2JXWn

[5]  المرجع نفسه.

[6]  ابن العربي، الفتوحات…، الجزء الخامس، ص 122 – 125.

[7]  ابن العربي، حلية الأبدال…، المرجع نفسه.

[8]  ابن العربي، الفتوحات…، الجزء الخامس، ص 56.

[9]  بكري علاء الدين، “كتاب الخلوة لابن عربي: دراسة وتحقيق”، تصوّف، العدد 37 (2016)، ص 37، شوهد في 06/05/2020، في: https://bit.ly/2WcqzX1

[10]  ابن العربي، الفتوحات…، الجزء الثاني، ص 261.

_________
*المصدر: فسحة.

 

جديدنا