الديمقراطيَّة والليبراليَّة… تماثل الواجبات وتباين الحقوق

image_pdf

 

إشكاليَّة المفهوم:

أَلِفَ الناس الحديث عن الديمقراطيَّة، التي تفهمُ عادةً علَى أنّها تَعني الليبراليَّة، دون أن يحدِّدوا بِدِقَّة إن كانت تدعى مجرد ادّعاء أنها شكل من أشكال الحكم السياسي، الذي هو قائمٌ بالإجمال علَى التداول السلمي للسلطة، وحكم الأكثريَّة، وحمايَّة حقوق الأقليّات والأفراد. فإذا سلمنا بهذا الادِّعاء، نستطيع القول إنَّ ما يزيد عن نصف سكّان الأرض، في بداية القرن الواحد والعشرين، يعيشون تحت هذا النظام الديمقراطي، أو درجةٍ من درجاتهِ؛ في أوروبا، والأمريكتَين، والهند، وأنحاء أخرَى من العالم، بما في ذلك دولاً آسيويَّة وأفريقيَّة عديدة. بينما يعيش معظمُ النصف الباقي تحت أنظمةٍ تُفاخِر بنَوعٍ آخر من الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة؛ كالصين، وغيرها من دول اليسار السياسي، أو الأنظمة الثوريَّة والعسكريَّة. وفي هذه الحال، يمكن استخدام مصطلح الديمقراطيَّة بمعنى ضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيَّة، أو بمعنى أوسع لوصف مجتمع حرّ في مجتمع ليبرالي. وتكون الديمقراطيَّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميَّز يؤمن به، ويسير عليه، المجتمع ككل على شكل أخلاقيات اجتماعيَّة، ويشير إلى ثقافةٍ سياسيَّة وأخلاقيَّة وقانونيَّة معيّنة، تتجلَّى فيها مفاهيم الديمقراطيَّة الأساسيَّة، التي تحفظ جملة هذه الحقوق.

بيد أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة، وبعد فترة من التوسُّع السياسي المستمرّ طوال القرن العشرين، أصبحت تُمثِّل شكل الحكم الغالب في القرن الحادي والعشرين. واليوم تعتبر العديد من الأحزاب في الغرب داعمة لشكل حكومة الديمقراطيَّة الليبراليَّة، رغم أنها لا تتسمَّى بالليبراليَّة. مثال ذلك أحزاب المحافظين، وأحزاب الديمقراطيين المسيحيين، وتيَّارات الأحزاب الديمقراطيَّة الاشتراكيَّة. فالديمقراطيَّة الليبراليَّة، بهذا الفهم، هي شكل من أشكال النظام السياسي التمثيلي، الذي يعمل وفقاً لمبادئ الليبراليَّة، أي أنها تُعنى عناية خاصَّة بحمايَّة حقوق الفرد، والتي يُنَصُّ عليها في القانون بقواعد مبدئيَّة صريحة. ويُنظر إلى هذا النوع من أشكال الحكم بأنه يتميَّز بانتخابات نزيهة وحرَّة وتنافسيَّة بين الأحزاب السياسيَّة، ويضمن الفصل بين السلطات في مختلف فروع الحكومة، ويراعي سيادة القانون في الحياة اليوميَّة كجزء من مجتمع مفتوح، ويحقِّق الحماية المتساوية لحقوق الإنسان والحرّيات المدنيَّة والسياسيَّة لجميع  الأشخاص. وغالباً ما تعتمد الديمقراطيات الليبراليَّة على دستور مكتوب، أو كالماغنا كارتا البريطانيَّة، لتحديد صلاحيات الحكومة، وتكريس استحقاقات العقد الاجتماعي.

لهذا، فإنَّ المعيار الأكثر استخداماً بالنسبة للديمقراطيَّة الليبراليَّة يتَّخذ شكل الحقوق والحرّيات. وتعتبر هذه الحقوق والحرّيات أساسيَّة لعمل الديمقراطيَّة الليبراليَّة، رغم أنها اكتسبت أهميَّة في تعريفها إلى درجة تدفع الكثير من الناس لكي يعتقدوا بأنها هي الديمقراطيَّة. وبما أنه لا توجد دولة تريد أن تعترف بأنها “ليست حرّة”، وبما أن مناصري تلك الدولة سيصفون أعداءها بأنهم أتباع حكومات “طاغية”، فلابد والحال هذه من حدوث الخلافات، على المستويين النظري والعملي، بين دعاة الديمقراطيَّة وغيرهم من الليبراليين. فالحريات الليبراليَّة تشمل أموراً كثيرة؛ من قبيل: الحقّ في الحياة والسلامة الشخصيَّة، والتحرُّر من العبوديَّة، وحريَّة التنقل، والمساواة أمام القانون، وأن تأخذ العدالة مجراها في ظلِّ سيادة هذا القانون، وحريَّة التعبير، بما فيها حريَّة الصحافة، والحصول على المعلومات من مصادر متنوّعة، وحريَّة الانتساب للجمعيات والتجمُّع، وحريَّة التعليم، وحريَّة الدين والتدين، ووجود قضاء مستقل. كما يلزم ضمان الحق في التملك، وفي البيع والشراء، وهي عادة ما تُرى على أنها من الحريات الليبراليَّة المرتبطة بالحرّيات المذكورة آنفاً، رغم أن هذا الطرح يظلّ محلّ جدل كثير في الأوساط الأكاديميَّة.

 

يمكن استخدام مصطلح الديمقراطيَّة بمعنى ضيق لوصف نظام الحكم في دولة ديمقراطيَّة، أو بمعنى أوسع لوصف مجتمع حرّ في مجتمع ليبرالي. وتكون الديمقراطيَّة بهذا المعنَى الأوسع هي نظام اجتماعي مميَّز يؤمن به، ويسير عليه، المجتمع ككل على شكل أخلاقيات اجتماعيَّة، ويشير إلى ثقافةٍ سياسيَّة وأخلاقيَّة وقانونيَّة معيّنة، تتجلَّى فيها مفاهيم الديمقراطيَّة الأساسيَّة، التي تحفظ جملة هذه الحقوق.

 

حدود وقيود:

ورغم كل هذه السعة في الحريات العامَّة والخاصَّة، إلا أن ممارسات الأنظمة الديمقراطيَّة لا تخلو من وجود قيود على حريات معيّنة. فهناك قيود قانونيَّة متنوِّعة؛ مثل، قوانين حقوق الطباعة، والقوانين الخاصَّة بالتشهير، وغيرها. وقد تكون هناك حدود للكلام المعادي للديمقراطيَّة، وكذلك على محاولات تقويض حقوق الإنسان، وعلى تأييد، أو تبرير، الإرهاب. ففي الولايات المتَّحدة، طُبِّقَت مثل هذه القيود خلال حقبة الحرب الباردة على الشيوعيين أكثر مما تمَّ تطبيقه في أوروبا. وقد شاع الآن تطبيق هذه القيود على بعض المنظّمات الإسلاميَّة، التي يُظَنُّ على أنها تدعم الإرهاب، أو المنظّمات الخاصَّة، التي ترتبط ببعض الجماعات، والتي يُشْتَبَه في أنها عنصريَّة. فبعض وسائل الإعلام الإسلاميَّة تواجه الآن الكثير من القيود في العديد من الأنظمة الديمقراطيَّة، بما فيها الرقابة على بثِّ القنوات الفضائيَّة في فرنسا، وقرارات الحظر المقترحة على بعض المواقع الإسلاميَّة على الإنترنت في عدد من البلدان. ونجد في معظم الديمقراطيّات إجراءات لفرض الحظر على بعض المنظّمات، التي يشتبه بأنها إرهابيَّة، وفي بعض الأحيان، كما يقول المعارضون لهذا التوجّه، من دون إجراءات قضائيَّة مسبقة. ولدى الاتّحاد الأوروبي الآن قائمة رسميَّة بالمنظّمات المحظورة، ويقول منتقدو القائمة بأنها تمثِّل انتهاكاً صريحاً لحريَّة التجمع المنصوص عليها في الميثاق الأوروبي لحقوق الإنسان، وللدساتير الأوروبيَّة، التي تتيح الحريات بمواد لا تقبل الاستثناء، أو التمييز.

بيد أن التبرير الشائع للدفاع عن هذه القيود هو القول بإنها ضروريَّة لضمان بقاء الديمقراطيَّة، أو لبقاء الحرّيات الديمقراطيَّة بحدِّ ذاتها. فمثلاً السماح بحريَّة الكلام لمن ينادي بالقتل الجماعي إنما هو تقويض لحقِّ الحياة واعتداء على السلامة الشخصيَّة. والآراء تختلف حول المدى الذي يتعيَّن أن تصل إليه الديمقراطيَّة حتى تشمل أيضاً أعداء الديمقراطيَّة، ودعوتهم للانخراط النشط في عملياتها السياسيَّة والإجرائيَّة. وإذا جرى استثناء عدد قليل نسبياً من الناس وحرمانهم من هذه الحريات، لهذه الأسباب، يمكن أن يُرى البلد على أنه ما زال ديمقراطياً ليبرالياً. بينما يعتقد البعض بأن النظام الديمقراطي حينها لن يختلف من الناحية النوعيَّة كثيراً في تلك الحالة عن الأنظمة الأوتوقراطيَّة، التي تقمع معارضيها، بل سيختلف عنها فقط من الناحية الكميَّة، سيما وأن عدداً قليلاً من الناس سيتأثّرون بذلك، وستكون القيود أقل قساوة. ويؤكِّد آخرون بأن الديمقراطيّات تختلف، على الأقل من الناحية النظريَّة، إذ يتمتَّع حتى المعادون للديمقراطيَّة بالعدالة القضائيَّة في ظلِّ سيادة القانون. في حين تتيح الديمقراطيّات مبدئياً حقّ الانتقاد وتغيير القادة والنظام السياسي والاقتصادي برمته، والمحظور في هذا النظام هو المحاولات الرامية إلى إحداث هذه التغييرات باللجوء إلى العنف.

ولهذا، فإنَّ الحكمة الكلاسيكيَّة القديمة، التي تعلَّمناها من اليونان، فيما عُرِفَ بدروس “ديموبوليس”، هي أن الديمقراطيَّة والليبراليَّة، على حدٍّ سواء، هما أفضل حالاً من غيرهما، إذا قُدِّرَ لنا أن نفهم الفرق بينهما. فالليبراليَّة، في التقدير العام، هي الحاضنة الفلسفيَّة والسياسيَّة للديمقراطيَّة، ولا تناقض بينهما على هذا الأساس. إلا أن هذه العلاقة التضامنيَّة بينهما لا تجيز لنا دائماً الحديث عنهما باعتبارهما شيء واحد. ففي تساؤل للدكتور برهان غليون عن: لماذا يخلط المثقّفون العرب بين الليبراليَّة والديموقراطيَّة؟ يقول إنَّ الخلط بين المفهومين يعكس رغبة بعض قطاعات المثقّفين العرب في تفسير الديموقراطيَّة، بما يساعد على مواجهة القيود والضغوط، التي تمارسها المجتمعات التقليديَّة على الفرد في ما يتجاوز مسألة الرد على تحديات السلطة الاستبداديَّة، ويثير في المقابل مخاوف كبيرة لدى قطاعات الرأي العام الواسعة، والتي تخشى أن يكون مضمون الديموقراطيَّة عندها بمعنى الإباحة الكاملة لكل ما يمكن أن يشكِّل خرقاً للقيم والتقاليد والعقائد الدينيَّة المرعيَّة.

 

الحكمة الكلاسيكيَّة القديمة، التي تعلَّمناها من اليونان، فيما عُرِفَ بدروس “ديموبوليس”، هي أن الديمقراطيَّة والليبراليَّة، على حدٍّ سواء، هما أفضل حالاً من غيرهما، إذا قُدِّرَ لنا أن نفهم الفرق بينهما.

خطل النهاية:

وقبل ربع قرن، أعلن أستاذ العلوم السياسيَّة، ومدير إدارة الفكر في الخارجيَّة الأمريكيَّة، الدكتور فرانسيس فوكوياما، في كتاب “نهاية التاريخ … والإنسان الأخير”، بأنّ التاريخ قد انتهى، وأنّ البحث الطويل للحصول على أفضل نظام سياسي قد أتى إلى نهايته. وحول النظام الخاتم للتجربة البشريَّة السياسيَّة، كان الجواب: الديمقراطيَّة الليبراليَّة، التي تُعرف بأنها السيادة الشعبيَّة، بالإضافة إلى الاستقلاليَّة الفرديَّة وحقوق الإنسان. فقد أورد فوكوياما الاختلافات على المستوى النظري بين الليبراليَّة والديمقراطيَّة، قائلاً إنّ الديمقراطيَّة والليبراليَّة ترتبطان ارتباطا وثيقاً ببعضهما البعض، ولكنّهما مفهومان مختلفان في الوقت ذاته. ويُعَرِّف فوكوياما الليبراليَّة السياسيَّة بأنها سيادة القانون، التي تضمن حقوقاً، أو حريات فرديَّة محدّدة للمواطنين بعيدة عن التحكّم الحكومي. وحول ماهيَّة هذه الحقوق والحريات، تُنبئنا القراءات المختلفة بأنها أمر خاضع لتعريفات متعدّدة. وقد استشهد فوكوياما باللورد جيمس برايس، الذي حدَّد ثلاثة حقوق رئيسيَّة، هي: الحقوق المدنيَّة؛ أي إبعاد الرقابة الحكوميَّة عن المواطن في كل ما يتعلَّق بشخصه وملكيته. والحقوق الدينيَّة، التي تعني منع الرقابة والسيطرة الحكوميَّة على حقّ المواطن في حريَّة العبادة وإبداء الآراء. والحقوق السياسيَّة، التي تمنع الرقابة على كل ما لا يمسّ، أو يؤثِّر، على أمن ومصلحة المجتمع ككل، مثل حريَّة الصحافة.

ويجادل الدكتور جوشيا أوبر، أستاذ العلوم السياسيَّة والكلاسيكيَّة في جامعة ستانفورد، في كتابه “صعود وسقوط اليونان الكلاسيكيَّة”، الصادر عام 2015، بأن الديمقراطيَّة في المقابل، هي الحقّ العام لمشاركة المواطنين في الحياة السياسيَّة. وبمعنى آخر، حقّ مشاركة المواطنين في السلطة السياسيَّة، باعتبار أن هذا مبدأ ليبرالي أصولي، وبسببه كانت الليبراليَّة على اتّصال وثيق بالديمقراطيَّة تاريخياً. فقد رأينا أن فوكوياما يستعمل تعريفاً أساسياً للديمقراطيَّة لمعرفة ما إذا كان النظام السياسي في بلد ما ديمقراطياً أم لا. إذ يكون النظام ديمقراطياً إذا ما سُمح لجميع المواطنين البالغين باختيار حكوماتهم في انتخابات دوريَّة على أساس التعدُّد الحزبي والاقتراع السرِّي. رغم أن هذا التعريف الأساس، أو الرسمي، لماهيَّة الديمقراطيَّة قد لا يضمن دائماً حقوقاً متساويّة في المشاركة، وقد يكون عرضة للتلاعب من النخب. وبالتالي، ربما لا يعكس المصلحة الحقيقيَّة للشعب. ولكن الابتعاد عنه، يقول فوكوياما، يفتح الأبواب أمام انتهاكات لا حدود لها من أعداء الديمقراطيَّة. لذا، فهذا التعريف، وبرغم أوجه قصوره، يوفِّر ضمانة مؤسّسيَّة فعالة ضدّ الدكتاتوريَّة، مثلما فعل فلاديمير لينين في الاتحاد السوفيتي، الذي برَّر دكتاتوريَّة الحزب الواحد بإنشاء “ديمقراطيَّة حقيقيَّة باسم الشعب”، وما كانت أبداً كذلك.

واليوم في عصر الاضطراب، والحرب الكونيَّة المستمرَّة على الإرهاب، ووجود الأنظمة الاستبداديَّة الأتوقراطيَّة، عاد التاريخ، مع رغبة عارمة في الانتقام. ومع ذلك، فقد أكَّد فوكوياما، مؤخراً، في تفاصيل مذهلة، النقطة الأساسيَّة لنظريته في أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة هي أعلى شكل من أشكال التطور السياسي، وهو رأي مشترك على نطاق واسع، ولكن لا يمكن أن تكون نهاية لتجارب التاريخ البشري. في حين يقارن ستيفن بينكر، أستاذ العلوم الإدراكيَّة، الديمقراطيات الليبراليَّة مع الأنظمة القائمة على تشويه صورة الأيديولوجيات الطوباويَّة، وخلص إلى أن “الديمقراطيات هي إلى حدٍّ كبير أقل النُظُم القاتلة مقارنة بالأشكال البديلة الأخرى للحكم. ومثل الكُتَّاب المحدثين الآخرين، يستخدم بينكر “الديمقراطيَّة” بمعنى فضفاض وكأنها اختصار لـ”الديمقراطيَّة الليبراليَّة”، وهذا يعني انتزاع فرصة الظروف المفضَّلة؛ أي سيادة الشعب، وسيادة القانون، وحقوق التصويت، وحقوق الإنسان، وحريَّة التعبير، وتكافؤ الفرص، والفصل بين الدين والدولة، والعدالة التوزيعيَّة، والاقتصاد القائم على قانون السوق. وإذا عدنا إلى أصلها اليوناني القديم، فإن الديمقراطيَّة تعني ببساطة الحكم الجماعي الذاتي من قبل المواطنين.

وهكذا، فإنَّ حزمة الديمقراطيَّة الليبراليَّة تُعْجِب الناس على نطاق واسع اليوم، ولكن نادراً ما يتمّ تمحيصها، لأن الكثيرين يميلون إلى نسيان أنها، في الواقع، حزمة متكاملة. وحتى المتشكّكين منهم يضعون الديمقراطيَّة جنباً إلى جنب مع الليبراليَّة. ففي أوائل عام 2008، دعا الرئيس الباكستاني برويز مُشَرَّف الحكومات الغربيَّة لوقف الإفتتان بالديمقراطيَّة، التي كان يعني بها: وقف التركيز على حقوق الإنسان. وعندما يستخدم فوكوياما، وبينكر، أو مُشَرَّف، “الديمقراطيَّة” للإشارة إلى الالتزام بالحقوق العالميَّة، أو الفصل بين الدين والدولة، فإنَّ عدداً قليلاً يتوقَّف لطرح الأسئلة حولها، أو صلتها بالليبراليَّة. ولكن دعونا نفعل ذلك تماماً. فالديمقراطيَّة والليبراليَّة، على حدٍّ سواء، تحتويان على الكثير من القيم، لكنهما ليستا نفس الشيء. ويمكن أن تكونا مرتبطتين في نظام سياسي ناجح، ولكن زواجهما ليس حتميّاً.

 

الديمقراطيَّة والليبراليَّة، على حدٍّ سواء، تحتويان على الكثير من القيم، لكنهما ليستا نفس الشيء. ويمكن أن تكونا مرتبطتين في نظام سياسي ناجح، ولكن زواجهما ليس حتميّاً.

قدسيَّة الحقوق:

إنَّ الليبراليَّة تقوم على الإيمان بالنزعة الفرديَّة المبنيَّة على حريَّة الفكر والتسامح، واحترام كرامة الإنسان وضمان حقّه بالحياة، وحريَّة الاعتقاد والضمير، وحريَّة التعبير، والمساواة أمام القانون، ولا يكون هناك دور للدولة في العلاقات الاجتماعيَّة. فالدولة الليبراليَّة تقف على الحياد أمام جميع أطياف الشعب، ولا تتدخَّل فيما يعنيهم من أمر هذه العلاقات، أو في الأنشطة الاقتصاديَّة، إلا في حالة الإخلال بمصالح الفرد. وتقوم الديمقراطيَّة الليبراليَّة على تكريس سيادة الشعب عن طريق الاقتراع العام، وذلك للتعبير عن إرادته، واحترام مبدأ الفصل بين السلطات التشريعيَّة والقضائيَّة والتنفيذيَّة، وأن تخضع هذه السلطات للقانون من أجل ضمان الحريات الفرديَّة، وللحد من الامتيازات الخاصة، ورفض ممارسة السيادة خارج المؤسسات، لكي تكون هذه المؤسّسات معبِّرة عن إرادة الشعب بأكمله.

وإذا أردنا أن نرى إمكانيَّة التقارب بين الليبراليَّة والديمقراطيَّة، فإن ذلك يبدو جلياً في مسألة حريَّة المعارضة السياسيَّة بشكل خاص. إذ بدون الحريات، التي تحرص عليها الليبراليَّة، فإنه لا يمكن تشكيل معارضة حقيقيَّة، أو أن تستطيع أن تُنظِّم دعايتها لنفسها بنفسها. وبالتالي، لن تكون هنالك انتخابات ذات معنى، ولا حكومة منتخبة بشكل ديمقراطي نتيجة لذلك. لكن التباعد بينهما يظهر بِشَكلٍ جلي، من ناحية اُخرى، لأن الليبراليَّة لا تقتصر على حريَّة الأغلبيَّة، بل هي في الواقع تؤكد على حريَّة الفرد بأنواعها، وتحمي بذلك الأقليات، بخلاف الديمقراطيَّة، التي تعطي السلطة للشعب، الذي تمثله أصوات الأغلبيَّة. وبالتالي، يمكن أن تؤدّي أحياناً إلى اضطهاد الأقليات، وذلك في حالة غياب مبادئ ليبراليَّة مثبتة في دستور الدولة، تمنع الأغلبيَّة من اضطهاد الأقليات، وتحوِّل نظام الحكم إلى ما نصطلح عليه بالديمقراطيَّة اللاليبراليَّة.

غير أن بعض الكتـّاب المحدثين، مثل الأمريكي فريد زكريا، يحاججون بغير هذا الفهم الشرطي اللازم، لأنهم يرون أنه من الممكن وجود ليبراليَّة بدون ديمقراطيَّة كاملة، أو حتى بوجود السلطة بيد حاكم فرد، وهو النظام الذي يعرف بالأوتوقراطيَّة الليبراليَّة. رغم أن تاريخ حكم المواطن الذاتي في دول المدن اليونانيَّة يوضح ما هي الديمقراطيَّة، وماذا تفعل، وما لا تفعل، وماذا تُقَدِّمْ للناس. فقد كانت أثينا القديمة، مثل بعض دول المدن اليونانيَّة الأخرى، ديمقراطيَّة، وليست ديمقراطيَّة ليبراليَّة. إلا أن الأثينيون القدماء لم يحتضنوا مبدأ حقوق الإنسان، ولا الفصل القسري للدين عن سلطة الدولة. بينما أصبحت الليبراليَّة هي المثل الأعلى الأخلاقي للتنويريين، لأنها ولدت في عصر التنوير في القرن الثامن عشر، وتركِّز على قيمة استقلاليَّة الفرد. وتقدِّم الليبراليَّة الأسباب حول لماذا يجب اعتبار الحقوق، التي يتمتَّع بها المواطن، عالميَّة، وملازمة لكل إنسان فرد، ولماذا يجب أن تكون الدولة القسريَّة محايدة فيما يتعلَّق بالدين. فقد يكون النظام السياسي ليبرالياً ولكن ليس ديمقراطياً، كالإمبراطوريَّة النمساويَّة المجريَّة في القرن التاسع عشر، على سبيل المثال.

إن الديمقراطيَّة هي ببساطة شكل من أشكال الحكم، التي تقع فيها السلطة في أيدي الشعب، والمثال الرئيس لهذا هو التصويت والانتخابات. وهناك العديد من أنواع الديمقراطيّات؛ منها المباشرة، التي تضع عمليَّة صنع القرار في أيدي الأفراد. بينما تضع الديمقراطيَّة غير المباشرة عمليَّة صنع القرار في أيدي مسؤول منتخب. في حين أن معظم المجتمعات لديها مزيج من الديمقراطيَّة المباشرة، وغير المباشرة. إلا أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة هي، كما أسلفنا، تمثِّل شكلاً من أشكال الديمقراطيَّة، التي تؤكِّد وتحمي قدسيَّة الحريَّة الفرديَّة، وتجعل من بعض الحقوق غير قابلة للتصرّف، وهذا يعني أنها جوهريَّة للفرد، ولا يمكن نقلها، أو إلغاؤها. ويجري تحصينها وحمايتها عادة من خلال الإعلانات الدستوريَّة، أو القانونيَّة، التي تحظر التدخّل في هذه الحقوق. والفائدة، التي تُجْنَى من ذلك هي أنه لا يمكن لأغلبيَّة في السلطة قمع هذه الحقوق دون انتهاك هذه الحماية. ونعلم أن الديمقراطيات غير الليبراليَّة لا تقدم ضمانات كافين لحمايَّة وصيانة هذه الحقوق بالقدر الذي تكفله غيرها. بدلاً من ذلك، يُنظر إلى جميع الحقوق على أنها مُنحت بناءً على أريحيَّة وكرم الحكومة، وقد تخضع للإلغاء متى ما رأت السلطات الحاكمة ضرورة لذلك، الأمر الذي يمكن أن يخلق وضعاً تتعرض فيه أي أقليَّة للقمع بإرادة الأغلبيَّة.

 

الديمقراطيَّة الليبراليَّة هي، كما أسلفنا، تمثِّل شكلاً من أشكال الديمقراطيَّة، التي تؤكِّد وتحمي قدسيَّة الحريَّة الفرديَّة، وتجعل من بعض الحقوق غير قابلة للتصرّف، وهذا يعني أنها جوهريَّة للفرد، ولا يمكن نقلها، أو إلغاؤها. ويجري تحصينها وحمايتها عادة من خلال الإعلانات الدستوريَّة، أو القانونيَّة، التي تحظر التدخّل في هذه الحقوق.

إيجابيَّة الفكرة:

لندع رفض برويز مُشَرَّف جانباً، ونقول إنّ الديمقراطيَّة اليوم لا يوجد لها معارضون بشكل صريح، لأن فكرة المصطلح “الديمقراطيَّة” قد تربَّعت في خانة الإيجاب بتماسك النظريَّة وشواهد الممارسة. حتى النازيين الجدد في ألمانيا يصفون حزبهم السياسي بالديمقراطيين الوطنيين، بدلاً من الاشتراكيين الوطنيين. وقد وصف الصينيون نظامهم الاشتراكي كدولة ديمقراطيَّة. كما أن دساتير الدول ما بعد الثورة، والسياسات الخارجيَّة للقوى الكبرى، وبعثات الوكالات الدوليَّة، يتّخذون جميعهم الديمقراطيَّة هدفاً لهم. وربما يستفذنا الأمر للتساؤل عن اتّساع مدى الدعاوي الديمقراطيَّة، ولكن قد نقول: ما الغريب في ذلك؟ وما هي المشكلة إذا أصبحت الديمقراطيَّة لا يمكن تمييزها عن الليبراليَّة؟ وما الذي يُضير الحكم الذاتي الجماعي إذا تساوى مع حقوق الإنسان والحكومات المدنيَّة؟ فإذا كانت الديمقراطيَّة هي في غاية الأهميَّة، التي تستحقّ حشد الجهود والموارد الهائلة، يجب على الناس أن يُكَوِّنُوا فكرة واضحة عما هي عليه هذه الديمقراطيَّة. فقد نتج عن بعض البؤس البشري الشكّ في أن الجهود المزعومة لبناء الديمقراطيَّة، في ربع القرن الماضي على الأقل، ليست حقيقيَّة، وأن الطبقة السياسيَّة ليس لديها فكرة واضحة عن مكوّنات حزمة الديمقراطيَّة الليبراليَّة. فإذا كانت الديمقراطيَّة تستحقّ العمل من أجلها، سيبقى من المهم فهم الأساسيّات، التي تقوم عليها طرائق ممارستها والتراضي على أحكامها.

وهنا، يمكننا أن نُقدِّر أنه عندما يستخدم العلماء مصطلح الديمقراطيَّة بمعنى ضيق، يؤخذ عليه عموماً أنه يعني ببساطة “حكم الأغلبيَّة”، بدلاً من سيادة القانون. أما بالنسبة لأولئك الذين يخافون من شبح حكم “الغوغاء”، مثل جيمس ماديسون، المؤلّف الرئيس لدستور الولايات المتّحدة، فإنَّ الديمقراطيَّة دون الليبراليَّة تعني مخاطر طغيان الأغلبيَّة. وتُظْهِر الديمقراطيات اليونانيَّة القديمة أن تَخَيُّل الديمقراطيَّة بأنها ليست أكثر من حكم الأغلبيَّة هو خطأ فادح. فالديمقراطيَّة، وحتى قبل أن تكون ديمقراطيَّة ليبراليَّة، هي في الواقع أكثر من مجرّد حكم الأغلبيَّة.

فالقطع بأنّ الديمقراطيَّة هي فقط الأغلبيَّة يجيز حكم النخبة، ويعزل الشعب. وقد كان أفلاطون، مع خطّته لـ”الملوك الفلاسفة”، من المؤيدين الأوائل لهذه النخبويَّة. وأعرب عن اعتقاده أن الحكم الرشيد يتطلَّب حفظ معظم الناس بعيداً عن المشاركة الفعّالة في الحياة السياسيَّة. وكان هدف أفلاطون في تقييد الحكومة لعدد قليل هو نشر الفضيلة. وفي العصر الحديث، هناك أيضاً عدد من المنظّرين السياسيين، الذين بسطوا نفوذهم على مجالات الفكر السياسي، على سبيل المثال الراحل رونالد دوركين، الذي يحثّ على أن الناس العاديين يجب أن يبقوا بعيداً عن السياسة، وذلك باسم الدفاع عن القيم الأخلاقيَّة الليبراليَّة للحكم الذاتي، والحقوق المدنيَّة، والعدالة في التوزيع. لكن التجربة أثبتت أن حسن النيَّة، والنهج النخبوي للحكم، أمر خطير، وكذلك غير ديمقراطي، لأن الالتزام الأخلاقي ليس كافياً لتوجيه السلوك اليومي لمعظم الناس، معظم الوقت. والأخلاق الليبراليَّة وحدها لا يمكن أن تنتج نظاماً اجتماعياً مستقرّاً على أساس الخيارات الحرة للأفراد أصحاب المصلحة الذاتيَّة. فمن أجل تحقيق الاستقرار الاجتماعي، تحتاج الليبراليَّة المعاصرة إما للديمقراطيَّة، أو الاستبداد كأساس سياسي لها.

ونعتقد، مع كل الطروحات السابقة واللاحقة، أن هناك طريقتان للوصول إلى المعنى الأساس للديمقراطيَّة؛ إحداهما، هي من خلال النظر إلى المجتمع اليوناني القديم، الذي اخترع الديمقراطيَّة. بالنسبة لهم، كان ذلك يعني قوة مجموعة واسعة من المواطنين وقدرتهم على فعل الأشياء، ولتقديم وتنفيذ السياسة العامة. ولكن، لماذا يجب على المواطنين في القرن الحادي والعشرين الاهتمام بما فعله حفنة من مُلاك الرقيق اليونانيين، الذي أنكروا حقوق المشاركة السياسيَّة للنساء والمهاجرين؟ وكيف كانوا يعتقدون ما معنى الديمقراطيَّة؟ والجواب هو أننا ما زلنا نطمح إلى المفهوم الأساس للديمقراطيَّة، وتوأمها الليبراليَّة.

 

للتاريخ كلمة:

إنَّ التاريخ يذكِّرنا أنّ  كلمة “الديمقراطيَّة” نشأت في الدولة/المدينة في أثينا، في أعقاب الثورة الأثينيَّة عام 508 قبل الميلاد. في تلك الثورة، أطاح شعب أثينا زعيماً سياسياً مدعوماً من الخارج هو كليسثينز، الذي نفى خصومه، وحاول فرض حكومة قمعيَّة يعمل بها المقربون له. في أعقاب الثورة، استدعى الأثينيون المنتصرون كليسثينز من المنفى، كزعيم مفضل لديهم. وقد أدرك كليسثينز أنه لم يكن من الممكن ببساطة العودة للحكم بطريقة الطغاة والائتلافات الضيِّقة من الأرستقراطيين. وقد تقرّر أن شعب أثينا سيصبح من ذلك الوقت فصاعداً هو المؤلف الجماعي والضامن للنظام الدستوري الجديد. ومنذئذ، فإن الثورة جلبت الشعب الأثيني إلى مسرح التاريخ.

لقد ثبت أن النظام التجريبي، الذي وضعته كليسثينز في ظروف الأزمة ناجح للغاية. ومع حكومتهم الجديدة في مكانها الصحيح، ارتفع الأثينيون إلى مراقي المجد في العالم اليوناني. وشكَّل المواطنون من الطبقة العاملة المحرّرين حديثاً قوات مسلَّحة كبيرة لأثينا، وذات معنويات عالية. وصوّتوا لاستخدام المكاسب الماليَّة للأغراض العامّة، وذلك بعد أن تحرّروا من الخوف من الطغاة، الذين كانوا يصادرون أرباح مبادراتهم، واستثمر الأثينيون في مجتمعهم، فازدهرت الفنون والحرف اليدويَّة، وارتفعت عائدات الصناعة والتجارة. وانضمّت أثينا مع منافستها سبارتا لهزيمة الغزو الهائل من قبل الإمبراطوريَّة الفارسيَّة العظيمة، ثم بنت إمبراطوريَّة بحر إيجه، ونجت من حرب كارثيَّة مع سبارتا، وقادت قرنين من النمو الاقتصادي اليوناني. وبذلك ساعد صعود وحيويَّة الديمقراطيَّة الأثينيَّة الكلاسيكيَّة على وضع الأساس الثقافي للحضارة الغربيَّة.

لقد أسمى الأثينيون حكومتهم الجديدة “الديمقراطيَّة”، أو demokratia في اليونانيَّة، التي تجمع بين ديموس ‘الشعب’ وكراتوس ‘السلطة’. وبذا، فإن الديمقراطيَّة هي “سلطة الشعب” – ولكن ديموس على وجه التحديد تعنى “كل المواطنين”، وكراتوس تأتي بمعنى “القدرة على فعل الأشياء”، وليست “ديمة كراسي”، كما حاول العقيد معمر القذافي متهكماً وصفها. فأكّد الاسم الجديد الجانب المثالي والواقع العملي، على حدٍّ سواء؛ أولاً، أعلنت الكلمة أن المواطنين كمجموعة، وليس طاغية، أو عصابة صغيرة من الأرستقراطيين، يجب أن يحكموا الدولة الخاصَّة بهم: إن الناس هم السلطة العامّة الأكثر شرعيَّة. وحمل المثل الأعلى للديمقراطيَّة أيضاً أن الناس هم قادرون أخلاقياً وفكرياً على حكم أنفسهم بأنفسهم. نعم، هم غير معصومين، ولكنّهم مؤهّلون لتحقيق المصالح العامَّة بطريقة عقلانيَّة.

لقد حَكَمَ الشعب باستخدام المؤسَّسات الجديدة لحكومتهم الديمقراطيَّة لخلق وتنفيذ السياسة العامة، من دون آمر. وتداول المواطنون من جميع مناحي الحياة في مسائل السياسة بطرق تعاونيَّة، وتنافسيَّة في الوقت نفسه. فصاروا يُحَصِّلون المعلومات والمعرفة لاستنباط حلول مبتكرة للمشاكل. وأصبحت الفرصة الجيّدة لأفضل حجَّة، وليست للصوت الأعلى، في تقرير عمل اليوم. وفي الاقتراع السنوي، اختار الأثينيون 500 مواطن كأعضاء في مجلس ديمقراطي. ويتشاور أعضاء المجلس مع الخبراء، ويناقشون السياسة، ويضعون جدول أعمال الاجتماعات المتكررة للجمعيَّة المفتوحة لجميع المواطنين. فكان الاجتماع النموذجي للجمعيَّة في عصر أرسطو يتنادى إليه بين 6000 و8000 من المواطنين المؤهّلين للتصويت.

بيد أن البعض استاء من تفويض السلطة للشعب. فقد أبدى الأرستقراطيّون الساخطون غضباً كبيراً من فقدانهم الاحتكار السياسي، وسخروا من الحكومة الجديدة واتّهموها بهيمنة أغلبيَّة المصلحة الذاتيَّة على الأقليَّة المرفّهة والمتعلّمين. وتساءلوا كيف يمكن للرجال العاديّين من المزارعين، والخزافين، وتجار التجزئة، وشركات صناعة الأحذيَّة، أن يعرفوا شيئاً عن الشؤون الهامة للدولة؟ وكيف أنهم لا يختلفون عن العبيد الذين يعملون بجد في مزارع الإقطاعيين؟ فبالنسبة للأرستقراطيين الغاضبين، أصبحت كلمة الشعب تعني مصطلحاً للتحقير، وتقتصر على أولئك المواطنين، الذين اضطروا إلى العمل من أجل لقمة العيش. وبالنسبة للرافضين، فإنهم اعتبروا أن الغالبيَّة من الطبقة العاملة قد اغتصبوا السلطة بطريقة غير شرعيَّة من “الأقليَّة المميزة”، أولئك الرجال الذين يعتقد أنهم يجب أن يحكموا بناءً على عِظَم الثروة والتعليم والوراثة. وإلى جانب رفضهم للديمقراطيَّة، ابتدع الأرستقراطيّون اليونانيّون قصَّة خياليَّة تعني حقاً “طغيان الأغلبيَّة التي ينعدم فيه القانون”. وبالمقارنة مع الكلمات اليونانيَّة الأخرى، التي تشير إلى الحكم؛ مثل، الأرستقراطيَّة، الأوليغارشيَّة، الملكيَّة، وما إلى ذلك، يبدو جلياً أن كلمة “الديمقراطيَّة”، في الواقع، وأول ما ظهرت كانت مصطلحاً إيجابياً، وتستخدم في الأصل من قبل أولئك الذين تبنّوا الدولة باعتبارها ملكاً مشتركاً لجميع المواطنين.

لقد شمل الشعب، بالنسبة للديمقراطيين الأثينيين، كل من يمكن تصوره أن يكون قادراً على ممارسة السلطة السياسيَّة بنشاط داخل حدود إقليم الدولة. إن الخيال الثقافي اليوناني القديم حول من “الذي يمكن أن يكون المواطن” المتميز في الدولة “هو الحر، والشاب فوق سن 18 عاماً، من الذكور، الذين هم إما أصليون بالميلاد، أو الذين ثبت ولاءهم للدولة”. ففي المنظور التاريخي، كان خيالهم توسعياً، لأنه شمل جميع المواطنين الذكور، دون الممتلكات، أو المؤهّل العلمي. وظلّ مستوى المواطنة عند الأثيني القديم شاملاً، ولا مثيل له حتى عصر الثورة الصناعيَّة في القرن الثامن عشر على الأقل.

وشهدت نهاية القرن الخامس قبل الميلاد التغيير الدستوري الأكثر أهميَّة في تاريخ الديمقراطيَّة الأثينيَّة. إذ اعتمدت قواعد جديدة من قبل مواطني أثينا في أعقاب فترة مؤلمة من الحرب الخارجيَّة والطاعون والحرب الأهليَّة، أوضحت العلاقة بين مراسيم السياسات والمبادئ الأساسيَّة للقانون الدستوري. وقد جعلت القواعد الجديدة المراسيم الصادرة في جمعيَّة المواطنين عرضة للطعن القانوني. في حين أن المراجعة القانونيَّة يمكنها أن تُبطل أي قرار. هذا الاختيار لقوة الديمقراطيَّة المباشرة ساعد على استقرار المجتمع الأثيني بعد الحرب الأهليَّة، من خلال ضمان أن الأغنياء والفقراء، على حدٍّ سواء، أعدوا التأكيد على التزامهم بتقاسم مجتمعهم. وكانت القواعد الجديدة بمثابة صقل للديمقراطيَّة، وليس الدوران 180 درجة من استبداد الأغلبيَّة لحكم القانون الدستوري. فكان الأثينيون في الواقع قد وضعوا حدوداً على قوّة الجمعيَّة في بداية العهد الديمقراطي، بخاصّة ما يتعلّق منها بممارسة النبذ خارج المجتمع.

إنّ القاعدة التي تحكم ممارسة النبذ، أو الطرد، تقدِّم ​​مثالاً معبراً عن إجراءات الحدّ من سلطة الجمعيَّة التشريعيَّة، وهو الحدّ الذي كان ديمقراطياً، ولكنه ليس ليبرالياً. ففي كل عام، عند اجتماع الجمعيَّة، يصوّت الأثينيون على ما إذا كان من الصواب الاحتفاظ بحقّ النبذ، أم لا. فعادة كانوا يصوتون بـ”لا”، وحدث هذا في خمسة عشر مناسبة معروفة. ولكن عندما صوّتوا مرّة بـ”نعم”، عقدوا اجتماعاً ثانياً، في الساحة العامَّة، حيث جلب كل مواطن جزءا من الفخار (ostrakon)، الذي ينبغي أن يكتب عليه هو، أو صديق له يعرف القراءة والكتابة، ويخدش اسم الرجل، والذي يعتقد أنه يستحقّ أن يُنفي من أثينا لمدة 10 سنوات. وهكذا يُطرد، أو يُنْبَذ، الفائز بالنصيب الوافر من “الخدوش” في هذه المسابقة الشعبيَّة، التي لم تكن فيها محاكمة، ولا حقّ الاستئناف.

وما من شك في أن فكرة النبذ تلك شوَّهت ​​الحقوق الفرديَّة، التي من شأنها أن تأتي لتكون نواة لليبراليَّة. ولكنها كانت بالتأكيد ديمقراطيَّة، وحدد الأثينيون نطاقها وضيّقوه بدقَّة، بأن لا يتعدَّى المرَّة الواحدة كل عام. وجعلوا عقد التصويت، الذي يُطرد فيه فرد فقط في الاجتماع الثاني. ومع قانون النبذ، قَلَّصَ الأثينيون دستورياً سلطتهم التشريعيَّة الخاصَّة في أعقاب ثورتهم الديمقراطيَّة مباشرة. وقنَّنت الإصلاحات القانونيَّة اللاحقة، ومدَّدت مبدأ التقييد التشريعي، الذي كان موجوداً منذ البداية. وتعتبر هذه نقطة مهمَّة، لأن الكثير من الناس اليوم يفترضون أنَّ الحدّ من سلطة الحكومة هو إجراء حديث، وابتكار ليبرالي واضح. إنه لم يكن كذلك، والديمقراطيَّة غير الليبراليَّة يمكن أن تفرض قيوداً على نفسها. ويمكن للمواطنين الديمقراطيين أن يختاروا سيادة القانون كمبدأ دستوري، وأنه يمكنهم أن يفعلوا ذلك دون الاستناد إلى فكرة الأسطورة القائلة إنَّ القوانين هي التي تفعل وتحكم. فالديمقراطيَّة لا يلزم أن تكون حطام قطار الأكثريَّة.

الديمقراطيَّة غير الليبراليَّة يمكن أن تفرض قيوداً على نفسها. ويمكن للمواطنين الديمقراطيين أن يختاروا سيادة القانون كمبدأ دستوري، وأنه يمكنهم أن يفعلوا ذلك دون الاستناد إلى فكرة الأسطورة القائلة إنَّ القوانين هي التي تفعل وتحكم. فالديمقراطيَّة لا يلزم أن تكون حطام قطار الأكثريَّة.

سؤال الجوهر:

إنَّ الديمقراطيَّة اليونانيَّة القديمة الناضجة تألَّفت من حكم ذاتي جماعي محدود بواسطة المواطنين. ولكن، عن أيّ أنموذج للديمقراطيَّة نبحث؟ وهذا هو السؤال الأساس، الذي لا يزال يمثِّل جوهر الحديث حول الديمقراطيَّة اليوم، والذي يمكن الإجابة عليه فلسفياً يتعلَّق بتصوّر عدد كبير من المواطنين في العصر الحديث، الذين يقطنون منطقة محدَّدة، تعارف الناس عليها بتجربة “ديموبوليس” كمنطقة مُتَخَيَّلَة للديمقراطيَّة، التي ينبغي قبل فحصها أن نضع في الاعتبار أنَّ سكانها يضمون بينهم مجموعات متنوعة من الأغنياء والفقراء، وأتوا من خلفيات عرقيَّة مختلفة؛ بعضهم ليبراليون، والبعض الآخر تحرّريون، وجمهوريون ومتدينون من مختلف المذاهب والديانات. ويهتم شعب ديموبوليس بالطرق المعتادة لحياة الناس، ولا تختلف طبيعتهم في التعاون مع الآخرين عن غيرهم، ويقدِّرون مصلحة الغير. ولكنهم يتوافقون على ثلاثة أمور: يريدون إقامة دولة، التي هي: 1) مستقرَّة وآمنة، 2) مزدهرة بما فيه الكفاية للمنافسة مع الدول الأخرى، و3) غير مستبدَّة ولا تُحكم من قبل شخص قوي، أو ائتلاف إقصائي. ويمكن لشعب ديموبوليس إنشاء قواعد دستوريَّة جديدة لدولتهم، ولكن، إذا أُرِيد للنظام الجديد أن ينجح، يجب الحدّ من تلك القواعد، وقصرها على المستوى، الذي يمكن أن يدعمه السكّان المتنوّعون بهمَّة ونشاط كبير.

إن كُتَّاب الدستور في ديموبوليس لم يفترضوا أنهم يقومون بإعداد النظام، الذي سيكون عالمياً، والأفضل لجميع الناس في كل مكان. بدلاً من ذلك، كانوا يسعون لحكومة من شأنها أن تسمح لشعبهم الحصول على الأهداف الثلاثة للأمن والرخاء وعدم الطغيان. إنهم كانوا يعلمون بأنهم سوف يدفعون بعض التكاليف في شكل الوقت والضرائب للعيش من دون رئيس، لكنهم لم ينووا تكريس حياتهم كلها للحكم. إن الكُتَّاب الافتراضيين لدستور ديموبوليس أصبحوا مسؤولين جماعياً عن صنع قواعد معقولة ومستدامة لأنفسهم وللأجيال المقبلة. وآمنوا بأنه يجب أن تُمكن هذه القواعد المواطنين وأبنائهم بشكل جماعي لفرض، وعند الضرورة، تغيير تلك القواعد الذاتيَّة نفسها. ويجب على المواطنين، بالتالي، أن يكونوا مستعدين وقادرين على الانخراط في العمل المشترك، كوكلاء جماعيين.

ومن أجل تحقيق أهدافهم الثلاثة، يحتاج شعب ديموبوليس إلى وضع قواعد أساسيَّة للعمل. تتطلَّب القاعدة الأولى المشاركة في صنع وتنفيذ القواعد المشتركة. ويعني شرط المشاركة أن جميع الأشخاص، الذين يمكن تصوّرهم ثقافياً كمواطنين محتملين، هم مواطنون بالفعل. لأن هذه هي الحداثة، التي تشمل جميع الرجال والنساء البالغين الأصليين، وعلى الأقل بعض الأجانب المجنسين. ويعني حكم المشاركة أيضاً أن الجميع يتقاسمون تكاليف الحكومة. وعلى جميع المواطنين واجب المساعدة في خلق وفرض القواعد المتّفق عليها. ولديهم واجب مقابل لمعاقبة كل من فشل في واجبه تجاه المشاركة. وحكم المشاركة ضروري للحدّ من الانتفاع المجاني من السلطة المتأتيَّة عن هذه المشاركة. وكل مواطن، بقدر ما هو مدرك للمصلحة الذاتيَّة، يمكنه اختيار الاستمتاع بخيرات الأمن والرخاء وعدم الطغيان، دون المساهمة في جهود الحفاظ عليها. ولكن الدولة لن تبق طويلاً آمنة وفي حالة رخاء إذا تواكل كل الباحثين عن المشاركة بالانتفاع المجاني والتهرُّب من المسؤوليَّة.

وتتعلَّق القاعدة الثانية بالإجابة على السؤال: كيف سيتمّ اتّخاذ القرارات في الدولة؟ إذ إن اختيار المنهج المفضي لغير الاستبداد، يعني أنه لا يوجد فصيل محدّدة من الشعب يمكنه الحكم شرعياً، كمستبدّ جماعي، على بقيَّة الشعب. فالمشاركة، بالإضافة إلى منع الاستبداد، تعني أن كل مواطن يجب أن يكون له صوت على قدم المساواة، وتكافؤ فرصه للمشاركة في صنع التشريعات، وأخذ حقّه في كل ما يتمّ إنشاؤه من أدوار سياسيَّة أخرى في سياق وضع القواعد. وعلاوة على ذلك، يجب أن تهدف السياسة التشريعيَّة، ليس فقط في خلق عمليَّة غير مستبدّة، ولكن أيضاً في التحيّز للكفاءة. وإذا ما أرادت السياسة تحقيق غاية الأمن في بيئة خطرة وقابلة للتغيير، فإن القرارات الحاكمة، التي اتخذت من قبل المواطنين، يجب أن تكون أفضل من عمليَّة الاختيارات العشوائيَّة. ولاتخاذ قرارات أفضل، تتطلب من المواطنين أيضاً حريَّة الفكر والتعبير والتجمع.

وتضع القاعدة الثالثة حدوداً للسلطة الجماعيَّة التشريعيَّة، التي يجب أن تُقَيِد عمليَّة صنع السياسة فيها القدرة الجماعيَّة للمواطنين، وذلك بخلق قواعد لا تهدد المساواة الوظيفيَّة، أو حريَّة المواطنين. كما أن هناك حاجة إلى حمايَّة قويَّة، لأن الحريَّة السياسيَّة والمساواة المدنيَّة ضروريَّة لتأمين المقاصد الأساسيَّة، التي تقوم عليها الدولة، ولأن المواطنين تواضعوا على أنهم يريدون دولة آمنة ومزدهرة وغير مستبدة. فالمواطنون – كما المشرعين – يعترفون بأن عليهم أن لا يخلقوا أي حكم من شأنه أن يجعل الدولة غير آمنة، وفقيرة، أو استبداديَّة. وباختصار، يجب أن تلبي قواعد الحكم المعيار الدستوري: فالحكم الذي ينهي عن التشريعات، التي تهدِّد الغايات الثلاثة للأمن والرخاء وعدم الطغيان، يجب أن يكون راسخاً قانونياً، ونافذاً فعلياً.

فالقواعد الأساسيَّة الثلاث، التي تتطلب المشاركة في صنع وتنفيذ الأحكام، ووضع الإجراءات اللازمة لاتخاذ القرارات المشتركة والفعالة، والنهي عن التشريعات، والتي من شأنها أن تهدِّد الظروف اللازمة لصنع وتنفيذ هذه القرارات، تُسفر عن أساس الحكومة المتخيّلة لديموبوليس. إن الحكومة هنا لديها ميزات أساسيَّة مماثلة لتلك التي لدى الديمقراطيَّة اليونانيَّة القديمة الفعليَّة: الحكم الذاتي الجماعي المحدود من قبل مجموعة كبيرة ومتنوّعة من المواطنين الأحرار سياسياً، الذين يشاركون معاً على قدم المساواة. إن هذه الحكومة ليست ليبراليَّة، بالمعنى المعاصر لضمان حقوق الإنسان العالميَّة، ولكنها ليست طغيان الأغلبيَّة، بل هي، في الواقع، ديمقراطيَّة.

 

 

مقاربات خاتمة:

إن ديموبوليس هي مجرَّد تجربة فكريَّة، لكن يمكن مقاربتها والقياس عليها بشكل صيغة مقبولة في العالم الحقيقي. ففي الربع الأخير من القرن الماضي، الذي شهد نهاية الحرب الباردة، وأعطى الانطباع بانتصار الديمقراطيَّة الليبراليَّة، سعى كثير من الناس لخلق حكومات الدول الجديدة، التي من شأنها أن تكون ديمقراطيَّة، أي غير مستبدّة وآمنة ومزدهرة. وتكاثف الجدل حول نهاية الاشتراكية الشيوعيَّة وطبيعة الانتقال الديمقراطي، أو “الدمقرطة”، التي نشطت دول الغرب المنتصرة في الدعوة لها، بل محاولات فرضها قسراً؛ بدءاً من دول أوربا الشرقيَّة، وأمريكا اللاتينيَّة، وآسيا، وأفريقيا، وانتهاءً وتركيزاً على دول الشرق الأوسط العربيَّة والإسلاميَّة. وجرى كل ذلك في إطار ما عُرِفَ بالموجة الثالثة للتحوّل الديمقراطي، التي يؤرِّخ لها بالانقلاب العسكري في البرتغال عام 1974، ومن بعدها اسبانيا واليونان، وامتدَّت حتى نهاية الثمانينيات من القرن الماضي.

تجدر الإشارة هنا إلى أوروبا الشرقيَّة، نالت النصيب الأوفى، فيما عُرِفَ بـ”ثورات الياسمين”، أو “الثورات الملونة”، لانعتاقها من الهيمنة الشيوعيَّة السوفيتيَّة، التي كانت تمثل دول المواجهة في المعسكر الشرقي، إبان الحرب الباردة مع الغرب. ولم يفت حينها على المنظر السياسي للانتصار الغربي صامويل هنتنغتون، أن يستعجل إصدار كتابه “الموجة الثالثة: التحوّل الديمقراطي في أواخر القرن العشرين”، في عام 1991، الذي ذاع صيته وقتها، وانتبه إليه المثقّفون العرب حديثاً بعد اشتعال انتفاضات ما سُمِيَّ بـ”الربيع العربي”، رغم أنه تُرْجِمَ إلى العربيَّة منذ العام 1993. وكانت الحوافز المعلنة للانتقال الديمقراطي في الوطن العربي، بجانب الحزم الاقتصاديَّة، هي الإصلاح السياسي، وكبح جماح الفساد، ودعم منظّمات المجتمع المدني، والإعلام الحرّ المستقل، والنقابات المهنيَّة والعماليَّة، ومبادرات التربية على المُواطنة المتساويَّة، ودعم الأحزاب السياسيَّة، وتنشيط دورات التدريب على كيفيَّة إجراء الانتخابات الحرَّة وآليّات عملها.

لقد أورثت تجارب الثورات العربيَّة الشكّ في مبدأ الانتقال الديمقراطي، والتعجّل في نشر الديمقراطيَّة، وذلك نتيجة للأحداث الدامية، التي أججتها صدامات الثورة والثورة المضادَّة، والصراع السياسي بين القوى القديمة والحديثة، والتنازع الطائفي والمذهبي، وما أفرزه من حروب أهليَّة طالت عدداً من مناطق العالم العربي. ودفع هذا الشكّ البعض إلى إعادة النّظر في مفهوم الديمقراطيَّة ونظامها السياسي. فإنهم، مثل الأثينيين القدماء الحقيقيين ومواطني ديموبوليس المتخيّلة، استهدفوا تأسيس الديمقراطيَّة، والحكم الذاتي الجماعي، ولكن لم يعتنق جميعهم الليبراليَّة. وبالنسبة لبعض الليبراليين بينهم، فإن هذا يجب أن يُنظر إليه باعتباره فشلاً أخلاقياً. فالفوضى والاستبداد، الذي غالباً ما يتبع ما كان من المفترض أن يكون نقطة تحول نحو الديمقراطيَّة، يُشير، مع ذلك، إلى فشل سياسي أكثر جوهريَّة. ويمكن أن يُعزى هذا الفشل جزئياً إلى حقيقة أن الديمقراطيَّة الأساسيَّة، دون الليبراليَّة، لم تكن أبداً على جدول أعمال السياسات الدوليَّة.

فهناك العديد من الأسباب أن الربيع العربي، وغيره من الحركات الثوريَّة الأخيرة، لم يُؤد جميعه إلى خلق دول مستقرة ومزدهرة وغير استبداديَّة، بل حدث العكس في أغلب البلدان بانهيار ما كان قائماً من استقرار سياسي وتماسك اجتماعي. ويتعثَّر السودان، بعد 11 أبريل 2019، في تكييف كُنه تجربته الثوريَّة الثالثة، التي اقتلعت نظاماً عسكرياً، مثلما فعلت التجربتين السابقتين، ولكن افترقت بعدهما أصوات القوى السياسيَّة المدنيَّة، لتمهِّد لعودة جديدة للمؤسَّسة العسكريَّة؛ كما حدث في 25 مايو 1969، و30 يونيو 1989، ولا ندري إن كان جدل الحاضر بين العسكر والمدنيين، وبين المدنيين أنفسهم، سيتمخَّض عنه طريق ثالث مُغَايِر، أم يعود بنا إلى وضع عسكري انتقالي، أو إلى ديمقراطيَّة ليبراليَّة مختلطة، وما إذا لكن الاتجاه الحديث في الخلط بين الديمقراطيَّة والليبراليَّة جعل من الصعوبة بمكان تنفيذ نظام ديمقراطي، ولكن غير ليبرالي ناجح.

لقد نُظِرَ إلى مثل هذا النظام بأنه أقل من ما يأمل فيه الديمقراطيون الليبراليون، لأنه قد لا يدعم حقوق الإنسان، وقد يفرض الالتزام الديني، وقد لا يوزّع السلع الماديَّة بالعدل المطلوب. لكن النظام الديمقراطي غير الليبرالي يمكن أن يكون مستقرّاً وليس من الضروري أن يؤول إلى حالة استبداد الأغلبيَّة. وينبغي أن يوفِّر المساواة السياسيَّة، جنباً إلى جنب، مع الحريات الأساسيَّة للمواطنين. وعندما تكون البدائل هي الاستبداد القمعي، أو الفوضى، فإن الديمقراطيَّة؛ كحكم ذاتي جماعي، هي الهدف النبيل المرتجى. فالديمقراطيَّة، إذا طُبِقَت على أصولها، يمكن أن توفِّر أساساً قوياً للنظام السياسي، وقد تؤدّي إلى ديمقراطيَّة ليبراليَّة.

لقد أورثت تجارب الثورات العربيَّة الشكّ في مبدأ الانتقال الديمقراطي، والتعجّل في نشر الديمقراطيَّة، وذلك نتيجة للأحداث الدامية، التي أججتها صدامات الثورة والثورة المضادَّة، والصراع السياسي بين القوى القديمة والحديثة، والتنازع الطائفي والمذهبي، وما أفرزه من حروب أهليَّة طالت عدداً من مناطق العالم العربي. ودفع هذا الشكّ البعض إلى إعادة النّظر في مفهوم الديمقراطيَّة ونظامها السياسي.

والمعروف أن الديمقراطيَّة الليبراليَّة قد تتَّخذ أشكالاً دستوريَّة مختلفة، لا تنتقص من جوهرها الحاكم. فقد تكون جمهوريَّة دستوريَّة؛ مثل فرنسا، وألمانيا، والهند، وآيرلندا، وإيطاليا، والولايات المتّحدة الأمريكيَّة. وقد تكون مصنّفة كملكيَّة دستوريَّة؛ مثل اليابان، وأسبانيا، وهولندا، وكندا، والمملكة المتّحدة. ومن الدول من تبنت النظام الرئاسي كخيار سياسي يميزها؛ مثل، الأرجنتين، والبرازيل، والمكسيك. فيما تقول غيرها من التصنيفات السياسيَّة إن هناك دول اعتمدت طريقاً وسطاً باختيارها للنظام شبه الرئاسي؛ مثل، فرنسا. ومنها دول اختارت النظام البرلماني؛ مثل، أستراليا، وكندا، والهند، وإيطاليا، ونيوزلندا، وبولندا، وهولندا، والمملكة المتحدة. في حين أن هناك دول أخرى؛ مثل، إسرائيل يدور حول طبيعة نظامها جدل كبير، غير أنها من حيث المبدأ فهي ديمقراطيَّة ليبراليَّة، ولكن فيها الكثير من الخصائص، التي تجعلها إثنوقراطيَّة، وغالباً شبه ثيوقراطيَّة كذلك، إذا أخذنا مبدأ يهوديَّة الدولة في الحسبان.

وبهذا الفهم العام، فإن كل من الديمقراطيَّة والليبراليَّة توفّران ميّزات للمجتمع الحديث تستحقان عليه الثناء. ولكن يجب علينا أن لا نقلِّل من حقيقة كيف أنه من الصعب الحفاظ على الحكم الذاتي الجماعي من قبل المواطنين؛ جميع المواطنين، مع حمايَّة وتعزيز الحقوق الليبراليَّة. وتتجلَّى هذه الصعوبة في القرن الحادي والعشرين في بلد مثل الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة، إذ يتشكَّل اعتقاد لدى القائمين على الأمر فيها أن البلاد تعاني من الإرهاب العالمي والمحلي، والاستقطاب السياسي، والأشكال الجديدة والقديمة من التمييز العنصري، وتعقيدات الهويَّة الجماعيَّة، وعدم المساواة الاقتصاديَّة المتنامية. لذا، فإن آفاق كل من الديمقراطيَّة والليبراليَّة، في شتَّى بلاد العالم، بما في ذلك دولنا العربيَّة والأفريقيَّة والإسلاميَّة، وفي الداخل والخارج، سوف تتحسَّن كثيراً إذا كان الناس يفهمون الفرق بينهما، ويسعون بجدّ واجتهاد للمزاوجة بين أفضلياتهما.

 

* دبلوماسي، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

أديس أبابا، إثيوبيا

السبت 15 يونيو 2019

 

جديدنا