السفر في زمن «كورونا»

image_pdf

توقفت حركة الطيران في الأشهر الثلاثة الماضية عبر العالم، وكاد السفر السريع السهل أن يكون من ذكريات الإنسان المعاصر البعيدة. ورغم المحاولات الجارية لاستئناف حركة السفر الجوي، إلا أن كل التقديرات تذهب إلى أن هذه الحركة لن تعود لوتيرتها السابقة قبل سنوات، وقد يحجم الكثيرون عن السفر نتيجة لتعقيدات الإجراءات الاحترازية التي تقتضيها مواجهة فيروس كورونا المستجد.
ماذا لو كان مفهوم السفر هو نفسه الذي سيتغير جذرياً في المدى المنظور وليس مجرد إجراءات وصيغ الرحلات الجوية؟
من المعروف أن مفهوم السفر تحول إلى معيار مركزي في عصور النهضة والتنوير، من منظور اكتشاف التنوع الإنساني وتوسيع تجربة الثقافة والخروج من ضيق الذاتية والهوية المغلقة. وقد اعتبر جان جاك روسو في كتابه الشهير «أميل» الذي خصصه لفلسفة التربية، أن للأسفار وظيفة تربوية أساسية، باعتبارها تدرب الإنسان على قيم التسامح والسلم، وتسمح له بتجاوز أنانيته لاكتشاف الإنسانية المجردة في ما وراء اختلاف الملل والأعراف، أي النفاذ إلى فكرة الإنسانية في ذاتها التي هي مقوم فكرة الحرية.
أما كانط، فقد وضع السفر مرتكزاً للقانون الكوسمبولوتي الكوني، أي حق الزيارة الممنوح للإنسان بصفته مواطناً في عالم مشترك، يتمتع فيه بحق الاستقبال والتبادل مع غيره.
مع عصور النهضة والحداثة، لم يعد السفر استكشافاً لعالم المغايرة المطلق والاختلاف النوعي الجذري على غرار آداب الرحلات الوسيطة، مثل رحلة ابن بطوطة التي أطلق عليها عنوان «تحفة النظار في غرائب الأمصار وعجائب الأسفار»، وإنما هو استكشاف لوحدة الإنسانية في تنوعها واختلاف تجاربها.
ولقد انعكس هذا التصور في اتجاهين أساسيين: اتجاه العلوم الإنسانية في دراسة وتأمل الظاهرة الإنسانية، واتجاه الآداب السردية الحديثة في التعبير عن التجربة الإنسانية.
وفي الاتجاه الأول، يكون السفر الإطار المنهجي الأساسي للبحث الميداني، وهو ما دأب عليه علماء الانتروبولوجيا الذين قلبوا رأساً على عقب أطروحة «الشعوب البدائية» من خلال الحرص على استكشاف الثقافات الأخرى في منطقها الداخلي وأنساقها المعيارية الذاتية التي ليست أقل عقلانية من المنظومات الحديثة. وإذا كان عالم الانتروبولوجيا الأشهر «كلود ليفي شتراوس» بدأ كتابه «المدارات الحزينة» بالقول «إني أكره الأسفار والرحالة»، فإنه يسرد في الكتاب المذكور مغامرة السفر إلى الغابات البرازيلية لدراسة مجتمعات تُنعت عادةً بالبدائية، وقد خلص في بحثه إلى أن المتوحش هو من يرى غيره متوحشاً.
السفر إذن بالنسبة لعالم الإنسانيات يدخل في منهج «النظر البعيد» أو «التعاطف» لاستكشاف الآخر في غيريته واختلافه بعيداً عن النظرة الاستعلائية أو الغرائبية التي طبعت «مستكشفي» العصور الاستعمارية الذين دونوا رحلاتهم.
أما الجانب السردي، فيبدو جلياً في ظاهرة الرواية الحديثة التي اتجهت منذ القرن التاسع عشر إلى تحويل السفر إلى نمط من رؤية العالم من خلال الصياغة الحدثية المتخيلة للتجربة الإنسانية. السفر هنا إبداعي مصطنع، لكنه يدخل في صلب ما سماه بول ريكور «الهوية السردية» للإنسان، أي وضعه التأويلي بصفته منخرطاً في حركة التاريخ ومنتمياً لتقليد يمارس من خلاله نمط وجوده ويجدد ويعيد إنتاج هذا النمط الوجودي الفردي والجماعي.
ما نريد أن نبينه هو أن السفر بهذا المعنى النظري والتأويلي يختلف عن ظاهرة الترحال الراهنة التي تضاعفت إلى وتيرة غير مسبوقة. لا تنحصر هذه الظاهرة في حركة السياحة الكثيفة التي ألغت البعد الاستكشافي في السفر بتحويله إلى صناعة تنميطية حيث تتطابق الفنادق والأسواق ومعالم المدن في مختلف بلدان العالم، وإنما يتعلق الأمر بنمط من الترحال مرتبط بالثورة الاتصالية المعلوماتية وبالأشكال العمرانية المرتبطة بها.
حسب الأرقام الموثوقة، يعيش حالياً 200 مليون فرد خارج بلدانهم الأصلية، ومن المتوقع أن يصل هذا العدد في منتصف القرن الحالي مليار فرد، بما يضع مفهوم الاستقرار العمراني نفسه للتساؤل.
لقد تحدث بول فيرليو عن ظاهرة «الزحف المديني» في مقابل الزحف الريفي نحو المدن، وهو يعني بهذه العبارة الانتقال من مفهوم المدينة المستقرة إلى نمط جديد من المدن المتحركة التي لا مركز لها، المنفصمة عن الأبعاد المكانية نفسها، فهي في كل موقع ولا موقع لها.
المفارقة الكبرى أن تجربة الحجز الصحي الحالية فرضت على جميع الناس البقاء في منازلهم وعدم مغادرة مدنهم، لكنهم في الواقع لجؤوا إلى مدنهم المترحلة (ولو في حدود الحركة الرقمية الافتراضية التي ربطتهم بالعالم وغيرهم)، في حين ليس الحنين إلى السفر سوى نوع من التطلع الطوبائي لتجربة إنسانية غدت في العمق مستحيلة.

*المصدر: الاتحاد.

جديدنا