التاريخ المؤدلج.. استعادة خطر الدب الروسي في المخيلة الغربيَّة

image_pdf

 

مدخل:

يظهر عند كل منعطف تاريخي، تشتدُّ فيه أزمة العقل البشري، نوع من الكُتَّاب، الذين يُساهمون فيما يمكن أن يطلق عليه “أدب الحروب الثقافيَّة”، الذي يُعلِي من قيمة الصراع الحضاري بين مكوّنات المجتمع الإنساني. فإذا استطاع الناس أن يتخطُّوا بالحكمة والعقلانيَّة طروحات “صراع الحضارات” لصمويل هنتغتون، و”نهاية التاريخ” لفرانسيس فوكوياما، وما اجتهد في تدبيجه بيرنارد لويس، وغيرهم من دعاة المبارزة الحتميَّة بين أتباع الثقافات والديانات المختلفة، بالمنطق والحكمة والرشد العقلاني فيما مضى، إلا أنَّنا في حاجة دائمة لانتباه ووعي تحصيني؛ سياسي وثقافي واجتماعي، نستطيع أن نخلق من خلاله حال من التعايش، الذي تتآلف فيه الثقافات المتعدِّدة، سعياً لتطوير الحضارة الإنسانيَّة الواحدة. إذ إنَّنا نشهد، للأسف، بين كل فينةٍ وأخرى، موجة جديدة من كتابات الأقلام، التي مَجَّدَت الحرب الباردة، وتدعو الآن لاستعادتها، وكأنّ العالم لا يستطيع أن يعيش دون توتُّر تنفعل بأيديولوجيّته القوى الكبرى في الغرب والشرق.

ومثلما يحدث في كل مرة تحتدم فيها الآراء، توضح المناقشات الجارية بين المؤرّخين الآن أنهم يتوقَّعون؛ كخيار منهجي، أن تكون أوصاف الأشخاص والأحداث الماضية، وشرح الموضوعات التاريخيَّة، والتفسيرات الوراثيَّة للتغيّرات التاريخيَّة عادلة، وليست مضلّلة. إلا أنه في بعض الأحيان تكون روايات الماضي غير النزيهة مُعَبِّرَة عن تحيُّز المؤرِّخين أنفسهم، وتفضيلهم لموضوعات بعينها على حساب الأخرى، لأن ذلك يتوافق مع اهتماماتهم. لهذا، من المفيد التمييز بين التاريخ، الذي يضلِّل عن طريق الصدفة، عن ذلك الناتج عن التحيُّز الشخصي؛ وتمييز التحيُّز الشخصي عن التحيُّز الثقافي، والنسبيَّة الثقافيَّة العامَّة، أو الموقف الأيديولوجي، الذي يَتَقَصَّد خدمة غرض يعانق المصالح الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة للمؤرِّخ، أو ما يُمكن أن نصطلح على تسميته بـ”التاريخ المؤدلج”.

 

من المفيد التمييز بين التاريخ، الذي يضلِّل عن طريق الصدفة، عن ذلك الناتج عن التحيُّز الشخصي؛ وتمييز التحيُّز الشخصي عن التحيُّز الثقافي، والنسبيَّة الثقافيَّة العامَّة، أو الموقف الأيديولوجي، الذي يَتَقَصَّد خدمة غرض يعانق المصالح الثقافيَّة والاجتماعيَّة والسياسيَّة للمؤرِّخ، أو ما يُمكن أن نصطلح على تسميته بـ”التاريخ المؤدلج”.

في المنهج:

إنَّ أحد أهم الشواغل عند قراءة كتاب لمؤرِّخ مؤدلج هو تحديد مدى موثوقيّته في تناوله لكل القضايا، التي قُدِّرَ له أن يكتب فيها، وأي المصادر اعتمدها لتضمين معلوماتها في سرده لقصَّة التاريخ. فدروس المناهج علَّمتنا أنه يمكن أن تكون المصادر الأوليَّة احتياليَّة، أو غير دقيقة، أو منحازة، مثل العبارة التقليديَّة؛ “قد تأكَّد له”، التي تجري بها أقلام بعض المؤرِّخين، فهي حقيقة أحاديَّة، لا تسلم منها المصادر الثانويَّة. ومثلما تكون حسابات شهود العيان مشوَّهة عن عمد من أجل تجنّب إلقاء اللوم على شخص معين فرد، أو مجموعة، من دون أن تنوي التضليل، قد تكون الأحكام الصادرة في المؤرِّخ غير صحيحة. وكلما اقتربت مواقف المؤرِّخ من حدث ما، زادت مشاركته عاطفياً فيه، وتشوّه هذه المشاركة فهمه له. ومع ذلك، بمجرَّد أن تبدأ رؤيته المحدَّدة بالتدفّق، تصبح أقل اتِّساقاً مع الممارسة التاريخيَّة المعتادة.

لهذا، تحاول هذه المقالة إيضاح ما هي وصفات التحليل والتفسير والتحيُّز في الكتابة عن بعض فصول التاريخ الحديث، التي ارتبطت بحقبة الحرب الباردة، من أجل توضيح أثر الأيديولوجيا، التي يمكن أن تكون متحيِّزة بطبيعة التمييز المختزن فيها فيما مضى، أو الموقف الأيديولوجي، الذي يتعمَّد إحياءها. وفي هذا شرح وتوضيح لكيف أنَّ التحيُّز يمكن أن يكون أمراً مؤسفاً إذا تجاوز الرصد والتقرير إلى الدعوة النشطة لإذكاء روح الصراع، خاصَّة بعد أن لاحظ أولئك الذين يعتبرون أنه كان أكثر، أو أقل حتميَّة، انقضت بزمانها، وضرورة أن يتَّجه التفكير إلى كيفيَّة تجنّبها بالابتعاد عن التحيُّز الشخصي في الحديث بشأنها، والالتزام بمعايير الاستقصاء العقلاني المهمّ والعادل.

إنَّ البعض قد يعتقدون أنَّ المعايير المنطقيَّة للتحقيق والاستقصاء المنهجي لن تكون كافية لتجنُّب التحيُّز إذا كانت الأدلَّة المتاحة للمؤرِّخ متحيزة في حدِّ ذاتها، أو أنَّ المؤرِّخ مُخَيَّرٌ في انتقاء بياناته وبراهينه. وفي الواقع، غالباً ما يسمح المؤرّخون بالتحيُّز في اصطفاء الأدلة، واختيار ما يتوافق منها مع تحيّزاتهم عند إعادة بناء ما حدث في الماضي، حتى لو اجتهدوا في تجنّبها، لأنه، وحتى وهم يفسّرون ذلك لقرائهم ستتبدَّى هذه التحيُّزات. إذ إنَّه على الرغم من أنه يمكن تجنّب التحيُّز الشخصي إلى حدٍّ كبير، فإنَّ التحيُّز الثقافي ليس من السهل اكتشافه، أو تصحيحه. كما أنَّ التحيُّز السياسي والاجتماعي “الأيديولوجي” لا يمكن معالجته، خاصَّة إذا كان يهدفُ للإثارة، ويُرَوِّجُ للتحريض، ويدعو لاستدامة الصراع بِحججٍ مُتَوهَّمَة عبرها التاريخ الإنساني بعد تضحيات جِسام.

 

نموذج الأدلجة:

بفحص الكثير من التآليف التاريخيَّة الحديثة، نجد أنه لا يوجد نموذج أكثر تمثيلاً لعمق التحيُّز الأيديولوجي من كتاب “الطريق إلى اللاحريَّة: روسيا، أوروبا، أمريكا – The Road to Unfreedom: Russia, Europe, America”، أو بترجمة أخرى “الطريق إلى الحتميَّة”، تأليف المؤرخ الأمريكي تيموثي شنايدر، الذي أصدرته مكتبة تيم دوجان عام 2018. إنَّ هذا الكتاب سيحتل، هو الآخر بلا شك، مكانة متقدّمة في قائمة المراجع البارزة لهذه الفئة من الكتب الداعية لاستمرار روح الحرب الباردة بين الشرق والغرب. إذ يتميَّز كتاب شنايدر بجميع السمات الرئيسيَّة لهذا النوع، الذي يبتدع الحقائق تأكيداً للتحيُّز، ولا ينفي شبهة الغرض عن نفسه. إذ إنَّه مليء بتأكيدات واسعة، ولكن غير مثبتة لحضور حالة الصراع في المسرح العالمي. فهو مزيج غريب ومركَّب من سعة الاطّلاع على الحقائق والتحامل الفاضح في تفسيرها، والتحليل الذي يبدو ثاقباً حيناً؛ جنباً إلى جنب مع عدم وجود معايير أساسيَّة للمنهجيَّة العلميَّة، أو تحرِّي الدقَّة في اتباعها.

يقول ريتشارد ساكوا، أستاذ السياسة الروسيَّة والأوروبيَّة بجامعة كنت، وزميل مشارك في برنامج روسيا وأوراسيا في تشاتام هاوس، وزميل أكاديميَّة العلوم الاجتماعيَّة، إنَّ شنايدر يضع تبايناً محفّزاً محتملاً يدين ما يسميه “سياسة الحتميَّة”، بمعنى أنّ “المستقبل ما هو إلا الحاضر”، حيث تُعرف قوانين التقدُّم ولا توجد بدائل مقترحة لنفاد أمرها. فإذا عَرِفْنَا أن اهتمامات ساكوا البحثيَّة الرئيسيَّة تتمثَّل في السياسة الروسيَّة المحلّيَّة والدوليَّة، والعلاقات الدوليَّة الأوروبيَّة، والديمقراطيَّة المقارنة، نستطيع أن نقبل باطمئنان حكمه هذا. فللرجل باع في الدراسات الروسيَّة لا يُدانيه شنايدر، ومن بين الكتب الحديثة، التي ألَّفها، كتاب “روسيا العاقلة: أزمة النظام العالمي في فترة ما بعد الحرب الباردة، وأزمة الديمقراطيَّة الروسيَّة: الدولة المزدوجة، الفصاليَّة، وخلافة ميدفيديف”، الصادر عن مطبعة جامعة كامبريدج، عام 2011، وكتاب “بوتين والأوليغارك: خودوركوفسكي ومسألة يوكوس”، عن مطبعة يوريس، عام 2014.

إنَّ ما يقول به شنايدر هو ما تُعَرِّفُهُ اللغة الماركسيَّة، أو الهيغليَّة، بالتاريخانيَّة، أي هو الاعتقاد بأنَّ معنى التاريخ والغرض منه معروفان، وبالتالي يمكن إدارتهما بسهولة ويسر، وإن تداخلت في ذلك كل شبهات التحيُّز، وتزاحمت موبقات الغرض. وعند قراءة شنايدر، لن يكون لدى المرء أدنى شكّ على افتقاره لوجود دليل على اطّلاعه على أي أدبيَّات جادَّة ومثيرة للاهتمام حول هذا الموضوع، إذ احتفى فقط ببعض التحليلات البدائيَّة على طول خطوط افتراضات فرانسيس فوكوياما حول نهاية التاريخ. فقد فتح انهيار الأنظمة الشيوعيَّة في أوروبا الشرقيَّة، منذ أواخر الثمانينات من القرن الماضي، الباب أمام ما بدا أنَّه انتصار للديمقراطيَّة الرأسماليَّة، لكن هذا المشروع واجه الكثير من الانتكاسات الآن، التي أقَرَّ بها فوكوياما قبل غيره، كمُتْعَلِّق خاصّ بالديمقراطيَّة الغربيَّة ذاتها، إلا أن شنايدر، من جهته، لا يعزوها إلى تناقضات الديمقراطيَّة الليبراليَّة، بل إلى جهة خارجيَّة، والتي غالباً ما تكون روسيا.

 

إنَّ ما يقول به شنايدر هو ما تُعَرِّفُهُ اللغة الماركسيَّة، أو الهيغليَّة، بالتاريخانيَّة، أي هو الاعتقاد بأنَّ معنى التاريخ والغرض منه معروفان، وبالتالي يمكن إدارتهما بسهولة ويسر، وإن تداخلت في ذلك كل شبهات التحيُّز، وتزاحمت موبقات الغرض.

الإيذاء والتضحية:

إنَّ “انهيار سياسة الحتميَّة” يفتح الباب أمام تصوّر آخر للزمن التاريخي، وهو ما يسمّيه شنايدر “سياسة الخلود”، أو “الأبديَّة”. فإذا كانت “الحتميَّة” تنطوي على مستقبل أفضل، في عُرف بعض المؤرّخين، سنجد أن “الأبديَّة”، التي يُرَوِّج لها شنايدر، تضع أمَّة واحدة في قلب قصَّة دوريَّة عن الإيذاء والضحيَّة. إنَّه يقول “لم يكن الوقت خطّاً في المستقبل، بل دائرة تُعيد إلى ما لا نهاية تهديدات الماضي”. وهنا، يتعيَّن على المرء أن يكون عبقرياً للتعرُّف على أي أمَّة يدرسها شنايدر، إذا تأمَّلنا هذا التعريف المصمَّم خصيصاً لروسيا. ووفقاً لشنايدر، فإنَّ روسيا هي، التي تحبسها دائرة دائمة من الخلود، وتعتني بمظالمها، بل تتعلَّل بالأزمات المصطنعة، لتكون قادرة على التلاعب بالمشاعر الناتجة عن ذلك. وتقوم روسيا بتصدير سياساتها الأبديَّة الخبيثة، وكأنَّ روسيا ليست لديها مظالم ومشاكل لم تحلّ في تاريخها القديم والحديث. لكن شنايدر يكتب وكأنَّه لا توجد دولة أخرى تنازع الدبّ الروسي بياته الخالد في شتاء السياسة القطبيَّة، وكأنَّ الغرب لم يتسبَّب في كثير من هذه المضايقات، التي قادته إلى التخفِّي خلف أسطورة الخلود والخمود.

في كلا النموذجين؛ “الحتميَّة والأبديَّة”، تُترجم الحقائق إلى روايات، ويصبح التاريخ مجرَّد ظاهرة عرضيَّة للسرديّات الكبرى، التي يمثِّلها موضوعيّاً الفعل الإنساني عبر “الزمن”. بدلاً من ذلك، يدَّعي شنايدر أنَّ هدفه هو “استعادة الحاضر للزمن التاريخي، وبالتالي استعادة الزمن التاريخي للسياسة”. وهذا هدف جدير بالثناء، لكن ما فشل فيه شنايدر بشكلٍ مذهل، هو أنه بدلاً من التحليل التاريخي المفصّل للماضي القريب، حصلنا على قصة خياليَّة بتعليلات أخلاقيَّة من العصور الوسطى، تنبثق فيها كل أزمات زماننا الحالي من روسيا، وحتى التشكيك في هذا الافتراض التأسيسي يكشف فيه براءة الغرب، بينما الشرّ الروسي لدى شنايدر أمر بديهي، ساحق ولا يمكن تجنّبه، ويعرِّضنا جميعاً لمزيد من إيذاء بساط الريح القادم من الشرق.

إنَّ هذا الزعم الفضفاض يمثِّل أدب الحرب الباردة الخالص، وغير الخالي من أسوأ أنواع التطرُّف في المدرسة الشموليَّة. وقد أُلْبِسَ ثوب التحذير من أن ما حدث بالفعل في روسيا، يمكن أن يحدث في أوروبا وأمريكا. ومع صعود الحركات الشعبويَّة، وانتخاب دونالد جيه ترامب رئيساً للولايات المتَّحدة، واستفتاء بريكسيت، لخروج بريطانيا من الاتِّحاد الأوربي، واختيار ألكساندر بوريس دي بيفل جونسون رئيساً لوزراء المملكة المتحدة، يشعر المدافعون عن سياسات الأمر الواقع بالراحة، بزعم أن هذا يمثِّل مجرَّد وخزة حادَّة قبل عودة الحتميَّة. ومع ذلك، تظلّ وظيفة شنايدر، التي انتدب لها نفسه، هي التحذير من أنه لا يمكن أن يكون هناك عودة سهلة إلى الوضع الراهن. ويبدو أنه محقّ في ذلك، ولكن لأسباب خاطئة تماماً. فالطفرة الأخيرة في الشعوبيَّة الأوربيَّة من الأعلى، أو “تفكيك الدولة الإداريَّة” في أمريكا، التي صاغها عقل ترامب المفكر ستيف بانون، أو كما يُمارسها الليبراليّون الجدد من الأسفل في كل مكان، تُشير إلى استياء عميق من النخب المتهاونة، والسياسات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة الفاشلة.

لهذا، لن يكون لدى شنايدر أي شيء من هذا القبيل، وبقدر ما يتعلَّق الأمر به كداعية دائه صراع “أبديَّة”، فإنَّ هذه العلل ليست متجذِّرة في تناقضات النظام الاجتماعي والسياسي في فترة ما بعد الحرب الباردة. ولكن بدلاً من ذلك، بدأت في التغير بسبب وسائط التأثير والتواصل الإلكتروني، الذي لم يعد من الغرب إلى الشرق، ولكن من روسيا إلى الغرب. فـ”الأخبار المزيفة” لصالح ترامب، في انتخابات 2016، كما يزعم، هي مجرَّد شكل روسي مُضَلِّل من المعلومات المغلوطة، إذ يسعى النظام الكليبتوقراطي في روسيا إلى تصدير سياسات الحتميَّة الأبديَّة. وذلك بـ”هدم الواقعيَّة، والحفاظ على عدم المساواة، وتسريع الميول المماثلة في أوروبا والولايات المتَّحدة”، وكأن دول الغرب مجتمعة هي حقل تجارب لا يعرف مالِكُوه فكرة المقاومة.

 

حيثيات الاتِّهام:

إنَّ ما تقدَّم يُمثِّل لائحة اتِّهام مدمِّرة للغاية، تطفح بها صفحات الكتاب، لكن هل هي صحيحة؟ وللتوضيح، يمكن تقديم بعض الحيثيات في هذا الصدد؛ أولاً، يقع عمل شنايدر في نطاق الحساسيَّة الغربية عندما يتعلَّق الأمر بأوروبا الشرقيَّة، غير أنه يأخذ شكلاً متطرّفاً كلما اتَّجه به المسار إلى أوكرانيا. وهذا موقف معادٍ، وبلا هوادة لروسيا، إذ لا يكاد مصطلح “رشافوبيا” ينصف عمق الاحتقار لها، وعادة ما يتدثَّر في نهاية المطاف بثوب الصدام الحضاري بين أوروبا المتقدِّمة والمتسامحة والليبراليَّة، وروسيا المتخلِّفة والمستبدَّة والخبيثة، التي تحمل هذه الصفات الذميمة إلى الأبد.

لقد أخفى شنايدر مشاعر هذا العداء المستحكم في المصطلح شبه الفلسفي، الذي أسماه “سياسة الأبديَّة”، على الرغم من افتقاره إلى الفضول الفكري حول الجذور الأعمق للسياسة الروسيَّة، والأشكال المتعدِّدة لمثل هذه السياسة. والمعروف أنَّ هذه المشاعر تنشأ عن طريق بعض المظالم الحقيقيَّة، وتتَّخذ أشكالاً مختلفة في معظم دول الكتلة السوفيتيَّة السابقة، حيث سبق لها أن وجدت تشجيعاً من قبل السلطات النمساويَّة والهنغاريَّة، ومن قبل السادة البولنديِّين، فيما أصبح الآن يُعرف بغرب أوكرانيا. واليوم يتمّ حفز هذه المشاعر السلبيَّة من قبل عناصر غير مسؤولة في واشنطن ولندن، إلا أنَّ المأساة المعاصرة هي أن توسيع الاتِّحاد الأوروبي أدمج هذه المشاعر في التيَّار الرئيس للتفكير الأوروبي. وكان سيعد من الحكمة لو تضمَّنت معايير كوبنهاغن لعضويَّة الاتِّحاد الأوروبي نقطة رابعة: مثل، السلام والمصالحة في البلدان، التي خرجت من التجربة الشيوعيَّة.

وبدلاً من ذلك، وحتى لا تجاوز منطق النزاع والصراع، قام الاتِّحاد الأوروبي بتضخيمها، وإن كان ذلك في أشكال خفيَّة. وهذا هو السبب في الأزمة الأوكرانيَّة، التي اندلعت على وجه التحديد بسبب اتّفاق الشراكة مع الاتِّحاد الأوروبي في سياق الشراكة الشرقيَّة، والتي وضعها وزير الخارجيَّة البولندي، راديسلاف سيكورسكي، لوحده. وهكذا، فإنَّ كارثة أوكرانيا، في عامي 2013 و2014، كانت نتيجة إخفاقات سابقة، وليس مجرَّد تحرُّشات تُصَنَّف ضمن أعمال الشغب الروسيَّة. مثل هذه النظرة تجعل شنايدر وأمثاله منزعجين جداً من شِدَّة الغضب، لكن الشيء المهمّ هو أنّ القضايا، التي تستلزم المزيد من النقاشات لا يتمّ طيّها ببساطة بسرد مُرتَّب يحدِّد مسبقاً معركة الخير والشر.

والملاحظة، التي يمكن أن تكون حيثيَّة ثانية، هي أن شنايدر يتحدَّث كثيراً عن التأثير المزعوم على فلاديمير بوتين من قِبَل إيفان إيلين، أحد المفكِّرين المهاجرين الروس، الذين غادروا روسيا السوفيتيَّة في عام 1922. ففي تصوّر شنايدر، كان إيلين يحمل عقيدة فاشيَّة، ويجادل بأنَّ تفكيره شَكَّل روسيا المعاصرة. وفي كلا الجانبين، فإنَّ شنايدر، بكل بساطة، مخطئ تماماً. لقد أشاد إيلين أحياناً بالأنظمة الفاشيَّة في ثلاثينيات القرن العشرين، لكنه لم يكن الوحيد، الذي فعل ذلك. في الواقع، كان إيلين ناقداً صارخاً لجميع أشكال الاستبداد، الذي اعتبره “بلا إله”، بل تبنى فكرة وجود دولة قويَّة يحكمها القانون، وتتعرَّض فيها القوة التعسّفيَّة للمحاسبة، ويمكن ممارسة الحياة الشخصيَّة دون رقابة من الدولة. وعندما يقتبس بوتين من إيلين، فإن العناصر الموجودة في التقليد الإحصائي القانوني لبوريس تشيتشيرين، لا يتحدَّث عن السمات الاستبداديَّة.

وفوق كل ذلك، يمكن أن يكون صحيحاً تأثير إيلين بالنسبة إلى الزعيم الروسي، إذ إنَّ بوتين أشار إليه في مناسبات قليلة سابقة، وأصبحت أعماله جزءاً من المزيج الغني، الذي يمثِّل المجال العامّ الروسي اليوم. ومع ذلك، يبالغ شنايدر بشكل كبير في مستوى هذا التأثير على السياسة الروسيَّة بشكل عام. إنَّ بوتين يفعل الشيء نفسه مع الأوراسيَّة وتأثير ألكساندر دوقن، الذي لم يستطع إلا أن يحلم بالتمتُّع بحجم وعمق التأثير، والذي ينسبه إليه شنايدر. وبالتأكيد ليس هو “دماغ بوتين”، المؤثِّر والحاكم، كما جادل غير مرَّة. في الواقع، تُشير النقطة الأساسيَّة هنا هي أن شنايدر ليس لديه، على وجه التحديد، ما يقوله عن كيفيَّة صياغة السياسة في روسيا اليوم، والمناقشات، التي غالباً ما تكون جادَّة جداً، وأحياناً مريرة، والتي تتَّخذ أشكالاً بيروقراطيَّة وتقنيَّة عالية التعقيد. نعم، هناك إجماع في السياسة الخارجيَّة، لكن هذا لا يعني أنَّ أبراج الكرملين كلّها تتحدَّث بصوتٍ واحد.

ويثير شنايدر، ما يمكن أن نعتبره حيثيَّة ثالثة، الكثير عن مشكلة الخلافة في روسيا، وهنا يوضح بعض النقاط المهمَّة، التي يلحظها كل مهتمّ بالشأن الروسي. فقد حاول الاتِّحاد السوفيتي، في سنوات ما بعد ستالين، تحقيق الاستقرار بأي ثمن، لكن فترات الخلافة أثبتت أنها مؤلمة. إذ عادت المشكلة إلى الظهور في روسيا ما بعد الشيوعيَّة، لكن مع وجود فارق هائل في أن هناك آليّات دستوريَّة الآن لإدارة تغيير القيادة، إلا أنَّ المشكلة هي عدم اليقين حول ما إذا كانت هذه الإجراءات الدستوريَّة، أو الإداريَّة، أو ما هو مزيج من الاثنين معاً، تعمل بشكلٍ صحيح.

 

الخاتمة:

باختصار، تمثِّل بعض الكتابات التاريخيَّة المعاصرة تياراً غريباً للغاية، يعكس الأزمنة والأزمات الغريبة، التي تعيش فيها أوربا وأمريكا، والتي ينسبها هؤلاء الكُتَّاب لروسيا. والغريب أنَّ الأعمال، التي تسعى إلى الدفاع عن النظام الليبرالي تزعم أنه غير ليبرالي عندما يتعلَّق الأمر بفهم الآخرين، وقبل كل شيء عندما ينظر مؤلّفوها إلى روسيا. فالعقليَّة التآمريَّة تأتي مباشرة من القرن التاسع عشر، مع قصَّة أخلاقيَّة بسيطة عن الخير والشر. ولكن هذا لا علاقة له بالتاريخ، أو التحليل الواقعي، أو البحث عن الحقيقة، أو تحليل السياسات، ولكنَّه يؤدِّي فقط إلى تفاقم المشكلة، التي يدَّعون أنّها الحل. في الواقع، يبدو أنَّ فلاديسلاف سوركوف، الذي نصَّب نفسه خبيراً في طغيان ما بعد الحداثة، وأكثر من الحديث عن الديمقراطيَّة الموجهة، وتيموثي شنايدر، هما توأمان فكريان، أنبياء بعض المعرفة الغامضة، التي لا يستطيعان الوصول إليها، أو يقنعان بها غيرهما من الدارسين للتاريخ المعاصر. وكلاهما يقمع محاولات فهم السياسة الحقيقيَّة ويرفض الحوار المنطقي، بل يدعم الدعاوى الوهميَّة، التي تخمد الحقيقة في النهاية. وبدلاً من إخراجنا من مواجهة الحرب الباردة، فإنَّ كاتباً مثل شنايدر يعيدنا إلى أسوأ فترات تاريخ القرن العشرين. فبالنسبة له هذه هي سياسة الأبديَّة الحقيقيَّة، التي تنشأ عن غير قصد من هذا العمل، وفي ظنِّه أنَّ هذه طريقة معقولة تماماً لتهدئة الفكرة المتطرِّفة في دعوته.

 

الغريب أنَّ الأعمال، التي تسعى إلى الدفاع عن النظام الليبرالي تزعم أنه غير ليبرالي عندما يتعلَّق الأمر بفهم الآخرين، وقبل كل شيء عندما ينظر مؤلّفوها إلى روسيا. فالعقليَّة التآمريَّة تأتي مباشرة من القرن التاسع عشر، مع قصَّة أخلاقيَّة بسيطة عن الخير والشر.

 

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

السبت 20 سبتمبر 2019

القاهرة، جمهوريَّة مصر العربيَّة

جديدنا