أيّام الطيب صالح.. كلّنا في النهاية نسافر وحدنا (2)

image_pdf

يختار الطيب صالح مباغتة يستهلُّ بها الحديث كُلَّما لقيته، أذكر تلك المرَّة في ذات منزل الأستاذ حسن تاج السر وقد كان الحضور أكثر من المعتاد قليلاً. على مدى عامين كان ذلك المجلس يضمُّ الأساتذة الأجلاء محمد الحسن أحمد وبونا ملوال وعبد الوهاب الأفندي والصحفي الراحل حسن ساتي رحمة الله، ثم أيَّما زائر يجود به صيف لندن وقد كان ذلك الصيف مِجواداً بوجوه كريمة، أذكر منهم الأستاذ الشاعر الدكتور علي شبيكة والأستاذ السر قدور والدكتور جعفر كرار. لا أدري لماذا اختار أستاذنا الطيب صالح ذلك الاستهلال:

  • يا محبوب هل سمعت قول الحجّاج بن يوسف (اللهم أغفر لي وقد زعم أُناس أنك لن تفعل).

غلبت ضحكتي المباغتة الأستاذ وأنا اتأمَّل عناصر المفارقة المجتمعة في مقولة الحجّاج ومقدار السخرية حين أناسبها إلى حالتي من سُلالة الحجّاج المعاصرين، ثم خطر لي أن أصرفه إلى موضوع آخر:

  • كيف هي الصحَّة؟ لعلَّها بخير.
  • الحمد لله، بعد السبعين الناس دائما تسأل عن الصحَّة.
  • أقصد العصاة.
  • نعم هذه تتوكَّأ عليها الرِكبَة تحتاج لسند.

كانت تلك أول مرَّة أسمع كلمة الرِكبَة بكسر الراء وسكون الكاف والباء المفتوحة، وقبل أن أسترسل في خاطرة اللغة، واصل الأستاذ وهو يحكم القبضة على العصاة ويهزّها هزّاً خفيفاً:

  • العصاة أحياناً يقولون الصولجان.. تصلح للحكم أليس كذلك؟

لفظ عبارته الأخيرة وقد بدت منه ابتسامة ظاهرة تعلن بوضوح عن النيَّة المضمرة من السخرية، ثمَّ رأيت أن أردّ مخاطباً تلك البواعث الظاهرة والخفيَّة:

  • أرى يا أستاذنا أنَّ الحجَّاج ربما أصاب في دعائه، فالرحمة والمغفرة مثل أمور الملك والحكم موكلةٌ أقدارها إلى رب العالمين وليس لأحدٍ من العالمين. عادت الجديَّة إلى ملامح الأديب  الكبير ودخل من فوره إلى جوهر الموضوع:
  • نعم والله يا أخي.. تذكَّر أنَّني حدّثتك من عجبي لإنسان أو جماعة تستيقظ في الليل وتمسك بمقاليد الأمور عنوة وتعلن أنها تريد أن تحكم وأن تصلح.

أردت أن أحفّزه أكثر للحديث في ذات السياق:

  • أعتقد أن أغلب هؤلاء الذين يستيقظون من منامهم ليحكموا الناس، إنّما يوقظهم هاتف من غيرهم، ربما حزب أو ربما أيدلوجيا، زعيم طموح، يهمس لهم بوعود المستقبل وأحلام جنّة الأيدلوجيا أو رجاءات المشروع الحضاري، وهم في الآخر لن يعدموا خطاباً ولن تعوزهم حجَّة.

أجاب الأديب   الكبير على الفور:

  • نعم أنا كتبت ذلك عن النميري، قلت ربما لو لم يستجب لذلك النداء، كانت الأمور ستمضي به رخاءً، كان سيصبح قائداً للجيش وعندما يبلغ السن القانونيَّة يذهب إلى المعاش معزّزاً مكرّماً، لكنَّه ظنَّ أنَّه مبعوث العناية الإلهيَّة للشعب السوداني، وأنَّ أقدار الله بيده، فراح يخبط خبط عشواء مثل ثور داخل مستودع للخزف مليء بالقطع النادرة الجميلة، كنت أقول حتى الذين يقولون إنَّهم يريدون تطبيق شرع الله، كيف عرفوا أنَّ الله سبحانه وتعالى أراد أن يطبِّق شرعه في هذا الوقت بالذات وبهذه الطريقة.

في ذلك اليوم أيضاً أخذنا الحديث لزعيم آخر، السيد الصادق المهدي:

  • السيد الصادق المهدي في روايته لسيرة حياته في حلقات مطوّلة مع الصحفي اللبناني غسان شربل الذي نشر مقابلات حول حياة الزعماء الذين جمعوا بين الساسة والدين، وقد اختار شخصيَّة السيد الصادق المهدي بعد النجاح الذي قوبلت به حلقاته مع الشيخ محمد حسين فضل الله بمجلَّة الوسط. قال السيد الصادق إنَّ حياته بلاء، وأنَّه ولد في الخامس والعشرين من ديسمبر، وأنَّ عمه يحيى الذي كان في الثامنة من عمره كان يشير إلى بطن أمّه ويقول إنَّ مهاجراً سيصل يوم الأربعاء، وعندما كان يسأل من أين يصل، كان يقول مهاجر سيصل من كبكابيه، وأنّه فعلاً ولد يوم الأربعاء، وعندما حمل نبأ الميلاد إلى جدّه السيد عبد الرحمن وقد كان يقرأ في سورة إبراهيم من المصحف، فجاء طائر القمريَّة وحطَّ على رأسه، وقد نوى الإمام عبد الرحمن أن يسمّيه إبراهيم تيمّناً بالسورة، لكن أحد الزوّار أشار إليه أن يسمِّيه بأحد أسمائه وقد كان.

رأيت رواية الإمام وقد أخذت الأديب   الكبير إلى تأمُّلٍ عميق لم يلبث أن شقَّ صمته الصوت العميق مثل أمواج البحر:

  • هؤلاء الناس ولدوا في بيئة مليئة بالمثيولوجيا.

حاولت المحافظة على وتيرة العمق الذي خرج به تعليق الأستاذ:

  • كلنا ولدنا في بيئة مليئة بالميثيولوجيا، والدليل روايات الطيب صالح، أنت قلت إنَّك في عرس الزين ثمّ في بندر شاه ومريود سبقت جماعة الروائيِّين من أمريكا اللاتينيَّة أمثال غبريال ماركيز الذين تنسب إليه ابتدار وإضافة الواقعيَّة السحريَّة لعالم الرواية، فالواقعيَّة السحريَّة جذورها في البيئة التي تزخر بالميثيولوجيا.
  • نعم أنا ربما سبقت في ذلك بعقود، وأيضا قلت إنَّ الإغريقي، وربما الأوروبي المعاصر، يجد ملاحمه في الإلياذة والأُوديسا، لكني وجدت ملاحمي الأولى في جماعات المادحين لسيرة النبي (صلى الله عليه وسلم)، نحن أطفال كانوا يطوفون القرى في الشماليَّة بملابس زاهية ولكن بإيقاعات تنفذ إلى القلب، عندما يضرب المادح الطار تستشعره في قلبك، ثمَّ القصيدة المادحة التي تحكي لك المغازي والسير في ذلك المناخ المهيب.
  • وقلت أيضاً في زيارتك للحرم المكّي والحرم المدني: رحم الله حاج الماحي أراه وأسمع صوته كلما زرت هذه البقاع المباركة.
  • نعم، نعم، حاج الماحي القائل يصف بلح المدينة (أدوني تفاحتين بلح).
  • نعم أنت كتبت ذلك وذَكَّرتني بأبيات أحبّها لنزار قباني حيث يقول: وأن يكون قلب الشاعر تفَّاحة يقضمها الأطفال في الأزقَّة الشعبيَّة.
  • نزار هذا شاعر، كلما لقيني يطلب مني أن أقرأ له من شعره، يحب أن يسمع شعره بصوتي وأنا أحبّ أن أقرأ شعره.

 

 كلنا ولدنا في بيئة مليئة بالميثيولوجيا، والدليل روايات الطيب صالح، أنت قلت إنَّك في عرس الزين ثمّ في بندر شاه ومريود سبقت جماعة الروائيِّين من أمريكا اللاتينيَّة أمثال غبريال ماركيز الذين تنسب إليه ابتدار وإضافة الواقعيَّة السحريَّة لعالم الرواية، فالواقعيَّة السحريَّة جذورها في البيئة التي تزخر بالميثيولوجيا.

***

لم ألبث حتى جاءني الصوت هذه المرَّة عبر هاتف:

  • السلام عليكم، معك عمك الطيب صالح.
  • مرحباً يا أستاذنا.
  • ما زلت تسكن ناحية نوتنغ هل قيت.
  • نعم حيث كنت.
  • غداً سأنزل إلى لندن، سأذهب لجريدة الحياة، أريد أن أسجِّل اشتراكاً معهم حتى تصلني للبيت، لا أجد وقتا كثيرا لقراءة الصحف، لكنَّني مهتمّ بقراءة مقال أدونيس فهو ينشر عندهم كل إثنين. ما رأيك أن نلتقي في (بيز وتر) نفس الفندق غداً في العصر.
  • بكل سروري أستاذي أنتظرك في الثالثة هنالك.

لعلَّ الأستاذ قد سبقني بدقائق إلى الفندق كانت كافية ليعدّ لي مباغتةً جديدة:

  • هل سمعت يا المحبوب قول ابن سينا: (حرّمت الخمر على الدهماء وحلّلت لأبي الحسن – يعني نفسه-) لو عملت لنا فقهاً كهذا نعيّنك على الفور إماماً.

أخذتني المباغتة إلى الضحك قبل أن أعرف الموضوع:

  • كيف سارت الأمور في جريدة الحياة؟
  • لا.. جيدة، الجماعة استقبلوني بحفاوة وأخذوني إلى مكتب رئيس التحرير جورج سمعان وقابلت صديقكم نزار ضو النعيم، ورفضوا حتى أن أدفع قيمة الاشتراك.
  • نعم نزار صديق قريب من قديم، وله قصَّة مع اسمه في جريدة الحياة، أوَّل ما عمل في هذه الصحيفة قبل سنوات اقترح عليه الإخوة اللبنانيين أن يختصر اسمه من نزار ضو النعيم إلى نزار نعيم، ولكنه استعصم باسم أبيه كاملاً ورفض التغيير البتّة.
  • ليه يا أخي ضو النعيم اسم جميل.

ثمَّ استغرق الأستاذ في ثوانٍ من الصمت قبل أن يأخذني إلى الضحك مرَّة ثانية:

  • أنا طبعاً عندي ضو البيت.
  • هل قرأت الخبر الذي نشرته الأهرام القاهريَّة قبل أيَّام أنَّك في رحلتك الأخيرة إلى القاهرة شرعت في كتابة رواية جديدة بعنوان (جبر الدار).
  • بالله ياريت يا أخي الكلام دة كان يكون حقيقة، وقد جئنا قبل قليل على ذكر ضو البيت، وهي الجزء الأول من بندر شاه ومريود هي الجزء الثاني، وهي في تخطيطي لها مشروع ربما يأخذ أربعة أو خمسة أجزاء.

نجحت إذاً في أخذ الأستاذ إلى عمق الموضوع وأردت أن يمضي إلى الأعمق:

  • أنت يا أستاذ في حديثك عن اسم بندر شاه قلت، إنَّ بندر ترمز إلى البندر التي تعني (المدينة)، وكلمة شاه ترمز إلى (الحكم) أو (السلطة)، لأنَّ قضيَّة السودان في تقديرك هي السعي للمدنيَّة ثمَّ البحث عن صيغة لحكم أنفسنا.
  • نعم قلت ذلك، بل منذ دومة ود حامد وهي قصَّة أشار كثيرٌ من النقَّاد إلى أنَّها قصَّة سياسيَّة، قلت إنَّ المكان يسع الدومة والباخرة وطرمبة المياه. هناك مساحة للجميع، لكن حتى الذين يأخذون السلطة باسم العدالة وباسم العمَّال والفلاحين لم يفوّضوهم لذلك ولم يطلبوا منهم أن يتولّوه إنابة عنهم.

أعادتني كلمات الأديب الكبير إلى مشهد في مريود من أشدّ صور الأدب التي تفيض بالسخرية والمفارقة وتدعو إلى الضحك، لأنَّني أؤمن مع ميلان كونديرا أنَّ الفكاهة هي العمق الأعمق للرواية، وآثرت أن أستثير الأديب بكلماته:

  • أنت قلت في مريود في سؤال على لسان أحد الفلاحين: أنتم العمَّال والفلاحيِّين ديل بلدهم – وين؟! وزيادة الإنتاج دي شنو؟ وردَّ عليه الآخر: الإنتاج ياهو السجم البنعمل فيهو ده، وزيادة الإنتاج يعني تخت السجم فوق الرماد. ثم جاء التعليق من أحد الفلاحين: ما دام ونستنا دي بقوا يجيبوها في الجرايد والإذاعات، يمكن الحاصل ده خير.
  • نعم هذا الذي أدعو له، رغم أن ذلك في مجمله كان تعليقاً على مناخات كانت تسود أيَّام النميري وثورة مايو، لكنّني لا أرى أن من حقّ إنسان أن يدَّعي أنّه يمتلك الحقيقة كاملة، أنا أدعو للاعتدال والتسامح مع الآخر، وعلى المستوى الشخصي أقبل الناس على علّاتهم.

شجَّعني الاستغراق النادر من الأديب الكبير في الحديث عن أدبه أن أُبحِر معه إلى عمقٍ جديد:

  • أنت منذ عرس الزين كنت تدعو إلى شيء من ذلك، حتى إنَّ أحد النقاد وصفها بأنّها (زغرودة طويلة للحياة) ولكنّني أرى فيها دعوة للتسامح.
  • نعم هي دعوة للتسامح؛ فالذي يصلِّي والذي يغني والذي يسكر، كلهم يسعهم المكان، إذا اتَّسع الوعي باتّساع القلوب.

لم أبرح حتى بثثتُ الأديب الكبير همِّي الأكبر.

  • متى تعود لكتابة الرواية؟
  • عندي الرغبة للعودة إلى الرواية، ولكنّني كمن فقد الشهيَّة.
  • عندي رأي؛ إنَّك لن تعود إلى الكتابة، إلا إذا عدت إلى كرمكول وعشت بين الفلاحين وتحدَّثت إلى بسطاء الناس ذوي الحسّ، كما يقول صديقك جمال محمد أحمد.

صمت الأديب مليّاً، قبل أن يفاجئني بالردّ.

  • نعم ربما هذا أصوب رأي، حتى أعود إلى الكتابة، كتابة الرواية.

منذ عرس الزين كنت تدعو إلى شيء من ذلك، حتى إنَّ أحد النقاد وصفها بأنّها (زغرودة طويلة للحياة) ولكنّني أرى فيها دعوة للتسامح.

جديدنا