Site icon التنويري

أيّام الطيب صالح… كُلُّنا في النهاية نسافر وحدنا (1)

 

كُنت قبل أعوام قد كتبتُ تحت سماء الخرطوم المُرصَّع بالنجوم: (الطيب صالح كما هو شفقياً وشفيفاً كغمامة) أستعير العبارة من الفيتوري، وأستعيد ساعات قضيتها في حضرة الأديب بلندن، والآن في هذه اللحظة أرى بعينين تبصران الماوراء، وأستدعي الفيتوري ثانية (لن تُبصرنا بمآٌقٍ غير مآقينا، لن تعرفنا ما لم نجذبك فتعرفنا وتكاشفنا)، الفكرة تتجلَّى في إنسان لا يزال وهو في بشريّته يَشُعّ بإيحاءات الغمام.. السّاعة نحو التاسعة مساءً، وليل لندن يشرع في بسط ظلاله الموحشة، والطيب صالح بلحمه ودمه على أريكة مظلَّة صغيرة هيَّأت للناظرين الحافلات، وفي مدى النظر على بعد لا يتجاوز بضع أمتار، أبصرُ أعمدة الحكمة السودانيَّة الثلاثة في هذه الغربة تجسَّدوا أيضاً بشراً من لحم ودم، أعرفُ هذه الأضواء وأراها تحثُّ الخطى داخل (البالطو) الشتوي السابغ؛ لا ريب أنهم هم الأستاذ محمد الحسن أحمد والأستاذ محمود صالح عثمان والأستاذ حسن تاج السر، ولا ريب أنهم ودَّعوا الغمامة قبل قليل، ولا ريب أنَّه ألحَّ عليهم أن يواصلوا سيرهم ويتركوه وحده ينظر في أرقام الحافلات ينتظر خاصّته. انتصبت أمامي فرحة المفاجأة، ولاح أمامي همّ.. قطعاً سيفيض عليَّ إلهام الدقائق المقبلة. ولكن كيف يؤانس الغمام ريثما يصعد إلى الحافلة؟!

 

كنتُ حريصاً أن أُدرك افتتاح المعرض ولكن حبسني حابس الأرزاق. الفنَّانة صاحبة المعرض هي من بنات الأخت لشيخنا محمود صالح عثمان صالح، ثمَّ هي كريمة صديقنا القديم عثمان بابكر. وددت لو أنّني شاركت في المناسبة تحيَّة لتلك الذكرى الجميلة. صديقنا عثمان من عائلة عثمان صالح الأعرق في أمدرمان، وله بالطبع نسبٌ مؤكَّد لكيان الأنصار وحزب الأُمَّة. كان أوَّل من يشهد مناشطنا الأشق في برنامج الإخوان، يأتي أوَّل ليلة الجمعة قبل صلاة العشاء حيث تبدأ فور انصراف المصلين ما كنَّا نسمِّيه في ذلك الزمان (بالكتيبة)، وهي لم تكن تعني إلا إقامة الليل في تلاوة القرآن والصلاة. كنَّا قلَّة مستضعفة ومُضَيّقٌ عليها لأقصى حدّ بعد فشل انقلاب المقدّم حسن حسين في سبتمبر 1975م، كُنّا تلامذة في أول المرحلة الثانويَّة وكان هو في شرخ الشباب ثري ووسيم وأنيق. كُنّا نعلم أنَّ خاله الشيخ توفيق صالح عثمان صالح معتقل في ذات السجن مع الشيخ حسن الترابي والشيخ ياسين عمر الإمام والشيخ توفيق طه، لكن ذلك وحده لم يكن سبباً كافياً أن يبدي لنا كل ذلك التضامن، كان لا يقنع بتشجيعنا ولكنّه يعزم علينا حتى نكمل خمسة أجزاء من الكتاب الكريم قبل آذان الفجر.. ابتسم الأستاذ الطيب صالح وقال: (أنا كتبت عن هذه الروح المتسامحة المميَّزة لأهل أمدرمان والتي كأنما استجمعتها من كل أنحاء السودان، ثمَّ فاضت بها عليهم، لكن جماعتكم هؤلاء جماعة الخير طفقوا في حماس وهمّة يبدّدون كل ذلك) .. نجحت إذا ولو قليلا في تسلية الغمام وقد وصلت الحافلة.

 

ابتسم الأستاذ الطيب صالح وقال: (أنا كتبت عن هذه الروح المتسامحة المميَّزة لأهل أمدرمان والتي كأنما استجمعتها من كل أنحاء السودان، ثمَّ فاضت بها عليهم، لكن جماعتكم هؤلاء جماعة الخير طفقوا في حماس وهمّة يبدّدون كل ذلك).

أفقت من الحضرة والحضور وعادت شوارع لندن من جديد تعلن عن أمسياتها الموحشة، هذا شارع ويست بون قروف وعلى بعد خطوات تقاطع (كوينز وي) الذي ينتهي وشيكاً عند شارع (بيز وتر) قبالة (هايد بارك) حيث جلست للغمامة آخر مرَّة، طالعت من جديد الملصق الذي يعلن عن معرض الفنانة التشكيليَّة السودانيَّة الشابة على مدخل القاعة التي تحمل اسم (الكوفة)، والتي هي بعض امتداد لمكتبة (الساقي). أضحت الساقي معلما يرمز للثقافة العربيَّة في لندن، وهي أيضاً دار نشر للكتاب قد تكون الأشهر في العالم العربي، اللبنانيُّون لا يقنعون بالواحد ولا يرضون إلا بالكبير، أو كما غنَّت (فيروز): بيقولوا صغير بلدي.. يا صغير وكبير.. يا زغير وبالحق كبير وما بيعتدي يا بلدي. هكذا كلما جئنا على ذكر اللبنانيين والساقي- وكثيراً ما نفعل- كان الطيب صالح يذكِّرني بما كتب عن شعب لبنان وعن شعب السودان؛ إنَّه يرى روابط بين هذين الشعبين ويأسى لهما على نحوٍ خاص. فالسودان هو بلده الذي عَبّر أكثر من مرَّة أنه لا يمتنّ عليه بشيء لأنه ذرَّة من ترابه، رغم أنه لم ينل منه ما ناله أغلب مجايليه من السودانيين، لم يذهب ممنوحاً في بعثة دراسيَّة، ولم يعمل طويلاً لدى حكومة السودان، ولم يتزوَّج من سودانيَّة؛ ومع ذلك لا سبيل للمَنِّ على الوطن. أمَّا لبنان حيث نشرت أعماله الأدبيَّة أوَّل مرَّة وحيث ذاع صيته وانتشر اسمه مثل ضوء النهار في عالم العرب من عمّان إلى القيروان وفق تعبيره. يقول الطيب صالح: مبعث أساي على شعب لبنان وشعب السودان هو الناس الطيبين البسطاء في كلا البلدين الذين لا يريدون علوّاً في الأرض ولا فساداً، يكدُّون ليلا نهارا من أجل اللقمة الحلال، وهم يقدِّمونها للأبناء والأهل عن طيب نفس، هؤلاء الطيِّبون يدفعون ثمن حماقات الساسة وطموحات الكبار وصراعاتهم جميعاً في سبيل القوَّة والمجد، تطحنهم الحرب الأهليَّة كل يوم بالجوع والنزوح والأمراض والأوبئة، قليلون في هذه النخبة مثل حمد ود حليمة في (مريود) عندما دعته نفسه للمجد زجرها.

***

لسببٍ ما لا أعرفه، اعترت صديقنا الدكتور مجاهد الحسن سكينة وهدوء رغم طبع له مشهور بالحماسة المفرطة والانفعال في أيّما نقاش خاصّ إذا كان موصولا بشؤون السياسة أو شؤون الفكر. الجلوس أمام الطيب صالح يُنزل على الناس (ذوي الحسّ) كما يقول جمال محمد احمد، أمنّاً وطمأنينة، فرغم أن صديقنا الطبيب بعيد عن مجالات فنّ الرواية ونقدها فإنّه محبّ للموسيقى وموصولاً بالسياسة والفكر.. لم أفق من عمق ذلك السكون إلا بصوت الطيب صالح يفجِّر عمقا آخر بكلماته التي تمشي الهوينا:

اختار الأديب الكبير أشد الأوصاف الإنجليزيَّة قوَّة ومباشرة: ما هو الــ Heroic.. ولأسباب أخرى أعمق من أن يُدرَك كنهها، كان الطيب صالح –كذلك- في مزاج رائق ونفس متصالحة وهو يتأمَّل خلف نظارته السميكة المشهد الهادئ، وكذلك لأسباب لا أعيها واتتني اللحظة وجاءني الردّ هادئا:

أغراني الصمت الكبير والتأمُّل المهيب ورأيت طيف السكينة ثانية خلال الدخان المتصاعد، فاستأنفتُ حديثي:

أكملتُ مرافعتي والأديب الكبير لا يزال غارقاً في صمته، ثم لعلَّني أفلحت في توجيه نظره ناحية أخرى، أو لعلَّ روح الفنَّان قد غلبت على رؤى المفكِّر؛ أي غلبت الفكاهة على الصرامة كما يفعل الفنّ دائماً وفقاً لميلان كونديرا، وسمعت الصوت العميق يأتي من مكان آخر غلبت فيه المودَّة على أسئلة البطولة والمجد:

قلت: نعم هو طبيب من جماعتنا.

عندها تنهَّد الأديب الكبير وأرسل تعليقه الذي سمعت الكثيرين يَقصُّونه بعد ذلك وكان قد سارت به الركبان:

قال الأديب كل ذلك بروح الفن، وأدخلني في حالة المرح الذي تُحييه فكاهة المفارقة، وطفقت في الضحك الداخلي بلا صوت، قبل أن يوالي الأستاذ خطوات العودة الى الفكر والجديَّة:

 

 أخذنا الحكم انقلابا واستلابا بالقوَّة، لكننا أنقذنا بلداً من التمزّق، ثمَّ في بضعة أعوام أوقفنا زحف تمرّد شرس كان يريد أن يقسم البلاد، وأنَّنا طبقنا نظاماً اتّحاديّا في بلدٍ مترامي الأطراف، كانت كلمة الفيدراليَّة بمثابة (تابو) لدى آبائه الوطنيِّين المؤسّسين.

***

أعاد إليّ ذلك اللقاء الهادئ المحفوف بالسكينة ذكرى لقاء آخر مع الأديب الكبير. كانت حالة نادرة خرج فيها الأستاذ عن صمته وكأنَّه يستدعي كل ما في نفسه من شراسة، أو لعله أراد أن يصفِّي حساب له قديم مع الشيخ حسن الترابي؛ اختار الأستاذ مناسبة غداء دعانا إليه الأستاذ حسن تاج السر في فندف (كمبرلاند) ناحية (ماربيل آرش)، على شرف قدوم الأستاذ غازي سليمان إلى لندن بعد فترة اعتقال قاسية تعرَّض له، فكانت السياسة بالطبع أول طبق نضعه على نحو تلقائي قبل أن تتوافد على المائدة صنوف الطعام. همز هامزٌ في نفس الطيب صالح فتدفَّقت موجات من الهجوم، ونحن في العام الثاني أو الثالث من الألفيَّة الجديدة وقد غادر الشيخ الترابي السلطة إلى محابسه يلبث في السجن منذ بضع سنين:

يضحك الأديب الكبير ضحكة خبيئة ممزوجة بسخرية لا تخفى ويواصل هجومه الضاري:

أنا كتبت لإخواننا هؤلاء أنهم لو سألوا راعياً للإبل في سهول البطانة أو راعياً للضأن في سهول الكبابيش لقال لهم إنَّ الأمر أسهل مما تظنّون وأصعب بكثير ممَّا تظنّون.

التزمت الصمت التامّ يومي، ولم أشأ أن أردَّ هجوم الكاتب الكبير أو أجيب عليه بأي صورة من الصور، فظلَّ المسرح خالياً من مبارز آخر يقارع ضربات الأستاذ القويَّة أو خبطاته الناعمة، إلا من تعليقات أستاذنا الكبير محمد الحسن أحمد عليه رحمة الله وهو دائماً لا يخشى في الحقِّ لومة لائم:

 

قال إنَّ الطيب صالح قال له السودان في هامش الدول العربيَّة ولا يمكن أن يقود، وأنا قلتُ له أنَّ مكة كانت مستضعفة والعرب كانوا على هامش الحضارة وتغيَّروا بعد القرآن، وأنَّ الطيِّب صالح قال لي بأي حقّ أنتم اليوم تحكمون الشعب السوداني، وأنا قلت له بأي حقّ جاء الإنجليز آلاف الأميال وحكموا السودان؟

لم يتدخَّل متدخل من الحاضرين سوى ذلك، وسوى نظرات متَّصلة من الأستاذ غازي سليمان ضيف الشرف تومئ عن حرجه من الموقف وعدم رضاه، وكان ذلك كافياً لي في تلك اللحظة من ذلك اليوم. وبعد أكثر من عامين في منزل الأستاذ حسن تاج السر بعد إفطار رمضاني، بادرني الأديب الكبير وكأنَّه يعتذر عن ذلك اليوم:

ابتسم الأستاذ الطيب صالح ابتسامة كبيرة وقال بمرح:

يتبع

Exit mobile version