سوسيولوجيا الحياة المدرسيَّة: المدرسة التونسيَّة مثالا

image_pdf

تقديــــم:

عرفت المدرسة التونسية الحديثة منذ نشأتها تطوّرات وتغييرات عديدة مسَّت أهدافها الرئيسية وبرامجها وحتى القوانين المنظِّمَة لاشتغالها.

ولئن اختلفت الأحكام والتقييمات العلمية والبيداغوجية لتلك الإصلاحات والتغييرات، فإنها بقيت تفتقر إلى نظرة شمولية للمؤسسة التربوية بوصفها فضاءً مركبا يحتوي على استراتيجيات وأفعال وغايات إنسانية واجتماعية، كما يبلور عديد التناقضات الداخلية ويعقد ارتباطات مركَّبة مع سائر الأنظمة الخارجية، لاسيما العائلة والفضاء الحضري والمجتمع السياسي والمجتمع المدني.

في هذا السياق التحليلي تبدو المدرسة فضاء تتجاوز وظيفته البعد التربوي المرتبط بتلقين المعارف والعلوم ومبادئ العيش المشترك للناشئين إلى كونها مؤسَّسة اجتماعية تضطلع، كشريك أساسي للعائلة، بمهمَّة التنشئة الاجتماعية للشباب بما تحتوي عليه من أنساق اجتماعية متباينة ومن علاقات متشابكة ومن مشارب ثقافية متنوِّعة ينخرط فيها الناشئة ويتفاعل معها يوميا وتمثِّل محدِّدات أساسية لتكوين شخصيته وتوجيهها. ولذلك وجب النظر إلى هذا المعطى عند برمجة الإصلاحات التربوية، بمعنى أن مفهوم التنشئة الاجتماعية يجب أخذه في الحسبان بما هو أشمل وأوسع من مفهوم التربية بما يتضمّنه من علاقات وتفاعلات وخبرات ورموز وثقافات.

ويبدو أن علم الاجتماع هو أوَّل العلوم الإنسانية التي قدَّمت نظرة للمؤسَّسة التربوية وظَّفَت فيها هذه الأبعاد المتشابكة وذلك باشتغاله على المجتمع المدرسي والظواهر الاجتماعية المنبثقة عنه. فكيف يمكن تعريف المدرسة سوسيولوجيا؟ وماهي العلاقات التي تربط المدرسة بالناشئة من منظور سوسيولوجي؟

  1. تعريف المدرسة من منظور سوسيولوجي:

المدرسة أو المؤسَّسة التربوية في شكلها المعاصر هي أوّلا مؤسَّسة رسمية من مؤسَّسات الدولة تحتوي على نشاط معين وهو بالأساس تعليم وتدريس الناشئة العلوم والمعارف والآداب المختلفة بما يتماشى وطبيعة المجتمع وتاريخه وحضارته وكذلك بما ينسجم مع السياسة العامَّة للدولة وتوجّهاتها التنموية والإيديولوجية.

وتختلف العلوم الإنسانية والاجتماعية والتربوية في نظرتها للمدرسة باختلاف مواضيعها وأدواتها التحليلية. ويعتبر علم الاجتماع من أبرز العلوم التي عرفت ودرست الظاهرة المدرسية منذ نشأتها.

وبما أن علم الاجتماع هو علم المجتمع بصفةٍ عامَّة، فمن البديهي أن يهتمَّ بالأنساق والمؤسَّسات الاجتماعية في سيرورتها التاريخية وفي ظروف تشكّلها وتفاعلها فيما بينها، وفي ارتباطها بالمجتمع. من هذه الزاوية ينظر علم الاجتماع إلى المدرسة بما هي نسق اجتماعي مصاحب لتحوّلات سياسية واجتماعية واقتصادية عميقة.

فالمؤسَّسة التربوية الحديثة ظهرت استجابة لمتطلّبات المجتمع الصناعي الغربي الذي استوجبت عملية تشكّله وتطوّره “أنواعا من الكفاءات والمهارات التي تتقن على مستويي التصوُّر والإنجاز، المعارف والعلوم والتقنيات التي شكَّلت محرِّك تطوّر النظام الصناعي الحديث. وبذلك مثَّلت المؤسَّسة التعليمية بمختلف درجاتها استجابة لضرورات تطوُّر تقسيم العمل في هذا المجتمع الصناعي الذي أفرز نمطا اجتماعيا جديدا انتشر في أغلب مجتمعات العالم المعاصر[1].

وبذلك فإنَّ المدرسة لها دور فعَّال في تطوُّر المجتمع، وفي التحوُّلات  البنيوية والثقافية التي تطرأ عليه، علاوة على أنها في حدِّ ذاتها تعتبر مجتمعا مصغرا، ولذلك فهي ظاهرة لصيقة بالمجتمع تتأثَّر به وتؤثِّر فيه مثلما يؤكِّدهُ كبار وآباء علم الاجتماع: فهي بالنسبة لدوركايم إطار يؤدِّي وظيفة تربوية تتمثَّل في تلقين المعارف الحديثة والمحافظة على القيم الاجتماعيَّة المعبِّرة عن التماسك الاجتماعي، وهي في التحليل الماركسي جهاز إيديولوجي يستخدمه المجتمع الرأسمالي لتكريس اللامساواة الطبقيَّة بفضل خاصيّتها النخبوية، أما بالنسبة لقرامشي Gramsci  فإنها “تمكن من الحفاظ على اللغة الوطنية،”[2] بينما يعتبرها “بورديو” فضاء لإعادة إنتاج اللامساواة الاجتماعية السابق وجودها في المجتمع[3].

غير أن أحدث تصور سوسيولوجي للمدرسة هو ذلك الذي يعتبرها “مؤسَّسة اجتماعية” تتألَّف من مجموعة من العناصر وتُصاغ داخلها عمليات اجتماعية متنوّعة وتؤطِّرها مجموعة من الآليات والضوابط والمعايير، وبذلك جاز القول بأنها وحدة اجتماعية مستقلَّة وقائمة الذات، أو هي مجتمع مصغَّر مرتبط عضويا بالمجتمع الخارجي ولكنَّهُ يشتغل وفق نظم داخلية مستقلَّة.

فالمدرسة بما هي مؤسَّسة اجتماعية تضطلع بعدَّة وظائف، فهي تزوِّد المجتمع والدولة بالخبرات والكفاءات، وهي تحافظ على ثقافة المجتمع الأصيلة بنقلها وتلقينها للناشئة، وهي تعاضد العائلة في تأطير الأبناء وتربيتهم وهي بذلك مؤسَّسة أوَّلية أساسية في عملية التربية والتنشئة الاجتماعية للأطفال والشباب، وهي بصفة عامَّة “مؤسَّسة تؤدِّي وظائف شاملة خاصَّة بالاندماج والحراك الاجتماعي”[4].

 

المدرسة بما هي مؤسَّسة اجتماعية تضطلع بعدَّة وظائف، فهي تزوِّد المجتمع والدولة بالخبرات والكفاءات، وهي تحافظ على ثقافة المجتمع الأصيلة بنقلها وتلقينها للناشئة، وهي تعاضد العائلة في تأطير الأبناء وتربيتهم وهي بذلك مؤسَّسة أوَّلية أساسية في عملية التربية والتنشئة الاجتماعية للأطفال والشباب.

وهكذا فإنَّ المفهوم السوسيولوجي المركزي المرتبط والملازم للمدرسة هو مفهوم “التنشئة الاجتماعية”، وهو مفهوم أوسع من التربية وأشمل منه، وإن كانت التربية هي الوظيفة الأساسية للمدرسة حسب ما هو متعارف عليه.

فالتنشئة الاجتماعية تتضمَّن إلى جانب العمليات التربوية والتعليمية الأكاديمية، كافَّة جوانب الحياة الاجتماعية ومظاهرها، فهي عملية ديناميكية ومستمرَّة تبدأ مع الإنسان منذ ولادته وتستمرُّ معه إلى وفاته، فهي تلك ” العملية التي يتمُّ من خلالها دمج الفرد في المجتمع ودمج ثقافة المجتمع في الفرد”.[5]

وبذلك فإنَّ التنشئة الاجتماعية المدرسية تعمل على تلقين الثقافة المدرسية للناشئة. والثقافة هنا تعني ذلك التعريف الأنثروبولوجي الذي يعتبرها جملة المعارف والقيم والعادات والسلوكات والأفكار المنتشرة في فضاءٍ زمني واجتماعي معيَّن، أي بغض النظر عن طبيعتها وعن الأحكام المعيارية التي يمكن أن تصدر حولها. فثقافة المدرسة هي تلك القيم والمعايير والسلوكات الشكلية واللاشكلية الرسمية والتلقائية التي تتمظهر لدى الفاعلين الاجتماعيين أيا كانت أدوارهم وأوضاعهم. فكيف تتمُّ عملية تنشئة الأطفال والشباب داخل المدرسة، من خلال هذا التحليل السوسيولوجي للتنشئة الاجتماعية؟

  1. التنشئة الاجتماعية وظيفة أساسية للمدرسة:

لقد سبق القول في هذه المداخلة إنَّ التنشئة الاجتماعية هي عملية مجتمعية شاملة ومستمرَّة مع حياة الإنسان تهدف إلى تحقيق اندماجه الاجتماعي.

ولئن كان مفهوم الاندماج الاجتماعي مفهوم ثابت وآلي في المجتمع التقليدي؛ نظرا لمحدودية الأنساق الاجتماعية داخله وللثبات النسبي للقيم والمعايير التي يبلورها، فإن هذا المفهوم أصبحَ بفعل التحوّلات الاجتماعية والثقافية المتسارعة والعميقة، متحرّكا ومتغيِّرا بل ومضطربا أحيانا، حيث أن أصبح الفرد يواجه صعوبات حقيقية نفسية واجتماعية وأنطولوجية في تحقيق عملية تكيُّف واندماج فعّال ومتوازن داخل الأنساق الاجتماعية التي ينخرط فيها يوميا.

والمؤسَّسة التربوية هي إحدى تلك الأنساق الاجتماعية التي تستوعب أفرادا من المجتمع وتعمل على تكييفهم مع الوسط الاجتماعي الذي تمثّله، وذلك في إطار عملية التنشئة الاجتماعية التي تقوم بها. فهي إحدى مؤسَّسات المجتمع وأنساقه التي ينخرط فيها الفرد في جزءٍ كبير من حياته ويتعلَّم فيها قواعد العيش المشترك وآداب السلوك العامَّة، كما يتعرَّض إلى استبطان مجموعة من المعايير الاجتماعية التي يبلورها الأعضاء المختلفون المنتمون إلى المدرسة، وذلك في إطار نسق عام ومركب للتنشئة الاجتماعية تُمثِّل فيه المدرسة حلقة أساسية ضمن حلقات أخرى متعدِّدة ومتنوِّعة من العائلة إلى الإعلام والحياة الحضرية ومجموعات الأقران.

ويمكن اختصار نسق التنشئة الاجتماعية المدرسية في بعدين رئيسيين: الأوَّل يتعلَّق بتلقين الثقافات والعلوم ومناهج المعرفة، والثاني مرتبط باستبطان المعايير والقيم من خلال العلاقات الاجتماعية.

  • أ‌. دور التعليم المدرسي في تنشئة الشبان:

إنَّ أبرز آليات التنشئة الاجتماعية، إضافة إلى التلقين والاستبطان، هو التثقيف l’enculturation الذي يمثِّل عملية تبنِّي adoption   وتعلُّم لمجموعة من الرموز الثقافية والمعايير والقيم السلوكية في محيط اجتماعي معين. والمعرفة العلمية هي أحد أسس التثقيف، ذلك أن الأنساق المعرفية تتحوَّل في تركيبة الشخصية وفي البنى العرفائيةإلى مجموعة من الرموز التي تثري التكوين والتجربة الفردية وتتحوَّل إلى قناعات ومبادئ ومواقف ومحفِّزات للسلوك الفردي.

“وترتبط أسس ومفاهيم المعرفة بمستوى التحصيل العلمي، ولذلك فإنَّ الإنسان العارف هو الحاصل على درجة متقدِّمة من العلوم والدرايات الفكرية، وهو بالتالي مدعوّ إلى الخضوع إلى عمليَّة تعلُّم مطوَّلة، وهو ما يجعل من المعرفة ذات طبيعة نخبوية[6]“، وبذلك يتعلَّم التلميذ أساليب التفكير المنطقي والاستدلالي ويتمكَّن من المناهج الفكرية التي تصبح طرائق أساسية تطبع شخصيته ووجهات نظره، فالمعرفة هي أداة المدرسة في تنمية الحسِّ النقدي لدى الأفراد بما يمكِّنهم من اكتساب ذوات مفكِّرة ومن تطوير مواقفهم ووجهات نظرهم الخاصَّة.

كما أن المعرفة بطبيعتها العقلانية والمنطقية تؤسِّس في الفرد نزعة نحو رفض المسلّمات السائدة في الحسِّ المشترك والقطع مع الأفكار والقوالب الجاهزة وبناء أحكام فردية نابعة من قناعات شخصية.

ورغم هذه الطبيعة العقلانية والأكاديمية للمعرفة العلمية، فإنَّ عديد علماء الاجتماع يرون أنها مرتبطة ارتباطا شديدا بالمجتمع وانعكاسا لطبيعته ونظم اشتغاله. “فقورفيتش G. Gurvitch” مثلا يرى أن المعرفة إنما هي انعكاس للأطر الاجتماعية[7] .فهي مرتبطة بهذه الأطر ارتباطا شديدا، وبذلك فإن المعارف إنما هي تعبيرات اجتماعية تتدخَّل فيها المصالح والاستراتيجيات وتوجّهها، بمعنى أن كل نظام اجتماعي عبر الزمان والمكان ينتج المعرفة التي تتماشى وتتلاءم مع غاياته ومصالحه.

أما “فرانسوا ديبي” F. Dubet فلا يبتعد كثيرا عن هذا التصوّر، فهو وإن كان يسلم بأنَّ المعرفة هي أداة المؤسَّسة التعليمية في تكوين الناشئة، فإنه يرى أن هذه المعارف لا تحتوي فقط على أبعاد “تقنية” ومنهجية، وإنما تروِّج لأنساق أخلاقية وسياسية واجتماعية تريد التربية غرسها في الناشئة، حيث أن هذه المعرفة ” مرتبطة بقيم وبنوعية الفاعل والموضوع الأخلاقي والسياسي والاجتماعي الذي يريد النظام التربوي تشكيله”[8]. وبذلك فإن التعليم هو نسق اجتماعي أساسا يهدف إلى نقل القيم المجتمعية إلى الناشئة وتجذير الذات في انتماء اجتماعي ووطني ثابت.

  • ب‌. العلاقات والتفاعلات الاجتماعية المدرسية:

لقد انطلق علم الاجتماع المدرسي والتربوي مع دوركايم الذي درس الظاهرة التربوية والبيداغوجية معتبرا أنها جهاز سياسي بامتياز يهدف من خلال أدوات التلقين والثواب والعقاب إلى تحقيق انسجام الفرد مع الخيارات المجتمعية والأخلاقية والسياسية للدولة. ثم بلغ مداه مع بورديو الذي عالج مسائل الانتقائية والنخبوبة التي تطرحها المدرسة بوصفها فضاء يكرِّس اللامساواة الاجتماعية.

ثمَّ ظهرت مدارس سوسيولوجية جديدة تجاوزت هذه النظرة للمدرسة إلى الاهتمام بالحياة المدرسية في حدِّ ذاتها بماهي مجال تفاعلات اجتماعية متعدِّدة الأطراف[9]، وبماهي تجربة اجتماعية يعيشها التلاميذ.[10]

وتجد هذه المدارس جذورها في النظرية التفاعلية الرمزية ممثَّلة في عالم الاجتماع الأمريكي جورج ايربيرت ميد [11]Georges Herbert Meadالذي يقدِّم نظرية في التنشئة الاجتماعية متناقضة مع النظرية الكلاسيكية التي تعتمد على باراديقم التطويع والتي تعود إلى دوركايم وتعتبر الفرد نتاج حتمي للبنية الاجتماعية التي تهيكله وتطوّعه وفق معاييرها وشروطها بينما يرى البراديقم التفاعلي الذي أسَّسه ج. هـ. ميدأن الفرد هو نتاج التفاعلات الاجتماعية المتنوِّعة التي تمثِّل نسقا دلاليا ينخرط فيه وتكون له حرّية اختيار النماذج المعيارية والقيمية المنتشرة داخله وتبنيها.

فالفرد في النظرية التفاعلية الرمزية هو حلقة في عملية تواصلية وتفاعلية تحمل مجموعة من الدلالات، هذه التفاعلات تتمُّ في إطار مجموعة من العلاقات الاجتماعية المتنوِّعة والمعقَّدة التي يتبنَّى خلالها مجموعة من المواقف الناتجة عن الآخرين ويضيفها إلى تجربته الشخصية. هؤلاء الآخرون يسميهم ميد بـ “الآخر المعمم” l’autrui généralisé الذي يستبطنه الفرد، وهو ليس سوى تعبير رمزي عن أخلاق الجماعة المرجعية. وفي هذه السيرورة التفاعلية يسعى الفرد إلى إثراء تجربته الاجتماعية، ولكنه لا يكون في حالة تقبّلٍ سلبي مستمرّ، بل يسعى “”لفهم القوانين الجماعية ليتمكَّن من استبطانها عبر منظومة من العلاقات التفاعلية التي تنحو تارة إلى الاستجابة إلى شروط التكيّف مع الجماعة، وهي وظيفة الأنا الجمعيةLe moi، وطورا نحو التعديل الذاتي لنسق التجربة الفردية والاجتماعية وهي وظيفة الأنا الفردية le Je “.[12]

وهكذا يمكن النظر للمدرسة كمؤسَّسة اجتماعية تتشابك فيها العديد من العلاقات الاجتماعية المتنوعة وينخرط التلاميذ أطفالا وشبابا ضمن هذه الأنساق من العلاقات الاجتماعية المركَّبة التي تمثِّل مجالات متعدِّدة للتفاعل الاجتماعي بين الفاعلين الاجتماعيين.

هذه الأنساق التفاعلية الاجتماعية اليومية هي أنساق تواصلية لفظية ورمزية، وهي تتمُّ بين أطراف عديدين داخل المدرسة: بين التلاميذ أنفسهم، وبين التلاميذ والمدرسين، وبين التلاميذ والمؤطرين والإداريين… وضمن هذه العلاقات التفاعلية الرمزية تنمو شخصية التلميذ وتتطوَّر مواقفه بالتعرف إلى تجارب الآخرين واستبطان مجموعة المعايير والقيم والسلوكات الصادرة عنهم. وهكذا فإن الوسط المدرسي كفضاء علائقي يمثِّلُ نسقا مميّزا لتنشئة التلاميذ اجتماعيا. حيث يتعلَّم فيه أنماطا جديدة ومتجدِّدة من السلوكات الاجتماعية والمواقف والقيم التي يحملها آخرون مختلفون ومنتمون إلى أوساط اجتماعية وطبقات ومناطق حضرية مختلفة. فالفضاء المدرسي يستوعب التلميذ ويستقطبه منذ سن مبكّرة وطيلة سنوات عديدة من حياته وفي أوقات زمنية مطولة، ولذلك اعتبرت المدرسة معوّضا حقيقيا للحياة العائلية، حيث تحتوي على نماذج من القيم الأسرية وتختلف عنها كما وكيفا. وهي بذلك تعمل على تنشئة الأجيال اجتماعيا بما تمثّله من فضاء يحتوي على زخم من الخبرات والرموز الثقافية والمعيارية والعادات والمناهج السلوكية التي يتفاعل معها الشباب وتصبح محدّدات أساسية في تجربته الاجتماعية وتكوينه الشخصي.

إنَّ هذه الأهمية التي تكتسبها المدرسة باعتبارها فضاء تنشئة اجتماعية تجعلنا نتساءل في ظلِّ التحوّلات القيمية والأخلاقية والسلوكية  التي يشهدها المجتمع الشامل والتي انعكست مباشرة على جميع مؤسّسات المجتمع ولاسيما المؤسَّسة التربوية، حول مدى اضطلاع المؤسَّسة التربوية ونجاحها في أداء هذا الدور وهذه المهمَّة الجسيمة مع استفحال الانحراف المعياري والأخلاقي وكثافة الظواهر المخلَّة بآداب السلوك والانضباط  في الوسط المدرسي، ممّا يشير إلى انحراف واضح لنسق التنشئة الاجتماعية المدرسية ودخول المدرسة التونسية في أزمة عميقة من الناحية السلوكية والأخلاقية تضاف إلى أزماتها البنيوية والتنظيمية والبيداغوجية.

  • مظاهر الاختلالات المعيارية بالمدرسة التونسية:

عند الحديث عن أزمة المدرسة، من البديهي التعرض إلى مسألة السلوك العامّ للتلميذ التونسي وتفاعلاته اليومية داخل المؤسَّسة التربوية وفي محيطها، كما أنَّه من الضروري الانتباه إلى مسائل المواظبة والتغيُّب والتسرُّب المدرسي التي تمثِّلُ مؤشِّرات مهمَّة تدلُّ على مدى تعلُّق التلميذ التونسي بمدرسته من ناحية، وعلى مدى قدرة المدرسة التونسية على احتضان أبنائها واستيعابهم من ناحية أخرى.

نشير إذن إلى ضرورة الاهتمام بقضايا السلوك والمواظبة في المدرسة التونسية إذا كانت هناك رغبة حقيقية لإصلاح المنظومة التربوية، فهذه المسائل لا تقل أهمّية عن التعلّمات ومحتويات المواد والبنية التحتية…، فتأطير سلوك التلاميذ والحدّ من الظواهر المخلَّة بالآداب التربوية وتحسين علاقة التلاميذ بمؤسّستهم التربوية وتقليص الغيابات والتسرُّب المدرسي هي مسألة ضرورية وملحَّة لتحسين جودة التعليم والارتقاء بمعدّلات النجاح ومستوى الخريجين ونجاعة النظام التربوي.

ولتحليل الظواهر المتعلِّقة بما أسميناه بالأزمة السلوكية نتوقف عند تعداد هذه الظواهر المختلفة كالعنف المدرسي والغشّ والمسكّرات والمخدّرات علاوة على ظهور ظواهرٍ جديدة تنبئ بوصول الأزمة داخل المدارس التونسية أعلى مستوياتها ألا وهي الانتحار متعدِّد الأسباب والأوجه.

تتمظهر إذن الأزمة السلوكية داخل فضاءاتنا التربوية بشكلٍ جلي أولا في استفحال ظاهرة العنف التي أصبحت عنوانا من العناوين الرئيسية لفشل المنظومة التربوية في بلادنا لما لها من انعكاسات سلبية على السلامة المادّية والمعنوية للمحيط التربوي داخليا وخارجيا.

 

تتمظهر إذن الأزمة السلوكية داخل فضاءاتنا التربوية بشكلٍ جلي أولا في استفحال ظاهرة العنف التي أصبحت عنوانا من العناوين الرئيسية لفشل المنظومة التربوية في بلادنا لما لها من انعكاسات سلبية على السلامة المادّية والمعنوية للمحيط التربوي داخليا وخارجيا.

ويدفعنا إلى أن نسوق هذه الملاحظات المتشائمة في ظاهرها ما آلت إليه الأوضاع اليوم في الوسط المدرسي من توتّر في العلاقات التربوية إلى حدِّ الصدام العنيف بكل مظاهره.

ويمكن تعريف العنف بمعناه العامّ بأنَّه كل سلوك يصدر عن شخص أو مجموعة من الأشخاص يراد به إلحاق الأذى المادي أو المعنوي بالآخر. ويضاف إلى ذلك عندما نتحدَّث عن العنف المدرسي استهداف التجهيزات والأثاث والأدوات المختلفة بالتخريب إضافة إلى عمليات السرقة والاستيلاء على أمتعة الغير أو الأجهزة المدرسية سواء من أحد أطراف المدرسة أو من طرف الغرباء. وكل هذه المظاهر والتجلّيات لظاهرة العنف منتشرة بكل أسف في فضاءاتنا المدرسية.

وقد أجريت العديد من الدراسات حول ظاهرة العنف المدرسي وتشير إجمالي النتائج المتوصّل إليها إلى وصول هذه الظاهرة حدودها القصوى ممَّا يستدعي ضرورة اتِّخاذ التدابير اللازمة والكفيلة بمعالجتها وضرورة توخِّي مقاربة علاجية تراوح بين التشخيص الدقيق والتدخّل المباشر للتمكُّن من الإحاطة بها والحدِّ من خطورتها.

وفي هذا الصدد توصل المرصد الوطني للعنف المدرسي من خلال دراسة ميدانية أجريت على 2500 تلميذ و1400 إطار تربوي إلى أنَّه من 1 إلى   % 5 من المربّين ومن 9 إلى 13% من التلاميذ يتغيّبون عن المدرسة خوفا من العنف الذي قد يحدث داخلها أو قد حدث وبقيت آثاره مستمرة[13].

وهذا الاستنتاج فيه إحالة من ظاهرة العنف إلى ظاهرة التغيُّب والتسرُّب المدرسيين الذي يجد من ضمن أسبابه العنف الممارس داخل أسوار المدارس أو خارجها على أطراف العملية التربوية من مربِّين وتلاميذ.

كما توصَّل المرصد إلى أنَّ 77%  من حالات العنف داخل الوسط المدرسي تقع في المجال الحضري بينما في المجال القروي  تبلغ هذه النسبة 23%   ونستنتج من ذلك أنَّ العنف المدرسي  هو ظاهرة حضرية بدرجةٍ أولى مرتبطة بطبيعة الحياة الحضرية ذاتها  وبكل ما يكتنف المناطق الحضرية من تنوّع من حيث الانتماءات الثقافية والاجتماعية ممَّا يجعل مسألة الآخرية « l’altérité » تطرح بشدة بحيث يكون الشباب والمراهقون التلاميذ في علاقات تبادلية وتفاعلية مع آخرين منتمّين لأوساط اجتماعية مختلفة بما يطرح مسائل التأقلم والتعايش مع هذه الاختلافات وكيفية تقبّلها.

ذلك أنَّ العنف المدرسي في الوسط الحضري يثير مسألة قدرة المدرسة التونسية على إعداد الناشئة على قيم التسامح والتعايش وتقبُّل الآخر. وما استفحال هذه الظاهرة إلا دليل على عجز المدرسة عن الاضطلاع بهذه المهمَّة وعن تربية أفراد قادرين على التعايش السلمي والتسامح. وهنا يطرح السؤال المهمّ وهو كيف يمكن السماح بفشل المدرسة في هذا الصدد، والحال أنَّ البلاد مقبلة على مرحلة تاريخية مهمَّة يتطلَّع فيها الجميع إلى تجسير الفجوات الذهنية والإيديولوجية والاجتماعية ورأب الصدوع والانشقاقات بين أفرادها؟ فالمدرسة العمومية مهمّتها الأساسية تتمثَّل في الاستجابة لحاجات المجتمع من الكوادر والعقول المفكِّرة والمخطِّطة ولكن أيضا الاستجابة لحاجات المجتمع من القيم والثقافات الضامنة لاستمراره وتلاحمه وتوازنه. ومن هذه القيم المطروحة اليوم على المجتمع التونسي بشكل ملحّ قيمة التسامح والتعايش السلمي التي يجب أن تشتغل عليها المدرسة وتستثمر فيها بشكل مكثَّف وتعمل على غرسها وتمريرها في الأجيال المتعاقبة وفي المتعلّمين حتى تضمن بناء مجتمع متوازن ومتماسك يقبل فيه الأفراد اختلافات بعضهم الثقافية والاجتماعية والفكرية.

إنَّ استفحال ظاهرة العنف داخل مؤسَّساتنا التربوية بهذه النسب المفزعة لهو خير دليل على إفلاس المدرسة في اضطلاعها بهذه المهمَّة، إذ تشير دراسة قام بها المرصد الوطني للشباب حول ظاهرة العنف اللفظي لدى الشباب التونسي إلى أن المؤسَّسة التربوية تعد ثاني الفضاءات من حيث انتشار العنف اللفظي لدى الشباب بـ 43.2%وهذه النسبة هي دليل آخر على ارتفاع منسوب العنف المستبطن في نفوس التلاميذ والذي يعود إلى عوامل عديدة. يذهب علماء النفس والاجتماع إلى تعدادها في مسائل عجز الذات عن التعبير عن نفسها وتأكيد حضورها بالوسائل السلمية وباللغة الخطابية السلمية وكذلك ضعف الأنا وعدم قدرتها على التواصل البنّاء ممَّا يخلق صراعات داخلية تتحوَّل إلى مشاكل انفعالية تتمظهر بدورها في الشعور بالإحباط والخوف من الآخر وعدم الأمان ومشاعر النقص، وهي كلها انفعالات بسيكولوجية مسبِّبة للعنف بوجهيه اللفظي والمادِّي. ويمكن تصنيف أنواع العنف المدرسي المسجل في مؤسساتنا التربوية، وعلى سبيل الذكر لا الحصر، إلى الأصناف التالية:

  • تبادل العنف بين التلاميذ أو تعنيف أحد التلاميذ لزميله وذلك بدرجات متفاوتة الخطورة باستعمال الفعل الجسدي أو الألفاظ النابية أو التدافع المتهوِّر في الساحات والأروقة، والتي قد تصل إلى إشهار الهراوات والأسلحة البيضاء.
  • حالات عنف سُجِّلَت ضّد الإطار التربوي بصفة عامَّة قامَ بها تلاميذ أو أولياء وقد رصدت في مناسبات عديدة وهي في ارتفاع مستمرّ في السنوات الأخيرة حيث سجَّلت مثلا 3000 حالة عنف لفظي ومادّي ضدّ الأساتذة والقيّمين في السنة الدراسية 2011-2012 كما بلغ عدد القضايا المرفوعة والمصرَّح بها في إطار تطبيق الفصل 9 من قانون الوظيفة العمومية (الذي يخصُّ حماية الموظف العمومي …) 45 قضية وتتوزَّع حالات الاعتداء على المربِّين من كلام جارح وألفاظ بذيئة لتصل إلى حدّ التعنيف الجسدي.
  • كما يوجد نوع آخر من العنف وهو الموجّه إلى التجهيزات المدرسية التي باتت مستهدفة بالإتلاف مثل تكسير الأبواب والطاولات وقلع النباتات وحتى سرقة الأجهزة المختلفة، ويدلُّ هذا النوع على أنَّ التلميذ التونسي لم ينشأ على احترام المدرسة والحفاظ عليها واعتبارها ملكا وطنيا يجب الحفاظ عليه، وعلى حالة العداء المستبطنة لدى التلميذ والتي يحملها تجاه المدرسة التي باتت تمثِّل فضاء يشعر فيه بالكبت والضمور ممَّا يثير فيه الرغبة في الانتقام.
  • وفي تصريحٍ للمدير العامّ للمباني المدرسية والتجهيز بوزارة التربية يشير إلى أنَّ الخسائر التي تكبّدتها الوزارة جرّاء عمليات التخريب والإتلاف بلغت خلال السنة الدراسية 2011-2012 قرابة 32 مليون دينار توزَّعت بين 14 مليون دينار تكلفة إتلاف تجهيزات مدرسية و 18 م د كلفة تخريب بناءات مدرسية. أليس من بابٍ أولى وأحرى أن يوجَّه هذا المبلغ الضخم إلى عمليات تحسين البنية التحتية أو إحداثات ضرورية أو غير ذلك؟ أليس في القيام بمجهوداتوقائية تربوية، بيداغوجية، إجرائية … تجاه تلاميذنا جلب للمنفعة العامَّة وتفادي لهذه الكلفة الكارثية للعنف المسلَّط على المباني والتجهيزات؟

وتتعدَّد الأسباب المتعلّقة بظاهرة العنف المدرسي، فمنها ما هو نفسي يتعلَّق بشخصية التلميذ الفردية أو منها ما هو اجتماعي مرتبط بالحلقات والمؤسَّسات المختلفة التي تحتضن التلميذ في إطار عملية التنشئة الاجتماعية من العائلة إلى الشارع فالمدرسة والإعلام، ومنها أيضا ما هو علائقي مرتبط بشبكة العلاقات البينية الشخصية التي ينصهر فيها التلميذ. ما يهمّنا في هذه الورقة أساسا هو كيف تكون المؤسَّسة التربوية منتجة للعنف؟ أو ما هي الأسباب والدواعي المتعلِّقة بالمدرسة والتي تمثِّلُ حقلا خصبا لإنتاج العنف المدرسي؟ نطرح هذه الأسئلة لأنَّها تمثِّلُ حسب رأينا مداخل ضرورية لفهم ظاهرة العنف مدرسيا ولإيجاد الحلول الممكنة لتطويق هذه الظاهرة. فالمؤسَّسة التربوية كما أسلفنا هي حلقة أساسية في عملية تنشئة الأجيال اجتماعيا، فهي ليست فضاء معرفيا فحسب وإنما هي فضاء علائقيا تتبلور فيه تفاعلات اجتماعية متنوِّعة مع أفراد آخرين مختلفي الانتماءات والاتِّجاهات بما يمكِّن التلاميذ من إثراء رصيدهم من القيم والمعايير والأخلاقيات الاجتماعية بحيث تصبح الحياة المدرسية تجربة اجتماعية مثرية لتكوينهم وثقافتهم.

هذه الملاحظات النظرية ضرورية للتأكيد على أن المدرسة ليست فضاء معرفيا فحسب، بل هي أيضا فضاء للتنشئة الاجتماعية متعدَّدة الأوجه، بحيث يكون التلميذ داخلها عرضة لاستبطان قيم ومعايير واستبطان سلوكات متنوّعة قد تتعارض وتختلف في عدَّة أحيان مع تلك التي تلقّنها خلال تنشئته العائلية. فالتلميذ عندما يصطدم بواقع تربوي عنيف سوف يستبطن تلك السلوكات ليتحوَّل بدوره إلى شخص عنيف، علاوة على أن نظامنا التربوي ما يزال يستخدم العنف الجسدي واللفظي تجاه التلاميذ.

فالواقع التربوي اليوم يشير إلى وجود أزمة تواصل بين التلاميذ والمربّين، وهو ما أدَّى إلى توتُّر العلاقة التربوية، فالتواصل والحوار هي أدوات وآليات أساسية لبناء علاقات اجتماعية سليمة وخالية من التوتُّر، والحوار البناء هو وحده الكفيل بإذابة الجدران الجليدية بين المربِّين والأجيال الناشئة. وغياب الحوار في مدارسنا في الحقيقة غير مفصول عن الواقع الاجتماعي برمته والذي لايزال يتميَّز في مجمله بهرمية سلطوية معبِّرة عن تواصل الخاصية “الأبوية المستحدثة” على حدِّ تعبير هشام شرابي[14]، هذه البنية الهرمية ما تزال تؤمن بأن “العنف سيِّد الأحكام” ليستمرّ ذلك السلوك ويقع توارثه بين الأجيال وتناقله بين المؤسَّسات الاجتماعية المختلفة. وهكذا تبدو المدرسة كحلقة اجتماعية غير مستثناة من هذا الواقع الاجتماعي العام المتَّسم بتكريس السلطة لأدوات القمع، وذلك رغم ما يشهده هذا الواقع من تغيّرات ثورية يحاول فيه المجتمع إيجاد آليات تعايش جديدة مستمدَّة من ثقافة الحداثة وتبلوّر مفاهيم الحوار والتعدّدية والحرية والديمقراطية، فمتى تستطيع مؤسَّساتنا التربوية استيعاب هذه القيم الحديثة؟ ومتى يتمكَّن نظامنا التربوي من تأسيس بيداغوجيا وأدوات تربوية قادرة على إنفاذ هذه القيم والثقافات إلى عقول الناشئة وسلوكهم دون المساس بهيبة المؤسَّسة التربوية وحرمتها؟

 

الواقع التربوي اليوم يشير إلى وجود أزمة تواصل بين التلاميذ والمربّين، وهو ما أدَّى إلى توتُّر العلاقة التربوية، فالتواصل والحوار هي أدوات وآليات أساسية لبناء علاقات اجتماعية سليمة وخالية من التوتُّر، والحوار البناء هو وحده الكفيل بإذابة الجدران الجليدية بين المربِّين والأجيال الناشئة.

وفي واقع الأمر تتعدَّى الظواهر الخطيرة المنتشرة بالمؤسَّسات التربوية ظاهرة العنف إلى ظواهر أخرى أكثر خطورة نذكر منها خاصة الإدمان بأنواعه بدءا من التدخين إلى تعاطي الكحول والمخدِّرات الخفيفة أي ما يعرف بالقنب الهندي، مع بدايات وجود المخدِّرات البيضاء وذلك بشهادات عديد الأطراف التربوية.

إذ تشير دراسة قامت بها إدارة الطب المدرسي والجامعي[15]  إلى أنَّ نسبة المدمنين على مادَّة القنب الهندي (الزطلة) من الفئة العمرية 13-18 سنة تبلغ 60 %من مجموع المستهلكين لهذه المادَّة. وهي ذاتها الفئة العمرية المتمدرسة، ما يعني أنَّ أكثر من نصف المستهلكين في تونس لمادة الزطلة هم من التلاميذ إذا ما استثنينا نسبة غير متمدرسة من هذه الفئة. كما أن 60% من التلاميذ والطلبة الذكور و40% من الإناث يتعاطون مواد مخدّرة، وهي نفس النسب تقريبا التي تذكرها إدارة الطب المدرسي والجامعي.

هذه النسب المفزعة تعكس خطورة الوضع الذي وصلت إليه الفئة التلمذية، وخطورة المرحلة القادمة إذا لم تكن هناك إجراءات وقائية في مستوى آخر.

إنَّ استفحال ظاهرة المخدّرات في مدارسنا لا يدفعنا إلى إلقاء اللائمة على المؤسَّسة التربوية وحدها والتي وإن كانت تتحمَّل جزءا من المسؤولية إلا أنها تشترك في هذه المسؤولية مع بقية الأطراف وخاصَّة العائلة التي فرَّطت في دورها التربوي الريادي والدولة التي لاتحرِّكُ ساكنا أمام هذه المظاهر المفزعة والمجتمع الذي أصبح غير معني بمستقبل الأجيال. هذه المسؤولية المشتركة تعكس أزمة المجتمع بصفة عامَّة والتي تحيل إلى تدهور وضع الأجيال الشابة التي باتت تشكو من التهميش والاغتراب والضياع كما أصبحت فاقدة للمسؤولية الذاتية والاجتماعية نظرا لافتقادها للإحساس بالانتماء وللأمل في الغد الأفضل، كما تعكس أزمة دولة عاجزة عن تحمُّل مسؤولياتها في حماية مواطنيها وإنتاج مقاربة شاملة يتضافر فيها البعد الوقائي والعلاجي والقانوني والجزائي.

ومن جانب آخر انتشرت في الآونة الأخيرة ظاهرة تبعث على الحيرة متعلّقة بالفئة المتمدرسة، وهي ظاهرة انتحار التلاميذ لأسباب مختلفة والتي لا تهدِّد هذه الفئة العمرية فقط ولكنها باتت تشكِّلُ خطرا على المجتمع بصفة عامَّة وعلى سلامة النظام القيمي والمعياري الذي يضمن استمرار المجتمع وتلاحم أجياله. هذا النظام القيمي يتلخَّص في مجمله في الثقة في المستقبل والأمل في الغد الأفضل والاجتهاد والعمل ورفض اليأس، وهي عناوين عدوة للإحباط والفشل والاستكانة المؤدية إلى العزلة والنقمة والانتحار في نهاية المطاف.

فظاهرة الانتحار المنتشرة اليوم في صفوف تلاميذنا والتي بلغت حسب دراسة المرصد الاجتماعي التونسي 52 حالة سنة 2015، تستدعي القيام بدراسات علمية جدّية للوقوف على أسبابها الحقيقية القريبة والبعيدة، كما تستدعي صياغة إجراءات وسياسات جدية لتطويقها ولمعالجة أسبابها وذلك بالعمل أولا على إعادة الاعتبار للمنظومة القيمية والمعيارية من خلال النظام التربوي والمنابر الإعلامية والفضاءات الاجتماعية المختلفة ثمَّ التفكير في كيفية إعادة الأمل في نفوس الشباب حتى نتفادى مثل هذه الانحرافات الخطيرة.

الخـــــاتمة:

تعتبر قضية الإصلاح التربوي من القضايا الأساسية الراهنة المطروحة على الفاعلين في المجتمع السياسي والمدني في تونس في هذه المرحلة المفصلية التي تعيشها البلاد والتي تتطلَّب الوقوف على مكامن النقص والفشل في الأنظمة التربوية المتَّبعة آنفا لتجاوزها وتلافيها، كما تتطلَّب استشرافا للمستقبل على أساس رؤية واضحة تتحدَّد فيها الأهداف والانتظارات بما يستجيب لتطلّعات المجتمع من تجذُّر في الانتماء الحضاري  وانخراط فاعل في الحداثة وعدالة اجتماعية وفاعلية تنموية والتي ستحمل على عاتق  المدرسة العمومية المستشرفة.

ويتطلَّب تحقيق هذه الغايات والتطلُّعات وضع خطة إصلاح متكاملة تتمخَّض أولا عن دراسات معمَّقة وحوارات وطنية مستفيضة وبعيدة عن التشنُّج والتمترس الإيديولوجي، وثانيا تنظر إلى المدرسة والعملية التربوية نظرة شمولية تجمع بين الجوانب القانونية المنظمة والمخرجات البيداغوجية والأساليب التعليمية والأدوات التعديلية والتأطيرية السلوكية.

 

تعتبر قضية الإصلاح التربوي من القضايا الأساسية الراهنة المطروحة على الفاعلين في المجتمع السياسي والمدني في تونس في هذه المرحلة المفصلية التي تعيشها البلاد والتي تتطلَّب الوقوف على مكامن النقص والفشل في الأنظمة التربوية المتَّبعة آنفا لتجاوزها وتلافيها.

 

قائمة المراجع:

  • بالعربية:

* إبراهيم أسعد (ميخائيل)، مشكلات الطفولة والمراهقة، دار الجيل بيروت، طبعة 2، 1998.

* أسعد وطفة (علي) وجاسم الشهاب (علي)، علم الاجتماع المدرسي، بنيوية الظاهرة المدرسية ووظيفتها، بيروت 2003.

* رجب (عبد الستار)، التنشئة الاجتماعية، الطفولة: بناء مفاهيمي، المجلة التونسية للعلوم الاجتماعية، عدد122، 2001.

* الزيدي (المنجي)، مقدمات لسوسيولوجيا الشباب، مجلة عالم الفكر، المجلد 30 جانفي-مارس2002.

* شرّابي (هشام)، النّظام الأبوي وإشكاليّة تخلّف المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربيّة، طبعة 2، بيروت 1993.

*سبيلا (محمد)، التحديث وتحولات القيم، في: أزمة القيم ودور الأسرة في تطور المجتمع المعاصر، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 2002.

* الساحلي (ماهر)، “تنشئة الشباب التونسي اجتماعيا وتفاعلاته مع الأسرة”، رسالة ماجستير في علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس 2011.

*كتاني (محمد)، أزمة القيم في سياق التحولات الحضارية المعاصرة، في: أزمة القيم ودور الأسرة في تطور المجتمع المعاصر، مطبعة المعارف الجديدة، الرباط 2002.

* النوري (قيس)، مشكلات الشباب إلى أين؟ الفكر العربي، عدد 19، 1981، ص 140-155.

* وناس (المنصف)،الشخصيةالتونسية: محاولة في فهم الشخصية العربية، الدار المتوسطية للنشر، تونس، 2010.

بالفرنسية:

*Ben Tahar (Mekki), La jeunesse arabe à la recherche de son identité, Alkalam, Rabat 1989.

*Bourdieu (Pierre) et Passeron (Jean Claude), Les héritiers, les étudiants et la culture, coll. Le sens commun, Paris Minuit, 1964.

*Dubar (Claude), La socialisation : construction des identités sociales et professionnelles, Armand Collin, 1998

*Dubet (François), Les lycéens, Paris SEUIL, 1991.

*Durkheim (Emile), Education et sociologie, Paris PUF, 1966.

*Belarbi (Aïcha), « Les attitudes des lycéens et lycéennes envers la famille, la religion et l’école », in Jeunesse et changement social, cahiers de CERES, série sociologique n°10, 1984.

*Ben Hmida (Khmais), « Point de vue sur la socialisation des jeunes en Tunisie », in الشباب والعائلة التونسية، المعهد القومي لعلوم التربية، طبعة 1، 1977

*Lapassade (Georges), Microsociologie de la vie scolaire, Paris, ECONOMICA, 1998.

*Mead (Georges Herbert), L’Esprit, le Soi et la Société, Paris, PUF, 1963

 

 

 

[1]– الساحلي (ماهر)، “تنشئة الشباب التونسي اجتماعيا وتفاعلاته مع الأسرة”، رسالة ماجستير في علم الاجتماع، كلية العلوم الإنسانية والاجتماعية، تونس 2011، ص 85-86.

[2]– Field (Michel) et Brohn (Jean-Marie)،” Jeunesse et révolution : Pour une organisation révolutionnaire de la jeunesse”، petite collection Maspéro، Paris، 1975، p. 62.

[3]– الساحلي (ماهر)، المرجع السابق، ص 86.

[4]– Boudon (Raymond)، “Larousse.Dictionnaire de sociologie”،Ed.France Loisirs، Paris2001.p74.

[5]–  وطفة )علي(، “المظاهر الاغترابيةفيالشخصية العربية: بحث في إشكالية القمع التربوي”، مجلة عالم الفكر -أكتوبر-ديسمبر 1998، ص 211.

 

[6]– الساحلي (ماهر)، مرجع مذكور، ص 79.

[7]– Gurvitch (Georges).” Les cadres sociaux de la connaissance”، Paris، PUF.1966.

[8]– Dubet  (François)، ” les lycéens”، Seuil، Paris،1991.p.19.

[9]-Lapassade (Georges)،”Microsociologie de la vie scolaire”، ECONOMICA، Paris 1998.

[10]– Dubet  (François)،  “les lycéens”،Optcit.

[11] – Mead (G. Herbert)، L’Esprit، le Soi et la Société، Paris، PUF، 1963.

[12]–  الساحلي (ماهر)، مرجع مذكور، ص 90.

[13]– بن سعد (محمد جلال)، ظاهرة العنف المدرسي: أسبابها وأنواعها، تونس نموذجا. في: www.lyceena.tn

[14]– هشام شرابي: النظام الأبوي وإشكالية تخلّف المجتمع العربي، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت1993.

[15]– قاسمي (ثريا)، تونس: 50 بالمائة من التلاميذ يتعاطون المخدّرات، في: www.meemmagazine.net.

جديدنا