“حيوات سحيقة”.. رواية معرفيَّة تحفر عميقاً في الماضي المسكوت عنه

image_pdf

 عن دار خطوط وظلال للنشر والتوزيع في عمّان صدرت الرواية الجديدة “حيوات سحيقة” للروائي يحيى القيسي، وهي الرواية الخامسة في مشروعه للرواية المعرفيَّة التي تستند إلى البحث العميق، والتأمّل الدقيق في الماورائيّات والتصوّف والروحانيات، والنبش المتواصل في النفس البشريَّة، ومحاولة سبر أعماقها، والقبض على ما يروم فيها من ذكريات، ومعارف، وتأمّلات، وصور، وخيالات.

تناقش الرواية الجديدة إمكانيَّة وجود حيوات سابقة للإنسان قد يكون عاشها من قبل، إذ إن الوجود الروحي سابق على الوجود الجسدي للإنسان، كما يرى القيسي، ولا يمنع من وجود تجسّدات لهذه النفس البشريَّة الخالدة من قبل في حيوات سابقة، لأنّ الجسد المادي عبارة عن قميص أو مركبة لهذه النفس الأثيريَّة يغادرها حين الموت.

وكعادته في رواياته السابقة يطرح القيسي الكثير من الأسئلة التي تسعى لزلزلة طمأنينة القارئ نحو المعارف “المعلّبة” من أجل مشاركته في البحث عن المعرفة، أكثر من منحه الإجابات الجاهزة، أو فرض الحلول عليه.

شخصيَّة الرواية شاب أردني يعمل في مجال البحث وتقديم خدماته كدليل سياحي في منطقة البتراء، وعبر مجموعة من الأحداث المتلاحقة والغامضة التي تعصف برتابة أيامه، يبدأ بالبحث عن تفسير منطقي لهذه الظواهر، وبالتالي يقع فريسة لماض شديد الضراوة وحاضر مرتبك لا يعوّل عليه، وفيما يحاول الهروب من ماضيه السحيق الذي يطارده بلا رحمة، يتورَّط في اللحظة الراهنة حيث التطرّف الديني يجد سبيله إلى أحد أفراد عائلته وبعض أقربائه، وبالتالي يبحث عن الخلاص في كتب الأسبقين للنظر فيها لعله يجد بلسماً شافيا لكن ما يعثر عليه يبدو أكثر قتامة وهولاً.

من جهة أخرى تبدو تجربته في العمل مع فريق بريطاني لتصوير الأفلام الوثائقيَّة، وعلاقته مع “أليس” فرصة للنظر إلى الواقع باشتراطاته الراهنة، والعثور على ضوء للاحتفاء بالحياة نفسها بدلاً عن الانغماس بالماضي او انتظار مستقبل قد لا يأتي.

تجمع هذه الرواية ما بين الخيال الأدبي الشاسع، والبحث الفكري العميق، في محاولة لتقديم عمل سردي يحتفي باللغة وشعريتها في بعض أحواله، وينشغل بالتوثيق التأريخي الشائق في أحوال أخرى، لينضاف إلى الروايات الأربعة السابقة: بعد الحياة بخطوة 2018، الفردوس المحرّم 2015، أبناء السماء 2010، باب الحيرة 2006 والتي صدرت جميعها عن المؤسسة العربيَّة للدراسات والنشر في بيروت.

تقول السيرة الذاتيَّة للقيسي إنّه من مواليد قرية حرثا شمال الأردن عام 1963، وعمل في مجال التعليم، والإدارة الثقافيَّة، والعمل الصحفي، والبحثي، ما بين تونس، والإمارات، والأردن، وبريطانيا حيث يقيم حالياً، وقد أصدر إضافة إلى الروايات السابقة مجموعتين قصصيتين، وكتاباً فكرياً بعنوان “ابن عربي في الفتح المكّي: الانتقاص من القدر المحمّدي” 2019.

من أجواء الرواية نقرأ:

ثم مرّ أمامه من عرف من البشر في حيواته الكثيرة:

عقلاء المجانين المحتجزون في المارستانات، وهم ينطقون بالحكمة.

غانيات متمدّدات على أسرّة دكاكين النخاسة، ينتظرن الذكور الذين تتوثّب فيهم الشهوات.

فقهاء، ومناطقة، ومتكلّمون، وفلاسفة، ومتصوّفة، ومجاذيب، وزنادقة، وهراطقة، وأتقياء، كلٌ قد علم منزلته ومقولاته وعلومه ومكاشفاته…!

محتسبون يطاردون التجّار في أسواق الأندلس لأنّهم يغشّون في الموازين، ويخلطون الحليب بالماء، ويبيعون الفاكهة الذاوية، ويخلطون البزور الردية بالطيّبة، والعطور الهنديَّة بالبلديَّة، ويرشّون الكتّان بالماء حتى يثقل عند الوزن، ويبيعون اللحم البائت بالطري، والهزيل بالسمين.!

رُعاة يسقون إبلهم من واحة ظليلة وسط صحراء شاسعة.

قصاصو أثرٍ يتتبّعون أثر غزاةٍ مرّوا على مضاربهم في الليل، وقائفون يقرؤون العلامات ويتفرّسون في وجوه أطفال لمنحهم النسب.

 شحّاذون هائمون على وجوههم في الطُرقات، بطونهم ضامرة، وقلوبهم حائرة، يبحثون عن كسرة خبزٍ، أو شربة ماء، أو حتى قطرة حنان…!

سُكارى تعتعهم الثمل، فترنّحوا ذات اليمين وذات الشمال، والعسس يطاردونهم في الحواري والزنقات.

جديدنا