الإسلاميّون في زمن الثورات العربيَّة

image_pdf

تتوالى المؤشِّرات التي تؤكِّد بأنّ الإسلاميّين هم المستفيد الأكبر من الثورات العربيَّة، على الأقل في البلدان التي نجحت في الإطاحة بأنظمة الحكم السابقة، ففي تونس، وجدت حركة النهضة نفسها بين عشيَّة وضحاها تنتقل من حزب معارض ومطارد إلى حزب حاكم يقود حكومة ائتلافيَّة، أمّا في مصر فالجميع يتحدّثون عن احتمال أن يسيطر الإخوان والسلفيّون على نصف مقاعد مجلسي الشعب والشورى على الأقل. وفي ليبيا الصورة لا تزال غير واضحة، لكن المؤكّد أنّ الإسلاميّين قد تحوّلوا إلى لاعب رئيسي عسكريّا وسياسيّا.

في ضوء ذلك تجدر الإشارة إلى الملاحظات التالية:

أولا: الثورات العربيَّة، سواء التي نجحت في تغيير المعادلة السياسيَّة أو تلك التي لا تزال تواجه أنظمة مصرَّة على البقاء بأي ثمن، جميعها لم تكن ثورات أيدولوجيَّة، ولا يصحّ لأي حركة إسلاميَّة أو غيرها الادّعاء بأنّها خطّطت لهذه الثورات أو قادتها. هي ثورات اجتماعيَّة في دوافعها وديمقراطيّة في مطالبها، وجماهيريَّة في طبيعتها.

ثانيا: دور الأحزاب والتيّارات الأيديولوجيَّة، بما في ذلك الحركات الإسلاميَّة، كان في كل الثورات دوراً لاحقاً وليس سابقا لها، فالإسلاميّون بشكلٍ عام فاجأتهم التحرّكات الاحتجاجيَّة، ولم ينتبهوا مثل غيرهم لأهمّيّتها وحجمها وتداعياتها المحتملة إلا بعد أن أخذت الأحداث منعرجاً حاسماً سواء في تونس أو مصر أو ليبيا، وحتى في اليمن وسوريا، بل إنَّ السلفيّين المصريّين كان لهم موقف مضادّ للحراك الثوري، ورأوا عملاً غير مشروع بحجّة أنّه خروج على الإمام.

ثالثا: عندما التحم الإسلاميّون، بمعظم هذه الثورات، تجنّبوا في أغلب الحالات التميّز بشعارات خاصَّة بهم، وإنّما وجدوا أنفسهم مؤيّدين للمطالب العامَّة التي رفعتها الحركات الاحتجاجيَّة، والتي كانت تتعلَّق بالكرامة والحرّيَّة، أي أنَّ الشارع هو الذي استوعبهم وليسوا هم الذين استوعبوا الشارع.

رابعا: عندما سقط رأس النظام في كل من تونس ثمّ مصر وأخيرا ليبيا، برزت الحركات الإسلاميَّة بخطاباتها ومخزونها الأيدولوجي كقوى سياسيَّة فاعلة، واستفادت من عوامل تاريخيَّة وأخرى ثقافيَّة واجتماعيَّة مكّنتها من أن تصبح القوى الأكثر تنظيما وقدرة على التعبئة، وبالتالي تكون الأقدر على الاستفادة من التحوّلات الثوريَّة، وذلك بتغيير موازين القوى لصالحها.

خامسا: كل ثورة من هذه الثورات تفضي مباشرة إلى المرور بمرحلة دقيقة وصعبة، وتعرف بمرحلة الانتقال الديمقراطي، وهي بالضرورة مرحلة ذات طابع سياسي ترمي إلى وضع آليّات صلبة لإقامة أنظمة حكم تستمدّ شرعيّتها من المواطنين، وذلك عبر الانتخاب وإطلاق الحرّيّات العامّة، وضمان حقوق الإنسان، وهو ما يحمّل الحركات الإسلاميَّة مسؤوليَّة خاصَّة، ذلك نظرا لحجمها، وأيضا بحكم ارتكازها على البعد الديني فهي من جهة مدعوّة إلى أن تلعب دورا حاسما في إنجاح شروط الانتقال الديمقراطي وليس العمل على إضعافها، ومن جهة أخرى هي مطالبة بأن تجعل الإسلام في الحريَّة والعدالة والمساواة بين المواطنين. فأي توظيف للدين في الاتّجاه المعاكس من شأنه أن يعيد إنتاج التجارب التاريخيَّة السابقة التي أنتجت أنظمة مستبدّة بغلافٍ إسلامي.

سادسا: صعود حركات الإسلام السياسي في ظلّ الثورات العربيَّة تصاحبه حاليّاً انتعاشة لأنماط من التديّن التقليدي والمحافظ، وتنزع بعض تعبيراته نحو التشدّد وإقصاء المختلف، وأحيانا استعمال مختلف درجات العنف وأشكاله من أجل فرض نمط موحّد من فهم الدين يعتقد أصحابه بأنّه المفهوم الصحيح للإسلام. وهو ما يؤدّي إلى التكفير، والمساس بالحرّيّة الفرديَّة للأشخاص وقد يؤدّي في النهاية إلى تهديد السلم الأهلي، وبالتالي يفجِّر العمليَّة السياسيَّة الديمقراطيَّة وينحرف بها عن مساراتها الطبيعيَّة. ولا يمكن حماية الثورات العربيَّة من مثل هذه الظواهر السلبيَّة والانزلاقات الخطيرة، إلا إذا تكثّفت في هذه المرحلة التاريخيَّة الجهود الصادقة والجدّيَّة لتجديد الفكر الإسلامي، وترشيد التديُّن الشعبي والمسيس، والارتقاء بالوعي الديني، وتحرير الإسلام من الحزبيَّة والطائفيَّة والمذهبيَّة وكل أنواع التأويل الأحادي الذي يظنّ أصحابه بأنّهم “الفرقة الناجية” والبقيَّة في النار، أي خارج دائرة الحقّ والأمَّة.

جديدنا