النسيج في العالم الإسلامي.. هويَّة الإنسان ومنزلته الاجتماعيَّة والعلميَّة

image_pdf

العلاقة بين الإنسان والمنسوجات، علاقة ممتدَّة إلى عمق وجود الإنسان، إذ خلق الله جُل المخلوقات الحيَّة ومعها أو فيها إمكانيَّة الاكتساء بشيء ما، من صوفٍ أو وبر أو ريش، عدا الإنسان الذي أوكل الأمر إلى قدراته لإكساء جسده، فمن يوم طفقا يخصفان عليهما من ورق الجنّة، إلى عصر دور الأزياء العالميَّة، والعلاقة قائمة يشدّها خيط النسيج أكثر، ليغدو النسيج ومنه الملابس هويَّة الإنسان وأحياناً منزلته الاجتماعيَّة أو العلميَّة، فمقولة، قل لي ماذا تلبس، أقل لك من أنت، لم تأتِ من فراغ. فملابس العامل غير ملابس رجل الدين غير ملابس العسكري، وملابس هذا غير ملابس رجل الفضاء.. وهكذا. وبهذا المعنى أشارت صاحبة دار شانيل للأزياء، السيّدة كوكو شانيل، إلى هذا الشأن حين قالت: “يُخطئ الإنسان حين يبحث عن تأريخه على جدران الكهوف، هنا وهناك.. ولم يلتفت أنّ تأريخه محفوظ على النسيج”.

لو رجعنا إلى المنسوجات الإسلاميَّة، نجد فيها مصاديق كثيرة تؤكِّد أهمّيَّة دور المنسوجات في حفظ لمحات ثمينة عن تطوّر مهارة الإنسان وذوقه ورقيه الاجتماعي وبعض عاداته في الملبس وعلاقتها بالمناسبات الاجتماعيَّة التي عاشها في تلك الحقب الزمنيَّة. وحتّى الخطوط العربيَّة استدرجها النسيج لتستعرض جمالها وأناقتها على خيوطه، ولتدخل إلى عوالم لم تدخلها من قبل، ولتسجّل حضوراً تأريخيّاً مبكّرا. فقد ظهرت على النسيج كتابات عربيَّة ترجع إلى عصر الخليفة الوليد بن عبد الملك، فقد عثر على قطعة نسيج صنعت سنة ثمان وثمانين للهجرة كما هو منسوج عليها.

كثر استخدام مادة الحرير في صناعة المنسوجات، وكانت هذه الخامة نادرة، وكان استخدامها في العصر الإسلامي يخضع لقيود كثيرة بعضها ديني، والبعض الآخر اقتصادي، لذلك كان يكتفي في كثير من الحالات بكتابة شريط الطراز فقط بمادّة الحرير على نسيج سادة.

أمّا أسلوب الخط في هذه الكتابات فقد بدأ في أوائل العهد الإسلامي بخطّ كوفي ليّن ذي استدارة بسيطة ثمّ انتشر بعد ذلك الخطّ الصلب ذو الزوايا والانحناءات الحادَّة، وقد بلغ نسيج الكتّان درجة عالية من الدقَّة والاتقان في العصر الإسلامي، كما هو وارد في مؤلّفات العرب وغيرهم وكما هو ثابت من القطع التي وصلت إلينا.

وقد أولى علماء الآثار طريقة غزل الخيوط كثيراً من عنايتهم واتّخذوا منها نظريَّة اعتمدوا عليها في معرفة مركز صناعة النسيج، واتّفق جميع من تكلّم في هذا الأمر على أنّ غزل الخيوط جهة اليسار من مميّزات النسيج المصري، إلا أنّ بعضهم استثنى النسيج القبطي المصنوع على نول السحب، كما استثنى آخرون نسيج الكتّان العبّاسي.

وتعتبر منسوجات مصر في العصر الإسلامي ذات شأن كبير، فقد كانت موضع التقدير ومضرب الأمثال في الدقّة والروعة والجمال. وقد عرف العرب لها ذلك فعملوا على الاستفادة من هذا التراث الفنّي وتشجيعه حتى ازدهرت صناعة النسيج في العالم الإسلامي عامّة ومصر خاصّة، وبلغت من الكمال والاتقان درجة قلّما نجدها ممثلة في أي ناحية أخرى من نواحي النشاط الفنّي عند المسلمين. ومن التقاليد الإسلاميَّة التي كان لها أكبر الأثر في ازدهار فن النسيج، كسوة الكعبة التي يقدّسها العرب قبل الإسلام وبعده، وكذلك كان لنظام منح الخلع، وهو ما يعطيه الإنسان غيره من الثياب منحة أو هديَّة، وهو تقليد عرفته معظم شعوب العالم القديم، فعرفه المصريّون القدماء، كما عرفه الإيرانيّون، وهناك ملاحظة لها أهمّيّتها ينبغي ألا نغفلها، ألا وهي حبّ العرب للباس واقتنائهم الفاخر منه، فكان ذلك عاملاً من عوامل المنافسة في الابتكار والإتقان. وثمّة أكثر من لون مغاير ونفيس من المنسوجات الإسلاميَّة ولعلّ من أهمّها:

نسيج الديباج والدمقس

يعتبر الديباج من الناحية التطبيقيَّة من مشتقّات نسيج الدمشقي، ومن الناحية الزخرفيَّة من المنسوجات المزركشة والموشاة بخيوط الذهب والفضّة. ويستخدم في نسيج الديباج سداة واحدة وأكثر من لون واحد من اللحمة المزخرفة، وغالبا ما يكون ضمنها خيوط معدنيَّة كالذهب والفضّة والنحاس المذهّب، وجميعها تظهر فقط في أجزاء من الزخرفة، ثمّ تختفي في ظهر المنسوج.

أمّا نسيج الدمشقي الذي اشتهرت بنسجه مدينة دمشق فنسب إليها، فهو من المنسوجات الزخرفيَّة التي يخصّص سداة واحدة ولحمة واحدة، كلاهما من لونٍ واحد أو لونين مختلفين بحسب درجة الوضوح اللازمة للزخرفة أو بحسب الفكرة الأصليَّة الموضوعة.

ومن أهمّ مميّزات النسيج الدمشقي أنَّ حدود الزخرفة الناتجة عن سطحي المنسوج واضحة التدرّج وذلك نظراً لتحريك الخيوط على هيئة مجموعات.

المنسوجات الفاطميَّة

من المعروف أنّ خلفاء الدولة الفاطميّة قد أولوا النسيج الكثير من اهتمامهم، حيث كانت وظيفة الطرّاز لا يتولّاها إلا كبار الموظّفين المقرّبين من الخليفة. ولعلّ خير شاهد على ما وصلت إليه المنسوجات من تطوير وازدهار في العصر الفاطمي، ما ذكره الرحّالة ناصر خسرو عند زيارته لمصر في القرن الخامس الهجري سنة 1040م، فقد أعجب بمنسوجات الوجه البحري الكتّانيَّة، وخصّ بالذكر منها نوعاً من النسيج الذي تصنع منه ملابس النساء كان يعرف باسم القصب، فقال: “إنَّ مثل هذا القصب الجميل لا يصنع منه في أي مكان آخر وأنه سمع أن أمير مقاطعة فارس في إيران أرسل عشرين ألف دينار ليشتري بها ثوبا من النسيج الملكي”.

هذه لمحة سريعة عن النسيج وجماليته، فلو أردنا أن نبقى مع الموضوع لأخذَنا خيطُ النسيج إلى أقاصي الدنيا، حيث يوجد الإنسان الذي عرف النسيج من يوم ولادته، حين يلف بقطعة منسوجة يألفها حتى تصبح امتداداً لجلده، وراشفة لنضوحاته. وهكذا يبقى النسيج الرفيق اللصيق للإنسان من يوم إطلالته على الدنيا إلى يوم وداعه لها.

جديدنا