أزمة قاتلة: الهشاشة الاجتماعية

image_pdf

يتنادى الاقتصاديون، عالمياً وعلى صعيد كل دولة، إلى التحذير من النتائج الاقتصادية المترتبة على كورونا، وكثير منهم يرى أنّنا على أبواب ركود عالمي، وربما حرب عالمية اقتصادية كبرى، وكما يقول المحلل الأميركي، توماس فريدمان، فإنّ وباء البطالة والفقر والجوع أخطر من وباء كورونا!ولكن الوباء الاقتصادي ليس بمعزل عن الوباء الاجتماعي، فالبطالة والجوع والفقر ليست أرقاماً صمّاء، أو بلا وقائع اجتماعية – ثقافية – سياسية، بخاصة إذا انتقلنا إلى الحديث عن عالمنا العربي الذي كان يرزح في الأصل تحت وطأة أزمة ثقة كبرى خطيرة، ليس فقط على صعيد العلاقة بين الحكومات والشعوب، بل ما هو أبعد من ذلك كثيراً في داخل المجتمع نفسه الذي أصبح هشّاً ومفككاً، متقبلاً أي نداءات حركية ذات طابع طائفي أو جهوي أو طبقي، أو عرقي أو ديني.
وإذا كانت السياسات الدولية والإقليمية والمحلية الطائفية والدينية والعرقية قادت مجتمعات عديدة إلى حروب أهلية داخلية، وتناحر وطني، فإنّ الفجوة الطبقية المتنامية، بفعل تطبيق السياسات النيو ليبرالية، بلا أي رؤية اجتماعية وطنية وثقافية، ونمو نمط خطير، في كثير من هذه الدول، من التحالف بين رأس المال والسلطة، أو الفساد السياسي.
أدّى ذلك كله إلى صعود موجة الاحتجاجات الثانية في الربيع العربي التي كسّرت الطائفية والعرقية والمذهبية لصالح الاعتبارات الاقتصادية، المتعلقة بالأمن اليومي للإنسان العربي، أو بعبارة أخرى باتت معدلات البطالة وأرقام الجياع والمحرومين أهم من أي اعتباراتٍ أو خطاباتٍ سياسية. وتشير الإرهاصات الأولية للنتائج الاجتماعية لفيروس كورونا، عربياً، إلى أخطار كبيرة في تعمّق خطاب “الفجوة الطبقية” وصعوده، وهو ما لاحظناه في الأردن، بصورة مبطّنة، وفي العراق ولبنان ودول أخرى بصورة واضحة، هذا ولم نصل بعد إلى النتائج الاقتصادية الحقيقية المقلقة المترتبة على “حقبة كورونا”.
ثمّة هشاشة كبيرة في بنية المجتمعات العربية اليوم، وخطر انزلاقها إلى مزيد من التمزق، أفقيا وعرضيا. وربما نجد في كتاب المنظّر الأميركي، فرانسيس فوكوياما، تحليلاً مهماً لهذه الحالة، فالرجل الذي عُرف بكتابه “نهاية التاريخ”، ولاحقاً بكتابه “أصول النظام السياسي والانحطاط السياسي”، كان قد قدّم بينهما كتاباً على درجة كبيرة من الأهمية، لكنه لم يحصل على الشهرة نفسها، على الأقل عربياً، على الرغم من أنّه لا يقل أهمية، وقيمة معرفياً وفكرياً، عنهما، وربما تزداد أهميته أكثر اليوم، مع هذه الأزمة. كتاب “الثقة: الفضائل الاجتماعية ودورها في خلق الفضائل”، هو الأكثر إنسانيةً بين كتبه عموماً، إذ يتحدّث فيه عن أثر السياسات الليبرالية على المجتمعات، وتعزيز الأنانية الفردانية، وتغليبها على الصالح المجتمعي العام، وفي الوقت نفسه، يشكك بإمكانية إجراء السلطة “هندسة اجتماعية” لتدارك هذا الوضع الاقتصادي الخطير، وما يترتب عليه اجتماعياً وثقافياً.
في المقابل، يقرّ فوكوياما بأهمية تحرير المجتمع من الهيمنة الاقتصادية، من خلال العمل على بناء “المؤسسات الاجتماعية الوسيطة”، وتعزيز الرأسمال الاجتماعي الذي يقوم على التكافل والقيم الأخلاقية والأسرية المترابطة التي تجعل الشعور الجمعي يوازي المصالح الاقتصادية، ويخلق “رأس المال الاجتماعي” القادرا على بناء التوازن بين هذه الاعتبارات الاقتصادية والاجتماعية.
يقدّم فوكوياما نماذج مهمة على كلتا الحالتين؛ أي توفر رأس المال الاجتماعي، وتغليب الصالح العام على المصالح الخاصة، والعكس من ذلك، ويقدّم نتائج كل سيناريو منهما، حتى على المستوى الاقتصادي، ففي النهاية لا يمكن لطبقةٍ أو فئةٍ أن تعيش معزولة في قصورها أو مصانعها عن الشريحة الاجتماعية العامة المهمّشة!
كيف يمكن أن نعكس بعضاً من أفكار هذا الكتاب على واقع مجتمعاتنا العربية اليوم؟ أولاً وقبل كل شيء، الاعتراف بوجود هذه الهشاشة الاجتماعية والنتائج القاتلة للسياسات النيو ليبرالية، وارتفاع منسوب خطرها مع ما يترتب على وباء كورونا، ثم الخروج من الدائرة المفرغة المعلّبة تحت اسم “سياسات الحماية الاجتماعية”، لأنّ من الواضح أنّها لا تحمي، ولا ما يحزنون، الشريحة الكبرى من المواطنين.
الأهم من ذلك إعادة النظر جذرياً في السياسات الاقتصادية نحو إيجاد قدر كبير من التوازن، والمساعدة على تنمية المؤسسات الاجتماعية الوسيطة (المجتمع المدني، الجمعيات الخيرية، الروابط الدينية والثقافية) لتقوّي رأس المال الاجتماعي، وتعزّز الثقافة الوطنية الجامعة التعاونية في مقابل ثقافة الاحتراب والشك والهشاشة والإحباط العام.

*المصدر: العربي الجديد.

جديدنا