تصوّرات للنهوض: كيف يلحق العرب بالثورة الصناعيَّة الرابعة؟

image_pdf

قراءة أوَّليَّة:

يُدْرِك المُتابِعون لحركة التطوّر الإنساني أنَّ الثورة الصناعيَّة الرابعة، التي لا مثيل لها، على مرّ التاريخ، تقرع وتطرق كل الأبواب صباحاً ومساءً، وتدخل كل بيت في الكرة الأرضيَّة بلا استئذان، بعد أن عولمت الفضاء العالمي بإلغائها للحدود والقيود المانعة لدخولها، واقتحامها الجريء لكل الخصوصيَّات الإنسانيَّة؛ الفرديَّة والجماعيَّة، ولم تعد تستثني أحداً من تأثيراتها الإيجابيَّة والسالبة. إنَّها ثورة فريدة في مُدْخَلَاتها ومُخْرَجَاتها، وفي عمقها وشمولها، وفي تبدّلاتها وتحوّلاتها. فقد على شهد العالم من قبل العديد من الثورات الصناعيَّة والتحوّلات الرئيسة، التي كانت محصورة في المستوى الصناعي فحسب، ولم تمتدّ لتشمل جميع جوانب الحياة الأخرى، ولا سيطرت على عقول الناس بالكيفيَّة، التي نَلْحَظَها ونستشعرها اليوم. إنَّنا نشهد الآن انعكاس تطوّر هذه الثورة في الصناعة والعلوم والتكنولوجيا ذات الصلة، وتوغل هذه التأثيرات في جميع جوانب الحياة، وخلقها لأنماط جديدة من الثقافة، والسياسة، والاقتصاد، والعلاقات الاجتماعيَّة.

لقد حدثت الثورة الصناعيَّة الأولى في القرن الثامن عشر، عندما اكتشفت البشريَّة كيفيَّة استخدام البخار لتوليد الطاقة، وتشغيل الآلات. وكانت الثورة الصناعيَّة الثانيَّة مصحوبة باكتشاف الكهرباء في بداية القرن العشرين، والتي يمكن أن تُسمَّى الثورة الكهربائيَّة. واتَّصفت الثورة الصناعيَّة الثالثة بتطوّر الاتِّصالات وتكنولوجيا المعلومات، التي بدأت في السبعينيات من القرن الماضي. وممَّا لا شكّ فيه أنَّ هذه المراحل الثلاث غيَّرت التاريخ، وتسبَّبت في تغييرات جذريَّة في العالم، بما في ذلك ما طرأ على الاقتصاد من نُظم وطبائع أنتاج. واليوم، يشهد العالم توغل الثورة الصناعيَّة الرابعة، التي تُعرف أحياناً بالثورة الرقميَّة، وخصائصها الأساسيَّة هي: الطباعة ثلاثيَّة الأبعاد، وإنترنت الأشياء، وتحليل البيانات الضخمة، والروبوتات، والحوسبة الرقميَّة، والمنافسة بين البشر والآلات، والعديد من المظاهر المعلنة، والأخرى غير المعلنة.

فإذا كانت الثورات الصناعيَّة السابقة قد أحدثت بالفعل تحوّلات جذريَّة على مستويات مختلفة في المجتمعات الإنسانيَّة في جميع أنحاء العالم، فإن الذي أحدثته، وتُحْدِثُهُ الثورة الصناعيَّة الرابعة ضخم ومُذْهِل. والمتوقَّع أن تؤدِّي إليه في المستقبل، يتجاوز إمكانات الإدراك، أو التصوُّر البشري، لأنه يحدث في وتيرة غير مسبوقة، مع إيقاع سريع يفوق القدرات الطبيعيَّة على التنبُّؤ والاستشراف، الذي يمكن أن يسمَّى حقاً ثورة تحويل الخيال إلى واقع. إذ إنه حتى وقت قريب، ما كان أحد يتوقَّع أن تتنافس الروبوتات مع البشر، وتحلّ محلّهم في بعض الأحيان، وتتغلَّب عليهم في أحايين أخرى. فمن كان يتخيَّل رؤية سيَّارة بدون سائق في الشارع، أو المباني، التي يتمّ بناؤها باستخدام تقنيات الطباعة ثلاثيَّة الأبعاد، أو العمليَّات الجراحيَّة، التي يقوم بها الأطبَّاء الآليُّون، أو العملات الرقميَّة المتداولة، على الرغم من أنها غير موجودة فعليّاً، بالإضافة إلى العديد من الأشياء الأخرى؟ كل هذه أسئلة للمقارنة بين نتاج ثورات صناعيَّة مَرَّت، واستوعبنا دروسها، وبين ثورة حاضرة تستوعبنا ضمن محتوياتها؛ فهل نحن مهيّأؤون لأن نكون جزءاً من محرّكاتها، أم سنطارد أحلامنا في مخيال تحوّلاتها؟

المشهد العالمي:

إنَّ البلاد المتقدِّمة تجتهد، منذ القِدَم، في السعي لامتلاك مصادر القوَّة الماديَّة، وذلك بالتنافس على استعمار الأراضي، واستخراج الموارد الطبيعيَّة الخام من البلدان الفقيرة، وتصنيعها، وزيادة قيمتها الاقتصاديَّة. ولطالما كانت الشركات الكبرى؛ في مرحلة تاريخيَّة لاحقة، هي التي تضخ النفط، وتُتيح الآلات الزراعيَّة الأفضل لفلاحة الأرض وإنتاج الأغذية؛ مع عدد أقل من المزارعين، ودفع أجور أفضل، فهي لم تكن تفعل الكثير لزيادة الإنتاجيَّة، بقدر ما كانت تعمل على إهلاك الموارد بالإفراط في استهلاكها. وظل هذا ديدن العلاقات الاقتصاديَّة طوال عهود الثورات الصناعيَّة الثلاث الماضية، إلا أن ما نشهده اليوم قد اختلف اختلافاً جذريّاً عمَّا كان عليه ذلك الحال. فقد انتهى الزمن، الذي كان فيه الاتِّجاه السائد هو أن تظل الدول الغنيَّة أكثر ثراءً، وأن ترزح الدول الفقيرة في فقرها، مع استثناءات قليلة، يجدر بنا ذكر بعضها. إذ نهضت اليابان من تخلُّفها الاقتصادي بتسريع وتيرة التصنيع، في الستينيّات والسبعينيّات من القرن الماضي، ثم ارتقت كوريا الجنوبيَّة، وتايوان، وإسبانيا، والبرتغال، صناعيّاً، في الثمانينيات والتسعينيات منه. لكن النسبة العظمى من النموّ الاقتصادي، بين عامي 1900 و2000، أي العقد الأخير من القرن العشرين، حدثت في بلدان كانت غنيَّة بالفعل منذ مطلع ذلك العقد، وما قبله، وواصلت تقدّمها إلى بداية الألفيَّة الجديدة، وما تزال، مع بعض التراجعات؛ هنا وهناك.

ولمصلحة القارئ، يمكن القول إنَّ سنوات الألفيَّة العشر الأولى كانت مختلفة تماماً بالنسبة للكثير من دول العالم الغنيَّة، وكان عقداً سيّئاً لمسيرتها الاقتصاديَّة. فالأزمة الماليَّة لعام 2008، التي تسبَّب فيها الوضع الاقتصادي الأمريكي القاتم معروفة للجميع. ورغم أن الأمور، عندئذ، بدأت أفضل في بعض أجزاء أوروبا، لكن وضح أنّها كانت أسوأ بكثير، مما أوردته تقارير الإعلام، في أيرلندا، وإسبانيا، واليونان، وإيطاليا. وبالنسبة لليابان، فقد كان عقد الألفيَّة الثاني هو الأسوأ في الواقع، ولكن يظل لديها الكثير من القدرة الصناعيَّة، التي تمكِّنها من اللحاق بركب النمو. في الجانب الآخر، فإنَّ الأرقام، التي كانت البرازيل تضعها أمام العالم، تدل على أعظم نجاح اقتصادي على الإطلاق. رغم أن هناك من يقول إنَّ الهند قامت بعمل أفضل من البرازيل. فممَّا لا شكّ فيه أن الأعوام العشرة الماضية من النمو في الهند تعتبر أعظم انتصار لرفاهيَّة الإنسان؛ إن لم يكن لحقيقة أنَّ الصين حقَّقت أفضل من ذلك، وسبقت إليه. وهؤلاء الثلاثة؛ البرازيل، الهند، والصين، ليسوا وحدهم، إذ إن تركيا، وكثير من دول جنوب شرق آسيا؛ كانت، وما تزال في حالة جيدة، أي أن العالم، بعبارة أخرى، يعيش في عالم يهيمن عليه مبدأ سرعة اللحاق بركب النمو. لذا، فإنَّ حقيقة أن البلدان، التي لا تزال جميعها فقيرة للغاية، قائمة، وستظلّ تُشَكِّل الغالبيَّة العظمى من تراجعات النموّ الاقتصادي في العالم.

بيد أن الكثير من دول العالم تعمل جاهدة على تعبئة السياسات الوطنيَّة المُعِينَة على الإبداع والابتكار، وتُشَرِّع قواعد التنظيم المَرِنَة، التي تجعل الولوج إلى كل حقل ومجال جديد ممكناً، لأنها تُكَيِّف البرامج لدعم ريادة الأعمال. ومن ثم تهتمّ وتُعْنَى بكيفيَّة فتح المجال بشكل كبير لتعزيز المشاركة الجماهيريَّة، وكيف يمكن أن تساهم كل الطاقات المُبْدِعَة في القيمة الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة، والاستفادة من حفزها لروح الابتكار في جميع شرائح المجتمع. وهناك العديد من الأمثلة الواعدة، وبعضها يوضح الحجم والتأثير؛ ليس فقط على مستوى المجتمعات المحليَّة، أو دولة المنشأ، بل على نطاق العالم، فـ”علي بابا” في الصين، ومصنع “كاريبلو” في ميلانو إيطاليا، و”روتان” في كولومبيا، وحتى “أرامكس” في الأردن”، والكثير من الأمثلة على الشركات، التي تعمل بطرق أكثر شموليَّة، في مجتمعاتها ودولها، بما في ذلك المساهمة في أهداف التنمية المستدامة على مستوى العالم. ولكن ما الذي يتطلّبه الأمر لكي تكون هذه الأعداد أكبر من حيث الحجم، وأكثر تمثيلاً للسكان، الذين يهدفون إلى خدمتهم؟ وكيف يمكن أن تكون هذه المبادرات الإبداعيَّة ليست حكراً فقط للشركات الناشئة، ولكن أيضاً ما المطلوب حقاً لمعالجة إشكالات المؤسّسات القائمة، وكيفيَّة توسيع نطاق إبداعها وابتكاراتها؟

لقد رأى المتابعون لتطوّرات الثورة الصناعيَّة الرابعة بالفعل كيف يمكن للسياسات الصحيحة، والتشريعات، والنُطُم الإداريَّة، أن تقلِّل إلى حدٍّ كبير تكاليف إنشاء الأعمال، التي تقوم على ابتكارات وأفكار رياديَّة، وتُشجِّع انطلاقتها والقيام بأمرها. وتتَّخذ هذه السياسات، والتشريعات، والنُطُم الإداريَّة، أشكالاً ومنصَّات خدمة متعدِّدة؛ بدءاً من تقديم نُظُم الحوسبة المُتَقَدِّمَة، إلى تيسير الحصول عل المُعِينات من جميع الأنواع. وتعمل العديد من الشركات الكبيرة الآن على التواؤم والاستفادة من البيئة الجديدة، وذلك بالحرص على تسريع وتيرة إدماج نفسها فيها، بل ودعمها، فيما يتعلق بطريقة تعاملها مع الشركات الناشئة الرقميَّة الناجحة. وقد فتحت مثل هذه المرونة الأسواق على نطاق واسع، وساهمت في توسيع الفرص.

بالنسبة للبلدان، التي تلحق بركب النمو، يعتقد الخبراء أنه لا توجد مشكلة في معالجات معادلة الغلاء والثراء، إذ يمكن للشعب الصيني أن يدفع أكثر مقابل الغذاء والوقود، لكنهم سيظلون أكثر ثراءً أيضاً. فثرواتهم الكبيرة تغطي كل شيء، ويستهلكون الآن أكثر من أي وقت مضى. وهذا قد يبدو أمراً مزعجاً بالنسبة للأمريكيِّين، الذين يستمعون للكثير عن ارتفاع أسعار السلع الأساسيَّة في الأخبار، لكنهم مطمئنّون إلى أنهم سيبقون على قيد الحياة؛ بعد أن قيَّدوا زيادة استهلاكهم. فرغم أن أميركا دولة غنيَّة جداً، إلا أن العقلانيَّة صارت تحكم استهلاك الغذاء والوقود، وفقاً للدخل، عمَّا كانت عليه الحال قبل عقود قليلة. ولكن بالنسبة للبلدان الفقيرة، والمتوسّطة الدخل، التي تنمو بوتيرة أبطأ بكثير من الصين والهند؛ كحال العديد من البلدان العربيَّة، بما فيها دول الخليج الثريَّة نسبياً، ستظلّ زيادة معدّلات الاستهلاك على الدخل الفردي والوطني تمثِّل مشكلة كبيرة. إنّها مشكلة لن تتلاشى لمجرَّد أن يغادر الفاعلون في النظام الاقتصادي القائم المشهد. لكن إذا نجحت الأنظمة العربيَّة جميعها في جعل دولها على متن قطار اللحاق بركب النمو الصناعي، فإنَّ التأييد لها في اتِّجاهها نحو التقدُّم الاقتصادي لن يتوقَّف، ولا شكّ أن التغيُّر الإيجابي في الجوانب السياسيَّة والاجتماعيَّة سوف يستمر، لطالما ظلَّت سرعة اللحاق بركب النمو ماضية إلى غاياتها الاقتصاديَّة.

الحضور العربي:

إنَّ فكرة الثورة الصناعيَّة الرابعة يتردَّد صداها منذ أكثر من عشرين عاماً، وتُشير عادةً إلى التقارب والاختراق بين التقنيات الرقميَّة والبيولوجيَّة والنانو والمعلومات وإنترنت الأشياء. إنها فكرة جذَّابة للعديد من الاتجاهات التكنولوجيَّة المختلفة؛ من الأجهزة التعويضيَّة إلى النماذج الجديدة للتصنيع المتقدِّم. في ظلِّ هذه الحقائق، فإنَّ الأسئلة الأكبر والملحَّة، التي تواجه البلدان العربيَّة عامَّة، ودول الخليج خاصَّة، هي: كيف يمكن تغيير مسار النمو الحالي؟ وكيف يمكن نشر فوائد الإمكانات التكنولوجيَّة الجديدة على نطاق أوسع؟ وكيف يمكن للعديد من الناس أن يجدوا فرصة أن يكونوا صانعين ورجال أعمال ومبدعين لهذه الثورة، أكثر من كونهم مراقبين ومتفرِّجين غير فَعَّالِين؟ فهذه هي الأسئلة الرئيسة، التي يمكن وضعها أمام الحكومات وصنَّاع السياسات الاقتصاديَّة، والتي تأخذنا إلى مسائل التنظيم والسياسة؛ بما في ذلك دور الشركات الكبرى، وسلاسل التصدير والتوريد، وكيفيَّة تغيير وتوسيع البرامج الحاليَّة الداعمة لريادة الأعمال، ودور المنصَّات الجديدة في تسهيل الإجراءات للعديد من الأشخاص لبدء الأعمال التجاريَّة وتنميتها، ووضع مقاييس جديدة يمكن أن تساعد في معرفة ما ينجح منها، والقيم المُوَجِّهَة والمُشَكِّلَة لروح المبادرة فيها. ومن ثمّ، تحويل برامج الابتكار الحاليَّة؛ الممولة من القطاع العام، والمدعومة من قطاع الأعمال، في مجالات الطاقة، أو الإسكان، أو النقل، أو غيرها من القطاعات الحيويَّة الأخرى، التي تمكنت من اللحاق بتقنيات الثورة الصناعيَّة الرابعة، إلى مراقٍ تستطيع أن تستشرف من خلالها مطالع الثورة الخامسة، والتي تجاوز الخبراء في الدول المتقدِّمة مجرَّد الحديث عنها إلى توصيف بعض سماتها، وتِعداد ميزاتها. وبذلك، تكون هذه القطاعات قد حدَّدت الآن المكانة، التي وصلت إليها، وإلى أين تأمل أن تذهب.

إنَّ هذا التوجُّه يدعم بشكلٍ خاصّ فكرة “التنظيم الاستباقي” لتطوّر هذه القطاعات، ليس فقط باستخدام التشريعات المبتكرة للمساعدة في تسريع النماذج التنظيميَّة والتجاريَّة الجديدة، وإنما بآليَّات التطبيق العملي لتحويل كل منها إلى صناعة حديثة، مستوعبة لآخر المستجدات. ولتقديم مثال شارح لذلك، يمكن النظر إلى تجربة الصناديق التمويليَّة في بعض دول الخليج، وبتشجيع وحفز من الحكومات، لدعم الشركات الناشئة للعمل على الحدّ من الازدحام المروري، أو حوادث الطرق، أو تلوّث الهواء. ويلاحظ هنا أن مجال التركيز الأول هو السياسات والتنظيم، إذ يعمل روَّاد الابتكارات عن كثب مع مؤسَّسات القطاع العام، وبإشراف المسؤولين الحكوميِّين، ولديهم تحت تصرفهم العديد من أدوات العمل، والتشريعات، التي يجب مراعاتها، ليس فقط في مجالات البحث والتطوير، ولكن أيضاً في القطاعات التجريبيَّة والمعارض الصناعيَّة. ولأخذ نموذج عالمي، يجدر بنا النظر إلى محاضن اختبار الابتكار في كوريا الجنوبيَّة، حيث تستخدم المناطق السكنيَّة لتسريع الابتكار المفيد في إنترنت الأشياء. وهناك أيضاً أمثلة مثيرة للاهتمام في تايوان حول عدد الأشخاص، الذين يمكن أن يشاركوا في وضع تشريعات حول الصناعات الناشئة. وهذا التنظيم يمكن أن يكون في كل مدينة، أو منطقة، أو دولة، تسائل نفسها عن كيفيَّة توفير الفرص الجديدة، لجلب الثروة والازدهار لشعبها، في عصر الثورة الصناعيَّة الرابعة.

لهذا، لا بد من خلق البيئات الذكيَّة، التي تدعم بالتنظيم الصناعي الاستباقي النتائج الاقتصاديَّة التنافسيَّة، وترتقي بالمستويات الاجتماعيَّة، وترتِّب الأوضاع السياسيَّة المستقرَّة. فحتى الآن، أكدت مناقشات الثورة الصناعيَّة الرابعة، بشكل رئيس، على التدفّقات الماديَّة؛ مثل الطاقة، والنقل، والشحن. ولكن ماذا لو فكَّر العرب في المدن الذكيَّة كأماكن تتحسَّن فيها النتائج الاجتماعيَّة، وتتوسَّع الفرص أمام الناس لتوليد الثروة؟ إذ يمكن أن يركِّز أحد مسارات الجهد الحالي على إعادة تشكيل أجزاء من المدن للمساعدة في رفع مستوى اللياقة البدنيَّة، والتفاعل الاجتماعي، والمستويات الصحيَّة، والجمع بين التقنيات والنماذج الجديدة للصحَّة، التي يدعمها الأشخاص، حتى يتمكَّن الناس من السيطرة بشكل أفضل على صحتهم، مع توفّر أدوات المراقبة والتشخيص والتحفيز. وماذا لو تمّ إعادة تخطيط المدن العربيَّة لدعم العديد من محاضن الاختبار والمناطق التجريبيَّة الأكثر وضوحاً، بحيث يمكن للجمهور أن يلعب دوره في تصميم وتشكيل خدمات الجيل التالي؛ سواء للتنقل، أو الأمن، أو حتى متعلّقات تناول الطعام والشراب؟

ففي الوقت الذي تظلّ فيه عيون العالم ثابتة على التغيير السياسي في العالم العربي، وكأنّ لا شيء غيره يتحرَّك، أو يتقدَّم، يجدر بنا أن ننظر إلى حيث بدأت الأزمة الحاضرة، أو الانتفاضات، التي أثَّرت تأثيراً بالغاً على أكثر من بلد عربي، وانعكست سلباً على غيره. فإذا كان الفقر وارتفاع تكلفة المعيشة هو السبب الأوضح، الذي أعلنت به انتفاضة تونس عن نفسها، ومن خلالها تَعَرَّف العالم على التحدّيات الأساسيَّة، التي تواجه المنطقة برمتها، فإن الفَطِنُ يُدرِك أين مكمن الخطر الاقتصادي. وإذا كانت القراءة الاقتصاديَّة لتلك الأزمة، على المستوى العالمي، بسبب الارتفاع في أسعار المواد الغذائيَّة في البلدان المستوردة للحبوب، الذي كان مدفوعاً في الغالب بالحصاد السيِّئ في روسيا وأستراليا، إلا أنه، مع ذلك، وبالنظر إليه بعمق أكثر، فإنَّ ارتفاع أسعار كل من السلع الغذائيَّة والسلع الأخرى، كانت كلها مدفوعة بتحول كبير في نمط النمو الاقتصادي في العالم.

وإذا كان ضعف التنمية الاقتصاديَّة هو أصل كل الاضطرابات في بعض أنحاء العالم العربي، فالأوجب أن يكون اهتمام الدول العربيَّة، وفي مقدّمتها المنظّمات الإقليميَّة؛ مثل مجلس التعاون لدول الخليج العربيَّة، والجامعة العربيَّة، بالمضي قدماً في مساعدة البلدان الأعضاء على إدارة النمو الاقتصادي، وتسريع عمليات التصنيع، والمشاركة الفاعلة في الثورة الصناعيَّة الرابعة. وبهذا المعنى، فإنَّ مبدأ اللحاق بركب النمو يرفع من صواب المنطق القديم لعالم تُعْنَي فيه الدول العربيَّة بالتكنولوجيا الأحدث، لأنها تُحسن بشكل أفضل استخراج الموارد الطبيعيَّة المتوفّرة لدى هذه الدول، وتصنيعها لتعظيم قيمتها المضافة، وأن تفعل ذلك بمعدّل يفوق تطوُّر التقنيات الجديدة، المستخدمة في غيرها من دول العالم.

ولتقريب وجهة النظر هذه قليلاً، يمكن أن نتصوَّر العالم اليوم على أنه يشتمل على طريقين للنموّ الاقتصادي. إحداها هي النموّ القوي، حيث تحلم دول التكنولوجيا المتقدِّمة بأفكار جديدة؛ كاختراع شخص ما لمنصَّة تواصليَّة متقدِّمة، أو روبوت صناعي أفضل، أو قطار أسرع. والنوع الآخر هو اللحاق بالركب، الذي يبحث فيه بلد فقير، عن طريق نسخ الأفكار، التي تمّ تطويرها بالفعل في البلدان المتقدِّمة. وهذا ما يحدث بالفعل عندما يُفتح مصنع للملابس في بنغلاديش، استهداء بتجربة الصين، أو عندما يبدأ فرع بنك مكسيكي باستخدام أجهزة الصراف الآلي، استنساخاً لاختراع ابتدرته الولايات المتَّحدة الأمريكيَّة.

بالطبع، إنَّ هاتين الحالتين ليستا استثناءً، ففي العالم الواقعي، كل الدول تقوم بفعل نفس الشيء في كل وقت. والبلدان الغنيَّة تنسخ اختراعات بعضها البعض، وتخرج البلدان الفقيرة ببعض الأفكار الجديدة، التي لا تجد مجالاً لتطوير تصنيعها إلا في هذه البلدان الغنيَّة. لكن ما نفترضه، ونرغبه، بالنسبة لدول مجلس التعاون الخليجي العربيَّة، وسائر البلدان العربيَّة، أن تعمل بمستوى يقارب بين النموذجين، ويتدارك مثالبهما، لأن لها من الثروات ما يجعلها تحظى بوضع اقتصادي أفضل، ويكون بمثابة تمييز إيجابي للانخراط النشط في الثورة الصناعيَّة الرابعة، وأن تكون جاهزة للانطلاق نحو الموجة الخامسة من الثورة الصناعيَّة، التي يستشرفها العالم الآن. فمن الناحية النظريَّة، يبدو أن اللحاق بركب النمو الصناعي يجب أن يكون أسهل بالنسبة لهذه البلدان، تقديراً على ما ذكرنا من ميِّزات اقتصاديَّة. ومن الناحيَّة العمليَّة، فإن الاختراعات المُيسِّرة للبداية قد تمَّ انجازها بالفعل، وكل ما على هذه الدول القيام به هو نسخها وتوطينها، والعمل على تطويرها، وتعظيم الفائدة الاقتصاديَّة منها. وهذا ما افترضته ونادت به النظريَّة الاقتصاديَّة منذ فترة طويلة، أي أنه ينبغي على الدول الفقيرة أن تزيد من سرعة اللحاق حتى تتلاقى مع الدول الغنيَّة خلال فترة زمنيَّة قصيرة.

البحث أساس التطوّر:

تاريخيّاً، كانت معظم الاستثمارات والمُدْخَلَات، التي تشكِّل قِوام البحث لتطوير تقنيات الصناعة، تأتي من الصناعات العسكريَّة والمدنيَّة، إلا أن الثورة الصناعيَّة الرابعة قلبت الكثير من هذه المعادلات. إذ تعكس بعض الأفكار الأكثر وضوحاً، المرتبطة بهذه الثورة، بعض الابتكارات، التي يُنفق في تطويرها الكثير من الموارد، في حين أنها تستهدف تلبية احتياجات صغيرة، كالثلاجات، التي تخبر صاحبها متى عليه شراء المزيد من الحليب والعصير، والتي قد تكون حيويَّة جداً لبعض ذوي الاحتياجات الخاصَّة. لهذا، فإنَّ أفضل الأمثلة على التنظيم الاستباقي، هي: كيف يتمّ وضع الأولويات؟ وكيف يتمّ تمويلها؟ وكيف يمكن ضمان المُدْخَلَات الصحيحة من أصحاب المصلحة في القطاع العام؟ وما الذي يمكن أن يتعلّمه القطاع الخاصّ من الأساليب الرائدة في التمويل؟ وعلى وجه الخصوص، كيف يمكن استخدام المزيد من الأساليب التجريبيَّة لمعرفة ما هو الأفضل للجميع؟

فالواقع يقول إنّه وسط الخطط الاقتصاديَّة العامَّة، التي تسلِّط الضوء على اقتصاد المعرفة، هناك عنصر رئيس مفقود، ألا وهو البحث والتطوير الخاصّ. إذ يفتقر نظام التعليم في جميع أنحاء الوطن العربي إلى بنيَّة تحتيَّة كبيرة، ودوافع ومهارات ضروريَّة، لتنمية البحث والتطوير في القطاع الخاص، بدلاً من ذلك، يتمّ استيراد الكثير منه من الخارج بتكلفة عالية، مع قدر محدود من فرص نقل المعرفة وتوطينها. ممّا حدا بالشركات العالميَّة إلى استخدم المنطقة كمركز للمبيعات والتسويق، بينما تميل مثيلاتها العربيَّة إلى أن تظلَّ متابعاً للاتِّجاهات السائدة، بدلاً من متخصِّصة في مجالات بعينها. ويمكن ملاحظة هذا القصور أيضاً في المؤسَّسات الأكاديميَّة، نظراً لأن العديد من الجامعات في الدول العربيَّة لم يتمّ تصنيفها ضمن قوائم المقدّمة، أو اعتبارها وجهات عالميَّة للابتكار والبحث. وذلك لسبب واضح هو عدم وجود بيئة ونظام ملائم للبحث والتطوير، ليس فقط في الجامعات، ولكن في المجتمع ككل. ففي حين تؤكِّد الثورة الصناعيَّة الرابعة على الابتكار في مجموعة متنوِّعة من المجالات، تحتاج المؤسَّسات الأكاديميَّة في الدول العربيَّة إلى اللحاق بالركب. إذ ينبغي أن تلعب هذه المؤسَّسات دوراً أساسياً في النظام الاقتصادي، الذي يركِّز على اقتصاد المعرفة، لأنها واحدة من الأماكن القليلة، التي تجمع بين مهارات مختلفة تحت سقف واحد، وهدفها الرئيس هو البحث والتحليل والابتكار.

إنَّ دعم هذه المؤسَّسات من شأنه أن يحفِّز الأفراد والشركات على إنشاء مراكز بحث تطبيقيَّة لمواجهة بعض التحدّيات الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة في المنطقة العربيَّة، أو يخلق ابتكارات محليَّة عميقة الأثر على مجمل هذه القطاعات. فالافتقار إلى البحث والتطوير يمنع العديد من الشركات الناشئة من تأسيس قاعدة انطلاق في بلدانها لأنها غير مجهَّزة بشكلٍ مناسب للابتكار والاختبار. ونلحظ أنه ربما بدأت العديد من الشركات الناشئة القائمة على أحدث التكنولوجيا، عملها في المنطقة، لكنها سرعان ما انتقلت إلى دولٍ صاعدة، أو متطوِّرة، تتيح لها الوصول إلى البحث والتطوير، وبها تشريعات ونُظم أكثر تطوّراً. رغم أنه بُذِلَ، على مدى العقد الماضي، أو نحو ذلك، جهدٌ لتحديد الرؤى القُطْرِيَّة الطموحة في المنطقة، لدعم اقتصاد المعرفة، وجعل البيئة الوطنيَّة أكثر مُلاءمة للاستثمار الأجنبي المباشر، وتقليل الأثر السالب على القضايا الاجتماعيَّة والاقتصاديَّة المتكرِّرة، التي تواجه المنطقة العربيَّة. وكان ينبغي أن تدعم تلك الرؤى، على وجه التحديد، الابتكار وريادة الأعمال، مع التركيز على تشجيع الشباب باعتبارهم روّاد التقدُّم نحو آفاق الثورة الصناعيَّة الرابعة.

لهذا، ومن أجل زيادة مساهمة الشركات الناشئة، سيتطلَّب الأمر أيضاً بنية حوكمة حازمة، تتضمَّن سياسات واضحة لمجالات البحث، والتمويل، والتواصل المنسَّق بين مختلف أصحاب المصلحة، في القطاعين العام والخاصّ، والتواصل الواضح مع بقيَّة الأفراد في المجتمع. على سبيل المثال، صاغت الحكومة الألمانيَّة “الإستراتيجيَّة المتقدِّمة”، التي سلَّطت الضوء على العديد من مكوّنات البحث والتطوير في البلاد. وشمل ذلك الموضوعات المطلوبة ذات الصلة؛ من التعليم، والابتكار، والتكنولوجيا. وقد أُطْلِقَت هذه الاستراتيجيَّة في عام 2006، وجرى تحديثها في عام 2014، لتستمرّ حتى عام 2021، بجهود مشتركة من جميع الوزارات. ومنذ ذلك الحين، قامت الحكومة الفيدراليَّة بضخ استثمارات تصل إلى 27 مليار يورو. فهل بمقدور الدول العربيَّة مجتمعة أن تماثل هذا الإنفاق على البحث العلمي والابتكار، أو تقترب منه، لنتفاءل بأنَّ اللحاق بركب النمو ممكن، وأن حجز مقعدنا في قاطرة الثورة الصناعيَّة الرابعة مضمون؟

الخاتمة:

على الرغم من أننا ما زلنا ننظر إلى بعض منجزات، أو نتائج، الثورة الصناعيَّة الرابعة كما لو كانت معجزات، أو خيال علمي، إلا أن المستقبل مليء بالمفاجآت، وقد تتجاوز التطوّرات القادمة ما شهدناه خلال هذه الثورة. لذا، فإن ما نراه الآن هو الحدّ الأدنى مقارنة بما لم يأتِ بعد، أو ما يجري البحث عنه في المختبرات ومراكز البحوث في العالم المتقدِّم. وهذا يرجع بشكل رئيس إلى حقيقة أنَّ المعرفة تتزايد وتتراكم بطريقة لم يسبق لها مثيل، إذ تُشير الدراسات إلى أن المعرفة تتضاعف على أساس سنوي. لذا، فإن هذه الثورة لا تشبه على الإطلاق أي تجربة أخرى مرَّت بها البشريَّة من قبل، لأنها سريعة جداً، وعميقة لدرجة أنها لا تُضَاهَى بأيٍ من المراحل السابقة للتنمية الصناعيَّة.

ففي المسار الحالي، ينبغي ألا ننظر كعرب إلى هذه الثورة الصناعيَّة كمجرَّد علامة تجاريَّة وصِفَتْ بالرابعة، أو أن ينتهي بنا الأمر للنظر إليها كتهديد لسبل عيش الكثير من الناس في بلداننا. إنَّ اهتمامنا يجب أن ينصب حول جهد اللحاق، والتطلُّع إلى السبق، بأن نجعل من تفاعلنا معها دافعاً للابتكار، والإبداع، وشحذ الخيال، لتلبية بعض أكثر احتياجات البلدان العربيَّة إلحاحاً. فالثورة الصناعيَّة الرابعة تَعِدُ بفوائد كبيرة، ولكنها تنطوي أيضاً على مخاطر، لا ينبغي أن نغفل عنها، إذ تؤدِّي إلى اتِّساع الفجوة بين الطليعة المُبْدِعَة وبين غيرهم من التقليديِّين في قطاعات الاقتصاد المختلفة. كما علينا التحسُّب، والعمل على إنشاء بدائل حقيقيَّة للوظائف، التي من المتوقَّع أن تلغيها عمليات الرقمنة، وآليَّات التقنية المتقدِّمة. وعلينا، في الختام، إدراك أن هذه الثورة الرابعة قد جلبت معها تهديدات كبيرة محتملة على الخصوصيَّة الشخصيَّة والعائليَّة، وما نشهده الآن من مخاطر الأمن السيبراني يطال سيادة الدول وسياساتها الاقتصاديَّة والاجتماعيَّة.

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

القاهرة، الجمعة 10 يناير 2020

جديدنا