مذكّرات الشيخ القطان

image_pdf

يقدّم لنا كتاب “المذكرات والرحلات للشيخ إبراهيم القطان” (وزارة الثقافة الأردنية، 2007) ما يتجاوز مجرّد ذكريات لأحد الشخصيات الدينية والتربوية الأردنية الرائدة، وهو الشيخ إبراهيم القطان (1916 – 1984)، إلى تقديم “شهادة” مهمة على شخصيات وأحداث وأحوال، والأهم التعرّف إلى شخصية “صاحب المذكرات” نفسه، وفكره ورؤيته النقدية التي تكشف عن نموذج غير تقليدي لقيادي وطني ديني رفيع.الشيخ إبراهيم القطان من أصول شاميّة، جاء جدُّه إلى الأردن خلال أعماله التجارية الإقليمية، وأعجبته عمّان، فقرّر الإقامة فيها، وفتح محلاً، نهاية القرن التاسع عشر. وإذا كان الشيخ إبراهيم القطان ولد خلال الحرب العالمية الأولى، فإنّه لا يبدأ بقراءته تاريخ عمّان (يعشقها كما يقرّر في مقدمة الكتاب) منذ ذلك التاريخ، بل يعود إلى المراحل الأولى من التاريخ، متتبعاً الحضارات والدول والآثار والتحوّلات الاجتماعية والسياسية التي مرّت فيها عمّان، والبلقاء وباقي المدن الأردنية، وصولاً إلى عودة الحياة الاجتماعية إليها منذ أواخر القرن التاسع عشر.
يقدّم لنا الشيخ القطان تعريفاً بشخصيات عديدة مهمة في حكومات شرق الأردن الأولى، بخاصة أعضاء حزب الاستقلال السوري، ويقودنا إلى شخصية دينية أردنية مهمة في تلك المرحلة، الشيخ محمد خضر الشنقيطي، من أصول موريتانية، وهو الذي تأثر به بدرجة كبيرة في مرحلة الشباب، ودفعه إلى سلوك طريق العلم الشرعي، ودرس على يديه مجموعة كبيرة من العلوم الشرعية واللغوية، وحبّبه في القراءة، قبل أن يقرّر الانتقال في الثلاثينيات الذهاب إلى المدينة المنورة، والإقامة فيها ويحقق أمنيته بأن يتوفى هناك ويدفن أيضاً.
ينتقل الشيخ القطان إلى الدراسة في الأزهر في الثلاثينيات، ويقدّم ملاحظات على درجة من الأهمية عن مظاهر الحياة الثقافية والسياسية في القاهرة، ورؤية نقدية عن التدريس في الأزهر وعن مشايخه وشخصياتهم، وبعض الشخصيات المعروفة حينها، مثل الأديبة ميّ زيادة، وكان قبل ذلك قد تحدّث عن شهادته على الحالة العلمية الدينية في الشام، حيث كان، في صغره، يزور أقرباءه من الأعمام والأخوال ويقيم فترة، فتحدث عن دروس لمشايخ مشهورين كان قد حضر دروسهم في مساجد عديدة.
يعود بعد ذلك الشيخ في الأربعينيات ليعمل في التربية والتعليم، ثم يصبح وزيراً للأوقاف وقاضياً للقضاة في 1962، مع أولى حكومات وصفي التل الذي كان يبحث عن جيل الشباب، ويتنقل في سلكه المهني بين المواقع، مفتشاً تربوياً، قاضياً للقضاة، وسفيراً للأردن في المغرب والكويت، ويعود قاضياً للقضاة إلى أن وافاه الأجل عام 1984.
لو تجاوزنا كل تلك المعرفة والشهادات والمشاهدات التي يتحفنا بها الكتاب، فإنّ أكثر ما يدفع إلى الاهتمام هو ذلك الوعي الفكري الرفيع الذي كان يمتلكه الشيخ، والرؤية النقدية العقلانية ذات الطبيعة المتوازنة والمعتدلة للأشخاص والأفكار والمذاهب.
ذلك الوعي يتبدّى بصورة عفوية وغير مباشرة في “المذكرات” لطريقة التدريس في الأزهر التي تقوم على تدريس “الكتب” وليس تقديم العلم، عن طريق قراءة المتون القديمة وتحفيظها. ولذلك يقرّ بأنّ استفادته من التعليم في الأزهر كانت فقط الحصول على الشهادة، وإنّ ما حصله من علم فمن جهوده الذاتية في التعلم والقراءة والدراسة على يد مشايخ خارج الأزهر نفسه، ومن حضوره مؤتمرات وندوات أدبية وثقافية كانت تعجّ بها مصر خلال تلك المرحلة، والحال نفسها تنطبق على رأيه في تدريس العلوم الشرعية في سورية.
الجانب الآخر في شخصية الشيخ هو الانفتاح الجريء على الحداثة والمجتمع والثقافة والفن، فلم يكن منغلقاً، وكان يحرص على مشاهدة الأفلام الجديدة ومتابعة المسرح، وقراءة المشهد الثقافي بتجلياته المختلفة، وكان متميزاً في “لعبة البريدج” وقد كتب كتيباً صغيراً في تعليم اللعبة، كما كان مهتماً بموضوع المرأة وتعليمها وحقوقها بصورة لافتة، تظهر في الكتاب، فضلاً عن الوعي السياسي المبكّر له لسياسات الاستعمار والمشروع الصهيوني وحالة الدول العربية، وقد اعتُقل في مرحلته الأخيرة في الأزهر 1941، لمشاركته في أنشطة توعوية ضد الانكليز، ونُقل إلى سجون فلسطينية، قبل أن يتم إطلاق سراحه.
المفارقة أنّ هذه الشخصية الدينية المتّزنة والمعتدلة والمنفتحة لم تحظ بما تستحقه من اهتمام لدى الباحثين والدارسين، ولم يأخذ حقّه نموذجاً مهماً للشخصيات الدينية الوطنية.

*المصدر: العربي الجديد.

جديدنا