السلطة الخامسة والتحدِّي الأخلاقي للإعلام الجديد

image_pdf

ملاحظات أوَّليَّة:

يحضرني في هذا المقام “المقال” حديث أسهمت به، خلال استعراض ورقة بعنوان: “التحدِّي الإعلامي والثقافي”، قدّمتها ضمن فعاليَّات المؤتمر السادس عشر حول (الشباب المسلم والإعلام الجديد)، الذي نظَّمته رابطة العالم الإسلامي، في الفترة من 3-4 ذي الحجة 1436هـ، الموافق 16-17 سبتمبر 2015م، بمقرّها بمكة المكرمة، تناولتُ فيه شيئاً من المفارقات المُقْلِقَة، التي يتحدَّى بها الإعلام الجديد منظوماتنا الأخلاقيَّة، وفي مقدّمتها؛ تهديده للهياكل والبُنَى السياسيَّة والاجتماعيَّة والثقافيَّة، وحتى الدينيَّة، وما أصاب الإعلام التقليدي جراء ذلك من انقلاب مفاهيمي، انهارت معه القيم المُؤسِّسَة للمهنيَّة والحرفيَّة؛ من تَحَرٍ للدِقَّة، والصِدْقِيَّة، والتوازن، والحِياد، والموضوعيَّة، وتداعت قواعد التراتبيَّة التنظيميَّة والإداريَّة الناظمة للمسؤوليَّات وإجراءات المحاسبة، إذ صار كل فرد مَصْدَرا ومُحَرِّرا ومُتَلَقِيّا، ولم يعد هناك رئيس تحرير مسؤول، ولا مُدير مُحاسب، ولا مؤسَّسة مالِكة تُحاكَم على الإشاعة، أو تُعاقَب على إشانة السُمْعَة.

لقد تطوَّرت وسائل التواصل الاجتماعي، منذئذ، بشكل كبير وخطير؛ أتاح، في جانبه الإيجابي، فرصاً لا مثيل لها في التاريخ؛ من سِعَة التواصل والمشاركة، كما مَثَّلَ، في جانبه السلبي، خطوة أخرى في التدهور المستمرّ لمنظومة الأخلاق في مهنة الإعلام. وأصبحت الخطوط الفاصلة بين الصحفيِّين المحترفين، والهواة المبتدئين، والمدوّنين الجادّين والمهرّجين، غير واضحة. وبالتالي، فقد تغيَّر هيكل وسائل الإعلام بشكل كبير ممَّا أثَّر على السمات الأساسيَّة للمهنة وأخلاقيّاتها. وتحدَّت هذه الظاهرة المتفاقِمة مفاهيم الإعلام المتنازع عليها أصلاً؛ كعلم ومعرفة ومهنة، وما ينتاب الإعلاميِّين من هواجس الانتقاص من مكانتهم كمحترفين. وفي حين أن هذا الشعور يُمَثِّلُ تحدّياً هائلاً للمهنة بكل أبعادها، إلا أنَّ البحث عن آثاره على هويَّة الإعلام وأخلاقيّاته في الدراسات الأكاديميَّة ما يزال ضئيلاً. إذ تركِّز الأدبيَّات الحاليَّة على استخدام الوسائط الجديدة، أو النُقلات الرقميَّة، وجمع الأخبار، والإنتاج، والنشر، والاستهلاك، مع قليل من الاهتمام بأخلاقيَّات المهنة، أو قيمها الإعلاميَّة ذاتها، كضابط أخلاقي للممارسة تَرَسَّخَ عبر الأجيال.

إنَّ هذا المقال يسعى إلى تقديم مساهمة تستهدف المساعدة في خلق توازن بين الإعلام الجديد، وما يميّزه من آنِيَّة وسائل التواصل الاجتماعي، وبين الإعلام القديم، وما تأسَّست عليه قواعده من تقاليد، وكيفيَّة إيجاد مواءمة موضوعيَّة بينهما. ومن ثم، مناقشة معادلة المعضلات الأخلاقيَّة، ونزعة التحلُّل من القواعد والقيم الراسخة، التي نتجت عن تبدّلات الهيكليَّة والتراتبيَّة الإداريَّة، والتي عَرَّضَت المهنة للخطر. فقد مرَّ ما يقارب العقود الثلاثة لهذه التحوّلات، التي جرى فيها وضع الأخبار؛ في سياقها وجمعها ونشرها واستهلاكها، في أربعة منافذ إعلاميَّة متمايزة؛ الطباعة، والإذاعة، والتلفزيون، والإنترنت. وتحتوي هذه الوسائط على بيئات متنوّعة من حيث طرق الإنتاج والتوزيع والاستهلاك، التي تَخْلِق في نهاية المطاف هويَّات مهنيَّة مختلفة، ومستوى صِدْقِيَّة غير محسوسة بشكل مُتَّسقٍ بين الجماهير. رغم أن بيئات وسائل الإعلام الأربعة المختلفة لها ميزات متقاربة، إذ تشترك جميعها في أوجه التشابه الشائعة في مهنة الإعلام.

لهذا، تنبع أهميَّة هذا المقال من حقيقتين، أولاهما، أنَّ الأدبيّات السابقة تناولت، على وجه التحديد، الطُرُق، التي تؤثِّر بها وسائل التواصل الاجتماعي على الأخلاقيّات، وتكييف القرار الأخلاقي في بثّ المرويَّات العاجلة، والمدوّنات الانطباعيَّة على الإنترنت، دون ضبط وتمحيص. بينما بحثت الدراسات الحاليَّة في تأثير وسائل التواصل الاجتماعي من زوايا مختلفة، وباستخدام طرق مختلفة. ومع ذلك، فإنَّ دراسات أخلاقيَّات وسائل الإعلام الاجتماعيَّة والصحافة منقوصة. وثاني الحقيقتين، أنَّ المؤسَّسات الإعلاميَّة الإخباريَّة، في الوقت الحالي، هي المؤسَّسات الأقل مصداقيَّة، لأن الثقة في الأخبار تتناقص مع الوقت الإضافي، والنسبة المئويَّة للأشخاص الذين يشعرون بالقلق من المعلومات الزائفة، أو الأخبار المزيَّفة، التي يتمّ استخدامها كسلاح، ترتفع باستمرار. وبالتالي، لم يعد الإعلام التقليدي مصدراً موثوقاً، أو جديراً بالثقة للأخبار والمعلومات، لتأخّره في نقل هذه الأخبار والمعلومات. الأمر الذي يجعل المهنة برمتها تواجه تهديداً حقيقيّاً حيث يتمّ تحطيم الحدود، التي تحمي أولئك الذين يعملون داخل أسوارها، وتستبعد من يغزونها من الخارج، أي من منصَّات التواصل الاجتماعي، والذين لا يمثِّلون المهنة، ولا يمتثلون لأخلاقيّاتها، بل يعبِّرون عن آرائهم واهتماماتهم ومواقفهم الخاصَّة.

الهرميَّة المسؤولة:

تَعَوَّدَ جِيلُنَا، الذي خَبِرَ العلاقة مع القواعد المرعيَّة للإعلام، قبل ثورة الاتِّصالات الحديثة، أن يرى المهنة تخضع لهيكليَّة وتراتبيَّة ثابتة، وتنتظم بإعدادات تنظيميَّة هرميَّة معلومة، وتخضع الممارسة لقيود محدَّدة، ومعايير أخلاقيَّة صارمة. ولكن نظراً لمستحدثات التكنولوجيات الرقميَّة لوسائل التواصل الجديد، أو شبكات التواصل الاجتماعي، فإنَّ مهنة الإعلام، كما نعرفها، دخلت مرحلة مختلفة تماماً عن فرصة التقارب والتدامج، التي بشرَّتنا بها بداياتها. إذ اتَّضح جليّاً أنَّ التقارب الإعلامي، الذي توفّرنا على دراسة سماته في تسعينيات القرن الماضي، ليس مجرَّد مسألة دمج التكنولوجيا لوسائل الإعلام المختلفة في وسيط واحد، بل إنّها عمليَّة تحوّلات لا نهاية لها، ولها آثار شاملة وجوهريَّة على كل جانب من جوانب مهنة الإعلام، والبيئات الثقافيَّة، التي تشكَّلت به، بما في ذلك علاقات المنتجين والمستهلكين وسلطة التوزيع والتأثير، حتى صار هذا التقارب عمليَّات معقَّدة؛ تحرّك بعضها الشركات المُنْتِجَة من أعلى إلى أسفل، ويدفع ما تبقَّى من سلطتها المستهلكون من أسفل إلى أعلى.

إنَّ هذين الشريكين الرئيسيّين؛ المنتجين والمستهلكين، يتنافسان في عمليَّة التقارب على زيادة فوائدهم، وتوسيع سيطرتهم، على تدفُّق الأخبار والمعلومات. والمؤكَّد أن لكل منهما أغراض ودوافع تجذبهما معاً لمشاركة منصَّات الوسائط نفسها، ولكن مع أهداف مختلفة. فمؤسَّسات الإعلام، بوسائلها المختلفة، تحاول تسريع تدفُّق المحتوى عبر قنوات التسليم والتلقَّي لزيادة فرص الإيرادات، وتوسيع قاعدة الأسواق، وتحسين التزامات المتابعين من القرّاء والمستمعين والمشاهدين. بينما يكافح الجمهور المتلقِّي، من ناحية أخرى، للسيطرة على تدفُّق الأخبار والمعلومات، التي يرغب في متابعتها. إنَّ الشريكين يحاولان الفوز بمعركة الاستقلال والاستغلال بين دوافع ممارسة السلطة وهدف الحصول على المزيد من الإيرادات. في هذه المعركة، أصبح المواطنون المتحرِّرون من الروتين الصحفي التقليدي، وموانع المؤسَّسات الإعلاميَّة الإخباريَّة، أكثر نشاطاً، عبر وسائط التواصل الاجتماعي، في إنتاج وتوزيع الأخبار والآراء. في الوقت نفسه، صارت المؤسّسات الإعلاميَّة الإخباريَّة تفتقر إلى المكانة والقوَّة والنفوذ، التي كانت ذات يوم من سمات وجودها الأساسيَّة.

لقد لاحظنا، منذ العقد الأخير للقرن الماضي، أنَّ الجمهور قد بدأ، وعلى نطاق عالمي، رحلة الهجرة بعيداً عن الإعلام التقليدي، والبحث عن الأخبار والمحتوى الثقافي المتاح في منصَّات التواصل الاجتماعي، على ما عليه من ضعف في التَقَيُّد بقواعد المهنة الأخلاقيَّة. إذ أدَّى الانفجار الناجم عن انتشار شبكة الإنترنت إلى وفرة في الأخبار ومحتوى المعلومات، الذي يأتي من خارج صفحات الصحافة الاحترافيَّة، أو قنوات الإذاعة والتلفاز. ووجد الجمهور في وسائل التواصل الاجتماعي فرصاً غير محدودة لأن يصبحوا هم أنفسهم كصحفيِّين في متناول يدهم أدوات إنتاج وتسجيل ومشاركة النصوص والصور والفيديوهات والصوت، وغير ذلك من أشكال تبادل المحتوى بشكل أسرع، وبسهولة أكثر من أي وقت مضى. وفي هذه المعركة، فإنَّ التقارب والتفاعل وتخصيص المحتوى والنصّ التشعّبي، إلى جانب الاختراق الواسع وتوافر أدوات التجارة الإلكترونيَّة الجديدة، يُعَادُ تعريف الإعلام، وكيف يتم تنفيذ رسالته؛ وبالطبع من هو الإعلامي. وفي الوقت نفسه، فإنَّ هذه التبدُّلات تُثير معضلات أخلاقيَّة جديدة، وتساؤلات جادَّة حول غياب الهرميَّة المسؤولة، التي يمكن أن تخضع للمساءلة والمحاسبة حال انحراف الأداء.

لقد تعمَّدت الأدبيَّات الحديثة التقليل من شأن الجانب السلبي في وسائل التواصل الاجتماعي، وتغفل عنها، خاصَّة آثارها على المهنة وجوهرها؛ المُتَمَثِّل في الأخلاق. ورغم أن وسائل التواصل الاجتماعي تقوم بمراقبة الوسائل التقليديَّة، والتحقُّق من شرعيّتها ومصداقيتها، والتشكيك في دقّتها ومعاييرها، وفرض شفافيَّة جديدة، إلا أنّها، ومع ذلك، تحمل معلومات مضلِّلة وكاذبة وأخبار وهميَّة. فقد شَهِدنا أنَّ وسائل التواصل الاجتماعي تُمكّن كلاً من النُخَبْ والقواعد الشعبيَّة من تجاوز وسائل الإعلام التقليديَّة ونقل رسائلهم؛ دون وسيط، إلى مؤيِّديهم، أو متابعيهم. بالإضافة إلى ذلك، أصبح التضليل مشكلة عالميَّة حقيقيَّة، حيث تجاوز المجال السياسي ليشمل جميع جوانب المعلومات، بما في ذلك تغيُّر المناخ، والترفيه، والعديد من القضايا الحيويَّة الأخرى.

فالخصائص الرئيسة لوسائل التواصل الاجتماعي تجعلها سيفاً ذو حدين. من ناحية، تعتمد على تقنية الحريَّة، التي تعزِّز الشفافيَّة والديمقراطيَّة، وعلى النقيض من ذلك، فإنَّ مستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي، وفقاً لمعايير الصحافة التقليديَّة، ليسوا مسؤولين، أو مهنيِّين يمكن مساءلتهم. إنَّ جمهور وسائل التواصل الاجتماعي؛ المنتجون والمستهلكون، أحرار من التسلسل الهرمي المؤسَّسي، والقيود، واللوائح الخاصَّة بالإعلام، ويعمل الافتقار إلى المسؤوليَّة والمساءلة ضدّ القواعد الأخلاقيَّة، التي تأسَّست عليها مهنة الإعلام منذ إنشائها قبل خمسة قرون. فقد تحوَّلت ممارسة الحريَّة من عدد قليل من مُلَّاك المؤسَّسات الإعلاميَّة الإخباريَّة والإعلاميين المحترفين إلى جميع الناس. وفي عمليَّة الاستبدال هذه، لم يعد منظوراً أن يتم تَقْيِيد المالكين الجدد للحريَّة بموجب القوانين، أو الأخلاقيَّات، التي كانت تحكم بيئة المالكين القدامى.

السلطة الخامسة:

إنَّ التحوّل الرقمي الهيكلي في مهنة الإعلام يمثِّل الآن مُعْضِلَةً أخلاقيَّة حقيقيَّة، ولا تُبَشِّر قادمات الأيام بوجود تصوّرات ناضجة يمكن أن تُنْتِجَ حلاً لها. فالتطوّر يتسارع بأشكال تفوق قدراتنا على الملاحقة، التي تضبط مساراته. ويجادل عالم الاجتماع ويليام دوتون، من معهد أكسفورد للإنترنت، بأننا نشهد ظهور منصَّات وشبكات إخباريَّة قويَّة؛ جديدة تعمل بشكل مستقل، وبعيداً عن السيطرة على وسائل الإعلام التقليديَّة السائدة. وقد صف دوتون هذه المنصَّات القويَّة بأنها “السلطة الخامسة”، التي قوضت بالفعل، وتجاوزت حدود، المنظّمات الإعلاميَّة الحاليَّة. إذ يعتقد أن هذه السلطة الخامسة يمكن أن تكون مهمَّة للقرن الحادي والعشرين بقدر أهميَّة السلطة الرابعة منذ القرن الثامن عشر. ويقول إنَّه في القرن الحادي والعشرين، بدأت مؤسَّسة جديدة في الظهور ببعض الخصائص المماثلة للسلطة الرابعة، ولكن بميزات مهمَّة، وفريدة بدرجة كافية ومعقولة، تبرِّر الاعتراف بها ووجودها كسلطة خامسة منفصلة جديدة. وتفتح هذه السلطة طرقاً جديدة لتعزيز مساءلة المنظّمات السياسيَّة، والمؤسَّسات الإعلاميَّة الإخباريَّة، وغيرها، من مواقع القوَّة والنفوذ.

ربما لا يكون انشغالنا في العالم العربي كبيراً بنشوء هذه الظواهر التكنولوجيَّة بالقدر، الذي ينبغي أن نستعدّ به لمقابلة آثارها الاجتماعيَّة، أو مواجهة تحدّياتها المهنيَّة والأخلاقيَّة. غير أننا نجد أن المؤسَّسات الإعلاميَّة الإخباريَّة الرئيسة في الغرب، تُحاول جاهدة الاستجابة لظهور “السلطة الخامسة”، وفهم وتحديد التحدِّيات التقنيَّة والمهنيَّة والاجتماعيَّة، التي يثيرها النمو السريع لهذه الظاهرة. إذ يجري التركيز حثيثاً على عدد من القضايا العمليَّة، التي من بينها التحكُّم التحريري، والتدرّج، وصيانة الملكيَّة الفكريَّة، والنظر في عدم وضوح المجالات المهنيَّة والشخصيَّة، فضلاً عن المخاوف بشأن الطبيعة التمثيليَّة، أو غير التمثيليَّة للشبكات، والتي تسعى إلى الاعتراف بكينونتها في الحقل الإعلامي. ومن الواضح أنّ المعضلات الإستراتيجيَّة كما حدَّدتها وسائل الإعلام الرئيسة، لا ترتبط بشكل مباشر، أو غير مباشر، بأخلاقيَّات الإعلام، التي تمَّ، للأسف، دفعها إلى الكواليس. فقد تمَّ إجراء جميع الأبحاث تقريباً في هذا المجال بغرض محدَّد واضح، أو ضمني، لفحص استخدام شبكات التواصل الاجتماعي، ووظائفها، وأدوارها، وتأثيراتها، مقارنةً بالوسائط الإعلاميَّة التقليديَّة، دون اهتمام كافٍ بموضوع الأخلاق، الذي لا يمكن إلا أن يكون مقدّماً على غيره في مجتمعاتنا العربيَّة.

التحدِّي الأخلاقي:

في سياق ما تقدَّم، يمكن الزعم أن القضيَّة الأكثر أهميَّة، التي أثارتها وسائل التواصل الاجتماعي، هي التحدَّيات الأخلاقيَّة، وتأثيرها على تراجع الثقة في المهنة والإعلاميِّين كمهنيِّين محترفين. إذا كان القراء والمستمعون والمشاهدون لا يثقون في منصَّات وسائل التواصل الاجتماعي، فمن المحتمل أن يمتدّ هذا الموقف السلبي إلى منصَّات الإعلام الأخرى؛ سواء كانت متَّصلة، أو غير متَّصلة بالإنترنت. وهذا هو السبب في أنَّ المهنة ككل في خطر، وأعراض الأزمة عديدة، من بينها انخفاض في جماهير وسائل الإعلام التقليديَّة، وتداولها، وإيرادات الإعلانات. كما أن التراجع المستمرّ لوظائف الإعلاميِّين، وتراجع اهتمام طلاب الإعلام بدخول سوق العمل الإعلامي، وإغلاق العديد من مؤسَّسات الإعلام الإخباريَّة في جميع أنحاء العالم، هي أيضاً مؤشِّرات واضحة على هذه الأزمة. هذا التراجع يهدِّد الوظائف العامَّة، وأدوار الإعلام في المجتمع كمؤسَّسة اجتماعيَّة مسؤولة عن تقديم حساب دقيق ونزيه وصادق وموضوعي وشامل للأحداث اليوميَّة.

في الواقع، أصبحت المنصَّات الإعلاميَّة الجديدة، سواء اتفقنا، أو لم نتفق، مصدراً بديلاً للأخبار ووجهات النظر، خاصَّة للشباب والنشطاء، خاصَّة في البلدان، التي تنتسب فيها وسائط الإعلام التقليديَّة إلى الحكومات. وهنا، نرى أنه من المهمّ تسليط الضوء على البيان، الذي أدلى به غاي بيرغر، مدير اليونسكو لحريَّة التعبير وتطوير الإعلام، في مقدّمته لكتاب “الصحافة والأخبار المزيفة والمعلومات الخاطئة”، إذ يقول إنَّ التضليل هو ظاهرة على وسائل التواصل الاجتماعي يستغلّها الآن ممثّلون أقوياء. ونتيجة لذلك، فإن أي حديث عن قوانين جديدة وصارمة هي مجرد كبش فداء للأهداف السهلة، التي تنوي بشكل أساسي فرض الرقابة على الإنترنت وتقييدها. ومن ثمّ، تقييد جميع منصَّات وسائل التواصل الاجتماعي أيضاً. هذا ليس مجرّد تخوّف، بل هو واقع تنتهز فيه الكثير من الحكومات الفرصة لتكييف القوانين، التي تقوِّض حقّ التواصل، وحقّ الوصول إلى المعلومات، والحقّ الراسخ في حريَّة التعبير. ويضيف بيرغر أنَّ الخطر النهائي ليس فقط تنظيم غير مبرَّر لمهنة الإعلام، ولكن الخوف أن يكفر الجمهور بكل المحتوى الإعلامي.

إنَّ التحدِّي الرئيسي، الذي يواجهه اختصاصيو الإعلام، والمهنيّون، وواضعو السياسات، ومنظَّمات المجتمع المدني، هو كيفيَّة تقليل الجانب الفاسد من منصَّات وسائل التواصل الاجتماعي، أو تآكله تماماً بشكل أساسي، من النتائج غير الأخلاقيَّة؛ مثل، التضليل، والتزييف، والأخبار الوهميَّة، والدعاية، وغسل دماغ، دون تقييد حقوق التواصل للمواطنين والإعلاميِّين المحترفين. لذلك، فإنَّ التحدِّي الأساس، الذي تشكِّله منصَّات وسائل التواصل الاجتماعي للإعلاميِّين في وسائل الإعلام التقليديَّة والصحافة عبر الإنترنت، لا يتعلَّق بالمال، أو حتى الأمن الوظيفي. إنه حول فكرة الاحتراف. ومع ذلك، قد يرتبط مصدر التهديد بالمواطنين، أو الشبكات الاجتماعيَّة، الذين ليسوا جزءاً من مهنة الإعلام، والذين لديهم قدر كافٍ من المعرفة والتدريب، وملتزمون بقواعد الأخلاقيَّات، وفي الوقت نفسه يكافحون لحمايَّة المهنة من التدخّلات الحكوميَّة والتجاريَّة للحفاظ على استقلالهم.

لهذا، يجب طرح سؤال، نحسب أنَّه مهمّ في هذه المرحلة، وهو: هل نحن بحاجة إلى تجاهل الأخلاقيات الحاليَّة تماماً والتفكير في نموذج مختلف يناسب تقنيات الاتِّصال الجديدة في منصَّات التواصل الاجتماعي؟ والجواب البديهي هو أن الأخلاقيَّات هي نفسها بغض النظر عن قنوات الاتِّصال، سواء كانت منفصلة، أو متَّصلة بالإنترنت. ومع ذلك، يجب أن يفكِّر المتواصلون والمهنيّون وواضعو السياسات في طرق التنظيم الذاتي للمساعدة في مراقبة المشكلات الأخلاقيَّة المذكورة سابقاً والمتعلِّقة بالتكنولوجيا في حدّ ذاتها. إذ إن التحدِّي، الذي جلبته منصَّات وسائل الإعلام الاجتماعيَّة لأخلاقيَّات الإعلام هائل، وليس من السهل التغلّب عليه، خاصَّة جمع الأخبار وإنتاجها ونشرها، وما يمكن أن تكون عليه أخلاقيَّات الإعلام، في هذا الوقت الصعب، حيث يمكن لكل شخص؛ بغض النظر عن خلفيته الثقافيَّة، والتعليميَّة، والتوجّه الأخلاقي، واحترامه للآخرين، تعميم الأخبار والآراء بنقرة زِرٍ واحدة.

نماذج أخلاقيَّة:

في الوقت الحالي، هناك نموذجان مختلفان لأخلاقيَّات الإعلام؛ أحدهما، نموذج يحكم الإعلام التقليدي والإلكتروني، على النحو الذي فصّلناه في هذا المقال، والذي أكدنا فيه أن الإعلاميين المحترفين يحاولون تطبيق المعايير الأخلاقيَّة بحرص والتزام، رغم أن بعضهم يرتكبون أحياناً انتهاكات جريئة للقيم والمعايير العالميَّة. بينما يسود النموذج الثاني بين المدوّنين من عامَّة المواطنين، الذين يشغلون مساحة أكبر من المجال العام، والذين من المرجح أن يكونوا أكثر قابليَّة للاستخدام الخاطئ لهذه القيم، رغم أنهم أكثر قابليَّة لقراءة إنتاجهم من قبل الجمهور في كل مكان. ووفقاً للنموذج الأخلاقي التقليدي، يعد الإعلاميّون محترفين يبحثون عن الحقيقة، ويهدفون إلى توفير تغطية واقعيَّة ودقيقة ومتوازنة، يمكن للناس الوثوق بها. ومن ناحية أخرى، لا يهتمّ نموذج المدوِّن المواطن بالدقَّة والتحقُّق والموضوعيَّة والتوازن وقول الحقيقة؛ وما يهمَّه هو مشاركة عفويَّة؛ ونشر سريع لأي شيء في يده، ويتحمَّل المستخدمون مسؤوليَّة التحقُّق، أو عدم التحقُّق، عمّا يستهلكونه.

إنَّ النموذج، الذي يمكن اقتراحه، هو تطوير لقيم الإعلام التقليدي، التي لا تقبل المساومة حول توجّهاتها الأخلاقيَّة، مع مراعاة متطلّبات الحتميَّة التكنولوجيَّة. بمعنى آخر، مع الالتزام بالنموذج التقليدي للأخلاقيّات، يتعيَّن على الإعلاميِّين المحترفين أن يطبِّقوا مبادئ الصحافة التشاركيَّة والتفاعليَّة والديمقراطيَّة، وفي نفس الوقت الأخلاقيَّات. ويحرص الإعلامي الجيد؛ وفقاً للنموذج المستحدث للأخلاقيّات، على الاستماع إلى مجموعة متنوّعة من الأصوات، ويعكسها، ويحفز النقاش والمشاركة مع الجمهور، وداخل المجتمعات. وبالتالي، فإنَّ الكلمة الرئيسيَّة في هذه المرحلة هي الوعي. إذ إن الوعي المهني هو الذي يمكن أن يعرقل تَوَسُّع ظاهرة “الأخبار المزيفة”، ويأتي في امتثال وتآزر كاملين مع الحاجة المطلقة والحتميَّة للقواعد الموضوعيَّة والمعزّزة ديناميكياً، ليس فقط لأخلاقيَّات الإعلام، ولكن أيضاً من أجل خير السلوك المهني والممارسة الإعلاميَّة. وهذا هو المفتاح لإنشاء مقاييس جديدة، من شأنها أن تجمع بشكل متناغم الإعلام التقليدي على أساس المعايير النوعيَّة مع التكنولوجيات المستحدثة، وخاصَّة وسائل الإعلام الجديدة.

في هذا السياق، يوجد نموذج أخلاقي عالمي متجذِّر في النظريَّة الثقافيَّة الإسلاميَّة، يعتمد على أربعة مبادئ توجيهيَّة؛ وهي، احترام التعدّديَّة والتنوُّع الثقافي، وحريَّة التعبير، والعدالة، والاعتدال. إنَّ ما يميِّز هذا النموذج الأخلاقي الإسلامي هو قيمه الأخلاقيَّة الإنسانيَّة العالميَّة، التي يجب منحها الأولويَّة على التحزُّب السياسي، أو المصالح الوطنيَّة والشخصيَّة، أو الحتميَّة التكنولوجيَّة. إذ ينبع جوهر النموذج وقوّته من حقيقة أنه يسعى إلى خلق توازن بين ما هو محلِّي وعالمي، وما هو أصلي، وما هو ليس بالقدر الذي يجعلنا ندافع فيه عن كل من التضامن العالمي والاختلافات الثقافيَّة. إنه نموذج أخلاقيَّات متعدِّدة الثقافات، تمَّ تصميمه للتغلُّب على العديد من أوجه القصور في نماذج أخرى مهمَّة، ولكنها منحازة تجاه نماذج الهيمنة الغربيَّة. وينظر النموذج إلى الاختلافات في الثقافات المتنافسة الأخرى باعتبارها فرصاً وليست تهديدات. فمبادئ الانفتاح والتفاعل والمشاركة واحترام الآخرين هي، التي توجّه النموذج؛ لذلك، تمّ تطويره للتعامل مع تحدّيات منصَّات وسائل التواصل الاجتماعي مع تقدير أخلاقيات الإعلام التقليدي.

الخاتمة:

لقد أحدثت ثورة الإعلام، والتحوّلات الهيكليَّة والتراتبيَّة، توتّرات وتحدّيات أخلاقيَّة على مستويين؛ أولاهما، هو أن هناك توتّرا بين الإعلام التقليدي والإعلام الإلكتروني، لأن ثقافة الإعلام التقليدي، التي ترسّخت بقيم الدقَّة والتحقُّق قبل النشر والتوازن والنزاهة وحراسة البوابات، تتعارض مع ثقافة الإعلام الإلكتروني، والتي تؤكِّد على الفوريَّة وعدم الشفافيَّة والانحياز، وما يرغبه المدوّنون غير المحترفين، وما يمكن، أو لا يمكن، تصحيحه بعد النشر. وثانيهما، أن هناك توتّرا بين الإعلام المحلِّي والعالمي. فإذا كان للإعلام تأثير عالمي، فما هي مسؤوليّاته العالميَّة؟ وهل ينبغي لأخلاقيّات الإعلام أن تعيد صياغة أهدافها وقواعدها لتوجيه الإعلام، الذي أصبح عالميّاً، وتأثيره في محسوس في كل مكان؟ والتغييرات تتحدَّى أسس أخلاقيَّات الإعلام، وهذا التحدِّي أعمق من المناقشات حول مبدأ محدَّد، أو آخر، مثل الموضوعيَّة. كما أنَّ هذا التحدِّي أكبر من المشكلات المعروفة، مثل كيفيَّة التحقُّق من غرف الأخبار من قِبَل المواطنين. فثورة الاتِّصالات تتطلَّب منَّا أن نعيد النظر في الافتراضات، أو ماذا يمكن أن تعني الأخلاق لمهنة يجب أن توفِّر الأخبار والتحليلات الفوريَّة؛ حيث الجميع مع “مودم” أصبح هو الناشر الحقيقي؟

لهذا، يمكن تلخيص التحدّي، الذي يواجه أخلاقيَّات وسائل الإعلام اليوم، من خلال السؤال التالي: إلى أين الأخلاق في عالم متعدِّد الوسائط، وما نَصِفُه بالإعلام العالمي؟ إذ يجب أن تفعَّل أخلاقيات وسائل الإعلام أكثر من مجرد الإشارة إلى هذه التوتّرات، فمن الناحية النظريَّة، ووفقاً لما ورد في تفاصيل هذا المقال، يجب تفكيك التعارض بين قيم الإعلام القديمة والحديثة، على أن يُقرِّر المعنيُّون أي المبادئ ينبغي الحفاظ عليها، أو اختراعها. ومن الناحية العمليَّة، ينبغي أن نتوفَّر على مقاييس جديدة لتوجيه الإعلام عبر الإنترنت، أو خارج الإنترنت. إذ تعمل ثورة وسائل الإعلام على تغيير طبيعة الصحافة وأخلاقيّاتها بشكل جذري، ولا رجعة فيه. فمشهد بيئة الإعلام الآن فوضوي، ويتطوَّر بوتيرة مضطربة، يشارك فيها الإعلاميُّون المحترفون، مع المدوّنين، والعابثين، ومكبِّرات الصوت في “اللايفات”، ومستخدمي وسائل التواصل الاجتماعي من كل المواطنين.

ولهذا، ففي خضم كل ثورة، تظهر إمكانيَّات جديدة، في حين أنَّ الممارسات القديمة مهدَّدة. وما يحدث اليوم ليس استثناء، إذ تكافح اقتصاديَّات الإعلام المهني، بينما يهاجر الجمهور عبر الإنترنت. في حين يخلق انكماش غرف الأخبار قلقاً بشأن مستقبل الإعلام التقليدي. ومع ذلك، تثير هذه المخاوف أيضاً تجارب في الإعلام، تبدو في حالة مقاومة شرسة ضدّ نظريَّة أفول نجم الإعلام التقليدي، مثل مراكز الصحافة الاستقصائيَّة غير الربحيَّة. لكن يبقى السؤال الرئيس، الذي نترك إجابته للقارئ، الذي طلع تفاصيل هذا المقال، هو إلى أي مدى تتناسب أخلاقيَّات الإعلام الحاليَّة مع وسائل الإعلام اليوم، وما يتوقَّع أن يشهده الغد بشكل فوري وتفاعلي من صدام محتمل بين إعلام الهواة والمحترفين؟

* دبلوماسي سوداني، الأمين العام السابق لمنتدى الفكر العربي

جديدنا