المدرسة وصناعة المتعلِّم.. نحو رؤية مستقبليَّة

image_pdf

على سبيل التقديم:

          إذا كانت صناعة المدرسة بشكل عام، عملا ذكيّا بامتياز وحدثا تاريخيّا لا يمكن نسيانه، فإنَّ الرهان على هذه المؤسَّسة في ضمان استمراريَّة المجتمعات البشريَّة يبقى في الوقت الراهن، وفي ظلّ العولمة والتقدُّم السريع وفي عصر الثورة الرقميَّة وسيطرة الشاشة والصورة، أمرا مهمّا جدا وبالتالي ضرورة التفكير في كيفيَّة استمرار الوظيفة الأساسيَّة لهذه المؤسَّسة بشكلٍ يضمن للمجتمعات الإنسانيَّة الاستمراريَّة في تنشئة أفرادها وتكوينهم وفق حاجات الحياة اليوميَّة. فالمجتمع الذي لا يراهن على المدرسة كمؤسَّسة ضامنة لبقائه وتطويره وتجديده برعاية ناشئته وتوريثها المعارف وأنماط الحياة، فإنَّه بالأساس سيواجه  بالفعل أزمات في شتَّى المجالات من بينها التباين في مستوى مؤسَّساته وبين أفراده من حيث الكفايات بشتَّى أنواعها وبالتالي عدم الانسجام الاجتماعي وغياب التفكير المنطقي الواحد لمستقبل هذا المجتمع، ممَّا سيسهل الأمر لكل التيَّارات الإديولوجيَّة والسياسيَّة والاستعماريَّة الأجنبيَّة لغرض التحكُّم والسيطرة على مستقبل مثل هذه المجتمعات، فكل المشاكل والظواهر المجتمعيَّة التي تعاني منها الدول اليوم لها صلة مباشرة بمستوى المدرسة وبدورها في إعداد الأفراد، وكذا بدور الأسرة وعلاقتها بالتنشئة الاجتماعيَّة. 

    وأمام هذا الدور الاستراتيجي للمدرسة بشكل عام فإنَّنا اليوم، كفاعلين تربويِّين وكممارسين ومتتبّعين لمجريات التعليم، نطرح مجموعة من الأسئلة الجوهريَّة والتي تشكِّل محاور الحديث اليومي لكل متتبِّع للشأن التربوي والتعليمي في دول العالم الثالث أفرادا وجماعات مؤسَّسات وإدارات وهي: ما هي مكانة المدرسة اليوم؟ ولماذا تراجع دورها في التعليم والتعلُّم؟ وما هي الأسباب الحقيقيَّة لفشل التعليم في صناعة الأفراد؟ أليس من اللازم التفكير في حلٍّ لإنقاذها من التدهور الذي أصبحت تعاني منه وبالتالي إنقاذ المجتمع ومستقبله برمّته؟

         إنَّها فعلا أسئلة محيّرة وتبقى واقعيَّة ومشروعة نظرا لما تعكسه من حقيقة مرَّة للواقع ولمكانة المدرسة، هذه الأخيرة التي تحتاج إلى حلول واقعيَّة وجذريَّة تعتمد على التعبئة الوطنيَّة والمشاركة الجماعيَّة لمختلف الفاعلين على جميع المستويات والطبقات. كيف ذلك؟

أوّلا: دور المدرسة في صناعة المتعلِّم

          للمدرسة دور كبير في إعداد وتكوين الطفل وتربيته، ويزداد هذا الدور أهمّيَّة في المجتمعات الثالثية، إذ أن المهمَّة التي تُلقى على عاتق المدرسة تكون أشد حيويَّة، فهي مؤسَّسة نظاميَّة تستطيع أن تسدّ العجز في استقالة وتراجع دور بعض المؤسَّسات التقليديَّة التي كانت تساهم في صناعة الطفل منها الأسرة التي أصبحت تعاني  اليوم من ظلال المعرفة  المحدودة لديها في عصر تدفُّق المعلومات، أو في ضحالة ما تقدّمه للطفل من معرفة وثقافة، نتيجة انشغالها عنه لأسباب عدَّة، ومن هنا يتضاعف الدور الذي يُلقى على عاتق المدرسة، إذ عليها أن تسدّ هذا العجز بما تقدّمه من معارف وخبرات منوَّعة ومنظَّمة، كل ذلك يكون وفق فلسفة محدودة تتمشَّى مع فلسفة الدولة وأهدافها، ومع متطلّبات العصر الحديث، وأن تلبِّي المناهج الدراسيَّة حاجات الطفل المعرفيَّة والثقافيَّة.

        وتكمن أهمّيَّة المدرسة أيضاً في كونها الحلقة الوسط بين الطفولة المبكّرة التي يقضيها الطفل في منزله، وبين مرحلة اكتمال نموّه التي يتهيَّأ فيها الطفل للقيام بدوره داخل المجتمع، ولهذا يجب أن يكون هناك اتِّصال وثيق بين الحلقات الثلاث المنزلة والمدرسة والشارع.  ولا يقتصر دور المدرسة على التلقين النظري فقط، وإنّما ينبغي أن تتكامل المعرفة والانفعال والممارسة، لأنَّ الاقتصار على الجانب النظري يؤدِّي في كثير من الأحيان إلى الانفصام ما بين القول والعمل أو تسبِّب له قصورا تربويّا في مستقبل حياته فأصبح من الضروري الآن حقّ الطفل في تربية تناسب عصره وثقافة تؤهّله للعيش والتعايش مع مستوى العالم الجديد الذي أصبح قرية صغيرة.

        ولكي تؤدِّي المدرسة دورها المنوط بها على الوجه الأكمل، لا بدّ أن تتوافر لها أركان أساسيَّة، تلك التي تتمثَّل في المربي (المدرس الموسوعة)، والمادة المقدَّمة للطفل (المادة المستقبليَّة)، وطرق توصيلها له (الطرق الإبداعيَّة والمتجدِّدة)، وأنماط السلوك المتوافرة في البيئة المدرسيَّة، ومتابعة ومواجهة مشكلات التلاميذ، والتعليم الموازي. هذا في الوقت الذي يجب التفكير في كون صناعة المتعلِّم يحتاج إلى فهم نوع الصناعة التي تقدِّمها المدرسة اليوم وفي المستقبل وأن نحدِّد بالضبط مختلف التحوّلات(les transformations ( والتعديلات(les changements) التي يجب إحداثها في المادَّة الأوليَّة (المتعلِّم) وبالتالي التفكير في مواصفات (التخرّج) المنتوج النهائي مع استحضار متطلّبات الزبون والسوق وبالتالي العمل على توفير جميع الظروف الأساسيَّة في معمل الإنتاج (المدرسة)، دون أن ننسى أن هذه الصناعة التي تبدو استثنائيَّة ولا يتطابق عليها ما وصل اليه علم الاقتصاد والسوق، لكونها تحتاج إلى دراية وعلوم إنسانيَّة تأخذ بعين الاعتبار خصوصيَّات شخصيَّة المتعلِّم الإنسان التي هي شخصيَّة معقَّدة وتحتاج إلى معرفة دقيقة لمكوّناتها النفسيَّة والوجدانيَّة والحركيَّة والفيزيولوجيَّة والعاطفيَّة وكذا الاجتماعيَّة، كما أنَّ ضرورة استحضار علاقة التنظيم الخارجي والداخلي لبناء وصناعة هذا المتعلِّم يحتاج إلى ربط وضبط هذه العلاقة.

 لكن الغريب في هذه المعادلة التي تبدو بلغة الاقتصاد سهلة فهي معقَّدة جدا وما يزيد هذا التعقيد هو أن كل المتدخلين في هذه الصناعة أي صناعة المتعلِّم هم عبارة عن منتوجات سابقة بسبب صناعات متعدِّدة ووفق ظروف معيَّنة، كما أنَّ هذه المادَّة الأوليَّة هي ليست بنفس المواصفات (الدخول) مثل معدن واحد أو منتوج فلاحي واحد ويكفي فقط أن يمرّ عبر سلسلة إنتاجيَّة فنحصل على منتوج واحد وبنفس المخرجات. زد على ذلك كله أنَّ مستويات المناهج الدراسيَّة المعتمدة في صناعة أطفال العالم تمرّ عبر مستويات مختلفة ومتعدِّدة ومتباينة من المناهج الخفيَّة(curriculum caché) التي يحدِّدها أصحاب القرار النهائي في تسيير كوكب الأرض إلى المناهج المصرَّحة((curriculum déclaré بها للشعوب عبر الوثائق الرسميَّة والتي تشكِّل السياسة التعليميَّة والتربويَّة لكل بلد، ثمّ المناهج المطبقة(curriculum appliqué ( والتي يتمّ تطبيقها داخل الفصول الدراسيَّة بالمدرسة من طرف المعلِّمين والأساتذة، إلى المناهج المكتسبة(curriculum acquis ) من طرف المتعلِّمين والمتعلِّمات، ثم أخيرا المناهج الممارسة أي التي تصبح سلوكات وتصرّفات عند المتعلِّمين في حياتهم اليوميَّة والتي يمارسونها بشكل فعلي والتي تتحوَّل إلى تربية. فعبر هذه المسارات والمستويات التي تمرّ فيها صناعة المتعلِّم يمكن أن تقع وتحدث اختلالات وكذا تأثيرات سلبيَّة قد تجعل المنتوج يتعرَّض لتحوّلات غير مرغوبة وغير صالحة لمستقبل البشريَّة، وخصوصا إذا استحضرنا أنَّ صناعة المتعلِّم وعبر هذه المناهج المختلفة هناك استمراريَّة وامتداد لهذه الصناعة عبر مواقع وأماكن أخرى غير المدرسة (المصنع الأساسي) من أسرة وبيت وإعلام وشارع ومؤسَّسات المجتمع المدني والمؤسَّسات الدينيَّة.

 ثانيا: دور المدرسة في تنمية التفكير النقدي عند المتعلِّم

     لعلَّ أهم قدرة يمكن بها مساعدة المتعلِّم على فرض ذاته وبالتالي قدرته على بناء مستقبله ومستقبل مجتمعه، هي القدرة على التفكير (وليس التكفير)، أي أن نولي الأهمّيَّة القصوى لتعليم وتدريس التفكير (من الفكر) واعتبار الهدف الأوَّل والأساسي للتربية بشكل عامّ هو تعليم الأطفال والتلاميذ والطلبة كيف يفكِّرون عند مختلف المراحل والأعمار أي كيفيَّة استخدام العقل في فهم الأمور وليس فقط الحفظ الآلي للمادَّة المعرفيَّة. ولأنَّ استخدام العقل يجعل الطفل يبني معلوماته وتعلمه وبالتالي يترسخ في ذهنه، ويتمكَّن بذلك من توظيفه متى شاء كما يمكنه نقده وتعديله…[1]

  فأغلب المتخصِّصين في علم نفس النمو وعلم النفس التربوي والتربية يؤكِّدون اليوم على الأهمّيَّة القصوى لتعليم الأطفال كيف يفكِّرون ويعتبرون أنَّ الهدف الأوَّل والأسمى والأساسي لكافة جهود التربية هو تعليم التفكير للأطفال عند مختلف المراحل والأعمار. أي أنَّ استراتيجيَّة التعلُّم خير من التعلُّم ذاته، وبالتالي نعلّمه كيف يتعلَّم أي ألا نعطيه السمكة، بل أن نعلّمه كيف يصطاد السمكة وكيف يتمّ تصويرها بلغة السينما وتسويقها بلغة الاقتصاد.

ونتيجة لذلك يؤكِّد جميع هؤلاء المتخصِّصين على الأهمّيَّة الكبرى لتضمين ما ينمي عمليَّات ومهارات وأبعاد التفكير ضمن المناهج الدراسيَّة، بل إنَّ الصعيد الأعظم من المربِّين والمتخصِّصين يعتقدون أن مكونات التفكير من مهارات وعمليَّات وأبعاد ينبغي أن تكون نقطة البداية الصحيحة التي تركِّز عليها كافة البرامج والمناهج والخبرات والأنشطة التي تقدّم للأطفال عند مختلف المراحل والأعمار.[2]

  • أ‌- المدرسة وإبداعات المتعلِّم:

   تريد المدرسة من التلاميذ وصف الأشياء فقط، وليس فهمها. وهكذا فبقدر ما تفصل بين الوصف والفهم، تسيء إلى وعي التلاميذ. فهم لا يتجاوزون سطح الواقع، ولا ينفذون إلى عمقه إلا بواسطة فهم عميق لما يجعل الواقع على ما هو عليه. وربط المدرسة بالإبداع رهين بالمنهاج المعتمد وبالنموذج البيداغوجي وكذا بالموارد البشريَّة التي تلج المدرسة، فالطفل في الأصل بمثابة طاقة إبداعيَّة تتجلَّى أساسا في ميولاته للعب وفرض الذات وكثرة الحركة. فكلما حاولت المدرسة استغلال هذه الطاقة الزائدة وتوفير الجو المناسب لتوجيه الأطفال نحو المجالات المناسبة لاكتشاف هذه المواهب وصقلها، فهي تحاول دعم إبداعات المتعلِّمين. كيف ذلك؟

   فاذا كانت المعرفة اليوم لا تحتاج إلى السفر إلى الصين وإلى تحمُّل أعباء السفر، فان طريقة واستراتيجيَّة اختيار المعرفة المناسبة هي العقبة الكبيرة التي يجب على الفرد تعلُّمها واكتساب آليّاتها، كما أنَّ كفاية البحث وإعادة تنظيم المعرفة المناسبة هي كذلك أهمّ من المعرفة بذاتها، فاستراتيجيَّة المعرفة أحسن من المعرفة بكاملها. لكن إلى أي حدٍّ استطاعت المدرسة اليوم، أن تساعد الأطفال، وخاصَّة ما يسمَّى بالجيل الرقمي وفي ظلّ عصر الصورة وعصر الألوان وعصر العالم الافتراضي، على استغلال طاقته الإبداعيَّة في مجال المعرفة الجديدة؟ وكيف يمكن أن نعلِّم الطفل كيف يفكِّر وكيف يتمّ توظيف العقل للوصول إلى حلِّ المشكلات؟ ثمّ كيف يمكن تملكه استراتيجيَّات التفكير المنطقي المبني على النقد وعلى الإنتاج؟

ب – الفكر أهمّ من اللغة عند المتعلِّم:

    من بين الأفكار التي تبدو خاطئة اليوم وهي أولويَّة اللغة واهمّيتها في تربية وتعليم الأطفال وبالتالي خلق صراع فكري حول ضرورة تعلُّم اللغات وخاصَّة اللغات العلميَّة( لست أدري ما المقصود باللغة العلميَّة) حيث نجد الآباء والأمّهات يتسابقون لتعليم أطفالهم اللغات الأجنبيَّة ويحمِّلون أطفالهم ثقلا كبيرا في اكتساب وتعلّم مزيد من اللغات ليقع الجميع في كون اكتساب اللغة وتعلّمها هو الأصل، في الوقت الذي يفتقد هذا الطفل إلى أفكار وإلى استراتيجيّات التي تشكِّل  المولد الأساسي والمحرِّك الكبير لديناميَّة وحياة اللغة فهل من ثمَّة لغة دون فكر. قد يشير البعض إلى أنَّه عبر اللغة نتعلَّم الفكر، فعلا صحيح لكن هاجس التواصل والتعبير وهاجس إكساب الطفل اللغة قد يجعل الفكر محدود في أمور بسيطة، وهي التي تجعل اللغة وظيفيَّة في أمور تواصليَّة فقط. لكن الذي ينمِّي الفكر والتفكير ليس مزيدا من اللغات الأخرى، إذ يكفي فقط وبفضل اللغة الأم أن ننمِّي عند الطفل مهارات التفكير المنطقي والتفكير النقدي والاعتماد على طرح السؤال؟ وهذا لن يتحقَّق عبر نصوص ومقاربة منهجيَّة بسيطة تعتمد على التلقين وعلى إعادة إنتاج نفس الخطاب. فالتجربة أظهرت بأنَّ اللغات التي لا تجعل من الفكر والتفكير الهدف الأسمى، تبقى فقط سطحيَّة وغير هادفة؛ فغياب النصوص الفلسفيَّة والنصوص الشعريَّة والقصص والروايات والحكايات والأمثال والحكم وكذا الوضعيّات العلميَّة الحقيقيَّة، في المنهاج الدراسي يجعل من اللغة تلك السلطة التي تجعل الفكر والتفكير ملجما وسجينا، وبالتالي العودة واللجوء إلى التفكير الداخلي عبر الصمت والقيام بمحاضرات ونقاشات عميقة لكن داخليّا وفي صمت حتى يقع الانطفاء. لسبب بسيط فقط هو أنّ لغة المدرسة ولغة التدريس تفرض على المتعلِّمين تعبيرا وتفكيرا سطحيا ومفبركا وبعيدا عن الواقع وعن النمو الذي يحتاجه الفكر البشري الثوري والمستقبلي. ولأن اللغة كأداة ابتدعها الإنسان ليس لتفرض عليه قواعدها وسلطتها فينساق وراءها، بل صنعها لكي تساعده على فهم ذاته وواقعه وكذا تنمية فكره عبر السؤال. وبها يستطيع أن يتقاسم أفكاره وتجاربه وكذا ميولاته وطموحاته ووجوده مع الآخر. فمثلا هل المنطق الرياضي والفيزيائي وبشكل عام الفكر هو الأساس أم اللغة التي ندرس بها هذه العلوم، فأطفالنا وكذا أساتذتنا اليوم منشغلون على فهم اللغة التي يدرس بها هذه العلوم أكثر من الأفكار والتفكير الذي قد تحمله هذه العلوم. فنبقى نجترّ اللغة ونعيد فهم تركيبتها عبر إعادة إنتاج نفس الوضعيَّات التعليميَّة، وبالتالي نضع المتعلِّمين في قفص ونطلب منهم الطيران وتوظيف الأجنحة. 

وهكذا فإنَّ تعلُّم التفكير بشكلٍ عام وبمختلف أنواعه والتفكير النقدي بشكل خاصّ هو أحد أهم المهارات التي يحتاج إليها أطفال اليوم للنجاح في المستقبل؛ لكون هذا النمط من التفكير بمثابة البوابة التي تفتح لهم العالم على مصراعيه، وتنمِّي قدراتهم على الاستكشاف، وحلّ المشكلات، وتساعدهم على تفهّم وجهات النظر الأخرى وتقبّل الاختلاف، كما أنّها تساعدهم على النجاح في المدرسة، وفي حياتهم المهنيَّة أي النجاح في المجتمع.( ولأن اليوم نجد من نجحوا في المدرسة ولكن فشلوا في المجتمع أو العكس، ولأن الهدف هو النجاح في المدرسة والمجتمع معا)

الأطفال في ظلّ تحدِّيات هذا العصر: يحتاجون لأن يمتلكوا العديد من المهارات، وأن لا يكونوا مجرَّد بغبغاوات يردِّدون ما يمليه الآخرون عليهم من معلومات؛ يجب أن يكونوا مفكِّرين ناقدين، يمكنهم فهم المعلومات والتحليل والمقارنة، وتقديم الاستدلالات وتوليد مهارات التفكير العليا. لذلك يجب على المدرسة وعلى جميع من لهم علاقة بالأطفال من آباء ومعلمّين وأساتذة أن يجعلوا من التفكير الناقد هدفا أسمى لغرسه في الأطفال منذ صغرهم. وبالتالي استحضار أنَّ العقل البشري هو بمثابة عضلة تحتاج إلى التمرين والرياضة الفكريَّة لتنمو نموّا صحيحا وليس كوعاء نملأه فقط بالسلعة المعرفيَّة دون البناء المنطقي والاستدلالي.  فتنمية مهارة السؤال وخاصَّة السؤال المفتوح ثمّ الاعتماد على الألغاز والمسائل والوضعيّات المعقَّدة والنصوص الأدبيَّة الصحيحة وليس الوظيفيَّة وعلى تنمية الفرضيات والتحقُّق منها وكذا مهارة التلخيص واستخراج الأفكار والتعوّد على الإنتاج والنقد، من بين الطرق الممكنة اعتمادها ضمن المناهج الدراسيَّة لصناعة المتعلِّم والتي بفضلها يمكن تنمية مهارة التفكير النقدي للمتعلِّمين. وبالتالي استحضار صناعة المتعلِّم  عن طريق المدرسة وليس متعلِّم الصناعة التي تفكِّر فيه المدرسة اليوم، أي محاولة إعادة إنتاج متعلِّمين وفق الوظائف التي تحدِّدها الثورة الصناعيَّة والتكنولوجيَّة لخدمة الشركات العملاقة والتي تسعى وراء الربح المادي بالدرجة الأولى ولا تفكِّر في مستقبل العالم الذي هو رهين بالتربية المستقبليَّة والصناعة الحقيقيَّة لأطفال العالم( أنهم خلقوا لزمن غير زمانكم).

ثالثا: صناعة المتعلِّم (الطفل) بين مستقبل المدرسة ومدرسة المستقبل:

       ونحن نتحدَّث عن صناعة الطفل والمستقبل، يظهر لنا من الأمر أن نشير هنا إلى طبيعة المدرسة التي سيلجها الطفل مستقبلا من حيث ما يخطّط لها في يومنا هذا من لدن صنَّاع القرار في الوقت الراهن، ثم ما يمكن التنبُّؤ به وفي ظلِّ قراءتنا لما يمكن أن يحدثه التغيُّر الاجتماعي والحتميَّة التاريخيَّة، وإيمانا منَّا بأنَّ المستقبل هو الشغل الشاغل لعلماء الدراسات المستقبليَّة، وأن هؤلاء يتباينون في قراءاتهم لما سيشاهده العالم مستقبلا، فإنَّ الأمر الواقعي والذي لا يمكن أن يختلف عليه اثنان هو أنَّ التغيير وارد ومحتوم، وبالتالي هنا تبرز ضرورة إعداد أطفالنا لهذا التغيير الذي سيقع وخاصَّة على المستوى التربوي والتنشئة الاجتماعيَّة فماذا عن مدرسة المستقبل؟ وهل هي مدرسة إلكترونيَّة محضة؟ وما هو مصير المدرسة التقليديَّة؟

من بين أهمّ ما يجب أن ترتكز عليه مدرسة المستقبل في صناعة المتعلِّم  ومن أجل الاحتفاظ وصون مستقبل هذه المدرسة التي بدأت تستقلّ في وظائفها التي صنعت من أجلها من طرف المجتمع، نجد أنَّه من الضروري استحضار النقط التالية :

  • الاهتمام بالتعليم الزراعي والفلاحي لأنَّ المشكلة التي سيواجهها العالم مستقبلا ستكون مشكلة الغذاء والقوت اليومي وبالتالي الأمن الغذائي.
  • الاهتمام بالتربية البيئيَّة وخاصَّة ما يتعلَّق بالماء، لأنَّ من بين المشاكل المطروحة مستقبلا مشكلة الماء ومشكلة التلوّث الصناعي وزيادة التسمّمات والأمراض.
  • التربية على الأخلاق وعلى القيم مستقبلا سيزداد العنف والجريمة بشكل كبير جدا وخاصَّة مع تزايد وسائل الرفاه وكذلك الفوارق الطبقيَّة والماديَّة المتوحِّشة.
  • التربية الدينيَّة؛ أي الاهتمام بالدين  بغض النظر عن نوعه، ولأنَّ الإنسان جسد وروح  وعقل فإذا وصل الإنسان اليوم إلى أعلى مستويات لإشباع الجسد بكل ما يحتاج إليه من ملذَّات الدنيا، فإنَّ مستقبلا سيواجه أطفالنا مشكلة التوازن النفسي وتوازن الشخصيَّة؛ إذ سيطغى الجانب الجسدي البهائمي على الروحي والعقلي بالتالي تبقى قيمة الحياة غير صالحة وهنا ستظهر تصرفات غير إنسانيَّة كاللجوء إلى الانتحار أو إلى الانفجار أو حالات مرضيَّة نفسيَّة مستعصيَّة سببها غياب مفهوم الحاجة عند الفرد والتي هي أساس وقيمة الحياة البشريَّة. فما قيمة الحياة عند طفل وفّر له كل ما يحتاجه من نقود ومن جميع التجهيزات ومن كل ما يحتاجه ماديّا. فنهاية الحياة بالنسبة له قد وصلت وسيتساءل لماذا جاء إلى هذا العالم وما دوره إذن؟
  • التربية الصحّيَّة وبشكل كبير جدا لأنّ المشاكل الصحيَّة ستتفاقم مستقبلا وستزداد الأمراض بشكل كبير، وربما قد تظهر أمراض خطيرة وذلك يسبب التلوّث الصناعي والفكري والنفسي والديني، المتزايدة اليوم وبشكلٍ ملفت للنظر، ولأنَّ الهاجس المادِّي جعل كل هذه المتلوّثات تتزايد.
  • الاهتمام بالعلم النافع والصالح وتغذية العقول وتنويرها لبناء المجتمعات وليس ذلك العلم الإيديولوجي المبني على سياسة فرض الوجود ولو بالقوَّة وما يساعد على خلقها من أسلحة ومنتجات تخريبيَّة للحضارة الإنسانيَّة.
  • العودة إلى الكتاب المدرسي وليس القرص المدرسي ولا الحقيبة الإلكترونيَّة التي يتَّجه إليها العالم اليوم ومع الانفجار المعلوماتي والثورة الإلكترونيَّة.
  • ضرورة التخطيط والاستعداد لثورة بعد الثورة التكنولوجيَّة والتي تهتمّ بالتربية والتعليم أو ما يمكن أن نسمِّيه بالثورة التربويَّة أو ثورة التربية.
  •  التربية على العدالة الاجتماعيَّة والمساواة الإنسانيَّة والكرامة وعلى الحرّيَّة وبالتالي محاولة التخلِّي على تلك الطبقيَّة المفرطة التي أصبحت اليوم عنوان الليبراليَّة المتوحِّشة والتي اتَّخذت العولمة شعارا لها. فعوض العولمة ننادي بالأنسنة وبالمساواة البشريَّة أو ما يمكن نعته بالآدميَّة نسبة إلى أصلنا الواحد وأبينا آدم عليه السلام.
  • النظر إلى الإنسان كإنسان وليس كآلة أو شيء يمكن التحكُّم فيه أو يمكن صنعه عن طريق الاستلاب. وبالتالي مثل منتوج (في ضرورة مواجهة علم السبرنيطيقا).
  • ضرورة إعادة النظر في مفهوم العلم بشكل عام والنافع بشكل خاصّ؛ لأنّ العلم وكما نعلم كان وما زال وسيبقى السرّ الكامن وراء تقدُّم البشريَّة وتفوّقها لكن شريطة أن يتحوَّل هذا العلم إلى ثقافة، كما أكد على ذلك روني ماهو (مدير سابق لليونسكو) عندما قال إنَّ ” التقدُّم هو العلم الذي يتحوَّل إلى ثقافة” والثقافة لا تكتسب إلا عن طريق التربية، وبالتالي يجب اقتران العلم بالتربية وخاصَّة في عالم اليوم الذي هو عالم الصورة والتقنية، وفي المستقبل الذي سيزداد أكثر تعقيدا نظرا لتعدُّد مصادر المعرفة والعلم. والإيمان بثقافة العلم التي هي ثقافة التغيير أي تغيير العالم عن وعي وعن إرادة وليس مجرَّد فهمه أو تأمّله أو فكّ طلامسه أو النظر إلى الظواهر باعتبارها إعجازا، كما أنَّ ثقافة العلم هي ثقافة الإيمان بقيمة الإنسانيَّة.
  • الانطلاق من مبدأ المصالحة مع الذات الإنسانيَّة أولا ثم التفكير في المستقبل وكيفيَّة تفاعل الذات مع العالم الخارجي واستحضار أنَّ صناعة الأطفال تحتاج إلى تنظيم خارجي محكم ومحدَّد لكي يتمّ التنظيم الداخلي للذات التي ستتفاعل مع الآخر.
  •  اعتبار مرحلة الطفولة مرحلة قائمة الذات وليست مرحلة عابرة، وبالتالي يتحكَّم فيها الراشد حسب فلسفته وحسب سياسته، فهل فعلا نترك للأطفال ليعيشوا مرحلتهم ولهم القرار أم لا بدّ من الوصاية ونفكِّر ونقرِّر في مكانهم، وبالتالي نحتاج فعلا إلى صناعتهم كما نريد.

     وخلاصة القول يمكن التأكيد على ضرورة الاهتمام بالتربية الإنسانيَّة والمدنيَّة والتي تركِّز على استعمال العقل من أجل التفكير والتعليم، وبالتالي العمل بشكل جماعي لخدمة المبادئ الإنسانيَّة التي هي بالأساس قانون كل الشعوب.

على سبيل الختم:

       علينا جميعا أن نعي أولا بأنَّ خطأ الطبيب يدفن تحت الأرض وخطأ المهندس يقع على الأرض بينما خطأ المدرس يمشي على الأرض وبالتالي فكل سياسة تربويَّة تعليميَّة لا تقدّر حجم الأخطاء التي تلج المدرسة وبالتالي صناعة المتعلِّم في جميع المجتمعات التي تقدّر نفسها وتحترم التزاماتها أمام التاريخ وأمام شعوبها، فهي ستكون لا محالة في سلَّة مهملات التاريخ وبالتالي ضياع الجهد وضياع الوقت. وليس بسيطا أن نكتب ونفكِّر للطفولة، ليس لأنها كما أشرت سابقا، هي مستقبل البشريَّة فقط لكن لأنّه يصعب أن نتقمَّص دور الطفل ونحاول أن نفكِّر كما يفكِّر وأن نحسّ كما يحسّ، ولهذا فصعوبة أن نكون أطفالا فيزيولوجيّا، وأن نرجع الزمن إلى الصفر ونبدأ من جديد، مثل صعوبة أن نحدِّد بدقَّة ماذا يريد الأطفال بالضبط، فدور المدرسة في صناعة المتعلِّم نودّ من خلالها أن نبيِّن أهمّ الخلاصات التي توصلنا إليها، ونحن نستحضر الرؤية المستقبليَّة لتربية وإعداد الأطفال في هذا العالم، وبالتالي محاولة الجمع بين جميع الصفات الممكنة لنا كراشدين والتي تقرّبنا بشكل كبير جدا إلى أن نكون أطفالا ولو لحظة واحدة. فهي قد تكون لحظة تفكير في طفولتنا أو في أبنائنا أو في تلاميذنا او في إخواننا، وبشكل أكثر دقَّة هي لحظة التفكير في مستقبل البشريَّة ومستقبل الإنسانيَّة ومستقبل العالم برمته. وهل فعلا تلعب المدرسة دورا رياديّا في صناعة المتعلِّم الطفل أم هي فقط تسعى إلى متعلِّم للصناعة؟ ثمّ ما نوع الصناعة التي نحن بصددها؟ وهل صناعة العالم الثالث هي نفس صناعة الدول التي توصف بالمتقدِّمة؟ أم أنَّ الأمر محسوم عن طريق تقسيم الأدوار وبالتالي جعل المدرسة فقط كبوابة لصناعة متعلِّمين لخدمة مصالح النخبة التي تسيِّر العالم؛ أي العمل على خلق مناهج وبرامج تبدو ظاهريّا بأنّها في خدمة التعليم ولكن في الأساس هي لخدمة ضمان استمراريَّة العربة والحصان. أم أنَّ القدر والطبيعة تحتاج إلى الثنائيَّة في جميع الأمور حتى في صناعة البشر وإعداد الرأسمال البشري.

     فإذا كان شعار مرحلة التنوير أو عصر الأنوار في القرن 17 و18 في أوروبا هو استعمال العقل بفضل المعرفة: “لتجرأ على المعرفة، ولتكن لديك الشجاعة على إعمال عقلك الخاصّ”، فإنّنا اليوم في دول العالم الثالث نحتاج إلى فترة أكثر بكثير من عصر الأنوار وأن يكون شعارها:” اعتمد على نفسك وعلى عقلك وليكن العلم والمعرفة سلاحك، فالعقل أولا والعقل أخيرا”. وهذا من أجل خلق مجتمعات تساير بالدرجة الأولى ما وصلت وما تصل اليه المجتمعات المتقدِّمة، وأن تخرج بدورها من منطق الاستهلاك والتفرُّج والانطواء على النفس وتغذية الجسد فقط في غياب تغذية الروح والعقل. ومن موقف التعجُّب والاستغراب؛ إلى مرحلة إعمال العقل والاهتمام بالمدرسة وإصلاح التعليم والعناية بتنمية الشخصيَّة والتفكير في كيفيَّة صناعة المتعلِّم داخل حجرة الدروس.


[1]  امحمد عليلوش ” الطفل والمؤسَّسات التربويَّة – نحو تربيَّة وتنشئة مستقبليَّة- ” مشروع كتاب لم ينشر بعد.

[2]   د. ليلى كرم الدين (2002)، إعداد أطفالنا للمستقبل. مركز دراسات الطفولة، جامعة عين شمس. “قضايا الأطفال من منظور اسلامي” منشورات الاسيسكو..

جديدنا