صناعة المتعلِّم

image_pdf

أن نتعلَّم معناه أن نعيش بالسؤال أقل ما يمكن من أوهام المعرفة

  هي حكايَّة رجل تنتهي ويبقى معها أثر بطل لم يخشَ السؤال، انسلخ من قيود مجتمعه واستطاع أن يسأل دون خوف، وأن يختلف دون عدوان، يخضع للقانون ولكنه يفكِّر في صحّته، لا يتملَّق الجماهير ولا يسير في ركبها… هي قصَّة الصراع القائم بين جمود الرأي وحريَّة الفكر على مدى الأيام والدهور.[1] إنَّها قصَّة سقراط المعلِّم الذي جرؤ على السؤال والحفر العميق بتحريض العقل، أوردناها بدءا لعلَّها درسا مائزا وجرعة فهم لواقع مدرستنا ومتعلّمنا.  

  

 يثير واقع المنتج الأكاديمي اليوم في المنطقة العربيَّة مزيدا من أسئلة تدنِّي المردود التي يعدّ معها المشكل التربوي والافتقار لفلسفة تربويَّة امتدادا لعمليَّة إعادة إنتاج عناصر الأزمة التي يعاني منها الفكر العربي والثقافة العربيَّة. الشيء الذي يستدعي حفريَّات عميقة وربما قطائع ليس فقط مع تلك الذهنيات والأنانيَّات الساكنة في الأجيال العتيقة، حيث تصول عصا المؤدِّب على الرؤوس وتجول، وينحني المريد لشيخه العارف ويسير على نهجه الوحيد الأوحد سالكا. بل كذلك – وأكثر من ذلك – يجب أن تشمل ما صارت عليه مهمَّة التعليم التي لخَّصها المفكِّر العربي خلدون النقيب[2] في إبعاد الأطفال عن الشوارع، ومبرّرا لتأخير سنّ الزواج، ومجرَّد إعطاء شهادة بأنَّ شخصا ما قد انتظم في المدرسة وتخرَّج فيها، وبالتالي هو مؤهَّل لشغل وظيفة في ظلّ هذا الواقع يجد المتعلِّم نفسه أمام متلازمتين؛ الأولى أنه لا يكون تعلّمه ذا معنى، والثانية تتجلَّى في فقدانه لروح التعلُّم القائم على التفكير النقدي. كل ذلك ينتج لنا متعلّما يستهلك كل شيء داخل المدرسة عدا شيئا واحدا هو المعنى اللازم للقدرة على التفكير ما جعلنا نسائل فشلنا في صناعة متعلِّم فاعل ومتنوِّر؟

    لا بدّ إذا ما أردنا مساءلة عادلة لفشلنا، أن يوازي ذلك مساءلة المدرسة التي يتشظَّى خطابها ويتوزَّع كأنَّه خطوط هندسيَّة يذهب إلى المؤسَّسة فيلتقي عند نقطة التلقين والتخزين، ثم خارج المدرسة يتشظَّى من جديد حيث لا يمكن الفصل بين الوظيفة الظاهرة للمدرسة وهي التعليم، والوظيفة الخفيَّة التي تتَّصل بإعادة إنتاج السائد داخل المجتمع، وهي الفكرة التي دافع عنها إيفان إليتش في كتابه “مجتمع بلا مدارس” بالقول إنَّ “المدرسة تحاول أن تحافظ على ثقافة السائد في المجتمع”. وطالما أن فكرة التعليم تقترن بالمدرسة، فإنَّه يتمّ سجنها داخل أسوار المدرسة، في الوقت الذي من المفروض أن تكون المدرسة جزءا من نطاق التعليم الذي هو مجال أوسع، ما يؤدِّي إلى قولبة التعليم بشهادات وعلامات محدَّدة، فيدرس المتعلِّم كيف تتطابق رغباته مع المنتجات الاستهلاكيَّة التي يوفرها السوق، ويحدِّدها له الفكر الاستهلاكي.

    إنَّ متعلِّم اليوم في حاجة إلى مدرسة صديقة بأدوات معرفيَّة متجدِّدة تتجاوز ذلك المخزون الثقافي الذي ينتصب على هيأة سلطة تراكميَّة تلفظ خارجها كل ما يتنافى وإياها. فبقاء العمليَّة التعلُّميَّة أسيرة الكتب المدرسيَّة وبطرق تقليديَّة لا يصنع إلا جيلا من أنصاف وأرباع المتعلِّمين قمعت طاقات الإبداع لديهم وسلبوا ملكة التفكير وتذوُّق معنى التفرُّد، ما اغتال في المتعلِّم جوهر الإنسان. كيف لا وهناك منهج خفي[3] يندس ليعلم الطاعة المطلقة لمعايير الجماعة ويخنق روح الإبداع بزرع الخوف من الخروج عن ذات الجماعة. ما يزج بالمتعلِّم ليستجيب لرهانات المدرسة كأداة لإعادة إنتاج الواقع بكل تفاوتاته لصالح نخبة مهيمنة، عوضا عن أن تكون أداة للإصلاح والتغيير بل وأكثر من ذلك للتنوير.

    أن أكون متعلِّما تنويريّا معناه أن تكون لدي القدرة على التفكير، أن أتعلَّم مساءلة كل شيء بدءا بقناعاتي وأنا أمارسها. كيف ذلك للمتعلِّم؟ بالتربية على استدعاء التفكير النقدي القائم على السؤال داخل المدرسة، فقد تخبرنا حقوق الإنسان بأن ممارسة قناعاتنا الشخصيَّة حقّ لنا، ويخبرنا التفكير الفلسفي بأنَّ مساءلة قناعاتنا حقّ علينا. إذ لا يكتمل الحسّ الحقوقي بلا حسّ نقدي متَّقد. وفي غياب هذا التفكير يغيب عن المتعلِّم كون حقائق اليوم هي بالضرورة أخطاء الغد، ولكم كان برتراند راسل حكيما في بوحه: لست مستعدّا لأن أموت من أجل أفكاري، فقد أكون مخطئا. أن أكون متعلّما تنويريّا معناه أن أتعلَّم كيف أستخدم عقلي؟ كيف أمرِّن عقلا في حاجة إلى جهد ودربة. لماذا؟ لأنه ببساطة ثمَّة منطلق متّفق عليه في تاريخ الفلسفة[4]: قدرة العقل على التفكير هشّة ومهدّدة على الدوام. فالعقل نساء عند سقراط؛ تخدعه المحسوسات عند أفلاطون؛ خطأ عند ديكارت؛ والوعي معرض للاستلاب والاغتراب مع ماركس؛ وتخدعه قوى اللاشعور حسب فرويد؛ بل الفكر العلمي نفسه تخدعه البداهات واللاشعور الجمعي للعلماء بحسب باشلار. من هنا يحتاج تحرير العقل من الأوهام إلى جهد استثنائي يتَّخذ شكل إعمال الشكّ في كل البداهات والمسلمات. إذا كان سقراط هو أب الفلسفة فلأنّه أوَّل محاور في التاريخ لا يبشِّر بأي خلاص ويبعث الشكّ في عقول محاوريه ويضرم النيران.

    إنَّ مهمَّة بناء مدرسة صديقة للمتعلِّم لن تكون أبدا وظيفة المعلِّم الوظيفي مهما اجتهد، بل هي مهمَّة التربوي التنويري، إذ كشف التعليم وفق العقلانيَّة الأداتيَّة عن مواطن الضعف والقصور؛ إنَّ على مستوى المناهج أو الممارسات التربويَّة التي تعتمل في الصميم، والتي يجد المتعلِّم نفسه أمامها مغتربا ومستلبا. لذا فالتربوي التنويري وحده يمكنه أن يفكّ لغز أحجية مدرسة أشبه ما تكون “بالمحيط الذي يستريح على جمال الشواطئ بينما تعتمل في أعماقه السحيقة اندفاعات الزلازل وثورات البراكين المدمِّرة”.[5] فهو الذي يستطيع النفاذ ليسائل عمق الأشياء ويجري جراحات ذهنيَّة لما يمكن أن تخلّفه سلطة المعرفة من “حوكمة ذهنيَّة” تجعل التعليم أداة للسيطرة على المتعلِّم حسب ميشيل فوكو[6].

   تحت كل هذا الركام على السطح ما يزال هناك متَّسع لمدرسة تنويريَّة تتضوع بأريج العلم وتنهض فنونها الجميلة بأسرار الجمال ويدمن في فضائها على السؤال والتفكير، وتقدح بأنوار المعرفة، لتنتشل غائيّتها من مستنقع الأداتيَّة، إذا ما اخترق التنوير جدرانها لتنفتح على مجتمعها بقدر انفتاحه على هذا العالم المتغيِّر. فاليوم لا تسلم أرجاء بيت به طفل من دوي السؤال، ورغبة شديدة في سبر عمق الأشياء وإدمان التفاصيل الصغيرة، لربما تقبر في كثير من الأحيان وتقمع، كما قد لا يسلم شاب من أن يكون صيدا سهلا ثمينا للنزعات التطرفيَّة، ألا نملك وعيا تربويا في ظلّ المفارقة بين ما يدرس وما يعاش معناه أننا نفتقد لفلسفة تربويَّة توجه تعليمنا. وتعرّضنا لثورة صامتة في القيم والمعلومات ووسائل التواصل جعلنا ندرك أنَّ أزمتنا لا تكمن فقط في نظم توصيل المعلومة ومناهج التعليم فقط، بينما هي في الحقيقة أزمة في أساليب مواكبة المتعلِّم في عصر لم يعد الأنسب لمبدأ أحاديَّة المصدر للمعرفة.


[1] – كورا ميسن، سقراط الرجل الذي جرؤ على السؤال، ترجمة محمود محمود – مؤسسة هنداوي للنشر.ص9. بتصرف

[2] – خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة: دراسة في سوسيولوجيا الثقافة، جامعة الكويت، يوليوز 1993.

[3]   خلدون حسن النقيب، المشكل التربوي والثورة الصامتة، ص 24.

[4] – سعيد ناشيد، التداوي بالفلسفة، دار التنوير للطباعة والنشر والتوزيع بيروت، ص 137. بتصرف.

[5] – علي وطفة، رأسماليَّة المدرسة في عالم متغير، االوظيفة الاستلابيَّة للعنف الرمزي والمناهج الخفيَّة، منشورات اتحاد الكتاب العرب، سنة 2011 ص7.

[6] – ميشيل فوكو، المعرفة والسلطة، ترجمة عبد العزيز العيادي، المؤسسة الجامعيَّة للدراسات والنشر والتوزيع، بيروت.

جديدنا