البحث عن المجد في رواية الديوان الإسبرطي

image_pdf

        الديوان الإسبرطي روايَّة للكاتب الجزائري عبد الوهاب عيساوي، حازت جائزة البوكر للرواية سنة 2020م، هي روايَّة تاريخيَّة في أساسها الظاهر، تعود بنا إلى حقبة الغزو العثماني والاستعمار الفرنسي للجزائر، وأبان فيها الكاتب عن السياسية التي اعتمدها ونهجها الأتراك والفرنسيُّون في استعمارهم للجزائر، ومرارة العيش التي عاشها وقاضها الشعب أآذاك. وخلقت الأحداث التاريخيَّة التي أشار إليها الكاتب جدلا كبيرا وردودَ فعلٍ كثيرة في الساحة الأدبيَّة والفكريَّة والسياسيَّة، نظرا للتمجيد الذي تُظهره الرواية للفرنسيين على التُرك، ولا يهمنا الخوض في هاته المسائل، إنما غايتنا هو بيان المداليل الباطنة والمبثوثة في العمل السردي.

موضوعنا في الرواية سيكون حول البحث عن المجد أو البحث عن الذات في الديوان الإسبرطي، على اعتبار أن نجيب محفوظ أشار في إحدى حواراته على قناة ماسبيرو زمان المصريَّة، أنَّ الرواية العربيَّة تسعى دائما للبحث عن شيء ما، يكون حبا أو خلاصا، أو ذاتا، بخلاف الرواية الغربيَّة التي يكون فيها البطل في لحظة انتظار، معناه انتظار ما سيأتي، ومن خلال هذا القول، سيتمّ بيان المجد الذي يبحث عنه البطل، والذي تبدَّى لنا من قراءة رواية الديوان الإسبرطي- باعتبارها عملا تاريخيا وسرديّا ضخما في خمسة أقسام-، وذلك التركيز أساسا على شخصيَّة حمّة السلاوي، بوصفها الشخصيَّة الثائرة ضدّ الاستعمار في الرواية، والتي ترمز إلى الإنسان المناضل والمواطن الذي يدافع عن الوطنيَّة بجنون تام، ويبقى السؤال المطروح ههنا ما المجد الذي يبحث عنه السلاوي في الديوان الإسبرطي؟

        قبل الإجابة عن السؤال لا بدّ من الإشارة إلى أن الشخصيات في الرواية تم انتقاؤها بعناية، وتعبِّر عن مواقف وقضايا سياسيَّة واجتماعيَّة وإنسانيَّة، فشخصيَّة ديبون مثلا ترمز إلى الإنسان المتعاطف مع الشعب الجزائري، وشخصيَّة المِزوار ترمز إلى الشخص الخائن والمتعاون مع المستعمرين طمعا في الحظوة، وكافيار، الذي يرمز إلى الفرنسي الحاقد عكس ديبون، لكونه سُجن أسيرا لدى الأتراك، وشارك في معركة واترلو مع نابليون في إنجلترا، وشخصيَّة ابن ميار الذي يتقارب أساسا مع مواصفات حمّة السلاوي في الدفاع عن القضيَّة الجزائريَّة من جهة، وانتقاد العقليَّة الفكريَّة والدينيَّة العربيَّة في طريقة نظرها للأشياء من جهة أخرى، وشخصيَّة لالة زهرة ولالة السعديَّة في كونهما ترمزان إلى الملاذ الروحي والتعبُّد، وشخصيَّة دُوجة، المرأة البريئة والمتشرِّدة واللطيفة التي بقيت وحيدة بعد وفاة أسرتها بالكامل، فولجت إلى باب لالة السعديَّة وحُضنِها الإنساني. وجعل الكاتب هاته الشخصيات هي من تسرد الأحداث بالتناوب، ديبون، فكافيار، وابن ميار، والسلاوي، ثم دوجة، بهذا الترتيب في جميع أقسام الرواية الخمسة.

        سنركِّز على شخصيَّة السلاوي، لكونه الإنسان الذي وقف في وجه استعمار الأتراك والفرنسيِّين، فكان لا يهابهم ولا يخافهم، شديد النخوة في الدفاع عن وطنه المحروسة، أرضه التي خذلها أهلها، ورحلوا عنها، هذه هي الوطنيَّة التي جعلت السلاوي يبحث عن المجد، بإنقاذ المحروسة من أوباش الاستعمار، لقد غامر بنفسه من أجلها، وعانى معاناة فظيعة لتحريرها، فلمَّا عجز عن تحقيق ذلك انتقم من المزوار، الإنسان الخائن، الذي باع أرضه المحروسة وخانها بتعاونه مع الفرنسيِّين، ونشره للبغاء في نساء المحروسة، كل هاته الأمور زادت من شدة تأسُّف وغضب السلاوي، بالبحث عن مجده ومجد المحروسة في الانتقام، إنه يسعى ليكون حارسَ المحروسةِ، بالوقوف في وجه الخونة والمذلِّين، وسيتمّ بيان هذا بأخذ مقاطع من الرواية تتعلَّق بالسلاوي وربطها بموضوع الورقة.

  • أولا: حماية الوطن “المحروسة”:

بتتبُّع حمة السلاوي في الرواية نجده عنصرا فعالا، يسعى لحماية المحروسة والدفاع عنها، وعن شرف أهلها، يغامر بنفسه في مواجهة الأتراك والفرنسيِّين، لا تهمّه ذاته أساسا، بل منح كل ما يملك ليجعل المحروسة التي ترمز إلى الجزائر حرَّة، هو الشخص الوحيد الذي يقاوم ويدافع؛ لأنه لم يجدْ في رجال بلده ما يُعينهُ ويقاوم معه، يقول: “”الحياة في المحروسة هي شكل آخر للموت، أراه كل يوم في عيون الناس”، ص64، شَهِدَ تبدُّد أهل مدينته وتفكّك قوّتهم، أصبحوا خانعين مُذلين، يرضون بالمهانة وسوء المعيشة، ولا يكاد يسمع حسيسهم ولا حركتهم ولا يرى ظِلهُّم، هم يُشْبِهون الموتى، وما هو بِمُسْمِعٍ مَنْ في خنوعٍ وجفاء، يقول السلاوي واصفا حال أهل المحروسة :” “كانوا يتّهمونني مثلما اتّهمني الأتراك، أنني أدعو الناس للثورة عليهم، غير أن أهل المحروسة خانعون ومنذ سنوات كانوا يطأطئون رؤوسهم ويتجنَّبون الأتراك في الشوارع، المدينة تجعل الناس أكثر جبنا وتقبّلا للغزاة، ألم يفرَ الموسرون ما إن رأوا طلائع الجيش تعبر الأبواب؟”ص65.

إنَّ السلاوي لم يصبر على ما تعيش فيه المحروسة من أوضاع، دائما ما يحرِّض رجال المحروسة للثورة على الفرنسيِّين والعثمانيِّين، رافضا جبنهم وتخوّفهم، ومتحدّيا كل الصعاب لحماية بلده، لا تهمّه صحّته بقدر ما يريد أن يخلد نفسه ثائرا وصانعا للمجد، وواقفا في وجه الظالمين، فبات كثير الحركةِ يترصَّد مواقع الأعداء والخونة، تقول دُوجة: “السلاوي، ارتبطت حياته بالركض الدائم، سواء في زمان بني عثمان، أو حين دخل الفرنسيُّون”، ص86.

يبرز السلاوي تعلّقه الشديد بالمحروسة، فدائما ما يخاطبها، ويتحدَّث معها، ويخبرها بما أصاب أهلها، امتلأ قلبه بالأوجاع، وعجز لسانه عن نطق أي كلمة، تمنَّى لو كان أكلة للذئاب، يقول: “شوارع المحروسة غامضة مثل أهلها، ولكنها ليست متخاذلة مثلهم…رغبت تأمّل المحروسة تحت ضوء النهار، لأبكيها طويلا، ثم أرمي عليها سلامي الأخير”،ص370، ويفضّلها على أهلها ويُعْلي من شأنها، فهذا هو أساس حمايتها، صناعةً لمجده هو وبحثا لها عن حرّيتها؛ لأن “بعض المدن أفضل من أهلها، ودائما كانت المحروسة أكبر من ساكنيها”،ص156.

حمة السلاوي وحده غير قادر على حمايَّة المحروسة، والدفاع عنها، بل يحتاج إلى عونٍ يساعده، فَشدّهُ الأسف قائلا “حمة يا حمة، شئت أم أبيت، المحروسة التي كنت تدافع عنها بالأمس لم تصبح محروسة اليوم”ص67، أحسّ واستشعر الألم تجاه هذا ولكن لم يستسلم، ظل وفيّا لمحروسته، وقاتلَ من أجلها وحاربَ دفاعا عنها، وتحدَّى المتاعب والمصاعب. ورسم الكاتب هاته الشخصيَّة لِيُعَبّر عن الوفاء والحبّ الذي يُكنّه المقاومون لوطنهم، رغم فقرهم وضعفهم فإنهم دائمو الوفاء والعهد. الانتكاسة تؤلمك مرَّة ولكن تقويك ألف مرَّة، إنَّ حبَّ الوطن مناعةٌ يتقوَّى بها الضعفاء لصنع أمجادهم، ومحاربة مُنتَكسيهم، ونبرز هذا الأمر في قول السلاوي: “قمت في انحناء، كنت أتوق إلى الفرار بعيدا إلى التلال، لأقف عند أسوارها، وأقتحم الجيش، فليمتلئ جسدي بالرصاص وليحترق بالبارود…هممت بالمغادرة، الرغبة نفسها دفعتني، ولم أتجاوز الخطوة الأولى حتى خررت أرضا، اشتغل الألم حادّا من الجرح الذي تقيح، وبخفَّة شرع العجوز يجفِّف الدم، والدموع التي انهمرت، كنت أنشج إلى جانبه، ولم يحتمل فانضمّ إليّ وبكى هو الآخر، ثم اجتمع حولنا أبناؤه، ساحت دموعهم، وبلّلت خدودهم، كان نهر الدموع يملأ الخيمة بالملوحة” و”استيقظت على حرقة شديدة، أوّل الكلمات التي قلتها كانت المحروسة، ألفيت العجوز يحدّق بي في صمت، نقلت عيني بين الوجوه المراقبة لحركاتي، ثم التفتّ إلى العجوز بعينين ترجوانه، أريد مطالعة أسوارها، لو تحملونني إلى التلة فأراها من هناك، وإن متّ فادفنوني في أعلى التلة، واجعلوها آخر الأمنيات”، ص154.

النص يُجلّي وفاء السلاوي وفداءه تجاه وطنه، لم تمنعه قروحُ جرحه وتضاعفات آلامه من تذكّر المحروسة، لا أحد قادر على إبعاده منها، يحلم بها ويرجو أن تكون سلامه الأخير، وملاذه الروحي والعاطفي، يحيا بهوائها وتنبث فيه الأماني والذكريات بملامسة ترابها، الذي دنسته أقدام المستعمرين، وعليها نقول: إنه يسعى للبحث عن المجد في حمايَّة محروسته، ولو تلاشت عظامه، أو كان في سكراته الأخيرة، فسيظل الإنسان المقاوم المتشبث بالوطنيَّة والوطن.

الوقوف في وجه الاستعمارين العثماني والفرنسي:

       حمة السلاوي شخصيَّة تجوب ألسنة أهل المحروسة، مفتخرين بشجاعته في مواجهة أعداء الاستعمار، ومنبهرين بصرامته وشدّته في تحديهم وسبهم وشتمهم، دون خوف وخشيَّة، لا يتمالك نفسه حينما يراهم يسفكون دماء أهل المحروسة، ويغتصبون نساءها ويضطهدون أبناءها، ويذلّون شيوخها، يكون دائما السبّاق في صدّهم، وتحريض شباب البنادق لقتل بعض جنودهم، فقد كانوا معجبين بالشجاعة التي يواجه بها الأتراك والفرنسيّين، ولكن لا يبدون ذلك، حتى صديقه ابن ميار الذي يعرفه أكثر من الجميع، ظلّ يردِّد عبارة “ما زلت صغيرا يا حمة، ليست كل الحقائق تقال”ص65، إلا أن السلاوي يأخذ موقف الذل والخذلان من أهل المحروسة حيث يظنُّون أنّ هذا الغزو والمعاناة التي يعانونها هي قدر من عند الله تعالى، فظلُّوا مكتوفي الأيدي، داعين الله أن ينجيهم، وأن يفرج عنهم، وهم لا يحرّكون ساكنا، فقد أُضيفت إليهم المهانة فَجرّتهم نحو الهلاك، يقول: “أهل المحروسة مهزومون على الدوام ومتخاذلون، يجعلون الدين حجة يتصبّرون بها، ويطأطئون رؤوسهم إيمانا، ثم يهمسون: إنه مكتوبٌ من الله، سندعو يوم الجمعة ليرفع عنا الغبن، ويهزم أعداءنا”ص218.

        يبرِّرون ضعفهم بالقدر، ويرجون من الله أن يحارب لهم المستعمرين، وأن يقضي على الأعداء والخونة، ولا يعلمون أن الرجال هم من يصنعون قدرهم بأنفسهم، وذلك بعون من الله، فالله يقدم الجزاء دائما بعد العمل، وسكونهم لن يطرد العدو من البلد، ولكنهم يؤمنون بالذلّ والضعف، ولن يستطيع السلاوي أن يغيّر إيمانهم،  هم” يحتمون من ضُعفهم، ومن خذلانهم، ومن بوار تجارتهم، ومن ظلم الأتراك، ومن خيانة زوجاتهم، ومن عقوق أولادهم، ومن كل الأشياء التي تنهكهم يحتمون بالله، ولا يريدون تغييرها بأنفسهم، يعتقدون أن الله منعهم المطر، وأصابهم بالوباء والقحط، لأنهم لا يصلون كفايَّة، ولا يزكون من أموالهم، ويشرب بعضهم الخمر خفيَّة”،ص218.

        تظهر مواجهة السلاوي للاستعماريين داخل الرواية في حرصه على انتقادهم، والردّ على أفعالهم، لاضطهادهم حقوق أهل المحروسة، وانتهاك حرماتهم، يأخذون أفضل ما تنتجه المحروسة من قمح، ويسطون على ذهبها وأموالها، وثرواتها، ويستغلُّون أناسها في قضاء حاجاتهم، دليلنا من الرواية قوله: “إن سفينة فرنسيَّة حملت قناطير القمح من الميناء، بينما كان الناس يتضوّرون جوعا، ويأكلون خبزا معجونا من القمح الأسود”،ص58.

السلاوي غير راضٍ على هذا الوضع، الذي تعيشه المحروسة التي ترمز إلى الجزائر، وجعلته هاته الشدَّة مُرَاقبا من قبل الجنود الفرنسيِّين والعثمانيِّين، يتخفَّى عنهم ولا يظهر إلا في الأوقات العصيبة أو الهادئة، لا يخاف من بني عثمان وبشواتهم؛ لأنهم يظنُّون ظنّا يحسبونه يقينا، أن استعمارهم للجزائر كان لحمايتها، والدفاع عنها، وإخراجها من جهلها، ولكن قولهم عكس أفعالهم بتعبير السلاوي، إنهم يستغلُّون ثرواتنا ويذلّوننا، يقول تعبيرا عن هذا الوضع: “بسهولة تكتشف طبع هؤلاء الأتراك، كبرياؤهم لا حدود لها، ميَّالون إلى إهانة الناس، كانت بيوتهم أجمل من بيوتنا، ومزارعهم أوسع من مزارعنا، ومُفتيهم له الكلمة الأخيرة عند الباشا الكبير، بالرغم من أننا أكثر عددًا”،ص66.

في مقابل الأتراك فقد كان السلاوي معارضا للاستعمار الفرنسي وغزواتهم،ـ فلم يستطع أن يواجه جميع الجنود لوحده، ولكنه بحث عن طرق أخرى للانتقام، فكان يترصَّد خطوات أعوانهم ومساعديهم، الذين باعوا المحروسة طمعا في السلطة، والذي يرمز في الرواية إلى هذا الجانب، هو المِزوار، الإنسان الخائن، فقد استطاع السلاوي أن يقضي عليه بطعنة سكين، فانتشر خبر مقتله، ولكن دون علمهم بالقاتل، إلا أن الفرنسيِّين علموا بالمعارض والمقاوم الذي يقف ضدّهم، فكانوا يبحثون عنه، ولكن لجأ إلى بيت لالة السعديَّة، فأختبأ في القبو دون أن يجدوه، تقول حبيبته دُوجة: “إنَّ الجنود كانوا كثيرين، غزوا كل الغرف يبحثون عن السلاوي”، ص373، نجح البطل في القضاء على الخائن، وتحقيق بعض أمجاده، مواجهةً لخبث المستعمر وسطوته، الذي يقتل الناس دون رحمة ويسفك دماءهم بلا شفقة، ونؤكِّد هذا الظلم في قوله: “صَوبوا نيرانهم تجاهنا، تساقط الأطفال من حولي، وبعض النسوة كنّ يجلبن الماء فرمين الدّلاء وهربن، ولا أدري كم واحدة نجت لكنني رأيت الكثيرات يسقطن، أما الشيوخ فلم يبرحوا أمكنتهم، بعض الشباب فرّ تجاه الغابة وآخرون من الذين حملوا البنادق انتبهوا متأخرين، وحالوا صدّهم، صمدوا قليلا ثم سقطوا مضرّجين، بدمائهم، ومرَّ الجنود الفرنسيون بأقدامهم قربي ولم ينتبهوا لي في مخبئي”، ص66.

        مدار القول إنَّ الرواية قد رسمت شخصيَّة مناضلة وفدائيَّة، في شخص السلاوي، الذي قاوم وحارب بحثا عن مجده وذاته، الظاهر في حماية المحروسة، التي ترمز إلى وطنه الجزائر من جهة، وفي مواجهته للاستعمارين العثماني والفرنسي من جهة أخرى، ووجدنا في الرواية مُضمرات أخرى لا يسع المقام للتفصيل فيها وذكرها؛ لأننا مقتصرون على تيمة البحث عن المجد في الديوان الإسبرطي، تخصيصا لشخصيَّة السلاوي.

جديدنا