الفيروس كمصدر لظاهرة إنسانية جديدة

image_pdf

دخل فيروس كورونا على حياتنا وأصبح بسرعة فائقة جزء منها. أخذ يعطل عاداتنا ويغير نمط حياتنا اليومية، يفكك نظمنا التي ضمنت لنا في السابق مستوى أمان معقول، ويظهر ضعف أدواتنا الأمنية وإجراءتنا الصحية وقراراتنا السياسية في الحد منه أو احتوائه، ما جعلنا مكشوفي الظهر وفاقدي القدرة على مواجهة المستقبل الذي بدأ الفيروس الجديد يصنعه لنا ويفرض علينا البحث والتفكير ملياً في مسلكيات بديلة وخيارات مختلفة وأنماط عيش جديدة لاستيعاب تبعاته والتكيف مع التحولات التي سيفرضها علينا في أكثر مستويات وجودنا.

أعادنا الفيروس الجديد كبشر إلى حالة الهشاشة والعجز اللذين نرتعب منهما ونعمد دائما إلى تجاهلهما والهرب منهما، ونصطنع لأنفسنا باستمرار تصورات أمان وشبكات قوة تعوض علينا ضعفنا ومحدوديتنا، وتشعرنا بطمأنينة كاذبة أننا الأسياد المسيطرون، نحوز طاقة التحكم بمحيطنا، ونملك قدرة التنبؤ بالأحداث القادمة بحكم معرفتنا المسبقة بقوانينها وعللها التامة.

ما زلنا أمام الوهم بأن إجراءات الحظر والمنع المتبعة محلياً ودولياً، ستقضي على الفيروس الجديد وستمكننا قريباً من استعادة مظاهر حياتنا اليومية السابقة والمعتادة. في حين أن كل ما فعلناه ونفعله كبشر حتى الساعة هو أننا دخلنا طوعاً في زمن الإنتظار الطويل والصامت، ووضعنا أنفسنا في حالة الحياة المرجأة والإرادة المعطلة، وبتنا ذواتاً وجلة من عجزها المرعب إزاء عدو يحتل أمكنتها وفضاءها وأزمنتها، يحاصرها من كل الجهات، يغزوها من دون أية مقاومة، ويسيطر عليها بسهولة غريبة.   

لم ندرك بعد أن الفيروس الجديد بدأ يتحول من مجرد وباء طبيعي ليكون منتجاً لظاهرة إنسانية يتشكل بداخلها تقليد بشري مختلف وثقافة جديدة ونظم علاقات مستحدثة، ويدفعنا إلى فتح أبواب تفكير لم نفكر بها سابقاً، أو فكرنا بها بنحو مضلل وقاربناها بطريقة خاطئة. ما يفعله الكورونا بنا أنه يدفعنا إلى إعادة إنتاج وجودنا البشري وفق شروط جديدة، سواء أكان على المستوى العملي والقيمي، أو المستوى الفكري الخالص الذي يعمد إلى استجلاء حقائق الأشياء وطبائعها، لغرض إسباغ دلالات محددة لأشياء العالم والطبيعة في علاقتهما بالوجود الإنساني.

هذا يعني أن الفيروس الجديد أيقظ بداخلنا السؤال المركزي الذي نتلهى عنه ونتعمد نسيانه دائماً: ما معنى أن ننوجد في هذا العالم بصفتنا كائنات بشرية وشكل حياة من بين أشكال حيوات أخرى لا متناهية؟ هو سؤال لا يخلو من استفسار أخلاقي ضمني: كيف يجب أن يكون نمط علاقتنا بيننا كبشر وطبيعة علاقاتنا بغيرنا من موجودات الكون والطبيعة؟

ما تزال الثقافة البشرية حتى الساعة تقوم على السيطرة: سيطرة على الطبيعة عبر نزع السحر عنها وكشف أسرارها والتعرف إلى قوانينها ليكون بالإمكان تعديلها وتحويلها والتنبؤ بمستقبلها.  وسيطرة على الإنسان بجعله كائنا متوقعاً خالياً من الغموض والمفاجأة، ليكون بالإمكان إخضاعه إلى تشريعات وقوانين كلية. 

ثقافة السيطرة هذه رسختها لحظتان مرت بهما البشرية حتى الآن على نحو التعاقب: لحظة الدين التي أنشأت مقايضة بين سيادة الإنسان على الطبيعة وتسخير جميع مخلوقاتها له مقابل خضوع الإنسان التام للإله المعبود واتباع تعاليمه وتنفيذ شريعته.  ولحظة الحداثة التي استغنت عن الإله ورأت في العقل القدرة المطلقة على الكشف والتحكم والسيطرة على محيط الإنسان وجميع لحظات وجوده. هما لحظتان لا تتناقضان كما يظن البعض بقدر ما خلقتا في الإنسان دوغما التفوق والإستثناء وعقيدة الحق بالسيطرة على العالم، ما حجب عنا طاقة السماع إلى نداء الوجود والتبصر في حقائق الموجودات المحيطة بنا، وبتنا نحصر اهتمامنا واتصالنا بها والتعامل معها بصفتها أشياء تُملك وأدوات تُسخَّر.

بات فيروس كورونا هو الصدمة التي نحتاجها للاستيقاظ من سباتنا الدوغمائي باستثنائيتنا، والخروج من يقيننا الخادع بتفوقنا على كل من وما حولنا. هي رسالة من الطبيعة بأن نتواضع بقدراتنا ومكانتنا ونعترف بأن فرادة الانسان تكمن في اختلافه لا في سيادته، وبأن العالم يحوي فائض وجود وأشكال حياة لا متناهية لم تعد استراتيجية السيطرة هي الخيار الصائب بالتموضع بينها والعيش معها. 

هي رسالة بأن نتأنسن.

*المصدر: المدن.

جديدنا