الغرفة

image_pdf

(1)

  • أهذهِ هي الغرفة؟
  • نعم.
  • هل أصبحَت أصغر حجمًا!

يتجوَّل في الغرفة ثمَّ يقول: هذا لأنَّ الباب مفتوح. ويفسِّر وجهة نظره قائلا: لا يمكن أن تكون هي الغرفة إن كان الباب مفتوحًا.
– هل تريد أن تغلقه؟

  • لا.

الحوار أعلاه، هو المشهد الختامي في فيلم غرفة (Room /2015) وقد جرى بين الطفل جاك ذي الخمس سنوات مع والدته عندما عادا لمعاينة الغرفة التي عاشا فيها زمنًا طويلا. ولمن لا يعرف تفاصيل الفيلم فهو يتناول معاناة فتاة اُختطِفَت وهي في سنِّ المراهقة، وسُجِنَت في غرفةٍ مغلقة تعوزها النوافذ باستثناء فتحة علويَّة صغيرة بالكاد يدخل منها نور الشمس، ثمّ أنجبت طفلًا من مغتصبها وسجّانها.

الغرفة هي العالم الوحيد الذي يعرفه الطفل جاك، والجدران هي الطبيعة والأشجار والعصافير التي يألفها، والخِزانة وأمُّهُ ومغتصبها الزائر الليلي ونبتة صغيرة في أصيصٍ بلاستيكي وكرسي وملعقة وجهاز تلفزيون، هي مفردات هذا العالم العجيب.

وبعيدًا عن الأحداث والتفاصيل الدقيقة المؤلمة، وكيفيَّة تحرُّر جاك ووالدته من ضيق وعتمة (الغرفة السجن) بحيلةٍ ذكيَّة خطّطت لها الأم ونفَّذها الطفل الذكي، وخروجهما إلى العالم الحقيقي بكل إيجابيّاته وسلبيّاته، إلا أنّ هذا الحوار الذي أشرتُ إليه أعلاه، قد أخذني إلى هاجسٍ لطالما أرَّقني؛ أقصدُ هاجس الغرفة التي يعيش فيها أفراد مجتمعنا، وخوفهم المرضيّ من فتح الباب الذي يُطلُّ على شساعة العالم.

(2)

نعم، هو الخوف المرضيّ؛ نحنُ نخاف على أطفالنا وشبابنا من أفكار الآخر المختلف فنراقب الإنترنت والتلفاز والكتب والسينما ونختار ما يناسب (خصوصيَّة) مجتمعنا المحافظ! ونخافُ على ديننا فنمنع المفكّرين والمفسِّرين من معاينته وتفحّصه ومراجعته فنشتمهم ونكفِّرهم ونسجنهم ونقتلهم، ونخاف على تراثنا من الحداثة فنحتمي بالمتاريس ليتاح لنا أن نستذكر ماضينا ونبكي على الأطلال، ونخافُ على أخلاقنا وعاداتنا وتقاليدنا فنعيبُ ونرجم عادات وأخلاق ومعتقدات غيرنا من الشعوب، ونخافُ على ثوابتنا أن تَسيل وتتسرّب بين الشقوق فنتجمَّد فوق جدرانها المتداعية الآيلة للسقوط، ونخافُ على لغتنا أن تخضعَ لعمليَّة تجميل تزيدها رشاقة وتجسِّر الهوّة الشاهقة التي تفصلها عن الأجيال الجديدة فنحشو مناهجنا بكل ما زادت زخرفته وتعقيده وقلّت القدرة على فهمه، ونخافُ على مذهبنا وطائفتنا وقوميّتنا وإديولوجيّتنا وعشيرتنا وأسرتنا الصغيرة فنقتتل ونشعل الحروب ونريق الدماء.


 نحنُ الأمَّة الخائفة من (شيءٍ ما)؛ لأنَّنا في الأصل لا نثق بما نملك من مقوّمات دينيَّة وحضاريَّة وتاريخيَّة وعلميَّة وأخلاقيَّة وتراثيَّة ولغويَّة، ولأنّنا لا نملك الجرأة لمواجهة الآخر بما نؤمنُ به ونعتنقه ونمارسه، لهذا نغلقُ عليه وعلينا الأبواب بذرائع مختلفة تبدأ بما يسمَّى الغزو الثقافي ولا تتوقَّف عند تهمة التنوير الفكري!

(3)

المطلوب أن نتحلَّى بالمرونة كي لا ننكسر، وأن نمدّ جذورنا في الأرض ونتعهّدنا بالرعاية قبل أن تخلعنا الأعاصير من تربتها الطيّبة.

المطلوب أن نراجع مدّخراتنا ومكوّناتنا ونناقشها فوق طاولة حوار مجتمعيَّة منفتحة الأفق، ثمّ نتوافق حول ما يمكن التوافق عليه ونتسامح بيننا فيما نختلف فيه، قبل أن نفتح باب الغرفة الضيّقة ونواجه العالم بثقةٍ وثبات.

نحنُ نعيش في عالمٍ مفتوح ومن الطبيعي أن نقابل ثقافات وأفكار وقناعات وممارسات مختلفة أو مغايرة لما اعتدنا وحافظنا عليه، ومن غير المقبول منطقيّا أن نسجنَ أنفسنا وأولادنا في غرفةٍ مغلقة بفتحةٍ علويَّة صغيرة بالكاد يدخل منها نور الشمس، مع أمّنا ومغتصبها الزائر الليلي! ونبتةٍ صغيرة في أصيصٍ بلاستيكي، وكرسي، ومِلعقة، وجهاز تلفزيون عتيق نتلصّص عبر شاشتهِ الباهتة على العالم الآخر الموازي.

(4)  

ثمّة حوار سابق أجراه جاك مع جدّته وهو يساعدها في إعداد كعكة؛ قال إنّه فعل أشياء كثيرة في “الغرفة”، وأضاف: أشعرُ أنّني أشتاق لها أحيانا. سألتهُ الجدَّة: ألم يكن المكان صغيرًا جدًّا؟، فأجابها: لا، فقد كان يمتدُّ في جميع الاتّجاهات حتّى النهاية. لم يكن ليتوقّف أبدا.


هذا الانطباع المشحون بطاقة الاشتياق والحنين المضلِّلة أو الرغبة الفطريَّة بالتمركز داخل ما يطلق عليه في علم النفس “المساحة الآمنة”، هو الذي وضع جاك في حالةِ صدمة ودهشة عندما اكتشف مساحة الغرفة الحقيقيَّة بعد أن عاد إلى زيارتها أخيرًا بناءً على طلبه، فأطلق صيحته: أهذهِ هي الغرفة؟ هل أصبحَت أصغر حجمًا!

كلّنا جاك، ومجتمعنا بعواطفه المتأجِّجة ورغبته بالتمركز في مساحةٍ آمنة يحفظ مخاطرها عن ظهر قلب، هو “الغرفة” التي لا يمكن أن تظلَّ كذلك لو تركنا الباب مفتوحًا أمام فرصة الانخراط في العالم والتفاعل معه على قدم المساواة.

عندها، لو أُعطينا خيار إغلاق الباب مجدّدا كي تعود الغرفةُ غرفة كما كانت، ربما، قد نستعير إجابة الطفل جاك ذي الخمس سنوات، ونردُّ بثقةِ العارف الحاسمة: لا.

جديدنا