الحرب العالمية الثالثة .. عربياً

image_pdf

كما يقول فلاسفة وخبراء وباحثون كثيرون اليوم: العالم “ما بعد كورونا” لن يكون كما كان سابقاً، وكما تقول الدراسات التاريخية، فإنّ الأوبئة الكبرى التي اجتاحت البشرية، أو أجزاء منها، كانت إيذاناً بنهاية نظام وولادة نظام آخر.

ربما لم تكن الحرب العالمية الثالثة المتخيّلة بهذه الصورة، ولكن ما أحدثه هذا الفيروس (الذي لا يرى بالعين المجرّدة) أكبر بكثير من مفاعيل قنبلةٍ ذرّيةٍ أو حربٍ جرثوميةٍ تضرب دولاً معينة، وتغيّر من موازين القوى الدولية، فما يحدث اليوم هو منعرج في تاريخ البشرية جمعاء، يتجاوز الحسابات السياسية، إلى الاقتصادية فالثقافية والمجتمعية، وحتى النفسية.

كلّما تعثّر العلماء في البحث عن علاجٍ لهذا الفيروس طال أمد هذه الحرب، وهتكت في بنية الأنظمة القائمة بعمقٍ أكبر، وأصبح تأثيرها أكثر. وحتى لو وقف الفيروس عند هذا الحدّ، فإنّ نتائج ما حدث لن تنقطع، وستأخذ مدىً أوسع، لدى الدول جميعاً التي ستبدأ إعادة ترتيب أوراقها وإعادة ترتيب أولوياتها.

اعتزّ النظام الدولي نفسه بشدّة، وإذا كانت الدول الكبرى ستخرج تلملم جراحها الإنسانية والسياسية والاقتصادية، فإنّنا في العالم العربي سنكون الضحية الاقتصادية، وربما السياسية الأكثر تضرّراً بما حدث، لأنّ الوضع كان قبل “اجتياح كورونا” في غاية الهشاشة والضعف من مختلف الجوانب.

الأزمة المركّبة، سياسياً واقتصادياً، ستتبدّى بدرجةٍ أكثر خطورة وحدّيّة، فهنالك طبقاتٌ مسحوقة، وطبقةٌ وسطى متوترة، وسياقاتٌ مرتبكةٌ وتائهةٌ من الشرعيات السياسية المتكلسة، ما سيجعل الوضع السياسي على حافّة الهاوية، خصوصا إذا أخذنا بالاعتبار أنّ الأكثر تضرّراً هم أبناء الطبقات الحرفية والمياومات، والعاملون في اقتصاد الظل، وربما الموظفون في القطاع الخاص، وهم وقود التوتر في “المرحلة المقبلة” عربياً، ممن سيزداد غضبهم، وقد ينفجر.

“جائحة كورونا” مفترق طرق تاريخي، عالمياً، وعربياً بالخصوص، وربما لعبة القدر التاريخية أنّها تأتي بعد ما حدث في الربيع العربي، في موجته الأولى (2011)، وقد ظنت الأنظمة السلطوية أنّها وأدت هذا الحلم، وتمكّنت من التغلب على طموح الناس في الإصلاح والبحث عن الحرية الإنسانية والسياسية، ثم جاءت الموجة الثانية (في العراق، لبنان، الجزائر، السودان)، لتؤكّد على أنّ وصفة “ترميم الدكتاتورية” واستدامتها لم تكن ناجعةً على المدى الطويل، والآن تجد هذه الأنظمة نفسها أمام نتائج وخيمة وشيكة لحرب كورونا وما بعدها!

وإذا كانت دول عظمى وديمقراطية، وباقتصاديات قوية، لم تستطع أن تصمد أمام هذه الجائحة، وبدأت تنكفئ على نفسها لتعالج جراحها، فكيف هي الحال بدول ضعيفة سياسياً واقتصادياً وعلمياً، فليس متوقعاً بأي حال أن يكون الوضع أقل سوءاً.

تذهب توقعات علماء سياسيين وخبراء استراتيجيين كبار إلى أنّ الدول الكبرى ستتجه بعد الحرب إلى الحدّ من الديمقراطية، وستتغير موازين القوى تبعاً للمنتصرين والمنهزمين، وستتحوّل اهتمامات الدول إلى إنقاذ اقتصاداتها، ما قد يشعل الحرب الاقتصادية أكثر، ويهزّ أنظمة إقليمية قوية، مثل الاتحاد الأوروبي. ذلك صحيح عالمياً، وعلى صعيد النظام الدولي والدول الكبرى. ولكن الواقع في الدول العربية مختلف تماماً، فالنتيجة الرئيسة ستكون تعزيز أزمة الشرعية، وردّ الاعتبار لمطالب الربيع العربي التي تفجرت قبل قرابة عقد، بالديمقراطية والحرية والعدالة الاجتماعية. وبعد وصفة “لقاح كورونا” لن يكون اللجوء إلى “الوصفة الأمنية” العرفية في العالم العربي حلاً ممكناً، أو خياراً سهلاً، بذريعة احتواء الأضرار ومعالجة الكوارث الاقتصادية – المجتمعية المتوقعة، لأنّ هذه الوصفة (الأمنية العرفية) جرّبت كثيراً، واختبر الناس معناها ونتائجها، ولم تؤدّ إلّا إلى كوارث وأزمات تغرق فيها الدول والمجتمعات، فلا نظنّ أن الطبقة العريضة الكبرى من عامة الشعب المحطّمة ستكون مسالمةً أو خانعة، مع من ينضم إليها من الطبقة الوسطى من ضحايا هذه الحرب، فإنّ الانفجارات الحقيقية هي التي ستكون بعد انجلاء “الغبار العالمي” عربياً وليس قبله.

ملايين اللاجئين والمشرّدين من سورية والعراق وليبيا واليمن، وملايين الشباب العاطلين من العمل، والآلاف المؤلفة التي ستفقد وظائفها وسبل عيشها بعد هذه الاهتزازات، واقتصادات مهلهلة وأنظمة منتهية الصلاحية، فكيف ستكون السيناريوهات المقبلة؟

______
*المصدر: العربي الجديد.

جديدنا