قراءة في كتاب (الجسد والوجود العتبة المقدَّسة)

image_pdf

في التقديم الأول لكتاب الجسد والوجود العتبة المقدَّسة يتحدَّث الباحث معاذ بني عامر عن تفتيته للرؤية السائده عن الذكورة والأنوثة من ناحية التّخلق والانبثاق إلى العالم، ومن ثم إلى الارتكاز في النشوء الحضاري وتطوّره على كلا الجنسين معاً –الذكر والأنثى- من ناحية أنه كلا الطرفين مكمِّلان للمعادلة الوجوديَّة التي صاغها الله في صيغتها النهائية – نهائيَّة من ناحية التشكُّل الجسماني ولكنها البدء في مرحلة البناء الحضاري والمعرفي. حيث الأطروحة تقوم على استدعاءات آناكسيجورسية وهيرقليطيسية المتمثِّلة في السجالات الحاصلة بين الله والكون والإنسان والعلاقات المتبادلة بينها وإسقاطها على النصّ المؤسِّس للديانة الإسلاميَّة –القرآن الكريم-، والنصّ التوراتي، ونصّ ملحمة جلجامش، ونصّ ألف ليلة وليلة، لما فيها من سجالات متمثِّلة في الأطراف الثلاث السابقة والخروج برؤية لبناء حضاري واسع وممتدّ من خلال العلاقة الأولى والمهمَّة على صعيد البناء الحضاري علاقة الذكر بالأنثى والأنثى بالذكر.

الله متفرِّد في الوجود من حيث هو “الوتر”. لكن ماذا يحدث إلى الجملة السابقة على المستويين الانطولوجي والابستمولوجي إذا ما تحدَّثنا عن عمليَّة خلق آخر مفرد في الكون ومغايرة للطبيعة الالهيَّة؟ ما هي التداعيات التي سوف تحدث على المستوى الابستمولوجي في حال كان هنالك أكثر من ذات مفردة – بغض النظر عن طبيعة هذه الذوات- في الكون؟

عند البدء في عمليَّة الخلق كما روَّجت له الرواية التوراتيَّة والرواية الإسلاميَّة التفسيريَّة، فإنَّ عمليَّة خلق “آدم” كانت من تراب ومن ثمّ تتابعت عمليَّة الخلق بعد الاستدراك الإلهي بخلق “حواء” من ضلع “آدم”[i] –ضلع أعوج- على الرغم من تعارضها مع ما ورد في الإصحاح الأول من سفر التكوين[ii]. الرواية المتداولة لعمليَّة الخلق هي رواية الإصحاح الثاني وهي الرواية ذاتها التي اعتمدها المفسِّرون الإسلاميُّون في تفسير الآيات التي نتحدَّث عن خلق “آدم”! بوعي كان أم بلا وعي فإنَّ الرواية التفسيريَّة والتوراتيَّة المتداولة تضع الإنسان/المفسِّر/المفكِّر/المسلم/المسيحي/اليهودي..الخ أمام إشكال انطولوجي وابستمولوجي على مستوى الذات المفرده المتمثِّلة في “الإله” ومن ثم على مستوى الذات الإنسانيَّة. حيث أن الأدوات المعرفيَّة المتوفِّرة إلى الآن لا تستطيع التصور للماورائي –الغيبي- المتمثِّلة في طبيعة الخالق، ومن جهة أخرى أكثر أهميَّة هي المساواة بين وجوديَّة الله ووجوديَّة الإنسان الأوَّل المتمثِّل في “آدم” في السلم الوجودي نفسه، رغم أنه يحدث مشكلة في الآيات التي تتحدَّث عن الخالق الواحد الكامل المنزَّه عمَّا سواه[iii]. ومن ثم يحدث مشكلة أخرى في آليَّة تتابع الخلق –خلق حواء- من خلال الاستدراك الإلهي!، حيث من خلال عمليَّة الاستدراك الناتجة عن خلل أو عطب في الآليَّة الخلقيَّة للأول –آدم- وإصلاحها خلقيّا في الثاني –حواء- على المستوى الانطولوجي للأول والثاني معا.

يتعمَّق الباحث في الخوض في الآيات القرآنيَّة التي تتحدَّث عن خلق آدم وبدء النشوء الإنساني[iv]، ويعرض ما ذهب إليه المفسّرون الإسلاميّون من ابن كثير وفخر الدين محمد الرازي والطبري وايضاً الطاهر بن عاشور، حيث كان هنالك إجماع على الرواية التوراتية الواردة في الإصحاح الثاني – سابقة الذكر – كمرجعيَّة تفسيريَّة للآيات التي تتحدَّث عن عملية الخلق، على الرغم من أن الآيات القرآنيَّة لم تأتِ على ذكر شيء مماثل أو مشابه لما ورد في الإصحاح الثاني! – عمليَّة خلق آدم ثمَّ خلق حواء من ضلع آدم -. نتعرَّض في هذه اللحظة إلى إشكاليَّة من حيث تناقض ما ورد في الإصحاح الأوَّل من سِفر التكوين مع ما جاء به الإصحاح الثاني من سِفر التكوين، وايضاً تناقض الرواية التوراتية المعتمدة لدى المفسرين في تفسير الآيات لما تحتويه من معانٍ عن عمليَّة الخلق، وتناقض أخير على مستوى المفسِّرين أنفسهم من حيث اعتمادهم على الرواية التوراتيَّة في التفسير في بعض الآيات واعتماد الخلق الزوجي من حيث وجود “آدم” و”حواء” في لحظة النشوء نفسها وفي المرتبة الوجوديَّة نفسها التي تحتِّم على الإنسان أن يكون “شفعا” وعلى الله أن يكون “وترا”. ومن هذا المنطلق لا بد أن نتساءل، لماذا تمَّ تبنِّي الرواية التوراتيَّة الواردة في الإصحاح الثاني – التي تتحدَّث عن خلق آدم ومن ثم خلق حواء – كتفسير للآيات القرآنيَّة التي تتحدَّث عن نفس الاشكاليَّة في عمليَّة الخلق؟ ومن هذه النقطة علينا أن نسأل سؤالا اشمل من الذي سبقه، إلى أي مدى تمّ تبني روايات توراتيّة كانت أم غيرها من الكتب المقدَّسة السماويَّة وغير السماويَّة في تفسير الآيات القرآنية؟ حيث الإشكال الكبير الذي نحن بصدده الآن وهو الاعتماد على تفسيرات السابقين من المفسرين واعتمادها دونما تمحيص وتفتيت ابستيمولوجي.

في السردية الموسومة “الله والإنسان” – وهي عنوان الفصل الثالث من الكتاب – عمد الباحث على تفتيت انطولوجية الإنسان – الذكر تحديداً – من حيث هو الأساس البنائي في المجتمعات العربيَّة – مفهوم الذكورة هو الأكثر هيمنة في المجتمعات العربيَّة – وأعاد بناء التركيب الانطولوجي بالتساوي بين الذكورة والأنوثة من حيثية الأهميَّة لكلا الزوجين – المذكَّر والمؤنَّث – في عمليَّة الارتقاء الحضاري، وما للأنثى من دورٍ مهم في إحداث تغيير في البنية العقليَّة والجسديَّة على المستوى الذكوري من خلال قدرة الأنثى على خلق إنسان جديد في دائرة الرحم في بادئ الأمر – نتاج العمليَّة الجنسيَّة الحاصلة بالاتِّصال بين جسد الذكر وجسد الأنثى وتشكُّل الجنين داخل رحم الأنثى “إنسان جديد كلياً ” – ومن ثم خلق إنسان جديد من ناحية الانعطافة الوجوديَّة التي تحدثها الأنثى في الذات الذكوريَّة، قبل الممارسة الجنسيَّة وخلال[v] الممارسة وبعد الممارسة الجنسيَّة، كما تمثله في تأويليَّة الباحث لنصّ ملحمة جلجامش – أنكيدو والبغي – والمقاربة بين المتون المقدَّسة – نشيد الإنشاد والنصّ القرآني – ونصّ ألف ليلة وليلة.

“الجسد والحضارة” هكذا ينهي الباحث كتابه الموسوم بالجسد والوجود العتبة المقدَّسة بطرح الكثير من التساؤلات المهمَّة التي تؤرق مضاجع الكثيرين، على المستوى الأفقي – الفردي والجمعي، علاقة الإنسان بالإنسان على اختلاف جنسه ولونه .. الخ – وعلى المستوى العمودي، الفرد والمتعالي، من حيث الأول – الفرد/الذات/الانسان – وليد نقصٍ بالمعرفة وبحاجة إلى التناسل – العلاقة بين الذكر والأنثى التي من خلالها ينبثق إنسان جديد – من أجل الوصول إلى المعرفة التي هي كفيلة بالعروج به بالسلم الحضاري إلى درجة عالية ورفيعة من الوجود وصوغ الإنسان بصيغته الكونيَّة – التي تجلَّت في خلقِ المتعالي للإنسان -، في حين الثاني – المتعالي – كامل من حيث هو كل شيء ومنزَّه عمَّا سواه من الموجودات.

تتميَّز أطروحة الجسد والوجود العتبة المقدَّسة في منهجيّتها التفكيكيّة على مستويين من مستويات الوجود الإنساني، المستوى الانطولوجي ومن ثم المستوى الابستمولوجي، بدءا من عمليَّة خلق “آدم” و”حواء” – من أعالي السموات والجنان[vi] – والهبوط فيهما إلى عالم الشهادة، ومن ثمَّ إعادة صياغة المعادلة الوجوديَّة للذكورة والأنوثة معاً بما يحملان كلاهما أهميَّة كبرى في البناء الحضاري، والارتقاء بهما – البشريَّة جميعاً من حيثيتها على المزج بين الذكورة والأنوثة على اختلاف ألوانها والسنتها – نحو أعالي السموات مجدداً من خلال البناء الحضاري القائم على ابستمولوجية وجودية انطولوجية بين الذوات جميعها.


[i]  وَجَبَلَ الرَّبُّ الإِلهُ مِنَ الأَرْضِ كُلَّ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ وَكُلَّ طُيُورِ السَّمَاءِ، فَأَحْضَرَهَا إلى آدَمَ لِيَرَى مَاذَا يَدْعُوهَا، وَكُلُّ مَا دَعَا بِهِ آدَمُ ذَاتَ نَفْسٍ حَيَّةٍ فَهُوَ اسْمُهَا. فَدَعَا آدَمُ بِأَسْمَاءٍ جَمِيعَ الْبَهَائِمِ وَطُيُورَ السَّمَاءِ وَجَمِيعَ حَيَوَانَاتِ الْبَرِّيَّةِ. وَأَمَّا لِنَفْسِهِ فَلَمْ يَجِدْ مُعِينًا نَظِيرَهُ. فَأَوْقَعَ الرَّبُّ الإِلهُ سُبَاتًا عَلَى آدَمَ فَنَامَ، فَأَخَذَ وَاحِدَةً مِنْ أَضْلاَعِهِ وَمَلأَ مَكَانَهَا لَحْمًا. وَبَنَى الرَّبُّ الإِلهُ الضِّلْعَ الَّتِي أَخَذَهَا مِنْ آدَمَ امْرَأَةً وَأَحْضَرَهَا إلى آدَمَ. فَقَالَ آدَمُ: «هذِهِ الآنَ عَظْمٌ مِنْ عِظَامِي وَلَحْمٌ مِنْ لَحْمِي. هذِهِ تُدْعَى امْرَأَةً لأَنَّهَا مِنِ امْرِءٍ أُخِذَتْ». لِذلِكَ يَتْرُكُ الرَّجُلُ أَبَاهُ وَأُمَّهُ وَيَلْتَصِقُ بِامْرَأَتِهِ وَيَكُونَانِ جَسَدًا وَاحِدًا. وَكَانَا كِلاَهُمَا عُرْيَانَيْنِ، آدَمُ وَامْرَأَتُهُ، وَهُمَا لاَ يَخْجَلاَنِ. الكتاب المقدّس، سفر التكوين، الاصحاح الثاني، ص3.

[ii] فَخَلَقَ اللهُ الإِنْسَانَ عَلَى صُورَتِھِ. عَلَى صُورَةِ اللهِ خَلَقَھُ. ذَكَرًا وَأُنْثَى خَلَقَھُمْ. الكتاب المقدّس، سفر التكوين، الاصحاح الاول.

[iii] على سبيل المثال من آيات قرانية تتحدث عن وحدانية الخلق سورة الاخلاص

[iv] وَمِنْ آيَاتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا لِتَسْكُنُوا إِلَيْهَا وَجَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَرَحْمَةً ۚ إِنَّ فِي ذَٰلِكَ لَآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ. سورة الروم الاية 21

يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً ۚ وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ ۚ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا. سورة النساء الاية 1

وَاللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَجَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ بَنِينَ وَحَفَدَةً وَرَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّبَاتِ ۚ أَفَبِالْبَاطِلِ يُؤْمِنُونَ وَبِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ. سورة النحل الاية 72

أَيَحْسَبُ الْإِنْسَانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدًى (36) أَلَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنَى (37) ثُمَّ كَانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَالْأُنْثَى (39) سورة القيامة

وَمِنْ كُلِّ شَيْءٍ خَلَقْنَا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ. سورة الذاريات الاية 49

[v] هناك رؤية بديعة للباحث معاذ بني عامر حول الزمن المتمثل داخل دائرة الرحم والمفارقة للزمن الخارجي ممثلة في الفصل الثالث من الكتاب.

[vi]  يعمد الباحث إلى تعداد ثلاث انواع من جنان المتمثلة في الايات القرآنية:

1- الجنة التي طرد منها آدم وحواء، معاذ بني عامر، الجسد والوجود العتبة المقدسة، الطبعة الاولى، المركز الثقافي العربي، ص 91.

2- الجنان التي تنمو في الواقع العياني، معاذ بني عامر، الجسد والوجود العتبة المقدسة، الطبعة الاولى، المركز الثقافي العربي، ص 92.

3- جنة غير مرئية وعد بها من يلتزم بأوامر الله، معاذ بني عامر، الجسد والوجود العتبة المقدسة، الطبعة الاولى، المركز الثقافي العربي، ص 93.

جديدنا