فتاوى الإمام محمد عبده

image_pdf

ثمة تأثر ما حدث لطه حسين بأفكار محمد عبده الإصلاحية لتحرير العقل الإسلامي من جموده. ورغم أنهما لم يلتقيا، إلا أن طه حسين  قد سمع وعاين آثار أفكار محمد عبده الدينية المتحررة في الأزهر، وكذلك درس الأدب على الشيخ سيد المرصفي – اللغوي الكبير وشارح كتاب “الكامل” للمُبَّرد (رغبة الآمل من كتاب الكامل)، والذي كان أحد أنصار محمد عبده وممن شاركوا معه في الثورة العرابية. والغالب أن طه حسين لو كان قد أكمل مساره في الأزهر إلى نهايته، كان سيسلك نفس سبيل محمد عبده ومدرسته في التجديد والإصلاح. غير أن الطريق الذي سلكه طه حسين والمناهج والمعرفة والتكوين العلمي المختلف الذي تلقاه في البداية بالجامعة المصرية ثم في جامعات فرنسا (مونبيليه، السوربون)، وكذا اختلاف الأحوال السياسية والاجتماعية بشكل كبير عن وقت محمد عبده، كل هذه العوامل وغيرها جعلته يتجاوز من مجرد أفق الإصلاح والتجديد للفكر الديني[1]، إلى القفز إلى ضفة أخرى بما كان بمثابة ثورة ونُقلة جديدة وجبارة في طريق تحرير العقل، لكنها غير منبتة الصلة-مع ذلك- مع البذرة الأولى التي وضعها محمد عبده في مشروع النهضة الفكرية الحديثة في مصر.

يأتي محمد عبده على رأس المجددين للفكر الديني والتحديث وكأول رائد للإصلاح في مصر. كانت دعوته الرئيسية بعد عودته من المنفى لمدة ست سنوات، بسبب اشتراكه في الثورة العرابية، هي الإصلاح، إصلاح الأزهر ونظام التدريس فيه، إصلاح المحاكم الشرعية، الإفتاء، والأوقاف الإسلامية، وإنشاء مدرسة للقضاء الشرعي 1907[2]، وكل واحدة من هذه الأمور تحتاج إلى  تفصيل. لكن سوف نقتصر في الحديث هنا عن بعض أوجه الإصلاح له في الفتوى. وهو لم يكن يفصل بين قضايا الفقه وقضايا المجتمع بل إنه اجتهد في الفقه للإجابة عن أسئلة الواقع والحياة من حوله. وقد شغل منصب المفتي  وصدر مرسوم بذلك من الخديوي عباس حلمي الثاني في 3 يونيو 1899م. وكان الإفتاء قبل هذا يقوم به من يتولى مشيخة الأزهر، ولذا يعتبر محمد عبده هو أول مفتٍ مستقلٍ في مصر. واستمر محمد عبده في منصب المفتي لمدة ست سنوات أصدر خلالها تسعمائة أربعة وأربعون فتوى، وهي مقيدة في وثائق دار الإفتاء المصرية في سجلين، وبدأت في إصدارها دار الكتب والوثائق القومية مؤخرا في كتاب بعنوان “فتاوى الإمام محمد عبده” – الجزء الأول، ويحتوى على فتاوى السجل الأول[3]. والاجتهاد الذي قدمه الإمام محمد عبده في الفتاوى يحتاج إلى فضل نظر وتأمل من الباحثين حتى نقف على ما فيه، لا فقط بالنظر في الفتاوى بذاتها وإنما باعتبار ما تمثله من منهج ورؤية للإمام في قضايا الإصلاح والتجديد في الفكر الديني وفي الفقه الإسلامي، و بمنهجه في الاجتهاد بالرأي فيما لم يرد فيه نص أو اجتهاد سابق، وسوف أقدم هنا بعض الإشارات لذلك من خلال استعراض نماذج من فتاويه.

قدم محمد عبده طوال حياته منهجا ورؤية تنتصر للعقل إلى أبعد حد، وأصاب أحيانا وأخطأ أخرى، لكنه يبقى من أهم داعاة التجديد وإعمال العقل، وما أكثر حاجتنا لمثل هذه الرؤية وهذا المنهج اليوم. فالاجتهاد أبدا لم تُغلق أبوابه، بل هو واجب على مسلم توافرت فيه شروطه، وقضية الإصلاح الديني هي حاجة إنسانية دائمة وملحة لتفاعل الإنسان مع متغيرات واقعه الاجتماعي. ومازالت بعض ملامح من الرؤية العامة للإمام محمد عبده لتجديد الخطاب الديني وتحرير العقل من قيد التقليد والنقل، على بُعدها، صالحة للبناء عليها في حاضرنا المعاصر. وقبل استعراض بعض النماذج من الفتاوى التى أجاب بها الإمام على أسئلة المستفتين له في موضوعات مختلفة وتوضح منهجه، نُقدم باختصار بالتعريف لحياته ونشأته وتدرجه في المناصب المختلفة وبعض من أوجه جهاده في الإصلاح.

حياته ونشأته ومناصبه:

هو الأستاذ الإمام محمد بن عبده بن حسن خير الدين المصري، المولود بمحلة نصر بديرية البحيرة سنة 1849.  تعلم في الكُتاب القراءة والكتابة، وأرسله والده  لحفظ القرآن وتجويده بالجامع الأحمدي بطنطا، وهو معهد كان يأتي في مرتبة أقل من الجامع الأزهر في هذا الوقت[4]. ظل فيه لفترة يدرس جانب من علوم الفقه واللغة العربية. والتعليم الديني في الجامع الأحمدي لا يختلف عنه في الجامع الأزهر، وكما جاء في الكلام عن نمط التعليم في الأزهر بدائرة المعارف الإسلامية، بأنه “ليست غاية الأزهريين من العلم البحث والتحقيق والموازنة والتمحيص، وإنما غايتهم على الأكثر نقل ما ورثوه عن السلف في أمانة وإخلاص”[5]، فإن نفس الأمر جرى في الجامع الأحمدي مع محمد عبده الذي وجد نفسه يتلقى أحد الشروح على متن كتاب الأجرومية في النحو وقضى عام ونصف بسبب رداءة طريقة التعليم لا يفهم شئ، يسمع مصطلحات نحوية أو فقهية لا يفهمها ولا أحد من المشايخ يهتم بشرحها، أدركه اليأس وترك هذا التعليم ورفضه وعاد إلى قريته مرة أخرى. ثم عاد بعد وقت لاستكمال دراسته بفضل خال أبيه الشيخ الصوفي درويش خضر، وهو يقول في هذا الشأن ” ذلك الشيخ الذي أخرجني في بضعة أيام من سجن الجهل إلي فضاء المعرفة، ومن قيود التقليد إلى إطلاق التوحيد.. وهو مفتاح سعادتي إن كان لي سعادة في هذه الحياة الدنيا، وهو الذي رد لي ما كان غاب من غريزتي، وكشف لي ما كان خفي عني مما أودع في فطرتي”[6]. عاد مرة أخرى إلى الدراسة في الجامع الأحمدي، ثم إلى الأزهر وهو قد أصبح أكثر حبا للعلم “داومت على طلب العلم على شيوخه مع محافظتي على العزلة والبعد عن الناس حتى كنت استغفر الله إذا كلمت شخصا كلمة لغير ضرورة”[7]. وفيما بعد أصبح لا يقتصر على تلقي العلم فقط، بل وأصبح شيخا لزملائه يشرح لهم ما يلتبس عليهم. واستمر هكذا إلى أن التقى بأستاذه جمال الدين الأفغاني الذي تلقى منه بعض العلوم الرياضية والفلسفية والكلامية. وكان سببا في تحوله من العزلة العلمية إلى أن يتفاعل مع الحياة والناس، تأثر به وبما وجده عنده من حيوية وثورة في الأفكار لم تكن موجودة في بيئة ومناهج الأزهر الراكدة. ولما أراد أن يقرأ على زملائه بعض الكتب في المنطق وعلم الكلام على طريقة أستاذه الأفغاني، كبر ذلك على أصحاب الجمود أن يقرأ أحدهم كتب المعتزلة في الأزهر، وغضب منه الشيخ محمد عليش (وكان من أعيان مذهب المالكية)، خاصة حين سمع أنه لا يكتفي بقراءة المعتزلة لكنه يُرجح مذهبهم. ولما تقدم لامتحان العالمية (وهي في مرتبة الدكتوراة الآن) وبعد دراسة متواصلة في الأزهر لمدة اثنتى عشرة سنة كاملة. أراد بعض ممتحنيه أن يسقطوه[8]، لكنه كان نابغة إلى الدرجة التي جعلت أحد أعضاء اللجنة يقول بانصاف، أنه لو كان فوق الدرجة الأولى درجة ممتازة لاستحقها هذا الطالب. وفي النهاية نال منهم هذه الشهادة بجدارته لكن من الدرجة الثانية مع ذلك. وبعد نيله الشهادة قام بالتدريس في الجامع الأزهر، ثم قام بعد ذلك بالتدريس لمادة التاريخ ومقدمة ابن خلدون في مدرسة دار العلوم، وانتدب للتدريس في مدرسة الألسن. وكان يكتب مقالاته بعدد من الجرائد، كتب في جريدة “الأهرام” وغيرها، ورئيسا لتحرير الوقائع المصرية وحرر لغته في الكتابة الصحفية، وكذا حرر ساهم في تحرير اللغة التي كانت سائدة في هذا الوقت في الصحف، وخلصها من ثقل استخدام الصور البيانية والسجع والزوائد، إلى صورة أكثر رشاقة ودقة وعصرية في التعبير. وشارك في تأسيس “العروة الوثقى” مع جمال الدين الأفغاني في باريس أثناء نفيه (سُجن ونُفي لتأييده للثورة العرابية). وعُفي عنه ليعود إلى مصر وتم تعيينه قاضيا (في محاكم: بنها، ثم الزقازيق، ثم عابدين)، وتعلم اللغة الفرنسية وهو قاضٍ في “محكمة عابدين” وأتقنها مما ساعده على الاطلاع على القوانين الفرنسية، وترجم كتاب الفيلسوف الإنجليزي وعالم الاجتماع هربرت سبنسر “التربية” من اللغة الفرنسية. ثم مستشارا لمحكمة الاسئناف، ثم عضوا بمجلس إدارة الأزهر وكان له اليد العليا والفعالة ومعه الشيخ عبد الكريم سلمان (وهو أكبر أعوانه) في هذا المجلس للعمل على إصلاح الأزهر، وقطع شوطا يسيرا في ذلك الإصلاح ولولا البطء والمماطلة وضعف الاستعداد لدى باقي أعضاء مجلس إدارة الأزهر من العلماء لكان قطع شوطا عظيما متقدما وأكثر فائدة. كانت فكرته في ذلك، على مضض منه، أن ما لا يُدرك كله لا يترك كله وأن الإصلاح المتدرج لكن باقتناع هؤلاء العلماء واستعدادهم لتغيير تقاليدهم سوف يضمن له الثبات. “ولقد كان على شدة عنياته بالأزهر وأهله والدفاع عنهم ومبالغته في تكريمهم شديد الاحتقار لهم في نفسه-إلا أفرادا منهم- وكان للأزهر عنده ثلاثة ألقاب يطلقها عليه المرة بعد المرة أمام بعض الخواص عند شد تألمه من فساد حالهم وهي: الاصطبل، المارستان، المخروب”[9]. وفي كتابات محمد عبده وأبحاثه المتفرقة الكثير من النقد لهؤلاء العلماء الذين هجروا العقل وركنوا إلى الكسل والتقليد وشرح الكتب والمتون والشروح القديمة، وكتابة الحواشي على الشروح، وأنهم حصروا أنفسهم وضيعوا أوقاتهم وأوقات تلاميذهم، ومازال الكثير منهم إلى اليوم على ذلك، في حل ألغاز ورموز عبارات الكتب القديمة والاستغراق في مباحث الألفاظ والصور والأمثلة المهجورة واعتماد التلقين التام وحده، وعدم السماح للتلاميذ بإبداء رأيهم، وعدم التصدي للتأليف والإتيان بالجديد لمواجهة القضايا المستحدثة، وضرورة إعمال العقل والتدبر والتفاعل مع وقائع الحياة المتغيرة والمتجددة حولهم. وكان الإمام –في هذا الباب وغيره- صاحب همة وعزيمة كبيرة، وإيمان بضرورة الإصلاح لهذه المؤسسة، إصلاحا شاملا بأوسع معانيه لكل الجوانب فيها، الإدارية والتعليمية والمالية والتربوية والصحية، وأن إصلاحها يصلح به حال البلاد وتصلح به نفوس أهلها، وهو ما قطع فيه خطوات ليست حاسمة تماما، لكنها ليست بالقليلة أيضا.

في سنة 1899م  صدر قرار بتعيين محمد عبده مفتيا للديار المصرية وظل مفتيا لمدة ست سنوات إلى أن توفى وهو في المنصب في 11 يوليو سنة 1905 عن ست وخمسين سنة. ورثاه الشاعر حافظ إبراهيم في مرثية جميلة جاء في مطلعها:

                     سَلامٌ عَلى الإِسلامِ بَعدَ مُحَمَّدٍ      سَلامٌ عَلى أَيّامِهِ النَضِراتِ

ومنها قوله:

                     لَقَد كُنتَ فيهِم كَوكَباً في غَياهِبٍ      وَمَعرِفَةٍ في أَنفُسٍ نَكِراتِ

                    أَبَنتَ لَنا التَنزيلَ حُكماً وَحِكمَةً      وَفَرَّقتَ بَينَ النورِ وَالظُلُماتِ

  • ملامح التجديد في فتاوى محمد عبده

في مذكراته يكتب أحمد أمين عن واقعة طريفة ودالة، يذكر فيها أنه مما كان يُؤخذ على الشيخ محمد عبده وعيب عليه أنه أبطل “ميضأة”[10] الأزهر واستبدلها بالحنفيات، وأن “إلف الناس للقديم جعهلم يحزنون لفراق الميضأة”[11]. ومن هذه الحكاية يمكن أن نعرف كيف كان يفكر محمد عبده، وكيف كان يفكر كثير من هؤلاء المشايخ في أشد أوقات إظلام وتراجع الأزهر. هذا الانفتاح من الشيخ محمد عبده وإدراك الواقع واختلاف الزمان، وتقديم مصالح الناس وحفظ حياتهم وصحتهم ومعاشهم بما يتفق مع المقاصد الكلية وشروط الاجتهاد. والإيمان الراسخ بأن بقاء الدين هو قرين بفهم واستيعاب التطور والتجدد في الحياة والتفاعل معها وبالموازنة بين الواقع وبين مقاصد الشريعة. تلك هي أبرز الملامح العامة لمنهج الشيخ محمد عبده بشخصيته الناضجة وثقافته الواسعة واعتداده بالعقل، سواء في الفتوى أو في غيرها.  وقد اشتهر المفتي محمد عبده بروعة وسماحة فتاويه، حتى أن الناس كانوا يسألوه في أمور الحياة كما كانوا يسألوه في أمور الدين. بل كانت تأتيه استفتاءات من المسيحيين واليهود، فقد “سئل في امرأة مسيحية تملك عقارات..”، وأفتى للأم المسيحية حضانة أولادها من زوجها الذي اعتنق الإسلام”، و”سئل في امرأة إسرائيلية من رعايا الحكومة المحلية”[12]، و”سأله مخلوف الداودي حاخام سي لو عكا”[13].

كانت أول فتوى أصدرها الإمام محمد عبده في 11 يونيو سنة 1899، أي بعد توليه المنصب بأسبوع، وفيها يجيب محكمة الاستئناف الأهلية بمصر التي أحالت إليه أوراق متهم بالقتل لأخذ الرأي الشرعي فيه، فأجاب الإمام محمد عبده بما كان ملخصه في هذه القضية بأن “كثرة القرائن لا تكفي بالحكم بالإعدام، لأن اليقين لا يبلغ بها إلى الحد الذي يسوغ الحكم بعقوبة لا يمكن تدارك الخطأ فيها لو ظهر بعد ذلك”[14]. وبهذا وضع الإمام تقليدا جديدا وغير مسبوق لعمل المفتي والقيام بمسئوليته في بحث القضايا التى تحال إليه من كافة أوجهها وتقديم الرأي فيها، وكان شيخ الأزهر والمفتي السابق، الشيخ حسونة النواوي، يكتب في مثل هذه القضايا دون بحث عبارات ثابتة لا تخرج عن: “متى ثبت القتل عمدًا، فلولي الجناية القصاص شرعا”.

ولأن الاجتهاد وهو بذل للوسع في البحث عن الحكم الشرعي مع ما يُعرض على المجتهد من واقع الناس ومعاشهم أو مع ما يستجد من الأحداث والنوازل، والذي يجب أن يراعي دائما فيما يقول تغيرات: الزمان والمكان والأشخاص والأحوال، وبما يراعي التيسير على الناس، وهذا مما نجده في إحدى فتاوى الإمام محمد عبده الذي أجاب عن سؤال ورد إليه في موضوع بخصوص “زواج المسلم بمسيحية”، عن شخص يريد شهادة من المفتي “مؤداها أن زواجه القانوني بألمانيا يعتبر مقبولا في مصر”، يجيب عليه الشيخ بأنه “يجوز.. ويعتبر زواجا مقبولا بمصر متى كان العقد بحضرة شاهدين ولو ذميين”[15]. وفي قضية زواج المسلم من الكتابية (مسيحية أو موسوية) فإن الفقهاء المسلمين قد اختلفوا في ضرورة إسلام الشهود من عدمه، والغالب منهم يرى بعدم صحته وحجتهم أن الشهادة هي على العقد، وهو يتعلق بطرفيه معا وهذا لا يجوز لأنه لا ولاية لغير المسلم على المسلم. لكن الشيخ محمد عبده في هذه المسألة يخالف هذا الرأي، وأخذ بعدم اشتراط إسلام الشاهدين، فقال “ولو ذميين”، وأخذ برأي أبو حنيفة وأبو يوسف وهما لا يشترطان إسلام الشهود بل يصح الزواج عندهما إذا كانت الزوجة غير مسلمة بحضور وشهادة غير المسلمين والمحاكم في مصر تأخذ بهذا الرأي.

مما ذكره رشيد رضا في تفسير “المنار” نقلا عن الإمام محمد عبده في خصوص رؤيته للقصص القرآني قوله: بينا غير مرة أن القصص جاءت في القرآن لأجل الموعظة والاعتبار لا لبيان التاريخ ولا للحمل على الاعتقاد بجزئيات الأخبار عند الغابرين، وإنه ليحكى من عقائدهم الحق والباطل، ومن تقاليدهم الصادق والكاذب، ومن عاداتهم النافع والضار، لأجل الموعظة والاعتبار، فحكاية القرآن لا تعدو موضع العبرة ولا تتجاوز موطن الهداية[16]. وكان تجديده في تفسير القرآن أنه حاول أن يقف على المعاني العامة دون الوقوف أمام الألفاظ في ذاتها وإعطاءها أكثر مما تستحق من النظر. وكان ينزع نزعة عقلانية واضحة في محاولته للتفسير والتأويل للقرآن، ويرفض الكثير من الحكايات والقصص التي كان يتخليها المفسرون قديما. وكثيرة هي الخرافات التي تحتويها كتب التفسير القديمة والتي تأتي غالبا من روايات ضعيفة أو ظنية، أو من آراء صدرت من باب الهوى والتعصب للرأي. وفي آخر فتوى وردت بالجزء الأول من كتاب “فتاوى الإمام محمد عبده”، ونختم بها هذه العجالة، وهي ردا منه على سؤال ورد إليه بخصوص قصة طوفان نوح، يقول ” بأن الطوفان لم يكن عاما لأنحاء الأرض بل هو خاص بالأرض التي كان بها قوم نوح”[17]. وقد أجاب الإمام محمد عبده “أما القرآن الكريم فلم يرد فيه نص قاطع علي عموم الطوفان ولا علي عموم رسالة نوح عليه السلام، وما ورد من الأحاديث علي فرض صحة سنده فهو أحاد ولا يوجب اليقين، والمطلوب في تقرير مثل هذه الحقائق هو اليقين لا الظن، إذا عد اعتقادها من عقائد الدين، أما المؤرخ ومريد الاطلاع فله أن يحصل من الظن ما ترجحه عنده ثقته بالراوي أو المؤرخ أو صاحب الرأي، وما يذكره المؤرخون والمفسرون في هذه المسألة لا يخرج عن حد الثقة بالرواية أو عدم الثقة بها، ولا تتخذ دليلا قطعيا علي معتقد ديني، أما مسألة عموم الطوفان في نفسها فهي موضع نزاع بين أهل الأديان وأهل النظر في طبقات الأرض… أما أهل الكتاب وعلماء الأمة الإسلامية فعلي أن الطوفان كان عامًا لكل الأرض… ويزعم أهل النظر من المتأخرين أن الطوفان لم يكن عامًا… غير أنه لا يجوز لشخص مسلم أن ينكر قضية أن الطوفان كان عامًا”[18]. وهذا المنهج في التفسير والذي ينحوا منحى عقلانيا، يمكن أن نقول أنه كان الأساس الأول لعدد من المحاولات التي جاءت بعده، ومنها محاولة طه حسين لتقديم قراءة للقصص القرآني على أساس منهج تاريخي في كتابه الشهير “في الشعر الجاهلي” سنة 1926م، وكذا محاولة محمد أحمد خلف الله لتقديم قراءة للقصص القرآني على أساس منهج فني وأدبي في رسالته للدكتوراة ” الفن القصصي في القرآن” سنة 1947 م، وكلاهما خاض وواجه –كما خاض وواجه محمد عبده من قبل- معارك فكرية قوية بالرفض، ووصلت إلى التكفير لهم من قبل أصحاب الأفكار المحافظة والمتشددة والظلامية. ورغم كل ذلك لا تزال أفكار محمد عبده النيرة في التجديد والإصلاح، وأفكار تلاميذه من بعده، ملهمة لحياتنا  الفكرية إلى اليوم.

كان المنشور من فتاوى محمد عبده إلى وقت قريب هو قليل من كثير، والمشهور منه هو ما أفتى به في قضايا: إباحة الرسم والنحت، رفض تحريم التصوير الفوتوغرافي، وإجازة إيداع المال بالبنوك (والبريد) وأخذ فائدة عليها، وإجازة لبس “البرنيطة” للمسلمين، وإجازة التأمين على الحياة وعلى الممتلكات، وفتوى تعدد الزوجات، وغير ذلك من الفتاوى التي تحمل رؤيته ومنهجه الإصلاحي. واليوم تأتي دار الكتب والوثائق القومية بنشر السجل الأول من مجموع الفتاوى التي أصدرها الإمام (وعددها 944 فتوى) للجمهور والباحثين، وهي بذلك تقدم خدمة جليلة وعظيمة، فلا يزال هذا التراث الفقهي الذي تركه لنا الإمام المجدد محمد عبده، صالحا لمواجهة كسالى العقول، ومواجهة خطابات وأفكار الجهل والتقليد والجمود والكراهية، بما يحمله تراثه ذلك من قيم الاجتهاد وإعمال العقل وإدراك الواقع وقضاياه وعدم الانفصال عنه.


[1] – يقدم صلاح عيسى في كتابه “الكارثة التي تهددنا” في فصل بعنوان: “مؤسسة الأزهر الشريف والحركة القومية” تحليلا وتفسيرا لسبب فشل استمرار محاولات الإصلاح التي بدأها محمد عبده في الأزهر في هذا الوقت، ليس فقط بسبب المواجهة بينه وبين العناصر المحافظة والرافضة للإصلاح، ولا فقط لقبوله -على مضض- للإصلاح بشكل تدريجي، بل –أيضا- لوقوعه ومنذ عودته من المنفى في موقع صراعي بين السلطة الشرعية للخديوي (توفيق، ثم عباس حلمي الثاني)، وبين السلطة الفعلية للاحتلال الإنجليزي متمثلة في المندوب السامي (لورد كرومر). صلاح عيسى، الكارثة التي تهددنا. الطبعة الأولى 1987، مكتبة مدبولي. ص 191:197.

[2] – تعددت اهتمامات الإمام محمد عبده في باب الإصلاح ولم تقتصر على هذه الأمور التي ذكرتها فقط، بل أسهم وقدم أفكاره الإصلاحية في مجالات مختلفة باعتبار الإصلاح لديه كان عملية شاملة ومتكاملة. وله جهد في تجديد الفكر الإسلامي في مجالات عدة ومنها تفسير القرآن ومباحث علم الكلام والفقه. وله جهد في مناقشة العديد من المشاكل الاجتماعية والفكرية في وقته، وفي قضايا التربية والتعليم والقضاء. وقد وضع-على سبيل المثال- أثناء نفيه ببيروت رسالتين في الإصلاح: الأولى: كانت في بيان الإصلاح اللازم للدولة العثمانية التركية، والرسالة الأخرى: كانت في إصلاح ولاية الشام. راجع لتفاصيل أكثر: عبد المتعال الصعيدي، المجددون في الإسلام. مكتبة الآداب، 2006. ص 401.

[3] – يحتوى السجل الأول على (487) فتوى وهو للفترة من 11 يونيو 1899م – أي تقريبا بعد أسبوع من تعيينه مفتيا- إلى 31 مايو 1902. ويحتوي السجل الثاني على (457) فتوى وهو للفترة من 6 يونيو 1902 م إلى 7 يونيو 1905- أي قبل أربعة أيام من وفاته.

[4] – من أعمال الإمام محمد عبده أنه ألحق التعليم في الجامع الأحمدي بطنطا والجامع الدسوقي بدسوق وجامع دمياط، وكان غرضه من ذلك أن يوحد التعليم الديني فيهم ويقوم بإصلاحهم مع إصلاح الجامع الأزهر. راجع: عبد المتعال الصعيدي، تاريخ الإصلاح في الأزهر. الهيئة العامة لقصور الثقافة، 2011، ص 47- 48.

[5] – دائرة المعارف الإسلامية: الترجمة العربية، المجلد الثالث – مادة الأزهر، كتاب الشعب، (د.ت) ص 189.

[6] – رشيد رضا: تاريخ الأستاذ الإمام الشيخ حمد عبده، الهيئة المصرية العامة للكتاب 2012. ج 1، ص23.

[7] – المرجع السابق: ص 24.

[8] – و سوف يتكرر نفس الأمر مع طه حسين –فيما بعد- أمام لجنة امتحانه لنيل درجة العالمية، وسوف يفلح كيد المشايخ وتدبيرهم هذه المرة  فيما لم يفلحوا فيه من قبل مع محمد عبده.

[9] – محمد رشيد رضا، تاريخ الأستاذ الإمام محمد عبده، مرجع سابق، ص 495.

[10] – الميضأة: هي الحوض الذي كان يتوضأ منه الناس، بأن يأخذ الشخص من هذا الحوض الماء ليغسل يديه ووجهه ورأسه وقدميه، ثم يعود باقي الماء إلى الميضأة دون تصريف، وكان هذا سببا في التلوث ونقل الأمراض. والجبرتي يسوق لنا حكايات  عن بعض تصرفات المشايخ لكن في أيام الحملة الفرنسية على مصر، وتوضح كيف كان يفكر بعض علماء الأزهر في هذا الوقت، منها أنه أثناء توجه مراد بيك بعساكره لملاقاة الفرنسيس، والذي انهزم منهم بعد ساعة واحدة، كانت بعض العلماء تجتمع بالأزهر ويقرأون كتاب البخاري.. ويذكرون اسم الله اللطيف؛ حتى ينتصر مراد بيك على الفرنسيس. عبد الرحمن الجبرتي: عجائب الآثار في التراجم والأخبار، طبعة مكتبة الأسرة 2003. ج 5، ص 7.

[11] – أحمد أمين: حياتي، طبعة خاصة أصدرتها دار المدى توزع مع جريدة القاهرة، يناير 2014. ج1، ص30.

[12] – فتاوى الإمام محمد عبده، دار الكتب والوثائق القومية، 2017. ج 1، ص: ]ع[.

[13] – المرجع السابق، ص 397.

[14] – المرجع السابق، ص 123.

[15] – المرجع السابق، ص 15.

[16] – رشيد رضا: تفسير المنار، دار المنار، الطبعة الثانية 1947. ج 1، ص 399.

[17] – فتاوى الإمام محمد عبده: مرجع سابق، ص 397.

[18] – المرجع السابق: ص 398.

جديدنا