التنوير إرث المستقبل

image_pdf

أشكركم جميعا، وشكرا للزملاء الذين قدّموا الأوراق القيِّمة هذا الصباح والتي ستعيننا كثيرا فيما يتعلَّق بتعريف التنوير، لأنه بوصفنا الرابطة العربيَّة للتربويِّين التنويريِّين كثيرا ما يطرح علينا هذا السؤال: ما المقصود بالتنويريِّين. تسهل الإجابة على من هم التربويِّين، ولكن الإجابة شاقَّة على كيف يكون التربويّون تنويريّين، لذلك اختير هذا العنوان بعناية، لأنّه التنوير إرث المستقبل. وقد جاء هذا العنوان من ندوة في الكويت أقيمت قبل أعوام، ومن اختار عنوانها هو المفكِّر محمد أركون وسمّى الندوة “التنوير إرث المستقبل”.

هذه المقابلة بين بين الإرث والمستقبل، وهي مقابلة طريفة في موضوع شائك كما تبدَّى من الأوراق التي قُدِّمَت هذا الصباح. إنّه ما هو الإرث الذي سنحمله للمستقبل، ودائما عندما أفكِّر فيه تحضرني الآية (وَأَمَّا مَا يَنفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ)؛ الذي أميل إليه في تفسير هذه الآية، أنَّ الذي يدفع الناس هو الأفكار، هناك خوض شديد في عالم الأشخاص بعالمنا العربي كله، هناك اهتمام بالسياسوي؛ لذلك كلمة التنوير نفسها لا تبدو كلمة إيجابيَّة. كثير من الأصدقاء يسألونني عن التنوير: هل هو مرتبط بالبنائين التنويريِّين أو ما يطلق عليهم بالماسونيّين، وما إلى ذلك من الأسئلة التي ثارت من قبل في العرض نفسه، وهذه أيضا مسألة طريفة.

إنّنا في مجلس أمناء الرابطة طرحنا هذا السؤال: ما هو التنوير، وهل نحتاج إلى تعريف بالتنوير؟ صحيح أنا مؤمن بأنه لا يوجد تفسير مانع جامع، كما قدّم الدكتور وجيه هذا الصباح، كذلك لا يوجد تعريف جامع مانع، لكن كيف نعرِّف التنوير في موقعنا هذا بلحظتنا التاريخيَّة والحضاريَّة هذه. حيث دار هذا الحديث في مجلس الأمناء هل يمكن أن نلخّص أفكار التنوير، ودائما نشير إلى تلخيص أفكار التنوير من محمد عبده إلى محمد أركون، ما الذي عنوه بالتنوير؟ ماذا كانوا يقصدون؟ وهل يمكن أن ننجز دليلا للتنوير لفكرة التنوير، كما أنجزنا دليلا لمؤسّسات التنوير؟

هذه الأسئلة طرحناها في اجتماع مطوّل لمجلس الأمناء، وحاولنا بمقترح من الدكتورة هاجر القحطاني، أن ننجز ولو تعريفا مفاهيميّا للتنوير، وبالطبع طرحنا الأسئلة. يعني هل يتيسَّر أن ننجز تعرفا مفاهيميّا للتنوير بالطريقة التي أنجز بها كانط رسالة التنوير، وكانت مفارقة في تاريخ الفكر الغربي، وهي كذلك رسالة بدأت عهد الرسائل المفتوحة، كانت كما تعلمون، رسالة إلى قس، هي رسالة مفتوحة على نحو الخطابات المفتوحة التي راجت بعد ذلك، وكانت كذلك معنيَّة بالرأي العام كما نحن معنيّون في الرابطة لأن نخلق رأيا عامّا حول قضايا التنوير، ونخلق أرضيَّة لحدّ أدنى من المنهج الذي يعالج المشكلات الجذريَّة لمفاهيمنا وحضارتنا والقضايا الأخطر التي تحدّث عنها الدكتور؛ غياب الوحي الذي يماثل غياب الروح في الحضارة الغربيَّة، وكذلك تحدّث الدكتور سمير بودينار، عن أنه الطريقة الوحيدة التي نحدث بها جدلا هي الوعي، ونحن نريد أن نعرِّف هذا الوعي، لكن هل يتيسَّر ذلك؟

هل نستطيع، مثلا، أن نقدِّم خلاصة كالتي قدّمها كانط، فالتنوير بالنسبة إليه هو تحرير العقل ودفعه للمبادرة وطرح الأسئلة التي عادةً هو مقيَّد بمسلّمات في طرحها، هل يمكن أن نقوم بذلك؟ بالعودة إلى ما عانوه المفكّرون التنويريّون الذين حصرتهم من عهد محمد عبده إلى عهد محمد أركون في هذه المسيرة الطويلة.

اطّلعت على رأي شديد الأهمّيَّة لمؤرِّخ مغربي لا يحضرني اسمه الآن سأتذكّره بعد قليل عن أنّه لماذا كتب ابن خلدون المقدّمة؟ والمفارقة أنّه بأن هذا الرأي في الصفحات الأولى في المقدّمة، قال إنّه يكتب المقدّمة ليس فقط لأنّه يريد أن يحصر تاريخ الأمم، وهو ليس بتاريخ الأمم، لكن تاريخ العرب والأتراك. لكنّه أشار إلى أنه يكتب هذه المقدّمة لأنه البشريَّة كأنما تستأنف من جديد؛ لأنه يستشعر من موقعه في القرن العاشر، تحوّلا جذريّا في البشريَّة في أهميّة التحوّل الوجودي. وهذا التحوّل الوجودي يريد ان يحفظ له تاريخ العالم قبل أن يبدأ، طبعا هو يعلم أنّ التحوّل لن يبطل السنن التي حدّدها وجاء على ذكرها في المقدّمة، ولكنّه سيمضي قدما لإبطالها وإحداث سنن جديدة.

كذلك للمفارقة، الكثير من دولنا، منها السوداني الذي أنتمي إليه، أنا دائما أقول إن الذي يبدي في فهم الحالة الصداميَّة ليس منهج ماركس والدولة الحديثة، لكنه منهج النخب دون المتّبع من قبل السياسة والعصبيّات التي تحكم السلطة فيه. الآن أنا أستشعر أنه بعد الثورة الصناعيَّة الأولى والثورة الصناعيَّة الثانية وثورة الاتّصالات التي كذلك تطوّرت بمفهوم الرأي العام الذي أشار إليه كانط، تطوّر نوعي. هذا تحوّل وجودي يجعل القضايا الإنسانيَّة، تكاد تكون قضايا واحدة، وذات الحجج التي تستخدم الآن لرفض التنوير، رفض العقل الديني، كانت تستخدم كذلك في القرن الثامن عشر والقرن التاسع عشر في أوروبا لمنع هذا النقد، وكما أشرنا قبل قليل أنّ محاولات النقد كذلك لا تنحصر بأنّها قضيَّة فكريَّة محضة، لكن هي قضيَّة تمسّ السلطات وتمسّ العلاقات السياسيَّة والعلاقات الاقتصاديَّة.

أنا اخترت هذا الجانب من النقاش، تقريبا أتيت فيه على معظم الأفكار التي أودّ أن أطرحها، لكي يتعاون كل أعضاء الرابطة على تقديم هذا التعريف للتنوير وتحديد مستوى أدنى من الأرض المشتركة التي ننطلق منها للإصلاح الجذري.

________

* ألقيت ضمن فقرة الندوات الفكرية خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين الذي عقد في عمّان الأردن، بتاريخ 23 نوفمبر 2019.

جديدنا