مآلات التنوير في الفكر العربي المعاصر

image_pdf

يضمر سؤال مآلات التنوير في الفكر العربي موقفًا من الراهن العربي، وما يتفاعل داخله من أنماط الصراع التي أفرزتها تداعيات الحراك الاجتماعي الذي شمل العديد من البلدان العربية طيلة سنوات العقد الثاني من الألفية الثالثة. وهو يضمر أيضًا موقفًا من نمط استيعاب الثقافة العربية المعاصرة لمكاسب عصر الأنوار، كما تَمَثَّلَها جيل الرواد في عصر النهضة العربية، ومن سار على دربهم من النخب التي واصلت عمليات توطين وتوظيف قيم التنوير في ثقافتنا، انطلاقًا من إيمانها بأن القيم المذكورة تشكل سندًا داعمًا لمتطلبات المشروع النهضوي العربي.

نفترض أن الذين يقبلون المضمرات المشار إليها يعتمدون تصوُّرات محدَّدة للتاريخ ولأدوار الفكر في التاريخ، وهي تصوُّرات تُغفل تعقُّد المجال التاريخي ولا تعيره الاهتمام المطلوب؛ لقوة التقليد والتقاليد في مجتمعنا وثقافتنا. ونحن نرى أن الذين يعتقدون بتراجع قيم التنوير في فكرنا يُغفلون أن التاريخ لا يسير بطريقة خطية متصاعدة، وأن موجات الحماسة لمشروع التنوير وموجات الاعتراض عليه مقابل الإعلاء مجددًا من شأن الفكر المحافظ والقيم المرتبطة به، كما حصلت وتحصل في فكرنا المعاصر، تُعَدّ مجرَّد عناوين كبرى في صراع تاريخي متواصل، وهو صراع لا يُحَلُّ بين ليلة وضُحاها، إنه صراع يتطلَّب مسافات من الزمن تَطُول أو تَقْصُر، تختفي ثم تعود، وذلك حسب أنماط بنائنا وصور تفاعلنا مع مقدمات أسس التنوير وقواعده.

قد لا نكون مجازفين عندما نعلن أن مظاهر التوتر والتناقض والتراجع، التي تشكل اليوم السمات الأبرز في فكرنا المعاصر، تعود في بعض جوانبها إلى قصر النفس النظري المهيمن على معاركنا في الفكر والسياسة والمجتمع.. نحن هنا لا نفسر ظواهر تاريخية مركبة بعامل واحد، ولكننا نتصور أن القصور النظري يعد واحدًا من العوامل المساعدة على فهمٍ أكثر دقةً لجوانب عديدة من إشكاليات التحول السياسي الحداثي والتحديثي في عالمنا العربي.

نحو استيعاب مقدمات الأنوار

لقد انطلقت معاركنا في الإصلاح الديني والثقافي والسياسي وإصلاح المؤسسات منذ ما يقرب من قرنين من الزمان، وأتاحت لنا المعارك المذكورة في صورها المتعددة، استيعاب جملة من العناصر في موضوع المرجعية السياسية الحداثية وما يرتبط بها من قيم التنوير. تكشف مظاهر التأخر العامة في مجتمعاتنا اليوم، بما لا يدع أي مجال للشك؛ أن مُحصلةَ معاركنا وتجاربنا في المجال المشار إليه لم تثمر ما يسعف بناءَ قواعد ارتكاز نظرية وتاريخية قادرة على تحصين مشروعنا في النهوض، والتقليص من حِدَّة أزماتنا المزمنة في مجال التواصل مع ذاتنا ومع الآخرين في العالم.

ولأننا نتصور أن التحولات الهامة في التاريخ من قبيل استيعاب وتمثُّل مقدمات التنوير ومكاسب عصر الأنوار، ومحاولة تبيئتها بصورة مُبْدِعَة داخل نسيج حياتنا في الفكر وفي المجتمع، تتطلب مواصلة الجهد والعمل دون كلل؛ لعلنا نتمكَّن من تجاوُز العوائق التي حالت وما فتِئت تحول بيننا وبين انخراط فاعل في العالم؛ وهو الأمر الذي يسهم في تهيئة الشروط المساعدة على بلوغ المرامي التي سطَّرها النَّهْضَوِيُّون العرب في تاريخنا المعاصر.

وقبل تشخيص بعض جوانب من معارك التنوير في فكرنا، نشير إلى أن تصورنا للتنوير وقيمه لا يرتكز على مبادئ فكرية مغلقة، فليس فكر الأنوار في تصورنا مجرد جملة من المبادئ والمفاهيم المرتبطة ببعض الأنساق والمنظومات الفلسفية والوقائع التاريخية الحاصلة في أوربا بدءًا من القرن السابع عشر، بل إنها -كما نتصورها ونفكر فيها- تستوعب ذلك وتتجاوزه، وذلك بناء على معطيات التاريخ الذي أسهم في تبلورها وتبلور المكونات المركبة والمتناقضة التي نشأت في سياقات صيرورتها وتطورها.

لا نستكين في نظرتنا لعصر الأنوار ومكاسبه إلى تصورات ورؤى فكرية مُغلَقة، قدر ما نسلم بجملة من المبادئ النظرية التاريخية العامة، التي تنظر إلى الإنسان والمجتمع والطبيعة والتاريخ من منظور يستوعب ثورات المعرفة والسياسة، كما تحققت وتتحقق في التاريخ الحديث والمعاصر، وفي أوربا تحديدًا، موطن التشكل الأول للمشروع الأنواري، ثم في باقي مناطق وقارات العالم الأخرى بحكم شروط التحول العالمية، التي واكبت بعد ذلك عملية تعميم التنوير في مختلف ثقافات العالم.

إن قوة الموقف الفلسفي الذي يحمله مشروع التنوير، تتمثل أولًا وقبل كل شيء في الوعي بمبدأ المخاطرة الإنسانية الساعية إلى التغيير استنادًا إلى قيم بديلة لقيم التقليد المتوارثة؛ حيث فجرت مغامرةُ البحث الإنساني بدءًا من عصر النهضة في القرن 16م، آفاقًا واسعة أمام العقل البشري، وهو الأمر الذي ترتب عنه تبلوُرُ مجموعة من القيم المعرفية والأخلاقية الجديدة في النظر إلى الطبيعة والإنسان والمستقبل.

لا تنفصل إذن في نظرنا معارك المجال الثقافي والديني الحاصلة في مجتمعاتنا عن مشروع ترسيخ مقدمات الأنوار وقيمها في فكرنا. وضمن هذا السياق نعتبر أن انتشار دعاوى تيارات التطرُّف، ودعاوى تيارات التكفير والعنف في ثقافتنا ومجتمعنا، يمنحنا مناسبة تاريخية جديدة، لإطلاق مجابهات يكون بإمكانها أن تكشف فقر ومحدودية وغُرْبَة التصورات المتصلة بهذه التيارات، وهو الأمر الذي يتيح لنا بناء الفكر المبدع؛ أي إنشاء خيارات مطابقة لتطلعاتنا في النهضة والتقدم.

نحو إبداعِ تنويرٍ عربي

اعتاد الذين يناهضون قيم التنوير في فكرنا العربي وصفَ المتنورين في ثقافتنا بنعت الناقلين لفكرٍ لا علاقة له بتاريخنا ولا بثقافتنا ومجتمعنا. وقد تأكد في العقود الأخيرة من القرن الماضي -ويزداد تأكدًا اليوم وسط ما نعانيه في مجتمعاتنا من تنامي تيارات التطرف الديني بمختلف ألوانه- أن حاجة المجتمعات العربية إلى مبادئ الأنوار وقيم التنوير تتطلبها معركة الإصلاح الثقافي والإصلاح الديني في حاضرنا.

لا يتعلق الأمر إذن بعملية نسخ لتجربة معينة في التاريخ؛ تجربة حصلت في مجتمعات مختلفة اختلافًا كليًّا عن مجتمعاتنا، بل إنه يتعلق أساسًا بتجربتنا الذاتية في التاريخ. وحاجتنا إلى التنوير اليوم تمليها وقائع ومعطيات عينية قائمة في مجتمعاتنا وثقافتنا. أما النموذج الآخر، الذي حصل في التاريخ في سياقات أخرى وداخل مجتمعات أخرى، فيمكن أن نستفيد من رصيده الرمزي والتاريخي، كما يمكننا أن نعمل على تطوير بعض معطياته ومكاسبه في ضوء خصوصياتنا التاريخية، التي لا تستبعد ولا تنفي تشابه بعض معطيات التاريخ، وإمكانية الاستعانة بموضوع مواجهة قضاياه بالاستفادة من دروسه.

إن تزايد مظاهر التطرف في مجتمعاتنا -وقد أسهمت جملةٌ من العوامل في توليدها- تجعلنا نتصور أن معارك مواجهتها ينبغي أن تكون متنوعة بتنوع الأدوار التي تمارسها اليوم في واقعنا. وكلما ازداد عنف هذه المظاهر في محيطنا الاجتماعي والسياسي، ازدادت الحاجة إلى تطوير آليات ووسائل المواجهة، بهدف توسيع مساحات التنوير والتسامح، والانفتاح في ثقافتنا ومجتمعنا، وهو الأمر الذي يقلص -متى عُمِّم- من أدوار التطرُّف والمغالاة وأدوار بعض الفقهاء الذين يمنحون أنفسهم امتيازات الكهنوت، وامتيازات مانحي صكوك الغفران، وذلك بإصدارهم فتاوى التكفير والجهاد ومخاصمة العالم.

يطرح مشكل تنامي إسلام التطرف في واقعنا مطلب المواجهة بالتنوير والنقد؛ حيث لا يمكن أن تُحَوِّلَ جماعات معينة التجربة الروحية في التاريخ الإسلامي إلى تجربة متحجّرة مغلقة. إن التجربة الروحية في الإسلام تتجاوز الأحكام النمطية المحفوظة في تراث لا يعدو أن يكون جزءًا من تاريخ لم ينتهِ. لهذا السبب نرى أن عودة المحفوظات التقليدية بالصورة التي تتمظهر بها اليوم في ثقافتنا وفي مجالنا التربوي والسياسي، يعود إلى عدم قدرتنا على إنجاز ما يسعف بتطوير نظرتنا للدين والثقافة والسياسة في مجتمعاتنا. إن فشل مشاريع الإصلاح الديني والإصلاح التربوي في فكرنا يُعَدُّ من بين العوامل التي كرست –وتكرس- مثل هذه العودات العنيفة إلى المعطيات العتيقة في تراثنا وثقافتنا.

لم نتمكن من ترسيخ قيم الاجتهاد، ولم نبنِ الفكر الإسلامي المنفتح والقادر على تركيب تصورات جديدة للعالم، تتيح لنا استيعاب مقدمات وأصول الحياة الجديدة في عصرنا. ولعل أخطر ما فعلته التيارات المعادية لقيم العصر وفي قلبها قيم التنوير والتقدم في فكرنا المعاصر، هو تعميمها لجملة من الدعاوى الرامية إلى استبعاد إمكانية تصالح ذواتنا التاريخية مع العالم، مستندة في ذلك إلى تصورات ومبادئ لا علاقة بينها وبين الإسلام في جدليته التاريخية الحية، وقد شكل -كما نعرف في تاريخنا- مهمازًا للحركة التاريخية المنتصرة لقيم الأزمنة التي واكبته خلال عصورنا الوسطى.

وهنا لا بد من توضيح أن قيم الإسلام كما تبلورت في التاريخ، لا علاقة بينها وبين ما هو شائع اليوم من أفكارٍ أقل ما يمكن أن توصف به هو غربتها عن التاريخ وعن الإنسان. فالإسلام في تاريخه النصي والحدثي أكبر من الأحكام والفتاوى المحافظة والمترددة، إنه في روحه العامة عبارة عن جهد في التاريخ مشدود إلى التسامي وإلى المطلق، لهذا السبب نحن لا نتصور الإسلام دون اجتهاد. وضمن هذا الأفق، نشير إلى أن الإسلام ينفر من قيم الموت والقتل والتخريب والانغلاق والتزمُّت، ليحرص بدل كل ذلك على إشاعة قيم الحياة، قيم توسيع مساحة مكانة الإنسان في التاريخ.

التنوير مطلب كوني في عالم متحول

لا يتعلق الأمر في موضوع دفاعنا عن قيم التنوير في العالم العربي اليوم، بعملية نسخ أو نقل لتجربة تمت في التاريخ، والأنوار لا تزال اليوم مطلبًا كونيًّا. وقيم عصر الأنوار التي نشأت في سياق تاريخي محدد في القرنين السابع عشر والثامن عشر في أوربا، تتعرض اليوم لامتحانات عميقة في سياق تاريخها المحلي، وسياقات تاريخها الكوني، وذلك بحكم الطابع العام لمبادئها، وبحكم تشابه تجارب البشر في التاريخ، وتشابه عوالمهم الروحية والمادية وعوالمهم التاريخية في كثير من مظاهرها وتجلياتها.

ترتبط حاجتنا إلى التنوير بأسئلة واقعنا، كما ترتبط بسؤال الاجتهاد في فكرنا وفي كيفيات تعاملنا مع قيمنا الروحية. وإذا كنا نعرف أن المبدأ الأكبر الذي وجه فكر الأنوار يتمثل في الدفاع عن عدم قصور الإنسان، والسعي لإبراز قدرته على تعقل ذاته ومصيره بهدف فكّ مغالق ومجاهل الكون والحياة؛ فإنه لا يمكن لأحد أن يجادل في أهمية هذا المبدأ، الذي يمنح العقل البشري مكان الصدارة في العالم، ويمنح الإنسان مسؤولية صناعة حاضره ومستقبله. وتاريخ البشرية يقدم الدليل الأكبر على قيمة هذا المبدأ، ولهذا السبب نحن معنيون بإشاعة القيم التي تتضمن وتستوعب الاعتزاز بالإنسان والإعلاء من مكانته ورسالته في الوجود.

ولعلنا نزداد تشبُّثًا بهذا المبدأ عندما نعاين في حاضرنا كثيرًا من مظاهر تحقير الإنسان والتنكيل به، فندرك بصورة أفضل أهمية الانخراط في تعزيز قيم التنوير في حياتنا، وندرك في الآن نفسه أن حاجتنا اليوم لهذه القيم لا تُمليها شروطٌ خارجية، ولا تمليها إرادة نقل تكتفي بنسخ الجاهز، بل إن حاجتنا الفعلية لهذه القيم تحددها بكثير من القوة شروط حياتنا الواقعية والفعلية؛ حيث يصبح توسيع فضاء العقل والنقد والتنوير مجالًا للمعاناة والتوتر والجهد الذاتي الخلّاق، في عمليات بناء القيم والمبادئ التي تتيح لنا الخروج من مأزقٍ موصول بإرث تاريخي لم نتمكن بعدُ من تشريحه ونقده تمهيدًا لإعادة بنائه بتجاوزه.

نسي كثير من الذين يتحدثون اليوم عن إخفاق مشروع التنوير في فكرنا، أن المأثرة الكبرى إنما هي لرواد الإصلاح الذين عملوا على غرس قيم العقل في فكرنا الإصلاحي، ونسي هؤلاء أن مهمة تركيب فكر التنوير في ثقافتنا لم تكن مسألة نظرية خالصة، بل إنها كانت منذ بداياتها الأولى أشبه ما تكون بعملية في المواجهة، مواجهة سقف في النظر واللغة، ومواجهة تاريخ من الاستبداد، وتاريخ من الهيمنة النصية. لهذا اختلطت وتداخلت كثير من عناصر مهمتهم، رغم كل الجهود المضنية التي بذلوا في باب دعم وتعزيز منطق العقلانية ولغتها في ثقافتنا. ولعلهم نسوا أيضًا أن التوجهات النظرية التأصيلية الجديدة التي ما فتئت تنشأ في فكرنا منذ هزيمة 1967م، وميلاد ما أصبح يعرف بعتبة «النهضة الثانية»، تعد في العمق محصلة لمختلف صُور التمرين والتمرس التي مارسها الجيل الأول والثاني من النهضويين العرب. وهو ما يفيد أن مُحَصِّلَةَ تطور عقلانية الأنوار في فكرنا، تستمد قوتها من آلية التراكم، التي أسهم الفكر الإصلاحي العربي في بنائها، لتشكل جهود المتأخرين الأحياء من مفكرينا في أبعادها النظرية العميقة، الصورة المتطورة لإسهامات رواد الإصلاح في القرن التاسع عشر والنصف الأول من القرن العشرين.

الإصلاح ليس وصفة سحرية

ينبغي ألاّ نغفل هنا التأكيدَ على أننا لا نتصور سهولة المعركة التي تنتظرنا، ذلك أن الإصلاح ليس وصفة سحرية منقِذة من شرور عالم نحن صانعوه، إنّ الطريق مفتوح أمامنا على مشروع بذل جهود وتضحيات ومنازلات كبرى في مجالات عديدة، بهدف تعويد الذات على مواجهة أسئلة التاريخ والحرب والإصلاح، تعويد الذات على المواجهة بالتضحيات التي تَنْذِرُ الغالي والنفيس للانتصار على أعباء التاريخ، وما سيصنع لحظة حصول الإصلاح الذي نتطلع إليه؛ أي تعميم مكاسب التنوير ومغانمه الرمزية، سيعد خلاصة لتراكم تاريخي، قد لا نكون على بيِّنة تامة من مختلف أبعاده وأفعاله.

وبناء عليه، تعد معركة التنوير في بلداننا معركة شاملة ومركَّبة، إنها معركة في الفكر وفي السياسة والمجتمع والتاريخ، وكل إغفال لمجموع عناصرها في تكاملها وتقاطعها وتداخلها، يُقلِّص من إمكانية الإنجاز الذي نصبو إليه. ولهذا السبب، يشكل مشروع التنوير البؤرة الناظمة والجامعة لأسئلة اللحظة التاريخية الراهنة في مجتمعنا، وقد كان الأمر كذلك قبل أربعين سنة، ولعله سيستمر بعد هذه اللحظة بما يعادلها أو يفوقها في كَمِّ الزمان. إلا أن الأمر ينبغي عدم التراجع عنه أو التفريط فيه، هو أن نتخلّى تحت أي ضغط أو إكراه تاريخي أو نظري عن مواصلة العمل من أجل زرع قيم التنوير والحداثة، وإعادة زرعها دُون كَلَلٍ في حاضرنا المفتوح على أزمنة مضت وأخرى قادمة.

إن الممانعة التاريخية والْعِنَاد التاريخي الذي تمارسه قيود التقليد وأعباء التاريخ التي شكَّلت في الماضي جوانب من هويّتنا، كما نشأت وما فتئت تنشأ ويُعاد تشكُّلها في التاريخ، يقتضي منّا العمل المتواصل في اتجاه ابتكار أساليب جديدة في الفكر وفي الممارسة، لمواصلة توطين مبادئ التنوير في حاضرنا.

يمكن أن نؤكد إذن أنّ من الأمور المستعجلة اليوم في الثقافة العربية: العمل على تأسيس جبهة للتنوير، من أجل أن تساعدنا على إيقاف مسلسلات التراجع والانكفاء، جبهة يمكن أن تشكل درعًا أماميّة، لمواجهة أشكال الاندحار الثقافي الحاصل في بيئات الثقافة العربية منذ عقود من الزمن، وذلك بفعل اتساع تيارات الفكر النصي المحافظ وتناميها، وانقطاع -بل توقف- وتيرة مغامرة الاجتهاد والإبداع في فكرنا. نحن هنا لا نتحدث عن نموذج حداثي جاهز، ذلك أنّ الحداثة إبداع يجسده تاريخ من المعارك. وإذا كان الانفجار العربي المتواصل قد أفرز مشهدًا جديدًا في الواقع العربي، واكتشف الجميع بالملموس أنّ التغيير لا يكون فقط بإسقاط النظم الاستبدادية الفاسدة، بل إنّه يتطلب رؤية شاملة لمختلف زوايا النهوض والتنمية.

إنّ بناء مجتمع عصري يحتاج اليوم إلى جبهة للتحرك، جبهة مسلحة بمبادئ الفكر المعاصر ومقدماته، جبهة قادرة على إعادة بناء المجتمع من جديد. ونحن نعتقد أنّه لن تكون هناك مردودية لتحركات اليوم إذا لم تصنع الحدود التي تركب القطائع المطلوبة دون تردُّدٍ أو مخاتلة، مع مختلف أوجه التقليد والاستبداد ومظاهرهما في مجتمعنا؛ الأمر الذي يفيد أنّ المعركة مفتوحة.
_______
* ملف العددان ٤٨١ – ٤٨٢ نوفمبر – ديسمبر ٢٠١٦م – كتاب الفيصل.

جديدنا