التنوير وصناعة المستقبل؛ إشكاليَّة المفهوم

image_pdf

إشكاليَّة المصطلح أو المفهوم في واقع المسلمين وأممهم، واقع، يدل على ارتباك المشهد الثقافي وعدم القدرة على إنتاج المفهوم للتعبير عن الواقع الفكري والديني والسياسي والاقتصادي والحضاري. ويعدّ توقف المسلمين عن إنتاج المفاهيم، سمة من السمات البارزة للأزمة الفكريَّة والتوقُّف عن الإبداع والتجديد الحقيقي، وهو فقدان المبادرة الحضاريَّة. لما يترتَّب عليه من استخدام منظومة مفاهيميَّة حضاريَّة ذات خصوصيَّة تاريخيَّة وحضاريَّة. والتي حملت المفاهيم بدلالاتها الخاصَّة، على الأقل في بعض الأبعاد.

ربما أن عولمة الحضارة الجديدة ومفاهيمها تقلِّل من واقع هذه الأزمة، وتقارب الزمان والمكان والحضارات، كل حسب قدرتها على البقاء والتنافس، تجعل من وجود مفاهيم ولغة مشتركة عالميَّة، أقل وطأة مما يتصور. ولكن رغم هذا يبقى استخدام المفاهيم بدلالاتها التاريخيَّة والحضاريَّة الغربيَّة إشكاليَّة، خاصَّة بالنسبة للوسط الإسلامي والمسلمين. وأن فكرة تأصيل الرائج في هذا الوسط في التاريخ المعاصر، زخمت من هذه الإشكاليَّة. لذا على المشتغلين في الوسط الفكري والسياسي والحضاري العام، الوقوف بجديَّة أمام هذه المشكلة وأخذها بنظر الاعتبار والجديَّة. لتوضيح دلالات المفاهيم والرؤى ووضوح الخطاب والبعد عن المعنى الفكري والثقافي. وضرورة إعادة بناء مفهوم (التنوير) و(المستقبل) يندرج في هذا الإطار، ويتطلب توضيح الرؤية بشأنهما وتحديد دلالاتهما ولو بصورة خطوط عريضة وعامة، تجنباً للضبابيَّة والعموميَّة والتشتت. ونحن من جانبنا وفي هذه الورقة نسعى لتسليط الضوء على هذين المفهومين، كإشكاليتين في انتظار إعادة بنائهما.

أولاً: حول اشكاليَّة مفهوم التنوير:

ربما يتبادر إلى الذهن بإن إثارة سؤال: ماذا نعني بالتنوير بالضبط وكيف نفهمه؟ يثير الاستغراب. ولكن في الحقيقة، الأمر ليس كذلك، بل ظل سؤلاً أساسياً وبنيويا، يتطلب الجواب الفكري. ويأخذ مشروعيَّة هذا السؤال من مسائل عديدة، منها:

  1. الوضع القائم في المنطقة والتي يتسم بنوع من الفوضى والانهيار، وهي على شفا جرفٍ هار، وهذه الوضعيَّة على حدِّ مقولة الحكيم الصيني (كونفوشــيوس) تســتند على إعادة تعــريف كل شيء من جديد، أي إعادة بناء المفاهيم والمعايير. 
  2. وجود الخوف من الحداثة والتنوير والغرب. 
  3. عدم استيعاب تحدِّيات العصر كما يجب من قبل الشعوب الإسلاميَّة. 
  4. وجود فكرتي الخصوصيَّة والتأصيل لدى الإسلاميين والقوميين والتي تعرقل التفاهم الحضاري لكونهما تمثلان منطلقا هوياتيّاً شبه مغلق.
  5. وجود تجارب حداثيَّة وتنويريَّة أو باسم التنوير الفاشلة على مستوى الشرق الأوسط والعالم الإسلامي، وما يترتب على جانب مظلم من التنوير في التجربة الغربيَّة المتمثل في ظهور الاستعمار، إبادة شعوب، العنصريَّة، الحروب المدمِّرة، ايدولوجيات أنظمة شموليَّة خطيرة على معنى الإنسان والإنسانيَّة.
  6. وجود تيارات ورؤى فكريَّة وسياسيَّة مختلفة، والتي لا تتكامل فيما بينها ولم ترقَ إلى مستوى إحداث توافق وتسوية تاريخيَّة للوصول إلى مجتمعات مستقرَّة ذات ثوابت، مع الحفاظ على الديناميكيَّة والتعدُّديَّة والحضور القوي لثقافة النقد والمراجعة.

لذا، فتحديد مضمون ودلالات المفهوم مهمَّة للغاية، لأسباب منها:

  1. لتركيز التفكير وعدم تشتتها، أي للحسم المنهجي نظريا.
  2. لتضافر الجهود وتحديد الأهداف والأولويات والآليات والخطط.
  3. لإيجاد متطلبات ظهور قيادة فكريَّة وسياسيَّة وعلميَّة قادرة على النهوض بأسباب التنوير وتقدّمه المنشود.
  4. لتسهيل الحوار والوصول  إلى الفهم المشترك بشأن القضايا الكبرى بين التيّارات والمدارس والمكوّنات والنخب.

والآن نسأل ماذا نعني بالتنوير؟

  1. هل نعني به دلالاته اللغويَّة والتي تشير إلى وضوح الفكر، المختلط بالظلام وتبديلها، بالضلالة، والانتقال من وضع عدم القدرة على رؤية الأشياء والظواهر والأدوار على ما هي عليها إلى نقيضها؟

   وبهذا نقرّب المفهوم من مفاهيم أخرى كالهداية والترشيد والتبصير وغيرها؟

  • أم نفهمه في إطار مرجعيته الأوروبيَّة الأصيلة، بصفته حركة فكريَّة وفلسفيَّة وسياسيَّة لإعادة بناء المعرفة والأخلاق والسياسة والاجتماع على أساس العقل وأدلجة العلم وقدرة الإنسان على الخلاص من الجهل والخوف والكسل وعلى تغيير واقعه ومصيره وتحمل المسؤوليَّة ورفض الوصايا على العقل والمبادرة والإرادة والقبول بسلطة العقل كمصدر للمعرفة وخلق واقع مغاير وتحقيق امتيازات الإنسان وبناء مجتمع يلبِّي متطلبات الإنسان في هذه الدنيا؟

والذي هو مرادفه للإيمان بالتقدم المستمر، والعلمانيَّة، والديمقراطيَّة، وسيادة القانون والمواطنة المتساوية، القطيعة المعرفيَّة والمؤسسيَّة مع الماضي والثورة على نمط السائد من المنظومة الفكريَّة والأخلاقيَّة والمجتمعيَّة. وإدخال الفكر والإنسان في التاريخ، والتفريق بين التسليم للقدر والتكيُّف مع حركة التاريخ؟

  •  أم ننتقل بالمفهوم إلى إطار مفاهيمي وحضاري مختلف، والمتمثل بوسط الفكر الإسلامي نخضعه لآليات فكرة التأصيل والخصوصيَّة الثقافيَّة، ومن ثم نخرج بفهم توليفي توفيقي جديد للتنوير يفقد ثوريته ولا يرقى إلى مشروع حضاري لتأسيس نموذج مجتمعي جديد مكتسبة شروط التنافس في واقع تزدحم بالمشاريع والطروحات القويَّة وصاحب شوكة؟ 

ولكن حسم نموذج المعرفة بهذا الصدد والإطار المفهومي، وتحديد الدلالات، لا يقتصر على الجهد النظري المجرد فقط، للقيام بتعريف جامع مانع للتنوير، بل يتعدى ذلك إلى تحليل الواقع بمكوناته وتعقيداته وأسئلته وتحدياته.

حتى يتسنى لنا إعادة بناء مفهوم التنوير بما يتلاءم مع الاستجابة لتحديات وأسئلة ومتطلبات هذا الواقع. وبإمكاننا اختصار عناوين التحديات والمشاكل في الواقع الإسلامي مع وجود اختلافات حسب واقع كل الدول والمناطق، كالآتي:

  1. عدم الاتفاق بين تيارات ومكونات الأمة حول مفهوم التنوير والأهداف والأولويات.
  2. ضعف آليات تفعيل وأعمال العقل وإطلاق طاقاته وتحريره من وصايا التراث وثقل التاريخ وتراكمات وضغوط الإخفاقات. 
  3. الفشل في بناء صناعة الأمة والوطن والدولة في المنطقة بصورة عامة.
  4. التفكير الجزئي والفقهي وأدلجة الإسلام.
  5. ضمور الثقافة النقديَّة الأصيلة.
  6. فشل محاولات التحديث وتشويهها.
  7. وجود بنية تسلطيَّة سياسيَّة ومجمعيَّة ودينيَّة.
  8. عدم حسم النموذج المحتذى به سياسياً وأخلاقياً.
  9. التخلف العلمي وضعف البنية التحتيَّة في كثير من المجالات.

المستقبل

ثانياً: حول إشكاليَّة مفهوم المستقبل وتصوره:

على غرار ما تحدثنا عنه حول مفهوم التنوير، فإن مفهوم المستقبل أيضا، يحتاج إلى التحديد والتصوير وضبط الدلالات.

ماذا نعني بالمستقبل حتى لا يكون ترتيباً زمنياً روتينياً للحاضر بل زمناً حضارياً لتحقيق أهداف مجتمعية كبرى وخلق مجتمع الرفاهيَّة والقدوة والقدرة؟ ولكن قبل الإجابة عن هذا السؤال فإنه باستخدامنا لكلمة الصناعة، حسمنا الأمر بأن المستقبل (تصنع) والصنع يحتاج إلى: العلم، الخطة، الإرادة، الوعي، الموارد، واستغلال الزمن واستثمار الفرص والفاعليَّة والإيمان بحقِّ الإنسان والمجتمع في مستقبل أفضل، والتفكير الاستراتيجي. 

ولكن ماذا نعني بالمستقبل المختلف عن الحاضر؟ 

هل نعني به القطيعة المعرفيَّة والأخلاقيَّة مع ما نحن عليه الآن؟ أم نعني به تحقيق تقدم صناعي واقتصادي مع بقاء نظام سياسي يتَّسم بالتسلط كالنموذج الصيني؟ في كل الأحوال، حينما نتحدث عن خلق شروط وأوضاع حضاريَّة طال انتظارها، ونفكر بالانخراط في التاريخ الحديث والواقع المعاصر، كطرف حضاري وكتلة تاريخيَّة طموحة للتفاعل ولعب دور إصلاحي مدني مستقبلاً على صعيد الإنسانيَّة ومعضلات الحضارة الحديثة، علينا الوقوف على متطلبات بناء مجتمع رشيد مزدهر مستقر مرفَّه نامٍ ومبادر. والوعي بأن هناك معايير عالميَّة للحكم الرشيد والتقدُّم والتخلُّف والمجتمع السعيد لا يمكن إغفالها، وهذا يتطلب:

  • حسم المعايير والمرجعيات المتعلقة بصناعة المستقبل حتى نوضح ماذا نريد وما هي أهدافنا الكبرى وبأي اتجاه نصير؟
  • وما هي الزاويَّة التي ننظر من خلالها إلى المستقبل؟ إسلامي أي اسلامي، أم قوميَّة وقطريَّة أم ليبراليَّة وهكذا؟
  • ما هي النماذج المنشودة لتحقيقها على أرض الواقع، وإذا كانت هناك إضافة إسلاميَّة أو قوميَّة يجب إيضاحها؟
  • وهل لدى تيارات وقوى الأمة الحدّ المعقول من الفهم المشترك لتصور المستقبل المنشود والمشترك؟
  • هل قمنا بتكوين فهم علمي عميق مشترك لمشاكل الواقع؟
  • هل هناك خطة لاستنهاض الحاضر حتى يبنى عليها مستقبل مختلف؟
  • هل حددنا متطلبات وآليات صناعة المستقبل؟
  • هل أصبح الإنسان الذي يتحمل المسؤوليَّة ويمتلك الرؤية والإرادة ويؤمن بالتقدُّم والتغيُّر والمستقبل الأفضل محور اهتماماتنا؟ 
  • وأخيراً هل فكرنا بأن المستقبل يتعرض لمنافسة شديدة وأنه ملك الذي يكتسب شروط المنافسة عالمياً؟

وفي هذا الإطار نود أن نلفت النظر إلى تشخيص حكيم اسلامي في بداية القرن الماضي لمشاكل الأمة وأمراضها ونظرته إلى المستقبل، يفيد بشيء من الغرض. وهذا الحكيم هو (سعيد النورسي). يشير النورسي في عام (1911) في الخطبة الشاميَّة: بأن الأمة الاسلاميَّة يتوقف على أعتاب القرون الوسطى في حين أن غيرنا ومنها الغربيون يسيرون نحو المستقبل والتقدُّم والازدهار.

ونورسي يرجع هذا الوضع المأساوي للمسلمين في بداية القرن الماضي إلى أسباب وأمراض نفسيَّة وخلقيَّة وسياسيَّة ودينيَّة، ويذهب إلى أن المسلمين يعانون من بعض الأمراض دمرت فيهم قواهم وألحقت بهم الذل وفرضت عليهم التخلف والتقهقر، وهي كالآتي:

  • مرض نفسي(اليأس): أي عدم التفكير في المستقبل وتركه للقدر والآخرين والتسليم بجبر الواقع وغياب الخطة.
  • أمراض أخلاقيَّة:
  • حب العداوة: أي تأصيله في النفوس وجعله قيمة، والتي تعيق بناء مجتمعات ذات مؤسسات وقوانين، وتشكيل هويَّة جمعيَّة قويَّة وروح التظافر الضروري لإعادة بناء النفس.
  • موت الصدق: أي عدم احترام الحقيقة! وإعطاء شرعيَّة للكذب والتزوير والأوهام وهيمنة ثقافة الرياء والدجل والخداع، وانهيار الثقة المتبادلة والتي بها تقام المجتمعات.
  • مرض ديني: إهمال العمل بالروابط النورانيَّة بين المؤمنين. أي غياب قيم الجماعة المؤمنة الراشدة، وعدم هيمنة الوعي بالتعاون ومرجعيَّة قيم الحق والعدل ورفض الغي وإقرار الشورى والتعاون على المصالح والأهداف المشتركة، وطغيان مصالح آنيَّة، والاقتتال الداخلي والتأخُّر، وعدم التكامل السياسي، والاقتصادي والحضاري.

مرض سياسي أو سريان الاستبداد: وهو الذي يحول التنوير إلى التزوير والأخلاق إلى العادات والصدق إلى عملة نادرة والبحث عن الحقيقة، وطغيان ثقافة الطاعة، والرياء، والتسول والنفاق.

ويرى الأستاذ الخلاص في الحريَّة الحقيقيَّة الأصيلة، لكونها:

  1. تخلص الإنسان والمسلم من الذل، وترجع اليه الإحساس بالكرامة والآدميَّة.
  2. مناهضة الاستبداد بحيث لا يجعل بعضها بعضاً أرباباً. (علي عزت بيجوفيج).
  3. قلع جذور العداوة، عن طريق بناء مجتمع يحترم التعدديَّة، في إطار ثوابت وطنيَّة ودينيَّة وقانونيَّة، وسلطة دولة القانون. والوصول إلى التسويَّة التاريخية وتفعيل العمل بمبدأ المصلحة المشتركة والمنافسة الشرعيَّة في ظل تكافؤ الفرص.

الخاتمة:

حسب ما سبق القول بصدده، يعتبر إعادة بناء مفهومي التنوير والمستقبل في ضوء التحديات والأهداف والمشاكل التي تزخر بها المجتمعات الإسلاميَّة خاصَّة  الشرق الأوسطيَّة، أمراً ضرورياً وواجبا فكريّا ومطلبا حضاريا، لكونه يتعلق بتكوين نظرة واضحة نحو المستقبل ونوعيَّة الأهداف وكيفيَّة تحقيقها وجعل التنوير محورا لتراكم الطاقات والجهود القادرة على النهوض بالواقع وخلق وعي حضاري شامل  بضرورة الخروج من زمن تزاحم التعاريف وحرب المفاهيم والمصطلحات والوصول  إلى اعتبار تفكير استراتيجي بإمكانه تجميع أكبر طاقة ممكنة لردم الهوة بيننا وبين الآخرين وإعادة الأمل بالقادم وجعل الشعوب الإسلاميَّة، حاضرة حضارياً، وقادرة على المساهمة والإبداع. في المدنيَّة والثقافة البشريَّة المشتركة.
________
*المداخلة التي شارك بها خلال الاجتماع السنوي الرابع للرابطة العربية للتربويين التنويريين، والذي عقد في عمّان الأردن في 23 نوفمبر 2019.

جديدنا